الآداب الصوفية عند الشعراني
مولد الشعراني ونشأته
رأينا من الخير أن ندرس بعض الشخصيات الصوفية التي اهتمت بنشر محاسن الأخلاق، فبدا
لنا أن نكتب فصلًا عن الغزالي، ثم تذكرنا أننا نشرنا عنه كتابًا في أكثر من أربع مئة
صفحة هو «الأخلاق عند الغزالي» الذي قدمناه إلى الجامعة المصرية في سنة ١٩٢٤ وتذكرنا
أيضًا أن مؤلفات الغزالي كانت من أهم مراجع هذا الكتاب، فنحن ما نسيناه حتى نفرده ببحث
خاص.
وبعد التأمل رأينا أن ندرس إحدى الشخصيات المصرية التي أثرت أبلغ التأثير في ذيوع
الثقافة الصوفية بين المصريي، فرأينا الشعراني أكبر شخصية أثرت في الأذواق المصرية،
وسيطرت على الجماهير زمنًا غير قليل.
وقد يكون من أسباب ميلي إلى درس هذه الشخصية أن الشعراني عرف سنتريس — وفي ألفاظه
وتعابيره أخيلة لا تزال حية في سنتريس — فقد نشأ في ساقية أبي شعرة وهي بلدة تجاور
بلدنا ولنا فيها أقارب وأصدقاء. ومن أجل نشأته في ساقية أبي شعرة سمي الشعراني، وهو عند
نفسه يسمى الشعراوي، وهو اسم كثير الذيوع في البلاد المصرية كان يسمى به الناس أبناءهم
تيمنًا بذلك الإمام الجليل.
ويظهر أن شخصية الشعراني غرست في ساقية أبي شعرة حب التصوف فلا تزال عامرة بذكريات
الأولياء، ولا يزال أهلها يقيمون الموالد وينشرون آداب الطريق، وقد بلغ بهم الأمر أن
اخترعوا شخصية جديدة هي شخصية الشيخ خالد، وقد زعموا أنه خالد بن الوليد، فجذبوا به
الناس إلى بلدهم عددًا من السنين.
وفي ساقية أبي شعرة ضريح لرجل من الصالحين اسمه الشعراوي، وهم يؤكدون أنه والد عبد
الوهاب الشعراوي الذي نكتب عنه هذا الفصل
١ وهو كلام لا نعرف مبلغه من الصواب.
زوجته وأخوه
ولد الشعراني في قلقشندة في بيت جده لأمه سنة ٨٩٨ وبعد أربعين يومًا من مولده انتقل
إلى بلدة أبيه ساقية أبي شعرة فنشأ بها وأقام فيها إلى الثانية عشرة، وظل موصول العهد
بالبلد الذي نشأن فيه لأنا نراه يكثر من التحدث عن أولياء المنوفية
٢ ثم انتقل إلى القاهرة فتلقى العلم على كبار الشيوخ في عصره، ثم ارتفع شأنه
فصار شيخ زاوية، وكان هذا المنصب من المناصب المرموقة في ذلك الحين،
٣ وأقبل على التأليف فترك ثروة فقهية وصوفية لم يترك مثلها من العلماء إلا
الأقلون.
ولسنا في حاجة إلى ترجمة الشعراني فكتبه هي ترجمة نفسه لأنه يتحدث عن أحواله وأعماله
في جميع المناسبات حتى أخبار بيته وأهله يراها القارئ في كتبه مفصلة أتم تفصيل.
٤
والذي يتذكر أن العرب والمسلمين قلما يتحدثون عن نسائهم في الأشعار
٥ والمصنفات يدهش حين يرى الشعراني يقول: وما رأت عيني من نساء عصري أكثر
مواظبة على قيام الليل من زوجتي أم عبد الرحمن فربما صلت خلفي وهي حبلى على وجه الولادة
بنصف القرآن، وهذا عزيز جدًا
٦ أو يقول: وأما أم ولدي عبد الرحمن رضي الله عنها فلها الآن معي تسع عشرة
سنة فما رأيتها قط وهي تقضي حاجتها في خلاء البيت إلى وقتي هذا
٧ أو يقول: وممن اطلعت عليها من النساء تخاف على رؤية شخصها وهي في الإزار
وتستحي أن يراها أحد، وهي خارجة من الخلاء زوجتي فاطمة أم عبد الرحمن رضي الله عنها.
سافرت بها إلى الحجاز ثلاث مرات، فما أظن أن العكام رأى لها حجمًا قط من حين خرجت من
بيتها إلى أن دخلت مكة المشرفة ثم رجعت إلى بيتها، وكانت تركب في مثل العقبات فوق ظهر
القتب داخل الحمل المغطى، ونزل نساء الأكابر كلهم في نزول العقبة وطلوعها، وهي لم تنزل
وما شعرت قط بقضاء حاجتها، لا في المحطات ولا في حال السير رضي الله عنها، ولم تركب قط
حمارًا، وقالت: لا أستطيع أن يراني أحد، حتى الكحال عجزت فيها أنه يرى عينيها فلم أقدر
عليها. ورضيت بالوجع وصبرت حتى زال الرمد وضاف ميق عينها اليسرى عن العين اليمنى إلى
الآن، فهذا أمر رأيته منها، ولم يبلغني وقوع ذلك لأحد من عيال إخواننا. فالحمد لله رب
العالمين على ذلك.
٨
وهذه الفقرات تدل على أمرين: الأول: أنه كان سعيدًا في حياته المنزلية، ولذلك أثر
في
فهمه لقواعد الأخلاق، والثاني: أنه كان يتمثل الكمال الخلقي في المرأة على وجه لا يخلو
من تعسف، بدليل أنه رأى من موجبات الحمد أن ترحب زوجته بألم الرمد في سبيل التحرز من
رؤية الكحال، أي طبيب العيون.
رضاه عن نفسه
وبجانب اطمئنان الشعراني على أخبار بيته كان له جانب آخر من الطمأنينة هو الأنس بمودة
أخيه أفضل الدين؛ فقد كان أخوه هذا من أهل الصلاح، وكان به حفيًا، فهو يذكره في مناسبات
كثيرة بلسان رطب، ويضفي عليه حلل الثناء.
٩
ويظهر أيضًا من حديثه أنه كان راضيًا عن أصدقائه، فهو يطوف بأخبارهم من حين إلى حين،
ويتحدث عنهم حديث الفرح الجذلان.
ويضاف إلى ذلك كله رضاه عن نفسه، فقد كان يرى مسلكه في دنياه من أشرف المسالك، ولذلك
نراه يكثر من الحديث عن «منن» الله عليه كأن يقول: «عرضوا علي نحو أربعة آلاف دينار
أوصى بها لي قاضي إسكندرية فرددتها احتياطًا لنفسي من أكل مال القضاء والشبهات التي لم
تقسم لي وخوفًا عليها من ميلها إلى جمع مال الدنيا، فالحمد لله على ذلك»، وكأن يقول في
مقدمة كتابه تنبيه المغترين: «شيدت أخلاقه بأفعال السلف الصالح من الصحابة والتابعين،
والعلماء العاملين، وبما منَّ الله علي بالتخلق به أوائل دخولي في طريق محبة القوم،
خوفًا أن يقول بعض المتعنتين: كيف يأمرنا فلان بالتخلق بأخلاق القوم، وهو لم يقدر على
هذه الأخلاق؟ فلذلك صرحت بكثير من الأخلاق التي منّ الله بها علي دون أقراني»، وكذلك
قال في مقدمة كتاب لطائف المنن، وهو كتاب مملوء بالزهو والخيلاء، وكله شواهد بأن
الشعراني كان عند نفسه أفضل الناس.
وهذا الرضا المطلق عن النفس والأهل يفسر لنا جانبًا مهمًا من شخصية الشعراني، فهو
سر
ما اتصف به من الجرأة في نقد ما رآه من الزيغ والانحراف في أخلاق معاصريه. والرجل حين
يخلص من آفات نفسه يفرغ للناس، وكذلك كان الشعراني قوى الجنان، وهو يحارب طغيان الولاة
وإسفاف العلماء.
والرضا عن النفس ليس من الشمائل المقبولة عند الصوفية، ولكن هذه خصيصة من خصائص النفس
الشعرانية، ونحن ننص عليها من أجل ذلك، فما نملك خلق النفوس من جديد لنسلكها في سمط
واحد، وإنما نسجل ما عرفناه من ألوان النفوس.
وربما كان من العدل أن نقيد هذا المنزع من الخيلاء، فالشعراني كان يستبيح الحديث
عن
فضائل النفس حين تخلص النية، وحين يكون لذلك غرض مقبول، كالتأثير على المريدين، وجذبهم
إلى الاعتقاد في شيخهم ليقبلوا على تعاليمه بنفوس معمورة بالحب والإجلال.
١٠
اعتقاده في الكرامات
وكما حدثنا الشعراني عن أهله وعن نفسه حدثنا كذلك عن عقيلته فهو رجل يؤمن بالكرامات
إيمانًا مطلقًا، ويرى الأولياء يقدرون على كل شيء. وليس من المستبعد عنده أن يعرف الولي
أخبار البيوت، ومن الممكن في رأيه أن يبيع الرجل الحشيش وهو في حقيقة أمره من الأولياء،
ويجوز في تصوره أن ينقل الرجل من مكة إلى مصر في مثل لمح البصر إذا دفعه أحد الواصلين.
وحدثنا أن أستاذه الخواص كان يرسل أصحاب الحوائج إلى رجل كان يبيع الفجل على باب الأزهر
فيقضيها لهم في الحال، وأن هذا الرجل كان لا يأكل أحد من فجله وببدنه مرض من جذام أو
برص، أو غيرهما إلا شفي لساعته، وحدث عن الشوني أن أحد الحمارين في قنطرة الموسكي كان
معروف البركة فلا تركب حماره مومس إلا تابت، ولا تعود للزنا أبدًا، وأن أحد باعة الحشيش
كان لا يشتري أحد منه قطعة إلا تاب عن الحشيش،
١١ وحدثنا أنه اجتمع بإبليس على ساحل النيل وجادله، وسمع منه أن الإنسان ككفتي
الميزان، وقلبه كلسان الميزان.
١٢
ومؤلفات الشعراني تفيض بالأقاصيص عما صنع المجاذيب، ولهذا الجانب أهمية في فهمه
لقواعد الأخلاق، فالشخصية الخلقية في نظر الشعراني هي شخصية تصدق كل شيء، وإن أحالته
العقول، ما لم يعارض النصوص الشرعية، فمن حدثنا أنه قرأ القرآن كله خمس مرات من المغرب
إلى العشاء فهو صادق، ومن حدثنا أنه قرأ القرآن كله بالحروف
١٣ ثلاث مئة ألف مرة في يوم وليلة فهو صادق؛ لأنه «إذا تجردت الروح عن هذا
الجسم الكثيف فعلت ذلك».
١٤
ويظهر من النقول المبثوثة في كتب الشعراني أن الصوفية المصريين لعهده كانوا جميعًا
يقولون بالكرامات، ويظهر كذلك أنه كان في مصر لذلك العهد طوائف من الفقهاء تنكر
الكرامات: لأنه شغل نفسه بمحاجة من ينكرون ما اختص به الأولياء.
والتعليل نفسه يدل على سذاجة عقلية: فهو ينقل عن أستاذه محمد المرصفي أن الأولياء
يتفق لهم أن يقضوا في يوم واحد ما لا يمكن قضاؤه إلا في سنين؛ لأن أعمار هذه الأمة
قصيرة فأقدر الله الخواص على إنجاز الأعمال بسرعة البرق ليرجحوا على عبّاد الأمم
السابقة الذين عاشوا نحو الخمس مئة سنة.
١٥
وليس يعنينا أن نناقش صحة الكرامات: لأننا لم نصل في فهمها إلى حكم مقبول. وإنما
يعنينا أن نسجل أن الشعراني كان يرى الشخصية الخلقية شخصية لا يؤذيها أن تعق العقل، ولا
يضيرها أن تسوء الظواهر في بعض الأحوال. وما كتبه عن الخواص يشهد بأنه كان يؤمن
بالكرامات إيمان المجاذيب،
١٦ وما كتبه عن نفسه يدل على حمق؛ فقد حدث أنه سمع تسبيح الجمادات والحيوانات،
وسمع من يتكلم في أطراف مصر، بل في سائر أقاليم الأرض، وسمع تسبيح السمك في البحر المحيط.
١٧ ويهمنا أيضًا أن نسجل أثر الشعراني وأمثاله في تلوين العقلية المصرية، فقد
انطبع هذا الشعب على الإيمان بكل مجهول. وقد رأيت من كبار العلماء من يدافع عن الكرامات
في دروسه بالأزهر الشريف، وللشيخ الدجوي في ذلك مباحث طوال. ورجاني أحد الأدباء
الممتازين أن أكتب فصلًا في هذا الكتاب أشرح به وجه الحق في الكرامات. ورأيت رجلًا من
أهل الفضل يتحدث عن القطب وكرامات الأقطاب، وما أحسبه كان من المازحين. ومنذ أيام تلقيت
رسالة من أحد قراء البلاغ حدثني كاتبها عن رجل من علماء الأزهر أنه رأى النبي في
المنام، وأن النبي قضى بأن يكون إمام الأولياء.
وما ادعى أن الاعتقاد في الكرامات خاص بأهل مصر: فقد عقد لها الغزالي بابًا في
الإحياء. وإنما أحكم بأن الشعراني كان أكبر من غرسوا هذه العقيدة في البيئات المصرية،
وإليه يرجع الفضل في توجيه الناس إلى ما في الكرامات من حدائق الخيال!
والاعتقاد في الكرامات عزاء كبير للفقراء؛ فهم يخلقون لأنفسهم دنيا من المجد الموهوم
يعوضون بها ما ضاع عليهم من حظوظ الحياة. ومن المؤكد أن هذه الوساوس لا تسود إلا في
عصور الضعف السياسي والاقتصادي حين تصح الأمة وهي فارغة الأيدي من سلطان الجاه والمال.
ومن ذلك رأينا المسلمين في عصور قوتهم لا يعرفون غير الواقع، مع أن الصلاح كان من أغلب
الصفات عليهم، ثم رأيناهم في عصور الانحطاط يصدقون كل شيء ويلقون زمامهم إلى كل مخلوق،
عساهم ينسون ما هم فيه من شظف العيش ونكد الشقاء.
انطباع الشعب المصري على الإيمان بكل مجهول
والتصوف نفسه من مظاهر الضعف، والرجل لا يتصوف إلا حين ييأس؛ لأنه بفطرته حيوان مفترس
لا ينتظر المجهول من حظوظ النفس، وإنما يصاول ويفتك ليظفر بحظوظ الأمراء
والملوك.
وقد جاء في كليلة ودمنة أن ذا المروءة لا ينبغي له إلا إحدى اثنتين: أن يكون بين
الملوك مكرمًا، أو بين النساك متبتلًا. وهذه الكلمة هي الفيصل؛ فالرجل يطلب المنزلة
العالية في جميع الأحوال، فإن فاتته بين الملوك لم تفته بين النساك. ومعنى ذلك أن
التعبد نفسه لا يخلو من كبرياء.
وقد استطاع الصوفية بدهائهم المصقول وكبريائهم المكبوت أن يجعلوا كلمة الحرمان هي
العليا؛ فما زالوا يغمزون أهل الدنيا ويلمزونهم ويسوئون سمعتهم ويرمونهم بالبهتان حتى
صح عند السواد أن الفقراء هم الملوك حقًا، وأن الملوك المتوجين لا يملكون غير «الدنيا»
وهي متاع المفتونين!
والذي يراجع سير الأنبياء يرى الفقراء كانوا أسرع الناس إلى إجابة الدعوة مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا
وإنما كان ذلك لأن الأنبياء يعدون أتباعهم السلطان المطلق في عالم السماء. والفقراء
بفطرتهم الحيوانية يتشوفون إلى السيطرة، فإن فاتتهم هنا أدركوها هناك.
التصوف من سمات الضعف
وخلاصة القول أن الشعراني وأصحابه وجدوا في مصر تربة خصبة فأنبتوا فيها ما شاءوا من
صنوف الخيال، وكان شيوع الشعوذة الصوفية في هذه البلاد يسير جنبًا لجنب مع ما اصطفاه
نصارى مصر من النحلة الأرثوذوكسية، فإن اصطفاء نصارى مصر للمذهب الأرثوذوكسي لم يقع إلا
بفضل ما هم عليه من الضعف؛ لأنه مذهب مشبع بالخرافات، والخرافات هي السند لكل مخلوق
ضعيف.
والذي يتأمل أحوال مصر في العشرين سنة الماضية يؤكد صدق ما أقول في أيام الحرب
العالمية كان لمشايخ الطرق سلطان عظيم؛ لأن الناس كانوا يئسوا من المجد السياسي، فلما
هبت الثورة المصرية في سنة ١٩١٩ شغل الجمهور بشاغل جديد، وانقطع الخلاف بين الشاذلية
والخلوتية، وحل محله الخلاف بين السعديين والوطنيين والدستوريين.
ولأمر ما كان التصوف يسمى الفقر، وكان الصوفية يسمون الفقراء، أترونني بهذا أغض من
تلك النزعة الروحية؟
هيهات، وإنما أردها إلى أصل صحيح من ضمائر الناس.
ألم تسمعوا أن أحد الرؤساء هدد مرءوسه فقال: إن لم تستقم أقمتك من غد في الصف
الأول؟
والصف الأول هو صف المبكرين إلى الصلاة: صف من يسبقون الإمام إلى رؤية
المحراب!
ولا يعرف الناس لزوم المحاريب إلا بعد أن تخلو أيديهم من أدوات الحرب في سبيل المجد
أو في سبيل المعاش.
مالي ولهذا الاستطراد؟ يكفي أن أسجل أن القاهرة لم تمتلئ بالزوايا ولم يكن للشعراني
فيها حظ مرموق إلا لأن أهلها كانوا غلبوا على أمورهم الدنيوية، فمضوا يلتمسون الأسباب
إلى فتح أبواب السماء.
وما كان الشعراني بالأحمق، وكيف وهو الذي أحصيت عليه أنه قال في مؤلفاته أكثر من
خمسين مرة:
إي والله، فقد عرف الرجل زمانه فساس أهله بما ينبغي أن يساسوا به فلم يمت إلا وهو
(القطب الرباني، والمحقق الصمداني)، وذلك متاع ليس بالقليل.
دهاء الصوفية
أترانا نتجنى على الشعراني حين نصفه بالترفق في مداراة الناس ليظفر بالسمعة وبعد
الصيت؟
انظر في مقدمة «اليواقيت والجواهر» ومقدمة «البحر المورود»، فإن فعلت فستعرف أنه كان
يحرص أشد الحرص على الظفر بالزعامة في التصوف والدين، أي أنه كا يريد أن يكون مرضيًا
عنه من أهل الحقيقة وأنصار الشريعة، وإلى هاتين الجبهتين كانت ترجع أصول الصدارة بين
الناس.
كان الشعراني يؤلف الكتاب في التصوف ثم يمضي إلى العلماء فيستكتبهم بالقبول ليصح
له
القول بأن كتبه ليس فيها ما يخالف الشرع، وكان الناس يعرفون عنه ذلك فيعمدون إلى كتبه
فيضيفون إليها زيادات تدخله في الحظيرة الخطرة: حظيرة الصوفية المتفلسفين الذين يتطلعون
إلى الخروج على المألوف من مقبول الآراء.
١٨
حرص الشعراني على رضا جميع الطبقات
ولكن مهلًا — فهذا الرجل الذي نضيفه إلى أصحاب المطامع كان من نوادر الرجال في كرم
الأخلاق، وفي كتبه صحائف تكتب بماء الذهب، ولو شئت لقلت بمداد من دماء القلوب، فقد
حدثنا هذا الرجل — وهو صادق — أنه كان يزجر من يراه من أصحابه يتجسس على عيوب الناس
١٩ وهذا أدب نبيل.
وحدثنا — وهو صادق — أن من منن الله عليه كثرة ستره لعورات المسلمين الذين لم
يتجاهروا بالمعاصي، وأنه يرى ذلك من جملة الواجبات. وهو الذي يقول:
إن من جلة سترنا للمسلم أن نغلق عليه بابه إذا رأيناه خارجًا وهو سكران،
ونأمر الأجنبية التي معه في الخلوة المحرمة أن تنزل من حائط الجار إن خفنا أن
أحدًا ينظرها إذا خرجت من المحل الذي هي فيه. كل ذلك حتى لا يعلم أحد بعصيان
ذلك الرجل، لا سيما إن كان جارًا لنا. وكم يترتب على كشف السوءات مفسدة، فإياك
يا أخي أن تفشي سر أخيك المسلم ولو لأعز أصدقائك، فإنه يحكي ذلك لكل الناس إن
كان ساذجًا، وإن كان حاذقًا فيحكي ذلك لبعض الناس ويأمرهم بالكتمان؛ فيصير كل
واحد يخبر صاحبه ويأمره بالكتمان حتى تمتلئ البلد
٢٠ وأحدهم يحسب أنه كتم ما رأى، والحال أنه هتك أخاه بين الناس.
٢١
ولا يكتفي بذلك، بل يذكر أن من نعمن الله عليه انشراح صدره، ومطاوعة نفسه في محبة
ستر
عدوه وكراهته لكشفها مع أن الغالب على الناس إظهار الشماتة بالعدو، وإظهار عورته.
٢٢
وهذا الأدب دعا إليه الشعراني في جميع مؤلفاته، وهو يرى العصاة من أصحاب الجدود
العوائر، وينظر إليهم بعين العطف والإشفاق، ويترفق في هدايتهم إلى الله، وهذا من أخلاق
الأنبياء.
٢٣
والذي يلفت النظر في هذا الموطن هو التغاضي عن عيوب الأعداء؛ لأنه يفرض قوة عظيمة
في
ضبط النفس، فهو من أخلاق الأقوياء من الرجال، وفي أصدقائي رجل ابتلاه الله بلؤم
الحاقدين، وامتحنه بكيد السفهاء، ومع ذلك لا أذكر أن لسانه أو قلمه خاض في عرض أحد ممن
يتقولون عليه الأقاويل، وقد يتفق له في أحيان كثيرة أن يحارب خصومه أعنف الحرب، ولكنه
لا يحاربهم إلا في العلانية، ولا يتعرض أبدًا لمقاتلهم الأخلاقية. وإنما يثير في وجوههم
الدخان فيتوهم من لا يعرف أنه يقذفهم بالنار، مع أنه يصرف الناس عامدًا عن دخائلهم
الأثيمة، ويشغل الجمهور عن مساويهم بأمور صغيرة هي الكلام عن العلم والجهل. وأعداء هذا
الرجل يعرفون فيه ذلك الخلق ويفهمون أن زوال الجبل من مكانه أقرب إلى الإمكان من خوض
قلمه أو لسانه في الأعراض. ولذلك يهجمون عليه مستسلين، وهو لو شاء لزلزل بهم الأرض،
ولكن نعمة الله عليه في هذا الأدب أحب إليه من قهر الأعداء.
شواهد من أخلاقه العالية
ومما يجب النص عليه من أحوال الشعراني أنه كان يعتقد أن الخير في مصر ينتهي بانتصاف
القرن العاشر، ثم تصبح دنيا المصريين مسبعة لا أمن فيها، ولا سلام، وانظر ما يقول في
البحر المورود:
٢٤
أخذ علينا العهد أن لا نتصدر للشفاعة في الناس عند الحكام إذا دخل النصف
الثاني من القرن العاشر، إلا إن كانت عندنا حال وتصريف في الحكام بالولاية
والعزل، فإن من لا كشف عنده ربما أغلظ على الحاكم فقال له الحاكم: إن كنت
صالحًا فانفحني فلا يقدر على نفحه فيفتضح عند الحاكم، وسمعت سيدي عليًا الخواص
يقول: كان عند الحكام بقية خوف من الله تعالى يمتنعون به عن ظلم العباد فرفع
الله ذلك خامس عشر صفر سنة ثمان وثلاثين وتسع مئة. قال: وعن قريب يصير حاشية
الحاكم يأخذون من الإنسان الجعالة ولا يقضون له حاجة، ويطلب فلوسه مثلًا فلا
يصل إليها، والله غفور رحيم.
والخواص الذي نقل الشعراني عنه أن الحياء ذهب من الحكام في الخامس عشر من صفر سنة
ثمان وثلاثين وتسع مئة هو نفسه الذي قال:
كان قد بقي في الناس بعض سترة لبعضهم بعضًا فرفع الله تعالى حكمها في سنة سبع
وأربعين وتسع مئة وما بقي أحد يقدر على كشف عورة أخيه ويسترها إلا قليل من
الناس، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
٢٥مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا
أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ.
وقد طاف حول هذه المسألة في كتاب آخر هو لواقح الأنوار، فذكر مرة أنه لم يبق في مصر
من يصلح للأستاذية في الطريق؛ لأن الأشياخ فقدوا وكان آخرهم علي المرصفي،
٢٦ وذكر مرة ثانية أنه أدرك طريق الفقراء، ولها حرمة عند الناس، وعلى أصحابها
الخير والهيبة، فرفع الله تعالى ذلك بموت السادة: علي المرصفي وعلى الخواص ومحمد الشناوي.
٢٧
ويظهر أن الشعراني لم يكفه أن يذهب الخير من مصر بانتصاف القرن العاشر، بل ترقى في
سوء الظن فحكم بأنه أخذ يذهب من الدنيا منذ انقضى الثلث الأول من القرن السادس، وقال
في ذلك:
أخذ علينا العهد العام من رسول الله أن لا نتمنى الموت إلا إن خفنا على
أنفسنا من فتنة في ديننا في هذا الزمان الذي يرى الإنسان دينه في كل يوم ينقص
عن اليوم الذي قبله، وهذا الأمر قد وقع من حين انتهى كمال الدين، وهو سنة سبع
وثلاثين وخمس مئة، كما رأيت ذلك في لوح نزل من السماء في واقعة في المنام، وقد
أخذت الأمور كلها يا أخي في النقص، وصار دين المؤمن ينقص كل يوم عن الحال الذي
قبله، وصار يتصعب على الإنسان القبض على دينه كما يتصعب عليه القبض على جمرة في
كفه ليلًا ونهارًا، فكما ضعف عن دوام القبض على الجمرة كذلك ضعف عن دوام القبض
على الدين على حد سواء، فلا يموت الإنسان يوم يموت إلا على أنقص الأحوال. وأول
أخذ الدين في النقص من سنة سبع وخمسمئة حين بلغ أهل العلم حدهم، وأهل الطريق
حدهم. هذا ما رأيته مكتوبًا في لوح تجاه مدرسة الشيخ إبراهيم المواهبي الشاذلي
بباب الخرق
٢٨ من مصر المحروسة، وكان في سلسلة فضة، وقد أشار إلى ذلك الشيخ عبد
العزيز الدريني في منظومته وكان في سنة سبعين وخمس مئة يقول:
وقد بدا النقص في الأحوال أجمعها
وبدلت صفوة
الأوقات بالكدر
٢٩
وهذه الفقرة تشهد بأنه رأى ذلك التاريخ مرتين، مرة في لوح نزل من السماء، ومرة في
لوح
مكتوب تجاه مدرسة بباب الخلق، ومع ذلك نراه في مكان آخر يحكم بأن الدين أخذ في النقص
في
منتصف القرن السابع
٣٠ ويقول:
وقد مضى الإئمة والعلماء والقوامون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأظلمت
الدنيا لفقدهم، وكانت أنفاسهم تحميهم من الظلمة حتى يقوموا بالمرتبة حين كان
الدين في زيادة، فلما أخذ الدين في النقص في سنة ثلاث وخمسين وست مئة ضعفت قلوب
العلماء وعجزت عن إزالة المنكرات لكثرتها، وقلة من يساعد عليها، وقلة الولاة
الذين يسمعون للعلماء.
٣١
وما ندري كيف وقع الشعراني في هذه الورطة فأخذ يؤرخ نقص الدين ويضطرب في
التاريخ.
وما ندري أيضًا كيف صح عنده أن الدين لم يلحقه نقص إلا في القرن السادس، أو السابع،
أو العاشر، مع أنه هو نفسه روي أن سفيان الثورة كان يخرج إلى السوق فيأمر بالمعروف
وينهى عن المنكر، فما مات حتى صار يرى المنكر فلا ينكره، فقيل له في ذلك فقال: كان قد
انفتح في الإسلام ثلمة فأردنا أن نسدها فانفتح فيه ذروة وانهدمت من أركانه أركان، ثم
صار يبول الدم من الحزن إلى أن مات.
٣٢
ولسنا في حاجة إلى النص على أن من عادة الناس أن يشكوا زمانهم، وأن يترحموا على
الأزمان السوالف، وإنما المهم أن ننص على أن الشعراني يفصل بين عهود الخير وعهود الشر
بتاريخ محدود، ويستند تارة إلى لوح نزل من السماء، ويعتمد تارة أخرى على كلام
الخواص.
ولهذه النظرة أثر في أحكامه الأخلاقية: فهو من المتشائمين، بل من اليائسين، والمصلح
اليائس لا يرجى له نجاح.
ذهاب الخير من مصر بانتصاف القرن العاشر
على أن للشعراني كلمات أخرى تمثل رأيه في الطبيعة الإنسانية وتصرفه عن الاعتماد على
مثل ما توهم من رفع الخير من قلوب الناس في تاريخ محدود، فقد اتفق له مرة أن يحكم بأن
الخير هو الأصل، وأن الشر عارض، ولم يحدد ذلك بزمان، واتفق له مرة أخرى أن يحكم بأن
«طينة الآدمية واحدة»، وأن الجائز وقوعه من أفسق الفاسقين جائز وقوعه من أصلح
الصالحين،
٣٣ ولم يخرج عن هذه «الطينة» في رأيه سوى الأنبياء لعصمتهم، وبعض الكمل
لحفظهم،
٣٤ وتنتهي هاتان الفكرتان إلى غاية واحدة هي أن
الإنسان صالح للخير وهو أصل، وصالح للشر وهو عارض، وأنه حين يصلح لا يصلح أبدًا، وحين
يسوء لا يسوء أبدًا، بل يجوز للفاسق أن يعمل ما يعمل الصالح، ويجوز أن يقع الصالح فيما
يقع فيه الفاسق.
ومعنى ذلك أن التسامي إلى الهداية ليس له زمان، بل هو مطلوب في كل زمان.
رأي الشعراني في الطبيعة الإنسانية
ويتصل بهذا رأيه في الذات الإنسانية، فالإنسان صنعة الله تعالى، وصنعته كلها حسنة،
والقبيح إنما هو عارض عرض من حيث الصفات لا الذوات، وجميع ما أمرنا الله بمعاداته إنما
هو من حيث الصفات، فلو أسلم اليهودي وحسن إسلامه أمرنا بمحبته، فما زالت منه إلا صفة
الكفر، وذاته لم تتغير.
٣٥
فالذات الإنسانية حسنة في جميع الأحوال من حيث هي ذات، ولا تقبح إلا بقبح
الصفات.
ولعله أخذ هذا المعنى من ابن عربي حين حكم بأن الطهارة من الحدث غير معقولة المعنى؛
لأن الحدث وصف نفسي للعبد، فكيف يمكن أن يتطهر الشيء من حقيقته، فإنه لو تطهر من حقيقته
انتفت عينه، وإذا انتفت عينه فمن يكون مكلفًا بالعبادة.
٣٦
ولهذا الملحظ قيمة في توجيه النظر الأخلاقي؛ فكل إنسان له قيمة ذاتية، وإن أمعن في
الكفر والفسوق، وعلى رجال الأخلاق أن ينظروا إلى الملحدين والآثمين نظرة إشفاق؛ لأنهم
في حقيقة الوجود جواهر علاها الصدأ فبدت كالمعدن الخسيس، ولو أمكن جلاء تلك الجواهر
لنصبت لها سوق في عالم النفائس، وتسابق إليها عشاق اللؤلؤ المكنون.
الإسناد والإيجاد
ويزيد في قيمة هذه النظرة الخلقية أنها موصولة عنده بأدب آخر هو التفكير في الإسناد
والإيجاد، فمن الأدب الذي اختاره الشعراني أن نضيف كل محمود في الوجود إلى الله إسنادًا
وإيجادًا، وأن نضيف كل مذموم في الوجود إلى النفس والشيطان إسنادًا لا إيجادًا. وعلى
ذلك ينزل قوله تعالى:
مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ
وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ، وإن كان الكل من عند الله،
وينزل قول الرسول: (الخير كله بيديك، والشر ليس إليك) أي لا يضاف إليك أدبًا كما لا
يقال: (سبحان خالق الخنازير)، وإن كان هو الخالق بإجماع الناس في جميع الديانات.
٣٧
وهذه المسألة من المشكلات، وقد عرض لها في لواقح الأنوار بكلام متموج لا يحل ولا
يربط
٣٨ إذ قال:
أخذ علينا العهد العام من رسول الله
ﷺ أن ندفع غضبنا ونكظم غيظنا،
ونأمر بذلك جميع إخواننا، وإذا غضب أحدنا وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب
وإلا فليضطجع، فإن لم يزل فليتوضأ، ويحتاح من يريد العمل بهذا العهد إلى السلوك
على يد شيخ صادق يدخله إلى حضرة الرضا بكل واقع في الوجود، وبطريقه الشرعي فلا
يبقى عنده شيء يغضبه؛ لإنه حكيم عليم، وما ترك الناس يغضبون إلا حجابهم عن شهود
أن الله هو الفاعل لكل ما برز في الوجود، وشهودهم الفعل من جنسهم، فلذلك غضبوا
على غضبهم، ولو سلكوا الطريق لوجدوا الفعل لله تعالى ببادئ الرأي فلم يجدوا من
يرسلون عليه غضبهم، ووجدوا كل شيء وقع في الوجود هو عين الحكمة فذهب اعتراضهم …
فعلم أن الكامل لا يغضب لنفسه قط، وإنما يغضب إذا انتهكت حرمات الله تعالى.
وكأن الحق يقول للكامل: إذا رأيت عملًا برز على يد أحد من عبيدي مخالفًا لشريعة
نبي فاغضب، ولو شهدت أني أنا الفاعل، لكني لا آمرك أن تغضب على فعلي، وإنما
آمرك أن تغضب على وجه نسبة الفعل إلى عبدي.
٣٩
وهذا كلام متهافت؛ لأنه لا يعرف أحد كيف يفعل الله الفعل ثم يغضب ويأمرنا أن نغضب.
وكيف يغضب أو نغضب وكل شيء وقع في الوجود هو عين الحكمة والصواب؟
إن الشعراني هنا متهافت، ولكن المهم أن نسجل أنه ينهي عن الغضب ويدعو إلى كظم الغيظ،
ويروض المريد على الرضا بكل واقع في الوجود.
ومسألة «النسبة» مسألة هينة: لأننا لا نذب حين نذنب إلا كما تفعل السيارة حين تدوس
طفلًا في الطريق. فالسيارة هي التي قتلت على طريق النسبة، والقاتل الحق هو السائق، وهو
وحده المسئول وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ اللهَ
رَمَىٰ، وما قتل السيف إذ قتل، وإنما قتل السياف.
الترفق في معاملة الفاسقين
وهذا الاتجاه في فهم الإيجاد والإسناد جعل الشعراني يترفق في معاملة الفاسقين، فهو
ينهى عن صحبتهم، ولكنه يراها متعينة حين نقصد بها تمهيد بساط التوبة لهم، كما عليه
الدعاة إلى الله «فإنهم لا يبعدون عن مستقيم ولا أعوج؛ فإن المستقيم لا يجوز هجره،
والأعوج محتاج إلى من يقوم عوجه، وقد أغفل هذا الأمر خلق كثير من طلبة العلم فبعدوا عن
خلطة المعوجين من الظلمة فحرموا بركة هدايتهم، ولو أنهم قربوا منهم مع العفة عما
بأيديهم من الدنيا
٤٠ وسارقوهم بالوعظ لربما أثرت فيهم مواعظهم».
٤١
والشعراني ينهى عن اغتياب الفساق، ويرى أنه لا يجوز لك أن تستغيب فاسقًا أو تؤذيه
أو
تشق عليه، ويستأنس بحديث (لا غيبة في فاسق)، ويقول: إن بعضهم قال في تأويله «احفظوا
لسانكم في حقه ولا تغتابوه، فجعل لفظ (لا) ناهية»،
٤٢ وهو يميل إلى قبول هذا التأويل.
وصرح في البحر المورود أن العهد أخذ علينا أن نرفق بالمسيئين، وأن نكون أرحم بهم من
أنفسهم، بحكم الإرث لرسول الله الذي قال: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) وقد
قالوا: من نظر إلى الخلق بعين الحقيقة رحمهم، ومن نظر إليهم بعين الشريعة مقتهم. ثم قال
في تفسير هذه الكلمة: «وعين الحقيقة أن تشهد أن الحق تعالى ما دام يخلق فيهم المعاصي
لا
يمكنهم الرجوع عن الوقوع فيها، قال تعالى:
ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ
لِيَتُوبُوا، فإذا انتهى خلق المعصية فيهم تابوا لا محالة».
٤٣
وهذه المسألة لا تبعد كثيرًا عن رأيه الذي عرضناه آنفًا في الإسناد والإيجاد.
الرفق بالأعداء
والشعراني لا يبيح أن ندعو على من ظلمنا فلا نقول قط: «اللهم من كادنا فكده، ومن بغى
علينا فخذه» ونحو ذلك، والرأي عنده أن نرجع إلى نفوسنا فننظر السبب الذي تحكم فينا ذلك
الظالم بسببه فنتوب منه ونستغفر ونرجع إلى الله، فإن لم تتيسر لنا توبة صبرنا واحتسبنا،
وقد دعا رسول الله على قريش بالهلاك فأنزل الله تعالى عليه: وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ فاستحيا من الله، وترك
الدعاء عليهم، وصار يدعو لهم بالهداية.
وهنا يبلغ الشعراني ذروة التصوف إذ يقول في تلطف وترفق:
واعلم يا أخي أن من شأن كل عارف أن يرى نفسه قد استحقت الخسف به لولا عفو
الله، وأن جميع ما يقع عليه من البلايا والمحن دون ما كان يستحق، ويرى جميع
الظلمة في هذه الدار كزبانية جهنم، إلا أنهم خالفوا الزبانية في هذه الدار في
ظلمهم للعباد في كونهم تحت النهي، بخلاف الزبانية فإنهم هناك تحت الأمر. ومعلوم
عند كل عارف أن حكم الإرادة لا مرد له؛ لأنه لا يصح قط لأحد أن يخالف إرادة
الله، بخلاف أمره فيصح مخالفته لقوة سلطان الإرادة فافهم،
٤٤ ومن هذا المشهد قل تكدير العارفين لمن ظلمهم وآذاهم، فإن الظالم
حكمه حكم السوط الذي يضرب به، فالغيظ حقيقة إنما يكون من الضارب الظالم لا من
السوط، فمن اغتاظ من السوط فهو محجوب عن تمام العقل.
٤٥
ومعنى هذا أن ما يقع علينا من الظلم إنما هو تأديب من الله، والظالمون هم أدوات
التأديب، ونحن حين نثور عليهم يكون مثلنا مثل من يثور على السوط الذي يضرب به، والأولى
أن يثور على حامل السوط، ولكن حامل السوط في هذه المرة هو الله الذي لا يظلم أحدًا من
العالمين.
كيف نعامل من يظلمنا
ويمضي الشعراني في الترفق، فيذكر أن العهد أخذ
علينا أن لا نطلق أبصارنا في عيوب الناس، ولا نسأل قط عن تحقيق ما سمعناه في حقهم من
التهم، ونحفظ أسماعنا وأبصارنا عن مثل ذلك، فمن شق جيب الناس شقوا جيوبه، ومن كان عليه
دين قديم قضاه لا محالة،
٤٦ وهو يحرص على توكيد هذا الأدب الجميل، وينقل أن الحسن البصري كان يقول:
والله لقد أدركنا قومًا كانت عيوبهم مستورة فبحثوا عن عيوب الناس فأظهر الله عيوبهم،
ورأينا أقوامًا ليس لهم عيوب فبحثوا عن عيوب الناس فأحدث الله لهم عيوبًا.
ولا يقف الشعراني عند هذا الحد من أدب النفس، بل يرى من حسن الخلق أن تغفر لمن آذاك
من الناس،
٤٧ ويوصي بأن يكون الإنسان نفاعًا لمن يذمونه ويقعون في عرضه ممن لا يعرفون
أدب الرجال،
٤٨ ويرجون أن نعود أنفسنا طلاقة الوجه لكل مسلم
من عدو وصديق.
٤٩
غض البصر عن عيوب الناس
ولا يكفي عنده أن نترفق بالمسلمين وحدهم، فإن الترفق واجب في معاملة جميع الناس،
ويقول في ذلك:
وكثيرًا ما كاتبت اليهود والنصارى أصحاب المكوس في تخفيف المظالم عن المسلمين،
٥٠ وأقول في كتابي لهم: أسأل الله للمعلم فلان أن يرضى عنه، ويدخله
الجنة مع الصديقين والشهداء والصالحين، وأضمر له سؤال التوبة من الكفر ليصح
دخوله الجنة، وربما أنكر ذلك من لا علم له بطرق السياسة، فإني أعلم أني لو قلت
له: أسأل الله للمعلم فلان أن يتوفاه على الإسلام لنفر خاطره مني، ولم يقبل
شفاعتي، كما ينفر المسلم من قول أحد له: أسأل الله أن يميت البعيد على غير
الإسلام. قال تعالى:
كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ
عَمَلَهُمْ، فاعرف يا أخي طرق السياسة، وعود نفسك طيب الكلام، فإنه
أحسن سواء كان المخاطب صالحًا أو طالحًا، والله عليم حكيم.
٥١
وما نحب أن تفوت هذه المناسبة بدون أن نقيد أن الشعراني يذكر في مواطن مختلفة أن
كثيرًأ من اليهود أسلموا على يديه بفضل الرفق و(الكلام لحلو) على حد تعبيره. واليهود
في
كلامه هم مثال الكفر الموبق، وهو يضرب بهم المثل حين يتكلم عن أهل الزيغ، وهذا يدل على
أن يهود مصر لعهده لم تكن لهم منزلة اجتماعية.
٥٢
كيف نعامل النصارى واليهود
ولم يفت الشعراني أن يضع للمريد دستورًا يسير
عليه في معاملة الفرق الإسلامية، وعنده أنه لا ينبغي التجرد للرد على أمثال المعتزلة
والجبرية إلا إن عارض كلامهم نصًا قاطعًا أو إجماعًا عامًا؛ «لأن دين الإسلام يشملهم
ويعمهم» لانبساط شعاع نوره على قلوب جميع المسلمين. والخطأ من كل وجه لا يكون إلا
للكفار، فإذا سمعنا الجبري مثلًا يقول: (لا فعل إلا لله) لا يجوز لنا الإنكار عليه
بمجرد هذا القول، وإنما ننكر عليه قوله بعد إسناد الأفعال إلى العباد فقط لكون الحق
تعالى أضاف أفعاله إليهم فمن نفى إسناده فقد أخطأ لقصور نظره. وإذ سمعنا المعتزلي يقول:
(الفعل للعبد) لا ننكر ذلك بل بعدم إضافتها إلى الله جملة واحدة، فكل من الجبري
والمعتزلي مخطئ من وجه، والكامل من نظر بعين الحقيقة وبعين الشريعة فرأى الفعل لله
إيجادًا وللعبد إسنادًا.. وقس على الجبرية والمعتزلة غيرهما من الفرق الإسلامية.
٥٣
وهذه اللفتة تدل على اهتمام الشعراني بتصفية البيئة الإسلامية وحمايتها من الجدل
المؤذي الذي يفسد ما بين الناس من صلات الإخاء.
كيف نعامل الفرق الإسلامية؟
والشعراني ينصح بمداراة الحكام ويقول: «أخذ علينا العهد بأن نأمر إخواننا أن يدوروا
مع الزمان وأهله كيف داروا، ولا يزدرون قط من رفعه الله عليهم، ولو في أمور الدنيا
وولايتها، كل ذلك أدبًا مع الله عز وجل الذي رفعهم؛ فإنه ما يرفع أحدًا إلا لحكمة، ثم
أي فائدة لازدرائهم من ارتفع عليهم، مع أن أحدًا لا يسمع لهم؟ وهذا العهد قل من يعمل
به
من الناس فيقولون عن المحتسب أو الوزير أو غيرهما: من أين لهؤلاء السفل الضخامة علينا
ونحن نعرف آباءهم، وفلان كان أبوه زبالًا، وفلان كان أبوه نوتيا، وفلان كان أبوه
فلاحًا، ونحو ذلك من الهذيانات. ومن أقام هذا الميزان اليوم على الناس حرم بركة أهل زمانه».
٥٤
وظاهر من هذا الكلام أن المصريين الذي عرفهم الشعراني في القرن العاشر كانوا
كالمصريين الذين نعرفهم اليوم في القرن الرابع عشر؛ فالنوتية عمل حقير، والفلاحة عمل
حقير، والمرء لا يصح له أن يكون وزيرًا إلا إن كان من بيت له ماض في ولاية أمور
الناس.
والمهم هو أن نسجل هذه النظرة الخلقية؛ فالذي يعادي الحكام ويفكر في لمزهم وغمزهم
هو
رجل حرم بركة أهل زمانه، وهذا الرأي حق وصدق فالحكام يملكون ما لا نملك، وبيدهم تصريف
الأمور. والطعن في آبائهم وأجدادهم هذر سخيف لا يحسنه غير السخفاء.
وهذا الأدب له غور أعمق من ذلك؛ لأن انتقاص الحكام يزعزع الوحدة القومية، ويقسم الأمة
إلى شطرين: رعية حاقدة، وحكام مبغوضين، وسلامة الأمة لا تكون إلا بالألفة بين الحاكمين
والمحكومين.
والشعراني يكرر هذا المعنى كلما لاحت فرصة. ومن رأيه أنه ينبغي لنا إذا اجتمعنا
بسلطان أو أمير أو كبير في قومه أن نسأله أن يدعو لنا. ولو كان غير صالح، فإن الله
تعالى يستحي أن يرد دعاء هؤلاء الأكابر بين قومهم ورعيتهم ويخجلهم.
ويضرب المثل بما وقع لفرعون حين طلب منه قومه أن
يطلع لهم نيل مصر لما توقف، فإنه قال: يا رب لا تخجلني بين عبادك فأجابه. ثم يقول الشعراني:
وهذا سر قلّ من يتنبه له من الناس … ولما طلعت للباشا داود نائب مصر في هذا
الزمان في قضية أوجبت ذلك في سنة خمس وأربعين وتسع مئة سألته الدعاء بأمور كانت
متوقفة علي شهورًا، فنزلت من القلعة فوجدتها كلها قد قضيت، فاعلم ذلك واعمل عليه.
٥٥
كيف نعامل الحكام؟
والظاهر أن الشعراني كان رجلًا أزرق الناب، فإنه قدر في كظم الغيظ على ما لم يقدر
عليه أحد من الصوفية، هو رجل سياسي حنكته الأيام فاصطنع المجاملة والمداراة؛ وذلك أدب
لا يعاب، ولكن لا يمكن القول بأن مقامه يساوي مقام المخاطرين من أرباب الشجاعة الأدبية
الذين أسمعوا كبار الخلفاء ما لا يحبون.
إن أدب الشعراني في هذه الشؤون أدب عيسوي، فهو لا يبعد كثيرًا عن أدب المسيح إذ قال:
دعوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.
فالمريد الذي يؤدبه الشعراني هو رجل يقبل كل شيء ليس له أن يثور على الحكام وإن كانوا
ظلمة؛ لأن الله لا يرفع أحدًا إلا لحكمة، وقد يكون الحاكم الظالم سوطًا سلطه الله على
المذنبين!
المريد الذي يؤدبه الشعراني رجل ترابي، هو كأكثر من نعرف من أهل هذا العصر، ففي الناس
من يؤيدون كل حكومة، ويسيرون في كل ركاب، ويكادون يقولون حين يسمعون كلام أي وزير: صدق
الله العظيم!
وهذا أدب جميل إذا قيس بما فيه من سلامة العواقب، وبما يجلب من الحظوظ الدنيوية،
ولكنه أدب منحظ إذا تذكرنا أن من واجب أهل الرأي أن يقفوا وقفة الآساد في وجوه
الظالمين.
وعذر الشعراني يبدو مقبولًا؛ لأن الواعظين لا يسمع لهم حين يقاومون الحكام، وفاته
أن
الرأي يتكون من تلك الكلمات الصغيرة التي ينقلها المنكرون من مكان إلى مكان، وأعنف
الحكام وأصلبهم لا يقدر على الوقوف في وجوه الناس حين يغضبون، وهل تقدر وأنت سيد على
تذمر الخدم في بيتك؟! إن الذين يصانعون الحكام الظالمين باسم السياسة وتدبر العواقب هم
قوم جبناء يسترون جبنهم بتصنع الحكمة، وبعد النظر، ومرونة العقل، وهذه الشمائل المصقولة
لا تنبت إلا في قلوب الضعفاء، وقد صرح الشعراني عن جبنه
٥٦ حين قال:
أخذ علينا العهد أن لا تتصدر لإزالة منكرات الولاة إلا إن كان معنا تصريف
فيهم، وإلا آذونا ونفونا من بلادنا، وأحوجونا إلى الاستخفاء زمانًا طويلًا.
٥٧
ومعنى هذا أن إزالة منكرات الولاة لا تكون إلا عند ضمان السلامة، والسلامة مطلب وضيع
في نظر كبار الرجال.
الشخصية الخلقية للمريد
ننتقل من هذا إلى رأيه في تربية المريد من الوجهة العقلية، وهو ينهاه عن قراءة كتب
التصوف والتوحيد المطلق، فلا يقرأ كتب ابن عربي أو غيره من غلاة الصوفية؛ «وذلك لعدم
الفائدة، وشدة الإنكار على من تفوه بما ذكروه فيها مما يخالف عقول غالب الناس؛ وما كل
ما يعلم يقال. وربما فهموا منها أمورًا تخالف صريح السنة فيموتون على اعتقادها فيخسرون
مع الخاسرين. وما رأينا قط مريدًا بلغ مبلغ الرجال بمطالعة كتاب».
٥٨
ولا ينافي هذا ما جاء في مقدمة اليواقيت والجواهر من الدعوة إلى قراءة كتب ابن عربي
فإنه هناك احترس حين أقنع المريد بأن ما جاء في كتب ابن عربي مخالفًا للشرع إنما هو من
وضع الدساسين، ونخلص من هذا إلى أن التصوف عنده يجب أن يقيد بالشرع، وأن المريد يجب
عليه أن يحترس من مزالق العقول.
تربية المريد من الوجهة العقلية
ونهيه عن قراءة كتب التصوف لم يمنعه من أن يملأ كتبه بأقوال الصوفية في الرمزيات، فقد
نقل كلمة أبي الحسن الشاذلي في تفسير آية: وَمَا تِلْكَ
بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ على الطريقة الصوفية:
«يقال للولي: وما تلك بيمينك أيها الولي؟
فيقول: هي دنياي أنفق منها على نفسي وأهلي وإخواني، فيقال له: ألقها، فيلقيها
فيجدها حية تسعى في هلاك قابضها، فيأخذ حذره منها، فإذا حذر منها يقال له: خذها ولا
تخف. فكما ألقاها أولًا بإذن حال بدايته فكذلك أخذها بإذن حال نهايته».
٥٩
والواقع أن الشعراني سلك مسالك الصوفية في أكثر مؤلفاته، فتجوز في الألفاظ والمعاني،
ودخل إلى قلوب القراء بأساليب لا تخلو من فتون، ولكن الخطر عند الشعراني يخالف الخطر
عند ابن عربي؛ فالذي يؤمن بكل ما أشار به الشعراني يخرج وهو مخبول، والذي يؤمن بكل ما
أشار به ابن عربي يخرج وهو زنديق، والفرق بعيد بين الزندقة وبين الخبال.
فسذاجة الشعراني هي أصل ما يقع فيه من انحراف، ومكر ابن عربي هو أصل ما يقع فيه من
ضلال.
تأثر الشعراني بالبيئة المصرية
بقيت مسألة يجب النص عليها: وهي أن الشعراني لا يكاد يعرف غير البيئة المصرية، فهو
يضع الآداب لمواطنيه من أهل مصر، ولا يفكر فيمن عداهم من المسلمين،
وهو حين يتحدث عن نقص الدين أو رفع الرأفة من قلوب
الناس لا يعني أحدًا غير المصريين، وقد مضت النصوص التي تعين هذا المعنى، ويؤيدها قوله
في البحر المورود:
أخذ علينا العهد إذا كان لنا جار ساكن
على الخليج أيام قطعه، أو نزح الخرارات منه، وعلمنا عجزه عن نزح ما تحت بيته
إما لفقر أو بخل أن نوهم جماعة الوالي أن تلك الخرارات نشأت من بيتنا دون بيته،
ثم انتزحها نيابة عن جارنا، ولا ندع جماعة الوالي يرعبوه مع قدرتنا على ذلك،
ولا سيما إن كان عنده ضعيف أو نفساء أو فرح أو غرماء يطالبونه وهو عاجز عن
الوفاء ومستخف بالبيت. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
٦٠
وهذا النص يدل دلالة قاطعة على أن الضمير «نا» في قوله (أخذ علينا العهد) يراد به
الصوفية المصريون؛ فآداب الشعراني هي آداب محلية أوحاها ظرف المكان.
والأصل في كل دعوة أدبية أو اجتماعية أو دينية أن تصطبغ بالموطن الذي نشأت فيه، وكذلك
يجب أن تغلب الألوان المحلية في كل أثر أدبي أو اجتماعي أو ديني، ولكنا لا نجد هذا
الشرط يتحقق عند أي مؤلف على نحو ما تحقق عند الشعراني؛ فالبيئة المصرية تطل من كل سطر،
بل من كل حرف، وهو في اتجاهاته الذهنية، وأخيلته الأدبية، مصري صميم عرف أخلاق
الفلاحين، وأخلاق أهل القاهرة التي يسميها «مصر المحروسة». ومعرفته لأهل مصر في مسالكهم
الخلقية والمعاشية يعطي كتبه منزلة عظيمة هي تأريخ المجتمع المصري في ذلك الحين.
وقد شرحنا ذلك بالتفصيل في القسم الأول من هذا الكتاب فليرجع إليه القارئ هناك.
٦١
الشعراني والخواص
وفي ختام هذا الفصل ينبغي أن ننص على أن مصادر
الشعراني في كتبه الأخلاقية ترجع إلى أصلين: الأول: كتب الفقه والتصوف والحديث،
والثاني: ما تلقاه شفويًا عن أشياخه في الطريق، وهنا نذكر بالذات عليًّا الخواص، وكان
من مشاهير الأولياء وله ضريح يزار بالحسينية، فقد أكثر الشعراني من نقل أقواله،
والاستشهاد بآرائه في كثير من الشؤون.
وإذا صدق الشعراني فيما نقل عنه — وهوعندنا صادق — فإن الخواص يعد بما نقل عنه من
أئمة التصوف، ورجال الأخلاق، ومن أعيان مصر في القرن العاشر، وإذا كان الخواص لم يترك
شيئًا يستحق الذكر من المؤلفات، فإن الشعراني صنع معه ما صنع أفلاطون مع سقراط.
ما هذا؟ أيصح في الأذهان أن يقرن اسم الشعراني إلى اسم أفلاطون، واسم الخواص إلى اسم
سقراط؟
وهل يقدم هذا الكلام إلى الجامعة المصرية؟
إي والله! هذا من موجبات العجب، ولكنه حق؛ فإن شطحات الشعراني وحدها تضعه في الصف
الأول بين رجال الخيال، وإحاطته بالعلوم الإسلامية والعربية وصدق رأيه في معرفة أهل
زمانه تضيفه إلى صفوف العلماء والحكماء. ولا أنكر أن له أحيانًا جرأة تثير النفوس، ولكن
مجموعة ما ألف هذا الرجل تشهد بأنه كان من العظماء، وليس من الحتم أن يكون جوهر علمه
من
جوهر العلم الذي أذاعه أفلاطون، فإن الفرق بين العقلين عظيم، ولكن مجهود الشعراني في
نشر الثقافة الشرعية والصوفية لا يقل خطرًا عن مجهود أفلاطون في نشر ثقافة
اليونان.
إننا ننظر إلى الشعراني بعيون جلتها حقائق العلم الحديث، ومن أجل ذلك ننكره ونقسو
عليه، ولو أننا تمثلنا العصر الذي نشأ فيه، ونظرنا فيما ترك من المصنفات وما سطر من
أخبار الحقائق والأضاليل، وتذكرنا ما رعي من الفقراء وما هدى من الطلاب، وما تسامى إليه
حين تطلع إلى أسرار الوجود، لو نظرنا هذه النظرة لأحسسنا بتيارات من العطف تجرف ما
أخذنا عليه من الوساوس والهفوات.
وأما الخوّاص فماذا نقول فيه؟
ليمرَّ من شاء بشارع الحسينية، فإن فعل فسيرى ضريحًا لا يعرفه غير العوام، وهم لا
يذكرون إلا أنه كان رجلًا صالحًا يعيش من جدل الخوص فهل في الناس اليوم من يعرف أن هذا
الرجل المجهول هو الذي قال:
«من أراد أن يعرف مرتبته في العلم الذي يزعم أنه من أهله فليرد كل قول إلى قائله،
وكل
علم إلى عالمه، وكل شيء استفاده من أمر دنياه وآخرته إلى من استفاد منه، وينظر نفسه بعد
ذلك».
٦٢
أترون عمق الفكر في هذا الكلام البسيط؟
إن الخواص الذي عرفناه في كتب الشعراني لا يقل عظمة عن سقراط الذي عرفناه في كتب
أفلاطون. والفرق بين الرجلين أن سقراط أولع بمخاطبة العقول، والخواص أغرم بمخاطبة
القلوب. والعقل أبقى من القلب، وله في كل زمان أنصار وأشياع.
إن أفلاطون عاش لأنه وقف عند حدود الأرض، ومات الشعراني لأنه تطلع إلى السماء. عاش
أفلاطون لأنه تحدث عن شؤون يفهمها الأصحاء، ومات الشعراني لأنه خاض في شؤون لا يدركها
غير من انقطع عن دنياه. والانقطاع عن الدنيا من أعراض الموت، ولكن من ينكر أن رأى
المحتضر قد يكون أصدق رأى، وحديثه أبلغ حديث؟
وهل من القليل أن تعيش شطحات الشعراني أربعة قرون؟
ذلك ضرب من الحياة لو تعلمون.