المهلكات والمنجيات
تحديد الشخصية الخلقية
طال الطواف بآراء الصوفية في الأخلاق، ورأينا ألوانًا مختلفات من مذاهبهم في العيش ومناحيهم في السلوك، ولكن الشخصية الخلقية للصوفي الحق لا تزال خافية بعض الخفاء، وأخشى أن نكون أطلنا في بيان النواحي الفلسفية من التصوف، وأخشى أيضًا أن نكون أسرفنا في نقد المذاهب الصوفية إسرافًا يضلل القارئ، ويصرفه عن تنور ما في الشخصية الصوفية من سماحة وصفاء.
ولكن ما اصطنعناه من العنف في نقد المذاهب الصوفية، وما آثرنا من التعمق في عرض التصوف من الناحية الفلسفية، كان أمرًا يوجبه البحث كل الوجوب؛ لأن هذا الكتاب لم يؤلف لشرح التصوف، ولا لتأريخ التصوف، وإنما ألف لغاية صريحة: هي بيان تأثير التصوف في الأدب والأخلاق، وقد وصلنا من ذلك إلى بعض ما نريد.
ثم نظرنا فرأينا منهج البحث يسمح بتصوير الشخصية الخلقية للصوفي الحق، ونريد الناحية العملية في حياة المريد، الناحية التي تصور ما يخاف وما يرجو في حياة الأخلاق.
مزايا النظرة الصوفية
قد يقال: وما الفرق بين الصوفي وبين غيره من أرباب السلوك السليم إذا غضضنا النظر عن الناحية الفلسفية؟
ونجيب بأن الناحية الفلسفية هي في الأصل عماد الناحية العملية، فالصوفي يتفلسف في جميع أعماله، ولا يتقدم ولا يتأخر إلا بموازين.
وللصوفي ميزة ليست لسواه من رجال الأخلاق فهو «يحس» المواعظ، و«يذوق» الأمثال، والحكمة على لسان الصوفي متوقدة ملتهبة تأخذ وقودها من الضمائر والقلوب.
وهناك ميزة ثانية هي الإلحاح، الإلحاح، ولو شئت لكررتها ألف مرة، فالصوفي يحب أن ينقل جميع ما أثر من أقوال الأنبياء والحكماء والصالحين في تأكيد المعنى الذي يدعو إليه، وربما كان الصوفية هم الذين تفردوا بالإطناب في شرح أدواء النفوس، وأمراض القلوب، وبكوا على مصاير العاصين، والغافلين أحر البكاء.
وهناك ميزة ثالثة هي شعور الصوفي بأثقال الأوزار والذنوب، فهو رجل تواب أواب لا يذنب حين يذنب إلا وهو في غاية من الخجل والاستحياء.
وهناك ميزة رابعة هي الإيمان، فالصوفي وإن تفلسف لا يعتقد أن الأخلاق وسيلة نفعية تُطلب للمعاش وحسن الصلات مع الناس، وإنما يعتقد أن الأخلاق صلة بينه وبين الله، ولله صورة جميلة في أنفس المخلصين من أهل التصوف، وهم يحبونه كل الحب، ويستحيونه كل الاستحياء، وهم من أجل ذلك لا يبالون الشرائع ولا القوانين، وإنما يفكرون في صلاتهم الحقيقية بذلك المحبوب المعبود.
وما أنكر أن الصوفية قد يصلون إلى الوسوسة الخلقية في أكثر الأحيان، ولكن عذرهم في ذلك مقبول، فهم يتسامون إلى الظفر بالرضوان عند محبوب لا تناله الأوهام ولا الظنون، ورضوانه غرض عزيز المنال.
آفات الشبع وفوائد الجوع
ولنفصل شمائل الصوفي من الناحية الخلقية فنقول:
يخاف الصوفي شهوة الطعام والشراب، وهو على حق، فكل الرذائل تصدر عن الطعام والشراب، وما أمن إنسان غوائل ما يأكل وما يشرب إلا انقلب إلى مخلوق سفيه ممقوت.
وهل ذل من ذل وضاع من ضاع إلا بسبب الحرص على الطعام أو الشرب؟
- الأولى: صفاء القلب، وإيقاد القريحة، ونفاذ البصيرة، فإن الشبع يورث البلادة، ويعمى القلب، ويكثر البخار على الدماغ.
- الثانية: رقة القلب وصفاؤه ليتهيأ لإدراك لذة المناجاة.
- الثالثة: الانكسار والذل وزوال البطر والفرح والأشر الذي هو الطغيان والغفلة عن الله.
- الرابعة: أن لا ينسى بلاء الله وعذابه ولا ينسى أهل البلاء.
- الخامسة: كسر شهوة المعاصي والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء.
- السادسة: دفع النوم وسهولة السهر.
- السابعة: تيسير المواظبة على العبادة، فإن الاهتمام بالأكل قد يضيع على العابد أطيب الأوقات.
- الثامنة: صحة البدن ودفع الأمراض.
- التاسعة: خفة المؤونة، فإن من تعود قلة الأكل كفاه اليسير من المال.
- العاشرة: التمكن من الإيثار والصدقة بما فضل من الأطعمة على اليتامى والمساكين.٤
وللصوفية كلام كثير في النهى عن الشبع والتشويق إلى الجوع، وقد نقدنا هذه النظرة حين تكلمنا على آداب الطعام، ولكن لا مفر من الاعتراف بأن لإيثار الجوع مزية أساسية هي الخلاص من شهوة البطن والسلامة من أمراض الأبدان والأخلاق، فأخطر الأمراض الجسمانية مصدرها الأكل، وأخطر الأمراض الأخلاقية مصدرها الأكل، ولا تسهل المعاصي إلا على من يسرفون في الطعام والشراب.
هل نعلن حين نبتلى بالشهوات
ومن رأيهم أن حق العبد إذا ابتلي بشهوات وأحبها أن يظهرها، وهذا عندهم صدق الحال، فإن إخفاء النقص وإظهار ضده من الكمال هو نقصان متضاعفان، والكذب مع الإخفاء كذبان، فيكون مستحقًا لمقتين، ولا يرضى عنه إلا بتوبتين صادقتين، ولذلك شدد الله أمر المنافقين فقال: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار)؛ لأن الكافر كفر وأظهر، والمنافق كفر وستر، فكان ستره لكفره كفرًا آخر؛ لأنه استخف بنظر الله إلى قلبه، وعظم نظر المخلوقين فمحا الكفر عن ظاهره، والعارفون يبتلون بالشهوات بل بالمعاصي، ولا يُبتلون بالرياء والغش والإخفاء.
الصوفي يرى الناس أحقر من أن يتهيبهم، ويتقي لغوهم وفضولهم وسفاهتهم، ويرى الحياء لا يكون إلا من الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
الصوفي يؤذيه أن يكون كبعض الأراذل الذين يستبيحون جميع المنكرات في الخفاء، ثم يلقون الناس بوجوه الصالحين الزاهدين المتبتلين، وما عرفوا الصلاح ولا الزهد ولا التبتل، وإنما هم لصوص سفلة يسرقون السمعة الحسنة من المجتمع المغفل الذي يعيش عيش القرود، فلا يصدق غير ما ترى عيناه المفتوحتان بلا وعي ولا إحساس.
الصوفي يؤذيه أن يُعرف بالصدق حين يكون من الصادقين؛ لأن في الشهرة بالصدق فتنة تجره إلى الريا.
والصوفي لا يستهويه أن يرى المنافقين والمخادعين في نجاح ورفاهية ونعيم؛ لأنه يعرف أن حظوظهم في دنياهم ليست إلا حرامًا في حرام، ولا فرق بين انتهاب السمعة وانتهاب المال، وإن خفي ذلك على الغافلين.
ومن المنافقين من لا يكفيه أن يستر الله عورته الخفية فيجره الشره في انتهاب السمعة الحسنة إلى الوقوع في أعراض الناس ليصح عند الجمهور المغفل أنه من أهل الغيرة على الأخلاق، وبهذه الأساليب تسير بين الجماهير أباطيل وأضاليل تنصب لها موازين فيشقى بها بها ناس ويسعد ناس.
الصوفي يقف المتفرج على الضلالات الاجتماعية، ويرى الرذيلة المكشوفة أهون من الرذيلة المستورة؛ لأن الرذيلة المكشوفة تعصم صاحبها من موبقات كثيرة أهونها الصلاح المزيف، والأدب المكذوب.
أما الرذيلة المستورة فتخلق لصاحبها موبقات مهلكة ماحقة أيسرها الشعور بأن الكذب على الله وعلى الناس أمر تجيزه العقول، عقول السفلة المهتوكين أمام الله والمستورين أمام الناس.
وقد بدا لأهل أمريكا منذ أعوام أن يحرموا شرب الخمر فوقعوا في خطر ماحق هو الرياء والنفاق، واشتبهت المسالك في تمييز الفاضل من المفضول، ولو أصرت أمريكا على هذه النزعة «الإعلانية» لفقدت ميزتها الأصلية وهي صراحة القلوب والأعمال.
والأمم التي تحرص على سلامة الظواهر هي الأمم المهددة بالاستعباد والزوال.
وشاهد ذلك يؤخذ من حياة الشعوب في هذه الأيام، فالأمم التي تكثر من الكلام على التحليل والتحريم هي الأمم التي تعاني آلام الاستعباد؛ لأن انشغالها بالنفاق والرياء والخداع لم يترك لها من فراغ البال ما تستعد به لمقاومة المكاره والخطوب. ولا كذلك الأمم التي جعلت حسابها مع الله لا مع الناس.
وحسب المرء من السفالة والضعة والحطة أن لا يكون له رقيب غير طوائف من المخلوقات تستبيح في السر ما تنكر في العلانية.
وحسب الأخلاق من الضعف أن لا تتماسك إلا بأسباب واهية من الرياء.
وقد حار الباحثون في فهم السر الذي قضى بأن تخلد الكتب التي بلغها الأنبياء والمرسلون.
فليفهموا — إن شاءوا — أن مرجع ذلك السر إلى الصدق، فالأنبياء والمرسلون لم يكن فيهم رجل كاذب، وإنما كانوا جميعًا صادقين، فقد سجلوا عيوبهم ومساويهم تسجيلًا صريحًا لا مواربة فيه ولا تضليل، وهل كانت الكتب التي بلغها الأنبياء والمرسلون إلا تسجيلًا للمآسي الإنسانية الممثلة في أخطاء الأنبياء والمرسلين؟
سيفنى كل شيء، وتبقى خطيئة داود.
سيفنى كل شيء، ويبقى العتاب الموجه إلى الرسول في القرآن.
سيفنى كل شيء، وتبقى صور البكاء على الآثام والذنوب، بكاء الأنبياء والمرسلين.
وسيبقى كل شيء إلا الصلاح المزيف الذي ظفر به الأوباش من من أدعياء الاستقامة والعدالة والصلاحية لتربية العقول والقلوب.
وأشقى الأمم هي التي يكون معلموها ومربوها مخادعين ومنافقين.
أشقى الأمم هي التي تعيش بعقول الأطفال فلا ترى غير الظواهر والعناوين.
أشقى الأمم هي التي تحاسب على الرغيف المسروق، ولا تحاسب على المجد المسروق.
أشقى الأمم هي التي ينصب فيها للظاهر ميزان، ولا ينصب فيها للباطن ميزان.
وإنما فرض عليها هذا الشقاء؛ لأنها حرمت حقًا وصدقًا من جواهر الأخلاق.
وهل تظفر أمة بجمال الخلق حين يسرها أن تجمل الوجوه، وإن قبحت القلوب؟
إن المصدر الأصيل للخلق الجميل هو القلب، فإن غفلت الأمم عن هذا الجوهر فهي أمم مضيعة مفتونة لا تصلح لغير الرق والاستعباد.
لن تفلح أمة إلا حين تتخلق بأخلاق الله، وهو عز شأنه لا ينظر إلى الصور، ولا إلى الأعمال، وإنما ينظر إلى القلوب.
تباركت يا ربي وتعاليت، وبك يستعز ويستنصر كل من شاءت رحمتك أن لا يكون له نصير غيرك.
وما أسعد من تفضلت عليه فكتبت أن لا يعرف نصيرًا سواك.
شهوة الفرج
آداب الزواج
وهم في أغلب أحوالهم يؤثرون العزوبة على الزواج، ولكنهم يدعون إلى الزواج عند خوف الفتنة، ويتحرزون من كل ما يثير الشهوات، ويستقبحون أن تمر صورة الشهوة المحرمة على خيال المريد، ولذلك تفاصيل مرت في الكلام على الحب.
ويستحب الصوفية أن تكون المرأة دون الرجل بأربع: السن والطول والمال والحسب.
وأن تكون فوقه بأربع: الجمال والورع والخلق والأدب.
ويوجب الصوفية أن يصبر الرجل على امرأته، وحدثوا أن أحدهم خطب امرأة ذات جمال، فلما قرب زفافها أصابها الجدري، فاشتد حزن أهلها لذلك خوفًا من أن يستقبحها، فأراهم الرجل أن عينيه أصابهما رمد وأن بصره ذهب، وزفت إليه وذهب عن أهلها الحزن، فبقيت عنده عشرين سنة ثم توفيت، ففتح عينيه، فسأله إخوانه عن سر ذلك فقال: تعمدته لأجل أهلها حتى لا يحزنوا، فقيل له: سبقت إخوانك بهذا الخلق.
وتزوج بعض الصوفية امرأة سيئة الخلق فكان يصبر عليها، فقيل له: لم لا تطلقها؟ فقال: أخشى أن يتزوجها من لا يصبر عليها فيتأذى بها.
وللصوفية أحاديث في الزاوج يضيق عن سردها المجال، وللقارئ أن يرجع إلى قصة سعيد بن المسيب في الإحياء فهي صورة من الأدب الرفيع.
ولهم في مدافعة الشهوات آيات.
مدافعة الشهوات
حدث أحمد بن سعيد عن أبيه قال: كان عندنا بالكوفة شاب متعبد، ملازم للمسجد الجامع لا يكاد يفارقه، وكان حسن الوجه، حسن القامة، حسن السمت، فنظرت إليه امرأة ذات جمال وعقل فشغفت به، وطال عليها ذلك، فلما كان ذات يوم وقفت له على الطريق وهو يريد المسجد فقالت له: يا فتى، اسمع مني كلمات أكلمك بها ثم اعمل ما شئت، فمضى ولم يكلمها، ثم وقفت له بعد ذلك على طريقه وهو يريد منزله، فقالت له: يا فتى، اسمع مني كلمات أكلمك بها، فأطرق مليًا وقال لها: هذا موقف تهمة، وأنا أكره أن أكون للتهمة موضعًا. فقالت له: والله ما وقفت موقفي هذا جهالة مني بأمرك. ولكن معاذ الله أن يتشوف العباد إلى مثل هذا مني، والذي حملني على أن لقيتك في هذا الأمر بنفسي معرفتي أن القليل من هذا عند الناس كثير، وأنتم معاشر العباد على مثال القوارير أدنى شيء يعيبها، وجملة ما أقول لك أن جوارحي كلها مشغولة بك، فالله الله في أمري وأمرك.
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلمي أيتها المرأة أن الله عز وجل إذا عصاه العبد حلم، فإذا عاد إلى المعصية مرة أخرى ستره، فإذا لبس لها ملابسها غضب الله تعالى لنفسه غضبة تضيق منها السموات والأرض والجبال والشجر والدواب، فمن ذا يطيق غضبه؟ فإن كان ما ذكرت باطلًا فإني أذكرك يومًا تكون فيه السماء كالمهل، والجبال كالعهن، وبحثوا الأمم لصولة الجبار العظيم، وإني والله قد ضعفت عن إصلاح نفسي، فكيف إصلاح غيري، وإن كان ما ذكرت حقًا فإني أدلك على طبيب هدى يداوي الكلوم الممرضة، والأوجاع المرمضة، ذلك الله رب العالمين، فاقصديه بصدق المسألة فإني مشغول عنك بقوله تعالى: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ۚ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ فأين المهرب من هذه الآية؟
ثم إنها جاءت بعد ذلك بأيام فوقفت له على الطريق، فلما رآها من بعيد أراد الرجوع لمنزله كيلا يراها فقالت: يا فتى، لا ترجع، فلا كان الملتقى بعد هذا اليوم أبدًا إلا غدًا بين يدي الله تعالى، ثم بكت بكاء شديدًا وقالت: أسأل الله الذي بيده مفاتيح قلبك أن يسهل ما قد عسر من أمرك!
ثم إنها تبعته وقالت: امنن علي بموعظة أحملها عنك.
فقال: أوصيك بحفظ نفسك من نفسك، واذكري قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ.
وإنما ذكرت هذا الشاهد لعذوبته من الوجهة الأدبية، وهناك شواهد تعد بالمئات، وهي تصور جوانب من حلاوة الأدب وطهارة الأخلاق.
والمهم أن نسجل أن الصوفي يخاف ربه أشد الخوف، ويكره الشهوة أشد الكره، ولا يتقدم ولا يتأخر إلا وهو في حيطة وحذر من أحابيل المفاتن والصبوات.
والصوفية يعرفون مزالق النفوس والأهواء فيتحرزون من النساء، ومن الوجوه الصباح، ويجاهدون أهواءهم بالعزلة في بيوتهم، وبالظمأ والجوع، وبمصاحبة الأتقياء.
وقد أشرنا غير مرة إلى أن الشهوات هي الأصل في عمارة الوجود، ولكن من ذا الذي يرضى أن تذهب مروءته ليعمر الوجود؟
من ذا الذي يرضى أن يكون وقودًا في أتون العمران؟
من ذا الذي يرضى أن يكون عضوًا في الجمعية الأثيمة التي تعمر الوجود بأسباب الشهوات؟
وما قيمة الوجود كله إذا خرجنا من ربحه خاسرين؟
وما غنيمة الرجل الذي يجاهد لإغناء الحياة الأدبية بالصور الحسية والاجتماعية على نحو ما فعل ميسيه ولامرتين إذا خرج من جهاده بمحصول سخيف هو فقد كرامته بين الناس؟
وهل يستطيع أطرف الأدباء أن يكون أخلد من إبليس؟ إن بعض الأدباء — وأنا منهم — يتوهمون أن وصف الشهوات والمآثم يرفع الأدب ويحييه؛ وذلك ضلال مبين.
فما ظفرت ولا ظفر أمثالي بغير عصارة مريرة الطعم والمذاق.
إن الصوفية أعقل من الأدباء وأشرف.
سيلقى الصوفية ربهم راضين مبتسمين، أما نحن فسنذهب إلى النار في ركاب امرئ القيس الذي أنذره الرسول.
لقد فقدنا كل شيء، حتى الطمع في عفو الله، وهل يعفو الله على من خلدوا آثار المآثم والشهوات باسم الأدب الرفيع؟
إن من أشنع الأضاليل أن تظن أن من الأدب أن تصف كل ما ترى العيون. إن من أشنع الأضاليل أن تحسب أن من واجبك أن تصور كل ما في الوجود.
إن من أسخف الأباطيل أن تخال أنك جندي من جنود الحب والهيام والفتون.
تلك دنيا من الوهم السخيف طفنا بملاهيها ونحن سفهاء، ثم رجعنا نادمين، وأين نحن من الصوفية؟
أين مكان المسود من مكان السيد؟
أين يقع حال اللاهين اللاعبين الذين لا تغنيهم الحلائل عن الخليلات من حال الصوفية الذين لا يعرفون اللذات إلا في حدود الحلال؟
قولوا في الصوفية ما شئتم، ولكن تذكروا أنهم أشراف متصونون يكرهون مواطن التهم ومواضع الشبهات.
وهل في الدنيا حال أشرف من حال من يقطع السبيل على اللاغين والمتقولين، فلا يمكن السفلة من الوقوع في عرضه كلما شاء لهم هواهم أن يلمزوه في الأندية والمجتمعات؟
إن أصغر مزية للتصون هي رد الأعداء خائبين، الأعداء اللئام الذي يعرفون صدق سريرتك، ثم يتوكأون على قصيدة تقولها في منظر جميل ليستبيحوا عرضك عند من تعرف ومن لا تعرف.
إن أهون فضيلة من فضائل التصون هي إجاعة الأوباش الذين لا يجدون وسيلة لإشباع بطونهم غير الوقوع في أعراض الرجال.
فإن قلت إن الصوفية على طهارتهم لم يسلموا من ألسنة الأنذال، فإني أجيبك بأن حالهم أفضل من حال الأديب الوصاف الذي يمكن الأنذال من اتهامه بالإثم والفتون، فلا يجدون من يصرفهم عن غيهم باسم العقل والوجدان.
إن الصوفية أفضل من الأدباء وأشرف.
فليكن من همنا أن نحاول اللحاق بأولئك القوم.
ولكن أين العوائم وأين القلوب!
آفات اللسان
وكما يحترس الصوفية من شهوات البطن والفرج يحترسون من آفات اللسان.
والصوفية هم أكثر الناس كلامًا في التحذير من الكذب والغيبة والنميمة والفضول.
وما اتفق لرجل من الصوفية أن يؤلف كتابًا إلا تكلم على آفات اللسان. فقد علمتهم التجارب أن اللسان يضر كما ينفع، وهدتهم عظات الأيام إلى أن اللسان قد يجر صاحبه إلى المخاطر والمعاطب.
وما تقدم إنسان أو تخلف إلا كان لسانه من أسباب ما غنم من تقدم، أو رزئ من تخلف.
وشواهد الحال في كل مجتمع تشهد بأن الألسنة لها أثر فعال في مراكز الرجال.
فالرجل العاقل يلقى الناس بما يحبون، ويأبى عليه أدبه أن يواجههم بما يكرهون.
وقد يسوء حظ الرجل وبجانبه التوفيق فيتوهم أن من واجبه أن يصارح الناس بعيوبهم ومساويهم، وهو يحسب ذلك من الشجاعة الأدبية، ولو عقل لعرف أن الشجاعة الصحيحة هي ضبط اللسان وحبسه عن إيذاء الناس.
وقد يتفق في بعض الأحيان أن نقهر على الجهر بكلمة الحق، ولكن تلك الحال هي الشاهد على العجز الموبق، فالرجل الحكيم يستطيع دائمًا أن يكون عفيف القول رطب اللسان، ولا تصدر الكلمة السفيهة عن لسان الرجل إلا وهو مقهور مغلوب، وما قهره ولا غلبه إلا ضعف عزيمته عن مقاومة ما في صدره من أهواء وشهوات.
آفات الأقلام
اهتم الصوفية بالكلام على آفات الألسنة، وكادوا يسكتون عن آفات الأقلام، وإنما كان الأمر كذلك لأن الأقلام في الأزمان الخالية لم يكن لها مجال.
أما اليوم فالقلم يأسو ويجرح، وهو صديق من أصدقاء السوء والبهتان، كان القدماء يقولون:
وكان اللسان يجرح في بيئات ضيقة محصورة يعد أصحابها بالعشرات أو بالمئات.
أما اليوم فالقلم يجرح في بيئات يعد أصحابها بالألوف أو بالملايين.
والكلمة الجارحة في جريدة أو في مجلة تنتقل من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى قطر، ومن قارة إلى قارة، وتحدث من الآثار السيئة ما تعجز عن غسله الأنهار والبحار.
كانت الغيبة باللسان توجه إلى فرد من الأفراد، أما الغيبة بالقلم فقد تؤذي حكومة من الحكومات أو شعبًا من الشعوب.
وما بنا أن ننهى عن نقد الحكومات والشعوب، ولكنا نوازن بين حالين: حال من يغتاب فردًا، وحال من يغتاب حكومة أو أمة.
فالذي يغتاب فردًا يعطل مصلحة فردية، أما الذي يغتاب حكومة فهو يحرض عليها جماهير كثيرة فيسوق الشعب إلى التمرد والعصيان، ولذلك عواقب تهدد مصالح الألوف والملايين، والذي يغتاب أمة قد يعرضها لأخطار من الوجهة الاقتصادية أو الوجهة الدولية. والناس يقعون في هذه المآثم كل يوم، ولا يتنبهون لخطر ما يصنعون.
ومن تقاليد هذا العصر أن ننشئ الجرائد والملجلات لمحاربة الحكومات والأحزاب، ومن حقنا أن نفعل ذلك، والحجة في أيدينا وهي الغيرة على المصلحة القومية، ولكن يغيب عنا أن الأهواء قد تكون لها مسالك في تزيين ما تتورط فيه أحيانًا من الجور والاعتساف.
فالذي يهجم على رئيس الحكومة أو رئيس حزب لا يعرف في الأغلب خطر ما يصنع من الوجهة الأخلاقية؛ لأن التمذهب في الحياة السياسية قد يحول صاحبه إلى طاغية يستبيح كل شيء في تأييد المذهب الذي انحاز إليه، وفي السياسيين رجال عرفوا بالأدب والذوق، ولكنهم في الجدل السياسي يخرجون على ما عرفوا به من التجمل وضبط النفس، حتى لتحسب للرجل منهم شخصيتين مختلفتين أشد الاختلاف.
وإنما كان ذلك لأن مذاهب السلوك في العصر الحديث لا تعرف مآثم الاغتياب في الحياة الاجتماعية والسياسية، كما تعرفها في الحياة الفردية، فرئيس الحكومة أو رئيس الحزب لا يجوز اغتيابه من حيث هو فرد، ولكن يجوز اغتيابه من حيث هو رئيس حكومة أو رئيس حزب، والغيبة الاجتماعية والسياسية أبشع أثرًا من الغيبة الفردية، ولكن أين من يتنبه إلى دقائق الأخلاق؟
يضاف إلى ذلك أن الغيبة الاجتماعية والسياسية تنشر بطريقة علنية في الجرائد والمجلات، وقراء الصحف فيهم من يصدق كل ما يقرأ، وهنا وجه الخطر، فلو كان الناس جميعًا قادرين على نقد ما يقرأون لخفت أضرار الغيبة الاجتماعية والسياسية، وبقيت مهابة رؤساء الحكومات ورؤساء الأحزاب في صدور الناس.
وإذا كان في الأحاديث النبوية ما ينذر بأن اللسان قد يهوي بصاحبه في النار سبعين خريفًا، فنحن نؤكد أن القلم قد يهوي بصاحبه في النار سبع مئة ألف خريف.
والقلم في هذا الزمان أخطر الآفات، وعلى حملة الأقلام أكبر الإثم في خلق الضغائن والحقود بين الأفراد والجماعات والشعوب، وهم المسئولون أمام الله وأمام التاريخ عن تكدير السلام وسوق الناس إلى المجاوز البشرية.
وكتّاب السياسة لا تروج أسواقهم إلا إن عرفوا بالقدرة والبراعة في تصوير مقاتل الحكومات والأحزاب، والجريدة التي تؤثر العقل على الهوى يتلقاها الناس بفتور وعدم اكتراث؛ لأن في بني آدم حيوانية مقهورة تطلب الغذاء من الأقاويل والأراجيف، ولذلك يصفقون لمن يجترح المآثم باسم الغيرة على عمار الكون مع أنهم يعرفون أن بيته خراب.
وسيأتي يوم تعتدل فيه الموازين الذوقية والأدبية والاجتماعية والسياسية، فيعرف من لم يكن يعرف أن العالم السياسي كان يتلون بألوان الشهوات والأهواء وأن من أقطاب السياسية الدولة من يضرب الأمم بعضها ببعض في خطبة ومقالة، وهو معقول بعقال الشراب.
سيأتي يوم يعرف فيه المسلمون أن حضارتهم العظيمة لم تقوضها غير الأقلام الباغية، أقلام الكتاب والمؤلفين الذين غفلوا عن أخطار الغيبة الاجتماعية، فحبروا الفصول الطوال في المفاضلات بين الأمم الإسلامية حتى شطروها إلى عناصر يبغي بعضها على بعض بلا تورع ولا استحياء.
وثورة الأمة الفارسية على اللغة العربية كانت لها أسباب من هذا النوع.
وثورة الأمة التركية على الحروف العربية كانت لها دواع من هذا القبيل.
ولن تزول آثار هذه الغيبة القلمية إلا يوم يمن الله على المسلمين بكتاب حكماء يعرفون كيف يقتلعون جذور هذه الفتن من الأفئدة والقلوب.
ولكن متى يأتي ذلك اليوم؟
إن الأقلام تقدم ما تشاء من الألوان، وهي تبغي على العدل والسلام بلا حق، وتأخذ الأجر على خدمة البغي والإثم والعدوان.
متى يعرف الناس أن صراخ الأرامل وبكاء اليتامى في أعقاب ما تصنع الحرب من إهلاك الأزواج والآباء كان مرجعه إلى القلم الأثيم؟
متى يعرف الناس أن «الدعايات» التي تنظمها الحكومات والأحزاب هي سموم خطرة تفتك أشد الفتك بطمأنينة الأمم والشعوب.
متى يعرف الناس أن «الدعاية» يجب أن تكون بابًا من الهداية؟
متى يفهم بنو آدم قيمة الصدق في الوصف؟
متى يجيء رجل صوفي ينبه أهل هذا الزمان إلى خطر القلم، كما نبه الصوفية إلى خطر اللسان في الأيام الخالية؟
متى؟ مت؟ إن أهل هذا العصر لا يفهمون من الأخلاق إلا شيئًا واحدًا، هو أن يحسن المرء أساليب الرياء حتى يسلم من شر الجواسيس، فلا تكون له صحيفة في سجلات السوابق، وذلك حظ خسيس لو يعلمون!
مزايا الصمت
وفي هذه الكلمات نظام الأخلاق؛ فحفظ اللسان أصل عظيم من أصول السلامة، وقرار المرء في بيته أدب نفيس لا يتأدب به غير أحرار الرجال، وهل كان العطب والهوان إلا في الضجر من أمان البيت؟
إن عورات المرء تنكشف حين يخرج من بيته، وماذا يلقى حين تضيق عليه رحبة البيت؟ يلقى اللاغين والآثمين من أكلة اللحوم — لحوم الأعراض — يلقى المتجبرين من أهل الغواية والإثم والفسوق، يلقى حطب جهنم من الأوباش الذين لا يعرفون كيف يقضون الوقت بالاستماع إلى موعظة حسنة أو الاطلاع على كتاب نفيس.
والناجحون في هذا الوجود هم الذين يعرفون كرامة البيوت.
والصعاليك هم الذين يجدون راحتهم في هجر بيوتهم ليعيشوا من فضلات السفهاء.
وفي الدنيا ناس لا يجدون القوت، ولكنهم يسترون فاقتهم بالقرار في بيوتهم، وهؤلاء هم حزب الله، وهم المصطفون الأبرار يوم ينصب الميزان.
وأبشع هوان في الدنيا هو الاعتماد على الناس، وما مد مخلوق يده إلى صديق أو قريب إلا كان ذلك بداية الخذلان، ولا استطاع المرء أن يعيش في حماية أصدقائه، أو رعاية أقربائه، إلا وقد عرف أنه مخلوق ذليل مهين.
فمن أين جاء للرجل الذي اسمه محمد أن يقول في وصية من استهداه: «وليسعك بيتك»؟
تلك حكمة لا تخرج إلا من لسان رعاه الله واصطفاه.
أما وصيته بالبكاء على الخطيئة فأمرها معروف. ولا يصلح الرجل للخير إلا إن عرف كيف يبكي على خطاياه.
ونحن نعرف جيدًا أخطار اللسان: فصاحبنا عيسى بن هشام تكدر عيشه وساءت سيرته؛ لأنه ابتلي بعدو سفيه لا يتقي الله في الأعداء والأصدقاء، فأذاع عنه من الإفك ما أذاع ليسقط مكانه في المجتمع، وصديقنا الحارث بن همام كان رجلًا يصلح لأعاظم الشؤون، ثم ابتلته المقادير بصديق ينفس عليه مكانته العلمية والأدبية، فأخذ يلمزه من حيث لا يحتسب ليسوي سمعته عند من يملكون منافعه الدنيوية، وأخونا العزيز هيان بن بيان كان خليقًا بأن يشغل أعظم منصب في الدولة، ثم شاء الحظ العاثر أن يكون له زميل ساقط الهمة والمروءة والشرف، لا يعيش إلا بالتزلف إلى الكبرياء، ومن الكبرياء من يسرهم أن تسوء سمعة الرجال ليتفردوا بالسيطرة والجبروت.
وكذلك صح عندنا بعد التجارب الأليمة أن السلامة لا تكون إلا لمن رحمه الله فكتب أن يعيش بلا أقرباء ولا أصدقاء ولا رفقاء.
والويل كل الويل لمن وثق بالأصدقاء، وأمن غدر الزمان!
ويروون أن ابن مسعود كان على الصفايلبي ويقول: يا لسان، قل خيرًا تغنم، واسكت عن شر تسلم، من قبل أن تندم.
ويؤكدون أن المنصور بن المعتمر لم يتكلم بكلمة بعد عشاء الآخرة أربعين سنة.
وأن الربيع بن خيثم ما تكلم بكلام الدنيا عشرين سنة، وكان إذا أصبح وضع دواة وقرطاسًا وقلمًا، فكل ما تكلم به كتبه، ثم يحاسب نفسه عند المساء.
بقي القسم الرابع وهو معرض لأخطار الرياء والتصنع والغيبة وتزكية النفس، ولا يسلم من آفاته إلا من وقف على دقائق الأخلاق.
حقارة الفضول
ويستقبح الصوفية أن يتكلم الرجل فيما لا يعنيه، ويروون أن الرسول قال: أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة، فدخل محمد بن سلام، فقال إليه ناس من أصحاب الرسول وأخبروه بذلك وقالوا: أخبرنا بأوثق عمل في نفسك ترجو به؟ فقال: إني لضعيف، وإن أوثق ما أرجو به سلامة الصدر، وترك ما لا يعنيني.
وقال مؤرق العجلي: أمر أنا في طلبه منذ عشرين سنة لم أقدر عليه، ولست بتارك طلبه. قالوا: وما هو؟ قال: السكوت عما لا يعنيني.
وقد شرح الغزالي حدود هذه الآفة فقال: حدّ الكلام فيما لا يعنيك أن تتكلم بكل ما لو سكت عنه لم تأثم، ولم تستضر به في حال أو مآل. مثاله أن تجلس مع قوم فتذكر لهم أسفارك وما رأيت فيها من جبال وأنهار، وما وقع لك من الوقائع، وما استحسنته من الأطعمة والثياب، وما تعجبت منه من مشايخ البلاد ووقائعهم، فهذه أمور لو سكت عنها لم تأثم ولم تستضر بالسكوت.
وهذه الشواهد تمثل أشياء من صور المجتمع لعهد الغزالي، ولو عاش في عصرنا لأضاف أشياء، فمن الناس من يدخل بيتك فيسألك عن كل ما تقع عليه عيناه: يسأل عن تكاليف الأثاث، وعدد الحجرات والغرفات، وقد يسأل عن البيت متى بنيته، وكيف أقمته، وربما سألك عن الجيران وجيران الجيران، وقد يسألك عن أطفالك وعن أسنانهم ومدارسهم، وما تنتظر لهم في المستقبل القريب أو البعيد، وهو لا يسكت عن حالك في وظيفتك، ويرى من حقه أن يعرف مكاسبك ومغانمك، وقد يرى من حقه أيضًا أن يعرف تكاليف أثوابك، وأن يبدي ملاحظته السديدة على هندامك!
واللغو والفضول من أظهر شمائل الناس في هذه الأيام، ولا بد من صوفي جديد يضع للمجتمع الحاضر قواعد ينتهي إليها الناس. إن كانوا صالحين للتأدب بأدب الرجال.
وأغرب ما تراه العيون غرام بعض الصحفيين بالبحث عن مذاهب الناس ومسالكهم في الحياة، وقد يطيب لهم أن يسألوك عن كل شيء، كأن من حق الجمهور أن يعرف ما تأكل وما تشرب وما تلبس، وتلك شهوات سخيفة يعيش منها الفارغون والبطالون.
والصوفي يكره لنفسه ولمريديه أن يقعوا في شيء من ذلك، والأدب الحق أن لا تدخل في شؤون معارفك وأصدقائك، بل الأدب كل الأدب أن تجهل من أمورهم كل شيء.
والرجل المهذب هو الذي يدخل بيوت الناس وعينه عمياء، وأذنه صماء، فلا يرى ولا يسمع، ثم يخرج وهو سليم القلب من أوضار الانتقاد والاعتراض.
آفة المراء والجدال
فترك المراء من المحق أعلا منزلة؛ لأن المحق يجد عسرًا وصعوبة في ترك الجدال، ومن أجل ذلك كان انصرافه عن المجادلة أدل على قوة نفسه، وشدة امتلاكه لهواه.
وشواهد الأحوال تؤيد هذه النظرة النبوية، فالأمم التي تكثر فيها المخاصمات والمجادلات هي الأمم المعرضة للانحلال، وأقوى الأمم اليوم هي الأمة الإنجليزية، وهي أقل الأمم غرامًا بالمجادلات الصحفية والبرلمانية، وستظل قوية إلى أن يبتليها الله بجماعة من الصحفيين الطائشين الذين يقتلعون بالجدل والمهاترة أصول الهيبة والحب من قلوب الناس.
والسر في قبح الجدل يرجع إلى ما فيه من شهوة الاستعلاء، ومن هنا كان خطره على الصداقات والمودات، ولا يمكن أن تصح بينك وبين رجل مودة إذا ظننت أنك أفضل منه، أو ظن أنه أفضل منك.
وهذا كلام يعرف صدقه من ابتلاهم الله بمجادلة الناس.
ومعنى هذا أن من أدب المريد أن يترك الاعتراض على الناس تركًا كليًا، ومعناه أيضًا أن من سوء السلوك أن نتحدث عن خطب الخطباء، ورسائل الكتاب، وقصائد الشعراء، وآثار المؤلفين، فلا نصحح أغلاطهم، ولا ننبه على الضعيف من أساليبهم، والمبتذل من معانيهم؛ لأن الباعث على ذلك هو الترفع بإظهار العلم والفضل، والتهجم على الغير بإظهار الجهل والنقص، وهما شهوتان باطنتان للنفس.
وقد هدتنا التجارب إلى صدق هذه النظرة الصوفية، فكل ما نجترحه باسم النقد الأدبي هو ضلال في ضلال، وهو يخلق من العداوات والحزازات ما نعجز عن دفعه في أكثر الأحيان.
وقد نهجم على ناس فنصحح أغلاطهم علانية في الجرائد والمجلات، وتكون الحجة أننا نخدم الحياة العلمية والأدبية، وفي هذا ظل من الحق، ولكن من نهجم عليهم يؤذون أنفسهم ويسودون صحائفهم بالطعن فينا، وتشويه سمعتنا عند من نعرف ومن لا نعرف، وقد يكون فيمن نصحح أغلاطهم ناس صغار يستبيحون خلق المآثم والعيوب، وإشاعة الأقاويل والأراجيف.
وفيمن ابتلاهم الله بالصراحة في النقد الأدبي رجل خدم الحياة الأدبية نحو عشرين سنة، فلم يخرج من ذلك الكفاح العنيف إلا بمغانم باطلة هي ما رماه به أدعياء العلم والأدب من أدناس الزور والبهتان.
أستغفر العقل، ففيهم من يظفر من ذلك الكفاح بمحصول نفيس: هو اليأس من أدب الناس، والثقة المتينة بعدل الله. وحسن الظن بالله هو أساس التصوف، وهو لا يتم إلا إن اقترن بسوء الظن بالناس.
وإذا كان الصوفية يكرهون لمريديهم أن يجادلوا الناس، فهناك رجال يكرهون للصوفية أن يعترفوا بوجود الناس، وسيطول ندمهم على ما صنعت أيديهم حين أقاموا الموازين لمؤلفات ودواوين لا يصلح أهلها لشيء، وإن كان الله تلطف فأباحهم الاستمتاع بنعمة الشمس والهواء.
وأي منظر أقبح من منظر مخلوق ترفع اسمه بقلمك، فيكون جزاؤك أن يأكل لحمك في الأندية والمجتمعات؟
وأي ندم أوجع من ندم رجل يخلق بقلمه منازل أدبية لبعض المخلوقات، ثم تعتمد تلك المخلوقات على ما غنمت بفضله من الشهرة فتؤذيه أبلغ إيذاء باسم الانتصاف للحق والغيرة على ما سموه الأدب الرفيع؟
وما قيمة الحياة الأدبية والعلمية إذا خرجنا من خدمتها مجرحين بأظافر الأوباش؟
ولكن لعل لله حكمة فيما يبتلي به العلماء من تصحيح أغلاط الجهلاء.
تباركت يا ربي وتعاليت، فلك الفضل في كل حال، وكنت أحكم الحاكمين في خلق الشر والدمامة والقبح، فتلك أصول قام على أساسها الوجود، ولو رحمت من يرجون رضاك من شر خلقك لكان نصيبهم الضياع.
فيا أيها المريد، جادل من شئت، وناضل من شئت، على شرط أن تكون لك نية حسنة في الجدال والنضال.
ولا يضيرك بعد ذلك أن يأكل لحمك السفهاء، فأنت في وجود لا يسلم فيه من أذى الناس إلا الخاملون والضعفاء، وهل سلم الأنبياء والمرسلون من أذى الناس حتى تطلب السلامة من أذى الناس؟
قبح الخصومة
والحق أن هذا الجانب من الأدب دقيق، فالخصومة في سبيل الحقوق واجبة، ولكنها تجر أحيانًا إلى ضيم وهوان. والوقوف أمام المحاكم يغض من أقدار الرجال، وما ينبغي أن يعرف الرجل أبواب المحاكم إلا حين تضيق أمامه جميع المسالك. والذي يقف للدفاع عن حقه أمام المحكمة قد تسوقه الظروف إلى التزيد، والتزيد قبيح، وقد ينتهي إلى رمي الخصم بعبارات أو إشارات لا تصلح للصدور من رجل كريم. ومن هنا كره الصالحون أن يكون الرجل فصيح اللسان أمام القضاة؛ لأن فصاحة اللسان قد تحق الباطل في بعض الأحيان.
صيانة اللسان عن الفحش واللعن
ولا يدخل في هذا تحسين ألفاظ الخطابة والتذكير من غير إفراط وإغراب، فإن الغرض من الخطابة تحريك القلوب وتشويقها وقبضها وبسطها، ولرشاقة اللفظ تأثير في ذلك، فأما المحاورات التي تجري لقضاء المصالح فلا ينبغي أن يقع فيها أي تكلف.
ومعنى هذا أن الصوفية يرون التفصح من غير موجب ينافي أدب الرجل المهذب.
والغزالي بهذه العبارة متنبه إلى تلون الألفاظ بألوان الأقاليم، فما يستقبح هنا قد لا يستقبح هناك، والمعول عليه هو البعد عن مخاطبة الناس بما لا يحبون.
وبسبب هذا التحرز أولع العرب بالتأليف في الكنايات ليرشدوا الجمهور إلى مواقع الخشونة في التعابير، وينبهوه إلى المقبول من الألفاظ في مختلف الأحوال.
ونقل الغزالي أن نعيمان شرب الخمر فحد مرات في مجلس رسول الله، فقال بعض الصحابة: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به! فقال الرسول: لا تكن عونًا للشيطان على أخيك.
قال الغزالي: وهذا يدل على أن لعن فاسق بعينه غير جائز.
ونصُّ الغزالي على اسم يزيد له دلالة اجتماعية، فهو يصور بعض عيوب المجتمع في القرن الخامس، ولعلها من عيوبه إلى اليوم، فقد كان وقوع الناس في أعراض الخلفاء والملوك والوزراء من العيوب الشائعة في الممالك الإسلامية، وإليها يرجع أكبر الأسباب في زعزعة الأمن والثقة بين الناس، والخصومة بين الأمويين والعلويين لها دخل في ذلك، وقد نهى الصالحون عن مضغ حوادث التاريخ، ولا سيما حين ينتهي ذلك إلى النزاع والشقاق، وهذه الآفة على ما فيها من بشاعة كان لها فضل على الأدب يراه من اطلع على كتاب «المدائح النبوية في الأدب العربي»، فقد بينا هناك كيف أتى الكميت بالأعاجيب وهو يهجو الأمويين، وكيف برع دعبل وهو يهجو العباسيين، ولكن ذلك الهجوم على ما فيه من روعة فنية وأدبية لا يليق بالمريد؛ لأن هذه الخصومات أصبحت في ذمة التاريخ، والإقبال عليها قد يولد في النفس أحقادًا جديدة يشقى بها الناس من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
وقد بدأ الشيعة يتأثرون بمذهب أهل السنة في التغافل عن سيئات الماضي، وفي رجال الشيعة لهذا العهد من يروض تلاميذه على دراسة التاريخ دراسة علمية لا مذهبية، وسيأتي يوم قريب جدًا يتأدب فيه المسلمون جميعًا بأدب الصوفية الذين يستنكرون تكفير مسلم أو تفسيقه بلا بينة ولا برهان.
خطر المزاج
وقال عمر بن عبد العزيز: اتقوا الله وإياكم والمزاح فإنه يورث الضغينة ويجر إلى القبيح، تحدثوا بالقرآن وتجالسوا به، فإن ثقل عليكم فحديث حسن من أحاديث الرجال.
وقيل: لكل شيء بذر، وبذر العداوة المزاح.
ولا ريب في أن المزاج فيه أحيانًا مطايبات تشرح الصدور، ولكن المهم هو أن لا يقع في المزاح ما يؤذي الرفيق والصديق والجليس، فمن الناس من يأمن جانبك فيمازحك بما لا تحب، وأمثال هؤلاء قد حرمهم الله نعمة الخلق الكريم، وصحبتهم بلاء، وأسوأ الناس حظًا في دنياه من ابتلى برفاق محرومين من نعمة الذوق لا يرعون حرمة المجلس ولا حق الجليس.
والمزاح في الأصل فيض من جَذَل النفس، وقد يجب في بعض الأحيان، ولكن الحيطة فيه قد تصعب، وسياسة النفس عند الانشراح لا يقدر عليها إلا الأقلون، فمن واجب من يهمه أمر نفسه أن يترك المزاح جملة واحدة إلا إن صادف من يدركون قيمة المطايبات، وهم في هذا الزمن أقل من القليل.
يضاف إلى هذا أن الناس لا يدركون النكتة بطعم واحد، فما يضحك له هذا قد يغضب منه ذاك، وفي بني آدم مخلوقات لها أذواق غلاظ، والهرب من صحبة هؤلاء واجب مفروض على الرجل الحصيف.
وقد أثر عن كبار الرجال كثير من المزاح والمطايبات، ولكن هؤلاء الرجال الكبار كانوا يعرفون كيف يمازحون ويطايبون، وكان جلساؤهم في الأغلب من أهل الفطنة والذوق، فما جاز لهم لا يجوز لك، فقد تكون ممن ابتلاهم الله بأن يعيشوا في عصر محروم من نعمة الفطنة والذوق.
وما أحب أن أزيد، وقاك الله من أهل زمانك وحماك!
النهي عن السخرية والاستهزاء
شناعة الكذب
والصوفية ينهون عن الوعد الكاذب، ولا نرى موجبًا لشرح هذه الآفة؛ فقد فشت في هذا الزمان حتى صارت من قواعد السلوك. والله المستعان على أهل هذا الزمان!
والصوفية يرون الكذب أقبح من الزنا ويستأنسون بما روي عن عبد الله بن جراد قال: سألت رسول الله فقلت: يا رسول الله، هل يزني المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك. قلت: يا نبي الله، هل يكذب المؤمن؟ قال: لا، ثم أتبعها ﷺ بقول الله تعالى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ.
وسمع رسول الله يقول في دعائه: «اللهم طهر قلبي من النفاق، وفرجي من الزنا، ولساني من الكذب».
فجعل الكذب في بشاعة الزنا والنفاق.
وقال ﷺ: «ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعابد مستكبر».
وقال: لو أفاء الله علي عدد هذا الحصى لقسمتها بينكم، ثم لا تجدوني بخيلًا، ولا كذابًا، ولا جبانًا … وقام رسول الله وكان متكئًا فقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ثم قعد وقال: ألا وقول الزور.
وقال: إن العبد ليكذب الكذبة فيتباعد عنه الملك مسيرة ميل من نتن ما جاء به.
وقال: تقبلوا لي بست أتقبل لكم بالجنة، قالوا: وما هنّ؟ قال: إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا وعد فلا يخلف، وإذا ائتُمن فلا يخن، وغضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وكفوا أيديكم.
وقال: كل خصلة يطبع أو يطوى عليها المسلم إلا الخيانة والكذب.
ومن أبلغ ما قيل في تقبيح الكذب قول ابن السماك: ما أراني أؤجر على ترك الكذب لأني إنما أدعه أنفة.
وقد تكلم الصوفية على ألوان من الأكاذيب، وسكتوا عن أشياء لم تعرفها العصور الماضية إلا قليلًا، سكتوا عن الأكاذيب التي يعرفها «المهذبون» من أهل هذا الجيل، وعن الأخبار التي يخترعونها اختراعًا أثيمًا ليغضوا من أقدار الرجال، وهم في هذا يعتمدون على الغفلة الفاشية بين الناس، فأكثر خلق الله يصدقون كل ما يسمعون، والحط من قيمة الرجل باختراع الأكاذيب أمر سهل؛ لأنه يقوم على انعدام الضمير، والضمير عند أكثر من تعرف لفظ بلا مدلول.
والكذب لا يقف ضرره على المكذوب عليه، بل ضرره بالكاذب أقبح وأشنع؛ لأنه يمحق شخصيته الخلقية، ويقفه أمام نفسه موقف الذليل المهين، وأوقح الناس لا يستطيع الفرار من رؤية الأشياء على ما هي عليه، فالكاذب يعرف جيدًا أنه كاذب، وهذه المعرفة تؤذيه أشد الإيذاء؛ لأنها تقتل ثقته بشرف النفس، وإذا انعدمت ثقة مخلوق بشرف نفسه فمصيره إلى الانحلال.
والصدق ينفع الناس، ولكن فضله على الصادق أعظم وأجزل؛ لأنه يقدم إلى صاحبه ذخائر من الثقة والأمانة والشرف، وثقة المرء بقدرته على كرم الخصال تسوقه إلى ميادين المجد، وترفع رأسه في السر والعلانية، وتؤهله للمنازل الكريمة بين الرجال.
وأكثر من درسوا الأخلاق يتوهمون أنها ترجع إلى غايات نفعية هي الصلاحية للحياة السعيدة بين الناس. ولو تأملوا لعرفوا أن للأخلاق منفعة نفسية، فهي ترسل الأشعة الكريمة على آفاق النفس، وتحيط القلب الطيب بأرواح الفراديس.
ولا يعرف صدق هذه العبارة إلا من راض نفسه على التخلق بأخلاق الحكماء، وما في الأخلاق الصوالح من صعوبة وعسر هو أساس ما فيها من نشوة روحية؛ لأنها تصورنا أمام أنفسنا بصورة القادرين المسيطرين على زيغ الأهواء والميول.
والصوفية يرون الكذب مما يُطلب في بعض الأحوال، كأن يتوقف عليه الصلح بين الناس، وكأن يكون وسيلة لتغطية الضغائن والحقود.
ومعنى هذا أن الخلق يحسن أو يقبح تبعًا لما يسوق من المغانم، أو يجر من المفاسد.
والذي يدل على استثناء بعض ضروب الكذب ما روي عن أم كلثوم قالت: ما سمعت رسول الله يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث: الرجل يقول القول يريد به الإصلاح، والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها.
والمهم من كل ذلك هو النص على أن الصوفية يبغضون الكذب أشد البغض حين يكون فيه إضرار وإيذاء، ويتسامحون فيه حين يكون أقرب إلى الخير من الصدق.
مآثم الاغتياب
ننتقل إلى رأي الصوفية في الغيبة: قال الغزالي: «والنظر فيها طويل».
وقيل أوحي إلى موسى عليه السلام: من مات تائبًا من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصرًا عليها فهو أول من يدخل النار.
ولما رجم رسول الله ماعزًا في الزنا قال رجل لصاحبه: هذا أقعص كما يقعص الكلب! فمر ﷺ وهما معه بجيفة فقال: انهشا منها! فقالا: يا رسول الله، ننهش جيفة! فقال: ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه.
وقال بعضهم: أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم، ولا في الصلاة، ولكن في الكف عن أعراض الناس.
وسمع علي بن الحسين رجلًا يغتاب آخر فقال له: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس.
- الأول: دلالتها على اهتمام الصوفية بتقبيح الاغتياب،
- والثاني: ما فيها من الصور الأدبية، فهي جميعًا من الكلام النفيس،
وهي لا تقتصر على اللسان، بل يتحقق أذاها بالتعريض والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة، وكل ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة وهو حرام.
والاغتياب بالكتابة هو في عصرنا أشنع أنواع الاغتياب؛ لأنه ينشر في الكتب والجرائد والمجلات فيطير من أرض إلى أرض.
ولا يخرج المستمع من إثم الغيبة إلا أن ينكر بلسانه، أو بقلبه إن خاف، وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام آخر يفعل لزمه إثم الغيبة.
قال رسول الله ﷺ: من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على نصره أذله الله يوم القيامة على رءوس الخلائق.
وقال: من رد عن عرض أخيه بالغيب كان حقًا على الله أن يرد عن عرضه يوم القيامة.
وقال أيضًا: من ذبّ عن عرض أخيه بالغيب كان حقًا على الله أن يعتقه من النار.
وقد عرض الغزالي أسبابًا للغيبة تدل على بصره بأخلاق الناس، وأنا أرجع أسباب الغيبة إلى سبب واحد هو شعور المغتاب بالانحطاط، فهو يريد أن يحط من أقدار الناس ليصبح من المألوف أن الناس جميعًا منحطون فيتساوى الفاضل بالمفضول.
والجهلاء يولعون باغتياب العلماء ليوهموا أنفسهم ويوهموا الجمهور أن العلم مزية صغيرة، وأن المزايا كلها فيما يدعيه الجاهلون من متانة الأخلاق.
ومن هنا لم تسلم أعراض العلماء من ألسنة السفهاء، فكل ذي نعمة محسود، وما ظفر رجل بمنزلة علمية أو أدبية أو اجتماعية إلا ضاقت به صدور الجهلاء والمهازيل والمتخلفين.
وسينقضي الدهر قبل أن تصح أخلاق الناس فيثق أهل الفضل بأنهم في أمان من تقول المتقولين، وإرجاف المرجفين، ومكايد المنحطين.
وقد أخذت هذه الصورة ألوانًا جديدة في العصر الحاضر: العصر الدميم الذي لا يفوز فيه إلا أهل البذاءة والرقاعة والانحطاط، وصار من تقاليد المجالس أن يكون فيها سفهاء يقدمون الفواكه المحرمة للآذان الشرهة التي لا يغذيها غير سماع الزور والبهتان.
والرجل الذي يصون لسانه عن الخوض في لغو الحديث لا يصلح اليوم للمجالس، ولا سيما إذا كان أصحاب تلك المجالس من الذين رفعهم الدهر المخبول فوصلوا بالدس والكيد إلى ما يعجز عنه الأحرار والأشراف.
وقد نبه الغزالي على دقائق من الغيبة يقع فيها رجال الدين، ورجال الدين في أغلب أحوالهم من أهل الغفلة والعجرفة، ولا سيما في العصور التي يغلب فيها الرياء.
- الأول: أن تنبعث من الدين داعية التعجب في إنكار المنكر والخطأ في الدين فيقول: ما أعجب ما رأيت من أمر فلان! فإنه قد يكون صادقًا، ويكون تعجبه من المنكر، ولكن كان حقه أن يتعجب ولا يذكر اسمه فيسهل الشيطان عليه ذكر اسمه في إظهار تعجبه فصار به مغتابًا وآثمًا من حيث لا يدري. ومن ذلك قول الرجل: تعجبت من فلان كيف يحب جاريته وهي قبيحة، وكيف يجلس بين يدي فلان وهو جاهل!
- الثاني: الرحمة، وهو أن يغتم بسبب ما يبتلي به فيقول: مسكين فلان قد غمني أمره، وما ابتلى به! فيكون صادقًا في دعوى الاغتمام ويلهيه الغم عن الحذر من ذكر اسمه فيذكره فيصير به مغتابًا فيكون غمه ورحمته خيرًا، وكذا تعجبه، ولكن ساقه إلى شر من حيث لا يدري، والترحم والاغتمام ممكن دون ذكر اسمه فيهيجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل به ثواب اغتمامه وترحمه.
- الثالث: الغضب لله تعالى، فإنه قد يغضب على منكر قارفه إنسان إذا رآه أو سمعه فيظهر غضبه ويذكر اسمه، وكان الواجب أن يظهر غضبه عليه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يظهره على غيره، أو يستمر اسمه ولا يذكره بالسوء، فهذه الثلاثة مما يغمض دركها على العلماء فضلًا عن العوام؛ فإنهم يظنون أن التعجب والرحمة والغضب إذا كان لله تعالى كان عذرًا في ذكر الاسم، وهو خطأ.٦٠
وما قاله الغزالي عن رجال الدين في القرن الخامس هو من آفاتهم في القرن الرابع عشر. ومن النادر جدًا أن تتصل برجل من رجال الدين فيوحي إليك بأدبه ولطفه وروحه معاني الهداية، وكيف يكون ذلك وهم لا يعرفون غير القعقعة والجعجعة في خطبهم وأحاديثهم ومقالاتهم! وقد يتفق لهم أن يؤلفوا الكتب وينشئوا المجلات في الدعوة إلى الله، ولكن تنقصهم البشاشة والروحانية فيعجزون عن نقل الناس من الظلمات إلى النور، وقد ينقلونهم أحيانًا من الهدى إلى الضلال.
وربما رجع ذلك إلى أزمة وجدانية وعقلية متصلة بالعصر الحديث، فشيوع التعاليم المدنية والأنظمة المدنية أوهم رجال الدين أنهم في حرب مع الجيل الجديد، وهم بالفعل في حرب، وهذا الروح المشبع بسوء الظن والخوف من الهزيمة يحملهم على الإسراف في اتهام أبناء الجيل الجديد بالوقوع في المآثم، والخروج على أدب الدين الحنيف.
وبفضل هذا الإسراف صارت طلعة رجل الدين طلعة كريهة لا يلقاها الناس بالترحيب؛ لأنه لا ينظر إلا إلى عيوبهم، ولا يهتم إلا بالكشف عن مساويهم، ولا يطول لسانه إلا حين يجد مجالًا للتقريع والتأنيب، ولو عقل لعرف أن من واجبه أن يدلهم على مبلغ صلاحيتهم للخير والهداية.
وإذا حُرم رجال الدين نعمة الحب، حب الناس لهم والتشوف إليهم، فقد عجزوا عجزًا تامًا عن نصرة الدين، والخير لا ينتظر من الواعظ البغيض الذي لا يحدث الناس إلا بما يكرهون.
ومن المؤلم أن يعجز الأشياخ عما يقدر عليه القسيسون، فالقسيس لا يزال رجلًا لطيفًا يداخل الناس ويسايرهم ويسامرهم ليعرف أهواءهم، ويقتلها برفق. والترغيب على لسان القسيس أكثر من الترهيب، وقد كان أشياخنا كذلك قبل أن تشيع الأحقاد بين الأحزاب المدنية والدينية، يوم كان «شيخ الطريقة» يدخل البلد فيملأها بالبشاشة والروحانية.
وفي مصر اليوم وعاظ يسيرون في البلاد هادين ومرشدين، والأمل كبير في أن يتخلقوا بأخلاق الصوفية؛ فتكون فيهم الوداعة والبشاشة والرفق ليصلوا إلى قلوب الناس، ويحببوهم في الأعماق الصالحات، وقد يوفقون إلى السياسة الرشيدة فيتصلون بمن في الأقاليم من معلمين وموظفين، ويشوقونهم إلى التأدب بأدب الدين الحنيف، ويومئذ يصل الواعظ إلى المنزلة التي كان يتمتع بها الشعراني والمرصفي والشناوي في القرن العاشر، حين كان الصوفية يسيطرون بالأدب الحق على قلوب العوام والخواص.
وقد أفاض الغزالي في علاج الغيبة، وله في ذلك صحائف بيض نود لو يرجع إليها القارئ في الجزء الثالث من الإحياء، فقد تنقله من حال إلى حال، وهو يوصي بأن يتدبر المرء في نفسه، فإن وجد فيها عيبًا اشتغل بعيب نفسه، وإذا لم يجد عيبًا في نفسه فليشكر الله تعالى، ولا يلوثنّ نفسه بأعظم العيوب، فإن ثلب الناس وأكل لحم الميتة من أعظم العيوب.
والصوفية يحرمون الغيبة بالقلب، وهي سوء الظن.
وهذه غيبة هينة من حيث صلتها بالمجتمع؛ لأنها قليلة الإيذاء، ولكن ضررها راجع عليك؛ لأنها تفسد قلبك، وتشغل ضميرك، وتزعزع وجدانك، وتضيع صفاء نفسك. والواجب أن يخلو قلبك خلوًا تامًا من كل سوء فلا يكون فيه غير صور الخير والجمال.
وكفارة الغيبة هي الندم والتوبة والتأسف واستقالة من أذيتهم بالاغتياب.
قبح النميمة والسعاية
والصوفية يبغضون النميمة، وهي نقل آراء الناس بعضهم في بعض، وهي آفة سيئة العواقب. ولا يقترفها إلا المحرومون من نعمة الحب، حب الخير للناس.
وإذا كانت النميمة إلى من يخاف جانبه سميت سعاية.
ورفع بعض السعاة إلى الصاحب بن عباد رقعة نبه فيها على مال يتيم يحمله على أخذه لكثرته، فوقع على ظهر الرقعة:
وقال بعضهم: لو صح ما نقله النمام إليك، لكان هو المجترئ بالشتم عليك، والمنقول عنه أولى بحلمك؛ لأنه لم يقابلك بشتمك.
كلمة ختامية في الفرق بين الصوفية وبين غيرهم من رجال الأخلاق
أما بعد، فقد عرضنا ألوانًا من المهلكات، وأشرنا إشارات خفيفة إلى طرق الخلاص، ومنهج البحث لا يوجب أن نطيل في شرح المهلكات والمنجيات، فما أردنا إلا الوصول إلى غرض واحد هو بيان الحرص الشديد من جانب الصوفية على تقوية الشخصية الخلقية.
قد يقال: إن الصوفية لم يأتوا بشيء جديد، فهم يرضون ويغضبون على نحو ما يقع لسائر رجال الأخلاق، ونقول: إن ما امتاز به الصوفية هو التحرز الشديد من آفات الأخلاق، والإلحاح الموصل في تعرف أهواء النفوس والقلوب، وإنا لنرجو أن يرجع القارئ إلى الجزء الثالث والرابع من كتاب الإحياء، فقد شرح الغزالي ضروب المهلكات والمنجيات شرحًا وافيًا، وفصلها أوسع تفصيل، وجمع بين المعقول والمنقول بأسلوب شائق جذاب، وما عرف إنسان مؤلفات الغزالي إلا أحس بوجوب الرجوع إلى درس نفسه من جديد.
ثم ساق اليماني شواهد صريحة من كتب أهل السنة في التوجع لمصرع الحسين، ونقل عن صحيح البخاري أن ابن عمر سأله رجل في دم البعوضة، فقال: ممن أنت؟ قال: من العراق فقال: انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوضة وقد قتلوا ابن بنت النبي ﷺ!
وكان ابن حزم قد اتهم بالتعصب لبني أمية، فنفى ذلك اليماني وأورد نصوصًا من كلام ابن حزم تشهد بسخطه على سيرة يزيد (انظر الروض الباسم ج٢ ٣٦، و٣٧).