التَّصوفُ فِي الأدب
الفرق بين النظرة الأدبية والنظرة الخلقية
بينا في فاتحة الكتاب كيف كانت للوصفية آثار أدبية، ونعود إلى هذا المعنى بشيء من التفصيل فنقول:
فالعبارة الأولى خلقٌ محض، والعبارة الثانية أدب صرف، وكانت الأولى خلقًا محضًا؛ لأنها تعبر تعبيرًا ساذجًا عن معنى من أشرف المعاني الخلقية، وكانت الثانية أدبًا صرفًا؛ لأن جمالها يرجع إلى ما وشَّاها به القائل، وكلتا العبارتين صدرتا عن أنفس مشبعة بروح التصوف.
•••
والخلق في هذه العبارة يتمثل في التربية النفسية التي دعا إليها صاحب هذه الحكمة، أما الأدب فيتمثل في قوله: «خلفوا ما لهم لمن لا يحمدهم، وصاروا إلى من لا يعذرهم»، وهو كلام يبدو لمن يتأمله غاية في روعة الخيال.
وشبيه بذلك هذه الفقرة:
ففي هذه الفقرة خلق، وفيها أدب، أما الخلق ففي المعنى كله، وأما الأدب ففي الذكاء الذي يتمثل في الاستدراك الأخير، وهذا الذكاء في هذا المقام من صور الخلق ولكنه بالأدب ألصق.
وكذلك هذه الفقرة:
«صام رجل سبعين سنة، ثم دعا الله في حاجة، ولم يستجب له، فرجع إلى نفسه فقال: (منكِ أُتيتُ) فكان اعترافه أفضل من صومه».
والفطنة إلى أن الاعتراف كان أفضل من الصوم فيها خلق، وفيها أدب، أما الخلق ففي تصور القيمة المعنوية للوم النفس، وأما الأدب ففي الذكاء الذي يمثله هذا التعقيب.
وكلام الزهاد والنساك كثير جدًّا، اهتم به الجاحظ وابن قتيبة، وغيرهما من المؤلفين، ولا شك في أن الصور الأدبية كانت مما لحظه من جمع كلام أولئك الرجال.
اهتمام المؤلفين بأدب النساك
وهذا الخبر في جملته فكاهة، ولكنه دليل على هيام الصوفية بالثقافة الأدبية.
حرص الصوفية على الثقافة الأدبية
لا مفر من الاعتراف بأن الصوفية كان لهم وجود أدبي ملحوظ، وكيف لا يكون الأمر كذلك وقد عرفت عنهم ألفاظ وتعابير دونها المؤلفون، وتلك الألفاظ والتعابير هي ثروة لغوية يقام لها وزن حين تدرس المصطلحات، وقد يقال: إن لكل قوم ألفاظًا وتعابير حتى النجارين والحدادين، ولا يكون ذلك عنوانًا على سلطتهم الأدبية، ونجيب بأن ألفاظ الصوفية جرت في الأغلب حول معان وجدانية وروحية ونفسية واجتماعية: فهي ألصق بالحياة الأدبية.
-
المريد: هو المتجرد عن إرادته.
-
المراد: هو المجذوب عن إرادته، مع تهيؤ الأمور له، فجاوز الرسوم والمقامات في غير مكابدة.
-
السالك: هو الذي مشى على المقامات بحاله لا بعلمه.
-
السفر: عبارة عن القلب إذا أخذ في التوجه إلى الحق.
-
المسافر: هو الذي سافر بفكره في المعقولات والاعتبارات.
-
الطريق: عبارة عن مراسم الحق تعالى المشروعة التي لا رخصة فيها.
-
الوقت: عبارة عن حالك في زمان الحال، لا تعلق له بالماضي ولا بالمستقبل.
-
الأدب: يريدون به أدب الشريعة، ووقتًا أدب الخدمة، ووقتًا أدب الحق. وأدب الشريعة الوقوف عند رسومها، وأدب الخدمة الفناء عن رؤيتها مع المبالغة فيها، وأدب الحق أن تعرف ما لك وما له.
-
المقام: عبارة عن استيفاء حقوق المراسم على التمام.
-
الحال: هو ما يرد على القلب من غير تعمد ولا اجتلاب، وقيل: هو تغير الأوصاف على العبد.
-
الانزعاج: هو أثر المواعظ في قلب المؤمن، وقد يطلق ويراد به التحرك للوجد والأنس.
-
القطب: وهو الغوث، عبارة عن الواحد الذي هو موضع نظر الله من العالم في كل زمان.
-
الأوتاد: عبارة عن أربعة رجال، منازلهم على منازل أربعة أركان من العالم: شرق وغرب وشمال وجنوب، مع كل واحد منهم مقام تلك الجهة.
-
الأبدال: هم سبعة، ومن سافر من القوم عن موضعه وترك جسدًا على صورته حتى لا يعرف أحد أنه فقد فذلك هو البدل.
-
النقباء: هم الذين استخرجوا خبايا النفوس وهم ثلاث مئة.
-
النجباء: هم أربعون وهم المشغولون بحمل أثقال الخلق.
-
الإمامان: هما شخصان أحدهما عن يمين الغوث ونظره في الملكوت، والآخر عن يساره ونظره في الملك، وهو أعلى من صاحبه الذي يخلف الغوث.
-
المكان: عبارة عن منازل في البساط لا تكون إلا لأهل الكمال الذين تحققوا بالمقامات والأحوال وحازوهما، أما المقام الذي فوق الجلال والجمال فلا صفة له ولا نعت.
-
القبض: حال الخوف في الوقت، وقيل: واردٌ يرد على القلب يوجب الإشارة إلى عتاب وتأديب، وقيل: أخذ وارد الوقت.
-
البسط: هو عند ابن عربي حال من يسع الأشياء ولا يسعه شيء، وقيل: هو حال الرجاء، وقيل: هو وارد يوجب الإشارة إلى رحمة وأنس.
-
الهيبة: هي أثر مشاهدة جلال الله في القلب، وقد يكون عن الجمال الذي هو جمال الجلال.
-
الأنس: أثر مشاهدة جمال الحضرة الإلهية في القلب وهو جمال الجلال.
-
التواجد: استدعاء الوجد وقيل: إظهار حالة الوجد من غير وجد.
-
الوجد: ما يصادف القلب من الأحوال المغنية له عن شهوده.
-
الوجود: وجدان الحق في الوجد.
-
الجلال: من نعوت القهر من الحضرة الإلهية.
-
الجمع: إشارة إلى حق بلا خلق.
-
جمع الجمع: الاستهلاك بالكلية في الله.
-
البقاء: رؤية العبد قيام الله على كل شيء.
-
الفناء: عدم رؤية العبد لفعله بقيام الله على ذلك.
-
الغيبة: غيبة القلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق لشغل الحس بما ورد عليه.
-
الحضور: حضور القلب بالحق عند الغيبة عن الخلق.
-
الصحو: رجوع إلى الإحساس بعد الغيبة بوارد قوي.
-
السكر: غيبة بوارد قوي.
-
الذوق: أول مبادئ التجليات الإلهية.
-
الشرب: أوسط التجليات.
-
المحو: رفع أوصاف العادة وقيل: إزالة العلة.
-
الإثبات: إقامة أحكام العبادة وقيل: إثبات المواصلات.
-
القرب: القيام بالطاعة وقد يطلق القرب على حقيقة قاب قوسين.
-
البعد: الإقامة على المخالفة وقد يكون البعد منك ويختلف باختلاف الأحوال فتدل على ما يراد به قرائن الأحوال.
-
الحقيقة: سلب آثار أوصافك عنك بأوصافه.
-
الخاطر: ما يرد على القلب والضمير من الخطاب ربانيًّا كان أو ملكيًّا أو نفسيًّا أو شيطانيًّا من غير إقامة وقد يكون كل وارد لا عمل لك فيه.٩
-
علم اليقين: ما أعطاه الدليل.
-
عين اليقين: ما أعطته المشاهدة.
-
حق اليقين: ما حصل من العلم بما أريد به ذلك الشهود.
-
الوارد: ما يرد على القلب من الخواطر المحمودة من غير تعمل ويطلق بإزاء كل ما يرد على كل اسم على القلب.
-
الشاهد: ما تعطيه المشاهدة من الأثر في القلب، فذلك هو الشاهد وهو على حقيقة ما يظهر للقلب من صورة المشهود.
-
الروح: يطلق بإزاء الملقى إلى القلب من علم الغيب على وجه مخصوص.
-
السِّر: يطلق فيقال: سر العلم بإزاء حقيقة العالم به، وسر الحال بإزاء معرفة مراد الله فيه، وسر الحقيقة ما تقع به الإشارة.
-
الوله: إفراط الوجد.
-
الوقفة: حبس بين المقامين.
-
الفترة: خمود نار البداية المحرقة.
-
التجريد: إماطة السوي والكون عن القلب والسر.
-
التفريد: وقوفك بالحق معك.
-
اللطيفة: كل إشارة دقيقة المعنى تلوح في الفهم لا تسعها العبارة وقد تطلق بإزاء النفس الناطقة.
-
الرياضة: رياضة أدب وهو الخروج عن طبع النفس، ورياضة طلب وهو صحة المراد له، وبالجملة هي عبارة عن تهذيب الأخلاق النفسية.
-
المجاهدة: حمل النفس على المشاق البدنية ومخالفة الهوى على كل حال.
-
الفصل: فوت ما ترجوه من محبوبك.
-
الذهاب: غيبة القلب عن حس كل محسوس بمشاهدة محبوبه كائنًا المحبوب ما كان.
-
الزاجر: واعظ الحق من قلب المؤمن وهو الداعي إلى الله.
-
السحق: ذهاب تركيبك تحت القهر.
-
المحق: فناؤك في عينه.
-
الستر: كل ما يسترك عما يفنيك، وقيل: غطاء الكون، وقد يكون الوقوف مع العادة وقد يكون الوقوف مع نتائج الأعمال.
-
التجلي: ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب.
-
التخلي: اختيار الخلوة والإعراض عن كل ما يشغل عن الحق.
-
المكاشفة: تطلق بإزاء الأمانة بالفهم، وتطلق بإزاء تحقيق زيادة الحال، وتطلق بإزاء تحقيق الإشارة.
-
المشاهدة: تطلق على رؤية الأشياء بدلائل التوحيد، وتطلق بإزاء رؤية الحق في الأشياء، وتطلق بإزاء حقيقة اليقين من غير شك.
-
المحادثة: خطاب الحق للعارفين من عالم الملك والشهادة كالنداء من الشجرة لموسى (عليه السلام).
-
المسامرة: خطاب الحق للعارفين من عالم الأسرار والغيوب.
-
اللوائح: هي ما يلوح من الأسرار الظاهرة من السمو من حال إلى حال وعند ابن عربي ما يلوح للبصر إذا لم يتقيد بالجارحة من الأنوار الذاتية لا من جهة القلب.
-
الطوالع: أنوار التوحيد تطلع على قلوب أهل المعرفة فتطمس سائر الأنوار.
-
اللوامع: ما ثبت من أنوار التجلي وقتين وقريبًا من ذلك.
-
البواده: ما يفجأ القلب من الغيب على سبيل الوهلة، إما لموجب فرح أو لموجب ترح.
-
الرغبة: رغبة النفس في الثواب، ورغبة القلب في الحقيقة، ورغبة السر في الحق.
-
الرهبة: رهبة الظاهر في تحقق الوعيد، ورهبة الباطن لتقليب العلم، وهبة لتحقق أمر السبق.
-
الاصطلام: نوع وله يَرِدُ على القلب فيسكن تحت سلطانه.
-
الغربة: تطلق بإزاء مفارقة الوطن في طلب المقصود، وتقال: الغربة في الاغتراب عن الحال من النفوذ فيه، والغربة عن الحق غربة عن المعرفة من الدهش.
-
الهمة: تطلق بإزاء تجريد القلب للمُنَى، وتطلق بإزاء أول صدق المريد وتطلق بإزاء جمع الهمم لصفاء الإلهام.
-
الفتوح: فتوح العبادة في الظاهر، وفتوح الحلاوة في الباطن، وفتوح المكاشفة.
-
الوصل: إدراك الغائب.
نماذج من اصطلاحات الصوفية
تلك كلمات تخيرناها من رسالة ابن عربي في اصطلاحات الصوفية، وبقيت كلمات كثيرة، وما ذكرناه فيه الكفاية؛ لأن الغرض هو التمثيل لا الاستقصاء، وللقارئ أن يرجع إلى هذه المصطلحات في تعريفات الجرجاني وقاموس عبد الرازق، فإن الشرح هناك يختلف عما هنا بعض الاختلاف، واهتمام المتقدمين بجمع ألفاظ الصوفية يدل على مكانتهم الأدبية. وألفاظهم كما رأيت تمثل المعقولات أكثر مما تمثل المحسوسات، فهي من الألفاظ التي لا تنبت إلا في جوِّ الخواص.
ألفاظ الصوفية في التعبير عن بعض المعاني المعاشية والاجتماعية
مذهب الصوفية في إيثار الغموض
والصوفية في جميع العصور كانت لهم رموز وإشارات، ولو دون المؤلفون كل ما اصطلح عليه الصوفية لكان من ذلك شيء كثير، والذي يتأمل ألفاظهم يراها تدل على لباقة وذكاء: فألفاظهم المعاشية والاجتماعية وُضِعَت في الأصل لستر معانيهم عن عامة الناس.
والصوفية في العصر الحاضر لهم تعايير خاصة بهم، وتنفرد كل طائفة بجملة من الاصطلاحات، والشاذلية الذين صحبتهم فأحمدت صحبتهم، لهم كلمات لا تزال في البال على قدم العهد: فالحلواء التي توزع على الإخوان بعد الحضرة اسمها النفحة، والورد الأكبر اسمه وظيفة، والاسم الذي يلقن لكبار المريدين هواسم السر، والرفيق اسمه (أخينا) والمتكلم اسمه (الفقير) وإذا طلب أحدهم من أخيه حاجة كان من الأدب أن يبدأ الخطاب بهذه العبارة: «نعم سيدي» ورئيس الحضرة (المقدّم) والرفاق اسمهم (الإخوان) والعقوبة اسمها (المناصفة)، وإذا دعا المقدَّمُ الإخوان إلى إبداء الرأي قال: (تذاكروا يا حبايب).
وقد لاحظت أن تعايير الصوفية تختلف وفقًا لمنشأ المذهب، فالشاذلية مثلًا ألفاظهم في الأكثر مغربية، والأحمدية ألفاظهم مصرية، وهكذا دواليك.
والذي ينظر في مناقب الصوفية — وهي كثيرة جدًّا — يجد فروقًا ظاهرة فيما نسب إلى القوم من الألفاظ والتعايير والاصطلاحات، ومن الطريف أنهم قد يتعايرون بالألفاظ، كما يتفق ذلك لأهل الديانات، فيسخر بعضهم من ألفاظ بعض. واختلافهم في الألفاظ والتعابير من دلائل الحيوية وقوة الشخصية، ولو لم يكن لهم في الدنيا وجود ملحوظ لما احتاجت كلماتهم إلى من يجمعها ويضع لها مختلف التأويلات.
أساس البيان عند الصوفية
وألفاظهم في الطعام خاصة تدل على شيئين: الأول استطراف الجمهور لما أذاعوا من التعايير، وما كان يصح ذلك لولا اهتمامهم بالصور الأدبية، والثاني كلفُهم بالطعام، وهذا معقول؛ لأن الحرمان الذي درجوا عليه جعل للطعام في أنفسهم حرمة قوية عبروا عنها بتلك الصور الشعرية التي خلدوا بها أسماء طائفة من الأطعمة المشتهاة، ولعل منهم من لا يزال يغازل الأطعمة بالطريف المستملح من الكنى والألقاب، والشوق يبعث الخيال!
هل كان نظم الشعر مما لا يحسن بالنساك؟
ومذهب الصوفية في الغموض معروف، وقد وصل صداه إلى ميادين النقد الأدبي، فرأينا الثعالبي يعيب على المتنبي «امتثال ألفاظ المتصوفة واستعمال كلماتهم المعقدة ومعانيهم المغلقة» في مثل قوله في وصف فرس: «سبُوحٌ لها منها عليها شواهد» وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
قال الصاحب: ولو وقع قوله:
وعرض الصَّفدي ما رُوي أن أعرابيًّا لقيه رجل لم يكن يعرفه قبل ذلك فقال له: كيف كنت بعدي؟ فقال له الأعرابي: ما بعد ما لا قبل له؟ ثم قال: «وأما قول شرف الدين بن الفارض:
فأمر خارج عن العقل؛ لأن العقل لا يمكن أن يتصور شيئًا لا قبل له ولا بعد إلا واجب الوجود، ولكن الصوفية يحيلون مثل هذه الأشياء على الذوق ويقولون في مثل هذه الأمور: إنها من وراء العقل».
وهؤلاء القوم يسلم لهم حالهم، فإنهم قد جاء منهم علماء كبار مثل الشيخ محيي الدين بن عربي وقطب الدين بن معين، وفي كلامهم من هذا النوع كثير.
وحدثنا أن السنجاري عارض تائية ابن الفارض بتائية طويلة «حط فيها عليه» منها قوله:
ومضى فذكر شيئًا من أخبار الصوفية في التعمل والغموض، ثم قال: ومما يلحق بكلام الصوفية وليس منه قول بعض الفضلاء:
•••
وقد أطال الصفدي في شرح هذه المعمّيات، وليس يعنينا إلا حكمه بأن هذا النمط من القول: «يشبه كلام الصوفية».
وفي كلا الأثرين غموض، ولا مانع من أن يشرح الغموض بالغموض، فنفى النفي إثبات!
ومن كلام ابن عربي:
وقد سأله بعض إخوانه لما سمع هذا البيت: كيف تقول: إنه لا يراك وأنت تعلم أنه يراك؟ فقال:
وما نريد أن نحكم بأن الغموض هو خير المذاهب الأدبية، وأن الصوفية صاروا بإيثار الغموض خير الناس، لا، وإنما نريد أن نقول: إن وجودهم الأدبي كان ظاهرًا جدًّا، وأن مذهبهم في التعبير شاع حتى وصل صداه إلى ميادين النقد الأدبي، وليس الغموض بالمذهب المذموم على الإطلاق، فله في مصر وغير مصر أنصار وأشياع، وليس من المستكره أن يعمد الكاتب إلى معانيه فيفصح عن بعض ويرمزُ إلى بعض، بل قد يكون من مظاهر الأريستوقراطية العقلية أن لا يفكر الكاتب إلا في الخواص، وهذه الأريستوقراطية ليست مذمومة في جميع الأحوال؛ لأن الكاتب لا يحسن به دائمًا أن يخاطب جميع الناس، فللوضوح مقامات، وللغموض مقامات، وكانت معاني الصوفية أدق من أن ترسل إلى مختلف الجماهير في ألفاظ واضحة المدلول.
أصل التحامل على الشعر والشعراء
وأذواق الصوفية كانت مما ضرب به المثل في الحياة الأدبية، ومن ذلك «مُدام الصوفي» في قول جمال الدين عبد القاهر التبريزي يصف الشبابة:
دفاع خواص النساك عن الشعر والغناء
قد يقال: إن النساك كان يُستكثر عليهم نظم الشعر، فإن المرزباني نقل بسنده أن ابن شهاب قال: أتيت عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يومًا في منزله فإذا هو مغيظٌ ينفخ، فقلت له: ما لي أراك هكذا؟ قال: دخلت على عاملكم هذا — يعني عمر بن عبد العزيز — ومعه عبد الله بن عمر بن عثمان فسلمت فلم يردَّا عليَّ السلام، فقلت:
•••
أيكون هذا شاهدًا على أن النساك ما كان يليق بهم أن ينظموا الشعر؟ هو ذاك، ولكن له تأويل، فإن الحملة التي وجهت إلى الشعر على أثر ما كان من لدد اليهود وتوثب شعراء المشركين كانت أثرت تأثيرًا عميقًا في حياة المسلمين من الوجهة الأدبية، فرأيناهم يسرفون في بغض الشعر والنيل من الشعراء، وكان من ذلك أن قيل لسعيد بن المسيب: إن قومًا بالعراق يكرهون الشعر فقال: نسكوا نسكًا أعجميًّا. وسئل ابن سيرين في المسجد عن رواية الشعر في رمضان، وقد قال قوم: إنها تنقض الوضوء، فقال:
ثم قام فأمَّ الناس …
وسئل ابن عباس: هل الشعر من رفث القول؟ فأنشد:
وقال: إنما الرفث عند النساء، ثم أحرم للصلاة.
ورأينا الناس يزعمون أن الإمام الشافعي قال:
ولا يزال شيوخ الأزهر مختلفين في بدء الشعر بالبسملة؛ لأنه فيما يرون ليس من الأمور ذوات البال. ولا أدل على هوان الشعر في نظر الفقهاء من قول الغزالي: «وأما الشعر فكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح»، وهذا كله من أثر الحملة التي وجهت إلى الشعر والشعراء.
والظاهر أن تلك الحملة كانت حملة عامية، فإن الذين أثاروها بعد الرسول هم العوام، والذين قاوموها هم الخواص، فقد حدث محمد بن سلمة عن أبيه قال: أتيت عبد العزيز بن المطلب أسأله عن بيعة الجن للنبي ﷺ بمسجد الأحزاب ما كان بدؤها، فوجدته مستلقيًا يتغنَّى:
فقلت له: أتغني أصلحك الله وأنت في جلالك وشرفك؟ أما والله لأحملنَّها ركبان نجد! قال: فوالله ما اكترث بي وعاد يتغنَّى:
قال: فندمت على قولي وقلت له: أصلحك الله، أتحدثني في هذا بشيء؟
فقال: نعم حدثني أبي قال: دخلت على سالم بن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهم) وأشعب يغنيه:
فقال له سالم: زدني! فغنَّاه:
والواقع أن هذا الضرب من التزمت كان كثير الوقوع في البيئات الإسلامية، ومن الرجعة إليه ما نراه اليوم عند الوهابيين من مقاومة الموسيقا والغناء وما نراه عند ناس من أهل مصر إذ يقاومون بعض الفنون الأدبية، ولو اقترح بعض المصلحين إدخال الثقافة الموسيقية في المعاهد الدينية لما قوبل اقتراحه بغير السخرية والاستهزاء.
ولكن هذا التزمت لم يحل بين الصوفية وبين الأدب، ولم يصرفهم عن الموسيقا والغناء؛ لأنهم يملكون عنصرين من أنفس عناصر الاستعداد: وهما الإخلاص والصفاء، وكذلك انطلقوا ينظمون وينشئون في فنون مختلفة لا يصدهم عرف، ولا يعوقهم خوف، فكان منهم أقطاب في الموسيقا والغناء.
والتزمت الذي أحيطوا به لا يخلو من فضل، فهو نفسه دليل على قوة الحاسَّة الخُلُقية، وشاهد على أنهم لا يلهون حين ينظمون ويغنون، وإنما يتبعون وحي الوجدان.
وفي هذا الكتاب تنهض الحجج الدوامغ على أن الصوفية كانوا من قادة الفكر والبيان، فسيرى القارئ كيف ابتدعوا فن المدائح النبوية، وكيف تدرج هذا الفن إلى أن صار من القوى الأدبية، وسيرى كيف أنشأوا فن المناجاة الذي يتمثل في حب الذات الإلهية وفي الأدعية والأوراد، وكيف أوحى الزهد أكرم الشعر إلى كبار الشعراء، وكيف كان بغضهم للدنيا مما عاد على الأدب بكثير من النفحات الوجدانية، وكيف أجادوا القول في الوصايا والنصائح إلى آخر ما تتفرق عناصره في قسم الأدب وقسم الأخلاق من هذا الكتاب.
وليتذكر القارئ أن «أدباءنا» هؤلاء لم يكونوا من المحترفين، وهذا نقص من جانب، وفضل من جانب، هو نقص حين ننظر إلى بعض ما نراه في أدبهم أحيانًا من ضعف النسج، وهو فضل حين نراهم سلموا في الأغلب مما تورط فيه الأدباء المحترفون، حين أثقلوا أدبهم بالزخرف والتنميق.
كيف نفهم أدب الصوفية؟
وقارئ هذه الفصول مَرْجُوٌّ أن ينظر إلى أدب الصوفية برفق، فهم يؤثرون المعاني ويسيرون في ظلال الأذواق. وقد تكون اللمحة منهم أصدق شعرًا وأوفى معنى من ديوان ينظمه أديب من أهل الاحتراف. فإن رآنا القارئ نستجيد ما لا يستجيد فليتفضل بالتروِّي قبل أن يحكم علينا بالتعصب، فلأدب القوم موازين غير ما وضعه أمثال الآمدي والجرجاني وأبي هلال.
والقارئ مَرْجُوٌّ أيضًا أن يتسامح إن رآنا نظلمهم في بعض الأحيان، فما ندعي أننا أحطنا خبرًا بجميع مذاهبهم الذوقية، ومن الخير أن نعترف بأن حظنا من التصوف أقل من القليل، وأننا لا نملك من أدوات هذا الأدب الصوفي إلا رسمًا ضئيلًا جدًّا من رسوم الصفاء.
وفي ظلال هذا التحفظ نشرع في درس الأدب الذي أنشأه التصوف، راجين أن لا يضيع ما أنفقنا فيه من العمر والعافية، والله وحده هو المستعان.