الدنيا في القرآن والحديث
أكثر الصوفية من الأخيلة الأدبية في وصف الدنيا، وهم في هذا مسبوقون بالقرآن والحديث
وكلام الأنبياء. ففي القرآن المجيد: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي
الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ
ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وفيه: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ
مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ
الرِّيَاحُ وفيه: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ
الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ
الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ
عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن
لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ.
وفي الحديث الشريف: «ما لي وللدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة
في يوم صائف ثم راح وتركها». وفيه: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه
في اليم فلينظر بماذا يرجع». وقال أحد أصحاب الرسول: «كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول
الله
ﷺ على السخلة الميتة، فقال رسول الله
ﷺ: أترون هذه هانت على أهلها
حتى ألقوها؟ قالوا: ومن هوانها ألقوها، يا رسول الله! قال: فالدنيا أهون على الله من
هذه على أهلها». وفي المسند عنه
ﷺ: «إن الله ضرب طعام ابن آدم مثلًا للدنيا وإن
قزحه وملحه فلينظر إلى ماذا يصير»
١ وفي الحديث: «مثل هذه الدنيا مثل ثوب شُق من أوله إلى آخره فبقي معلقًا في
خيط في آخره فيوشك ذلك الخيط أن ينقطع».
وقال عيسى (عليه السلام): «يا معشر الحواريين! أيكم يستطيع أن يبنى على موج البحر
دارًا؟ قالوا: يا روح الله، ومن يقدر على ذلك؟ قال: إياكم والدنيا فلا تتخذوها قرارًا»،
٢ وقال: «الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها».
وفي كلام الرسول وأحاديث الأنبياء شيء كثير من أمثال هذه الأوصاف والتشبيهات، وهو
كما
قلنا أساس ما وصفت به الدنيا من الأخيلة الأدبية في كلام الصوفية.
الدنيا في كلام المسيح
وللصوفية في وصف الدنيا صور مختلفة، منها الموجز، ومنها المفصل، وهي كلها ترجع إلى
معنى واحد: هو وصف الدنيا بالنضرة وكثرة التقلب وسرعة الزوال.
فمن الصور الموجزة قول يونس بن عبد الأعلى: ما شبهت الدنيا إلا برجل نام فرأى في
منامه ما يكره وما يحب، فبينما هو كذلك انتبه.
٣
وقول ابن القيم: «أشبه الأشياء بالدنيا الظل، تحسب له حقيقة ثابتة وهو في تقلص
وانقباض، تتبعه لتدركه فلا تلحقه»، وقوله: «وأشبه الأشياء بها السراب، يحسبه الظمآن ماء
حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا»، وقوله: «وأشبه الأشياء بها المنام يرى فيه العبد ما يحب
وما يكره فإذا استيقظ علم أن ذلك لا حقيقة له».
٤ وقوله: «وأشبه الأشياء بها عجوز شوهاء قبيحة المنظر والمخبر، غدارة
بالأزواج، تزينت للخطاب بكل زينة، وسترت كل قبح»، وما حدث عوف عن أبي العلاء: «رأيت في
النوم عجوزًا كبيرة عليها من كل زينة الدنيا، والناس عكوف عليها متعجبون ينظرون إليها،
فجئت فنظرت وقلت: ويلك من أنت؟ قالت: أما تعرفني؟ قلت لا: قالت: أنا الدنيا». وما قال
الفضيل: «بلغني أن رجلًا عرج بروحه قال: فإذا امرأة على قارعة الطريق عليها من كل زينة
الحلي والثياب، وإذا هي لا يمر بها أحد إلا جرحته، وإذا هي أدبرت كانت أحس شيء رآه
الناس، وإذا أقبلت أقبح شيء: عجوز شمطاء زرقاء عمشاء، فقلت: أعوذ بالله! قالت: لا والله
لا يعيذك الله حتى تبغض الدرهم! قال: من أنت؟ قالت: أنا الدنيا».
٥
قال ابن القيم: «ومثلت الدنيا بمنام، والعيش فيها بالحلم، والموت باليقظة، ومثلت
بمزرعة، والعمل فيها بالبذر، والحصاد يوم المعاد. ومثلت بدار لها بابان: باب يدخل منه
الناس وباب يخرجون منه، ومثلت بحية ناعمة الملمس، حسنة اللون، وضربتها الموت. ومثلت
بطعام مسموم، لذيذ الطعم، طيب الرائحة، من تناول منه بقدر حاجته كان فيه شفاؤه، ومن زاد
على حاجته كان فيه حتفه. ومثلت بالطعام في المعدة، إذا أخذت الأعضاء منه حاجتها فحبسه
قاتل أو مؤذ، ولا راحة لصاحبه إلا في خروجه. ومثلت بامرأة من أقبح النساء قد انتقبت على
عينين فتنت بهما الناس، وهي تدعو الناس إلى منزلها، فإن أجابوها كشفت لهم عن منظرها
وذبحتهم بسكاكينها وألقتهم في الحفر».
٦
صور الدنيا في كلام الصوفية
وعند درس ما مر بنا من الصور نجد القرآن يؤثر تشبيه الدنيا بالنبات، ونجد الصوفية
يؤثرون تشبيهها بالمرأة، والتشبيه الأول مرجعه إلى طبيعة الجزيرة العربية التي لا يستحب
فيها شيء كما يستحب النبات البهيج، والتشبيه الثاني مرده إلى كلمة أثرت عن عيسى — عليه
السلام — إذ رأى الدنيا في صورة عجوز عليها من كل زينة، فقال: كم تزوجت؟ قالت: لا
أحصيهم. قال: فكلهم مات عنك أو كلهم طلقك. فقالت: كلهم قتلته. فقال عيسى: بؤسًا لأزواجك
الباقين، كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين!
٧
والبيئة التي عاش فيها عيسى عليه السلام كانت توحي بمثل هذا التشبيه.
وقد وردت هذه الصورة أيضًا في قول ابن عباس: «يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز
شمطاء، زرقاء، أنيابها بادية، مشوه خلقها، فتشرف على الخلائق فيقال: أتعرفون هذه؟
فيقولون: نعوذ بالله من معرفة هذه، فيقال: هذه الدنيا التي تشاجرتم عليها… ثم يقذف بها
في جهنم».
٨
تشبيهات ابن القيم
أما الأخيلة المفصلة فكثيرة، وأهمها ما دونه ابن القيم في عدة الصابرين، وهو يمثل
شهوات الدنيا في القلب بشهوات الأطعمة في المعدة ويقول: «وسوف يجد العبد عند الموت
لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والنتن والقبح ما يجده للأطعمة اللذيذة إذا انتهت في
المعدة غايتها، وكما أن الأطعمة كلما كانت ألذ طعمًا وأكثر دسمًا وأكثر حلاوة كان
رجيعها أقذر، فكذلك كل شهوة كانت في النفس ألذ وأقوى فالتأذي بها عند الموت أشد، كما
أن
تفجع الإنسان بمحبوبه إذا فقده يقوى بقدر محبة المحبوب».
٩
ويمثل الدنيا وأهلها في اشتغالهم بنعيمها عن الآخرة وما يعقبهم من الحسرات بقوم ركبوا
سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة، فأمرهم الملاح بالخروج لقضاء الحاجة وحذرهم الإبطاء،
وخوفهم مرور السفينة فتفرقوا في نواحي الجزيرة، فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة
فصادف المكان خاليًا، فأخذ أوسع الأماكن وألينها وأوفقها لمراده، ووقف بعضهم في الجزيرة
ينظر إلى أزهارها وأنوارها، ويسمع نغمات طيورها، ويعجبه حسن أحجارها، ثم حدثته نفسه
بفوت السفينة وسرعة مرورها وخطر ذهابها فلم يصادف إلا مكانًا ضيقًا فجلس فيه، وأكب
بعضهم على تلك الأحجار المستحسنة، والأزهار الفائقة، فحمل منها حمله، فلما جاء لم يجد
في السفينة إلا مكانًا ضيقًا، وزاده حمله ضيقًا، فصار محموله ثقلًا عليه ووبالًا، ولم
يقدر على نبذه، بل لم يجد من حمله بدًّا، ولم يجد له في السفينة موضعًا فحمله على عنقه،
وندم على أخذه فلم تنفعه الندامة، ثم ذبلت الأزهار، وتغير أريجها، وآذاه نتنها. وتولج
بعضهم في تلك الغياض ونسي السفينة وأبعد في نزهته، حتى إن الملاح نادى بالناس عند دفع
السفينة فلم يبلغه صوته لاشتغاله بملاهيه، فهو تارة يتناول من الثمر، وتارة يشم تلك
الأنوار، وتارة يعجب من حسن الأشجار، وهو على ذلك خائف من سبع يخرج عليه، غير منفك من
شوك يتشبث في ثيابه ويدخل في قدميه، أو غصن يجرح بدنه، أو عوسج يخرق ثيابه
١٠ ويهتك عورته، أو صوت هائل يفزعه. ثم من هؤلاء من لحق السفينة ولم يبق فيها
موضع فمات على الساحل. ومنهم من شغله لهوه فافترسته السباع ونهشته الحيات. ومنهم من تاه
فهام على وجهه حتى هلك.
١١
وهذه الصورة ظل لصور كثيرة يجدها القارئ فيما أثر من أقاصيص الأدب القديم، يوم كان
العرب يسيحون في البحار، أو يتمثلون ما يصادف رواد البحار من صور الأمن والخوف، والنعيم
والشقاء.
ومن أحسن الأمثلة — في رأي ابن القيم — ملك بني دارًا لم ير الراءون ولم يسمع
السامعون أحسن ولا أوسع ولا أجمع لكل ملاذ النفوس منها، ونصب إليها طريقًا، وبعث داعيًا
يدعو الناس إليها، وأقعد على الطريق امرأة جميلة قد زينت بأنواع الزينة، وألبست أنواع
الحلي والحلل، وممر الناس كلهم عليها، وجعل لها أعوانًا وخدمًا، وجعل تحت يدها ويد
أعوانها زادًا للمارين السائرين إلى الملك في تلك الطريق، وقال لها ولأعوانها: من غض
طرفه عنك، ولم يشتغل بك عني وابتغى منك زادًا يوصله إلي فاخدميه، وزوديه ولا تعوقيه عن
سفره إلي، بل أعينيه بكل ما يبلغه في سفره، ومن مد إليك عينيه ورضى بك وآثرك علي وطلب
وصالك فسوميه سوء العذاب، وأوليه غاية الهوان، واستخدميه، واجعليه يركض خلفك ركض الوحش،
ومن يأكل منك فاخدعيه به قليلًا ثم استرديه منه واسلبيه إياه كله، وسلطي عليه أتباعك
وعبيدك، وكلما بالغ في محبتك وتعظيمك وإكرامك فقابليه بأمثاله قِلًى وإهانة وهجرًا، حتى
تتقطع نفسه عليك حسرات.
١٢
وغاية هذا المثال دار الملك، والمراد بها الجنة، والعائق هو المرأة، وهي الدنيا
الغرور.
وعرض ابن القيم مثالًا آخر، وخلاصته أن ملكًا خط مدينة في أصح المواضع وأحسنها هواءً،
وأكثرها مياهًا، وشق أنهارها، وغرس أشجارها، وقال لرعيته: تسابقوا إلى أحسن الأماكن
فيها، فمن سبق إلى مكان فهو له، ومن تخلف سبقه الناس إلى المدينة فأخذوا منازلهم،
وتبوءوا مساكنهم فيها، وبقي المتخلفون من أصحاب الحسرات، ثم نصب لهم ميدان السباق وجعل
على الميدان شجرة كبيرة لها ظل مديد، وتحتها مياه جارية، وفي الشجرة من كل أنواع
الفواكه، وعليها طيور عجيبة الأصوات، وقال لهم: لا تغتروا بهذه الشجرة وظلها فعن قليل
تجتث من أصلها، ويذهب ظلها، وينقطع ثمرها، وتموت أطيارها، وأما مدينة الملك فأكلها
دائم، وظلها مديد، ونعيمها سرمدي، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب
بشر. فسمع بها الناس فخرجوا في طلبها على وجوههم، فمروا في طريقهم بتلك الشجرة على أثر
تعب ونصب وحر وظمأ، فنزلوا كلهم تحتها واستظلوا بظلها وذاقوا حلاوة ثمرها، وسمعوا نغمات
أطيارها فقيل لهم: إنما نزلتم تحتها لتحموا أنفسكم، وتضمروا مراكبكم للسباق. فقال
الأكثرون: كيف ندع هذا الظل الظليل، والماء السلسبيل، والفاكهة النضيجة والدعة والراحة،
ونقتحم هذه الحلبة في الحر والغبار والتعب والنصب والسفر البعيد والمفاوز المعطشة التي
تتقطع فيها الأمعاء، وكيف نبيع النقد الحاضر بالنسيئة الغائبة إلى الأجل البعيد، ونترك
ما نراه إلى ما لا نراه، وذرة منقودة في اليد أولى من درة
١٣ موعودة بعد غد. خذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به، ونحن بنو اليوم، وهذا عيش
حاضر كيف نتركه لعيش غائب في بلد بعيد لا ندري متى نصل إليه؟ ونهض من كل ألف واحد
وقالوا: ما مقامنا هنا
١٤ في ظل زائل تحت شجرة قد دنا قلعها وانقطاع ثمرها، وموت أطيارها، ونترك
المسابقة إلى الظل الظليل الذي لا يزول، والعيش الهنيء الذي لا ينقطع، إلا من أعجز العجز
١٥ وهل يليق بالمسافر إذا استراح تحت ظل أن يضرب خباءه عليه، ويتخذه وطنه خشية
التأذي بالحر والبرد؟ وهل هذا إلا أسفه السفه؟ فالسباق السباق والبدار البدار! فاقتحموا
حلبة السباق، ولم يستوحشوا من قلة الرفاق، وساروا في ظهور العزائم، ولم تأخذهم في سيرهم
لومة لائم، والمتخلف في ظل الشجرة نائم، فما كان إلا قليل حتى ذوت أغصان تلك الشجرة،
وتساقطت أوراقها، وانقطع ثمرها، ويبست فروعها، وانقطع مشربها، فقلعها قيمها من أصلها،
فأصبح أهلها في حر السموم يتقلبون، وعلى ما فاتهم من العيش في ظلها يتحسرون، ثم أحرقها
فصارت هي وما وحولها نارًا تلظى، وأحاطت النار بمن تحتها فلم يستطع أحد منهم الخروج،
فقالوا: أين الركب الذين استظلوا معنا تحت ظلها، ثم راحوا وتركوه؟ فقيل لهم: ارفعوا
أبصاركم تروا منازلهم! فرأوهم من البعد في قصور مدينة الملك وغرفها يتمتعون بأنواع
اللذات، فتضاعفت عليهم الحسرات وهذا جزاء المتخلفين.
١٦
وبقيت عند ابن القيم أمثلة لا تقل قيمة عما أسلفناه، وهي تدور حول محور واحد، ولا
تختلف إلا بالصور والأشكال، وهذا وجه البراعة عند أولئك الناس، فالمعنى واحد، ولكن
الأداء يختلف، كأنما يتسابقون في التزيين والتلوين. فإذا تأمل القارئ هذا عرف كيف
استطاع التصوف أن يخلق ما شاء من الصور الأدبية، وكيف انتقلت الأخيلة على أقلام الصوفية
من لون إلى لون، في براعة وحذق، وقوة تصوير وتهويل.
والمعاني النفسية لا تقل في هذا خطرًا عن المعاني الأدبية، ففي هذه الصور تصغير
وتحقير لمن ينسون الآجل الخالد حين يفتنهم العاجل العابر بما فيه من زخرف وبريق، وفي
هذا وذاك هداية للنفس ومتعة للخيال.