دائرة الجحيم!
ما دار بعد ذلك على سطح البحر، كان أخطرَ ما لاقاه الشياطين … لقد انزلقَت الأخشاب المشتعلة إلى مياه المتوسط … وطفَت على سطحه، وسبحَت في كلِّ مكان … إنها تُهدِّد سفينة المنظَّمة … لو أنها طالَت الوقود … أو طار بعضُها بفعل الريح، فحطَّ على العتاد أو على قوارب النجاة.
وسَمِع أحدُ البحَّارة صوتَ محركٍ للنش يأتي من الظلام، وكأنه يدور دورةً واسعة حول سفينتهم … لم يفهم «أحمد» ما يقصده البحَّار … فقال له: ولماذا سيفعل اللنش ذلك؟
البحَّار: هناك نار مشتعلة … وإذا سكب أحد رجالهم وقودًا على سطح الماء سيتحول البحر إلى جحيم.
نظر له «أحمد» مليًّا … ثم أمر باصطياد هذا الرجل قبل أن يتمَّ رسم دائرته بالوقود.
ومن ركنٍ مظلم على سطح السفينة … انطلق صاروخ صغير … غير أنه خارقٌ للمعتاد؛ فقد كان الزمن الفاصل بين فرقةِ انطلاقه ودويِّ اصطدامه باللنش … لا يتعدَّى ثانيتَين.
وانطلقَت في الأفق نيرانٌ أقوى ألف مرة من نيران البركان التي انطلقَت من سفينة الأخشاب … وامتدَّت النيران في دائرة تحيط بالسفينة، إنها دائرة الجحيم.
تصايح كلُّ مَن على ظهر السفينة … وقال «عثمان» معلِّقًا: يا لَهم من شياطين … يعرفون جيدًا كيف يستفيدون من الظروف … ماذا سنفعل الآن؟
أحمد: يجب أن نخترق الدائرة!
لم يقتنع قائد السفينة بما قال «أحمد» … وصاح قائلًا: كيف أفعل هذا وأُعرِّض السفينة للانفجار … فلديَّ خزانات وقود بالقاع.
أحمد: أنا لا أقصد أن نسيرَ على النار …
ريما: لا يوجد مكانٌ خالٍ من النيران.
أحمد: لقد أصبنا اللنش قبل أن يُكملَ دائرته.
إلهام: إذن يجب أن نبحثَ عن هذه الثغرة وإلَّا مُتْنا محترقين.
انطلق الجميع يُطلُّون من كل مكان بسور السفينة، بحثًا عن المسافة التي لم يتمكن قائد اللنش من إغراقها بالوقود … إلى أن صاح «عثمان» قائلًا: ها هي … أنا أراها.
وهرول الجميع إليه يستطلعون معه ما رآه … غير أن «إلهام» علَّقت قائلة في خيبة أمل: إن الأخشاب المشتعلة تسبح بها.
صاح «أحمد» قائلًا: إنها ليست أخشابًا.
فعلَّق «عثمان» موافقًا على كلام «أحمد» بقوله: معك حق … فكيف تظل الأخشاب مشتعلة كلَّ هذا الوقت، دون أن تُطفئَها المياه؟
أحمد: هناك أمرٌ آخر.
عثمان: وما هو؟
أحمد: أنها تنصهر إذا ما لامسَت الوقود … وتتفاعل معه وتزيده اشتعالًا.
عثمان: تقصد أنه وقود جاف.
أحمد: نعم، خاص بنوع متقدم من الصواريخ.
إلهام: إذن هؤلاء السماسرة عملاء لتُجَّار دوليِّين.
أحمد: قد يكونون عملاءَ لوزراء، وقادة دول.
إلهام: إذن فالحرب معهم لن تكونَ هيِّنة.
أحمد: هل ترَين ما نحن فيه الآن هيِّنًا؟
ريما: وكيف سنخرج الآن من هذه الدائرة الجهنميَّة؟
أحمد: سأجرِّب شيئًا ما.
ولم تمرَّ الدقائق إلَّا وقد ظهر «أحمد» ومعه «مصباح»، يرتديان بذلتَي غوص … ويُمسك كلٌّ منهما بعصًا حديدية … وما إن رآها قائد السفينة حتى صاح قائلًا: ماذا تفعلون عندكم؟
أحمد: سنصنع الثغرة بأيدينا.
قال القائد في تساؤل: هل هذه العصيُّ ستُبعد ألسنةَ اللهب؟
أحمد: لا … بل سنُبعد بها هذه السيقان المشتعلة.
القائد: لن يكفيَ هذا المكانُ لمرورنا.
أحمد: وما الحل إذن؟
قائد السفينة: لدينا خزانٌ لمادة رغوية مانعة لمرور الأكسجين.
ابتهج «أحمد» وقال له: إنها هدية غالية منك … ولكن كيف ستُطلقه … هل لديك خراطيم خاصة …
قائد السفينة: … لا … هذه هي المشكلة … فنحن نُعبِّئ منها أنابيب الحريق الصغيرة.
عثمان: عندي فكرة عبقرية لكم …
رفع «أحمد» يدَيه في الهواء وقال: قُلْها يا «عثمان» …
عثمان: نُلقي بهذا الخزان في الماء ثم نُدمِّره بطلقة من مدفع.
نظر له «أحمد» مفكرًا، وقال: هذا إذا كان خزانًا كبيرًا.
وأتاهم في هذه اللحظة صوتُ قائد السفينة يقول: إنه كبير بما يكفي.
وفي حماس قال «أحمد»: إذن فليُحضره بحَّارتُك يا قائد … ما اسمك؟
القائد: اسمي «كاتو».
أحمد: ألست عربيًّا يا «كاتو»؟
القائد: لا …
أحمد: إذن فليُحضر رجالُك خزانَ ثاني أكسيد الكربون.
صاح «كاتو» موافقًا على كلام «أحمد» بقوله: إنه كذلك يا سيد «أحمد».
أحمد: وأنا في انتظاره!
صاح «كاتو» في رجاله كي يُحضِروا الخزان … في نفس الوقت شاهدَت «ريما» بالونًا يرتفع في السماء ويتوقَّف مكانَه … فصاحَت تُنادي «أحمد»، وقد كان منشغلًا مع رجال «كاتو» في إحضار الخزان، فقال لها: ألَا يمكنكِ أن تأتيَ أنتِ يا «ريما»؟
ريما: لقد كنت أريد أن أُريَك شيئًا مهمًّا.
أحمد: ما هو؟
ريما: أني أرى بالونًا يرتفع في السماء …
وقف «أحمد» عن الحركة، ونظر إلى حيث تقف «ريما»، ثم لَحِق بها … وقال لها: أين هو؟
أشارَت «ريما» بيدها … فوضع «أحمد» على عينَيه النظارة المكبرة، ثم قال يُحادث نفسه: إنه نفس البالون.
لَحِق به «كاتو» وهو يسأله قائلًا: ماذا لديك يا «أحمد»؟
أحمد: هناك مَن يُراقبنا من خلال هذا البالون.
كاتو: وماذا يضيرنا نحن من ذلك؟
أحمد: أنا لا أعرف كلَّ إمكانيات هذا البالون.
كاتو: ماذا تقصد؟
أحمد: ألَا تكون به منصَّة إطلاق صواريخ مثلًا …
كاتو: الصواريخ لا تُطلَق إلَّا من مكان ثابت، وإلَّا أخطأت الهدف.
نظر له «أحمد» مليًّا، وقال له: معك حق … ولكن مرتاب منها!
كاتو: دَعْك منها الآن … حتى ننتهيَ من إطفاء هذه النيران التي تقترب منَّا.
عاد «أحمد» وطلب من رجال «كاتو» وضْعَ الخزان على ظهرِ أحدِ قوارب النجاة … ثم جلس بجواره ومعه «عثمان»، فسأله «كاتو» قائلًا: لماذا لم تَدَعْهم ينزلونه وحده؟
أحمد: حتى لا يفهمَ مَن يراقبوننا … ما نفعله فيحبطوه لنا.
قام ونشُ السفينة بإنزالِ قاربِ النجاة بما ومَن عليه، وما إن استقر على سطح الماء، حتى انطلق شعاعُ ليزر حاد من البالون … فأصاب خزانَ ثاني أكسيد الكربون … فانطلق محتواه مندفعًا في قوة … دفعَت القارب للانطلاق في الاتجاه المعاكس، وسط ذهولِ «أحمد» و«عثمان» وكلِّ مَن على ظهر السفينة.
لقد اندفع قارب النجاة كالصاروخ متجاوزًا دائرةَ النيران، مبتعدًا عن السفينة … موغلًا في الظلام … فلم يَعُد مَن عليه يرَون شيئًا … ولم يَعُد مَن على ظهر السفينة يرونهم.
لقد أصبح مصيرُهم جميعًا مجهولًا … فقد ضاع «أحمد» و«عثمان»، وضاع أملُ مَن على ظهر السفينة في إيجاد مخرج لهم … والأدهى من ذلك … أنهم سَمِعوا صوتَ موتور لنش يدور عن بُعد.
فلمَن يكون هذا اللنش … وما الذي أنزله إلى الماء في هذا الوقت … وفي هذا المكان؟ وصاحَت «ريما» قائلة: من المؤكد أنه يتبعُ أعوانَ «هينو».
إلهام: وماذا سيريد أعوانُ «هينو» من مكانٍ تشتعل فيه النيران؟
وهنا تدخَّل «مصباح» قائلًا: إنهم لم ينتهوا مِنَّا بعدُ … فهم يريدون السفينة وما عليها … أما مَن عليها … فمن المؤكد أنهم سيتخلصون منهم … أليس كذلك يا «إلهام»؟
أشاحَت «إلهام» بوجهها بعيدًا إلى حيث غاب «أحمد» و«عثمان»، وقالت: أشعر أن النجاة ستأتينا من هنا.
مصباح: نحن دائمًا ننتظر من المجهول أشياءَ خارقةً للعادة.
إلهام: هل تظنُّ أن «أحمد» قد ضاع ومعه «عثمان»؟
مصباح: أنا لا أظن هذا … أنا أخشاه فقط … ولكن إذا عاد «أحمد» و«عثمان» … فلن يستطيعَا تغييرَ الأمور؛ لأنهما لن يتمكَّنا من تقديم العون … بل سيحتاجان إلى العون … ارتفع صوتُ محرك اللنش، وهو يدور في دائرة مماسُّها بعيدًا عن دائرة النار المشتعلة … فماذا ينوي مَن باللنش … هل ينوون إطفاءَ النار … بالطبع لا … هل ينوون إشعالَ نارٍ أخرى في دائرة أخرى تُحيط بالدائرة الأولى؟
صاحَت «إلهام» قائلة: إنها ستكون كارثة!