استعراض متوازٍ للتاريخ العثماني والتاريخ الأوروبي
دخلت الأقطار العربية — فيما عد المغرب الأقصى ومناطق أخرى — تحت راية السلطنة العثمانية منذ القرن السادس عشر، ودام اتصال العرب بتلك الدولة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى؛ أي نحو أربعمائة عام.
وهذه الدولة العثمانية التي اتصل بها العرب تلك الحقبة الطويلة من الزمان مَرَّ تاريخها في مرحلتين أساسيتين: أولى المرحلتين كانت مرحلة جرى فيها الحكم نظريًّا وفق خطط وتقاليد موروثة، وهذه المرحلة تنتهي قبيل نهاية القرن الثامن عشر حينما أدرك بعض السلاطين ومن رأى رأيهم من رجالهم أنْ لا بد من الأخذ بسياسة التجديد إذا ما أريد إنقاذ الدولة من عواقب الهزائم العسكرية وفتن العصبيات والعصابات والمغامرين. وتبدأ المرحلة الثانية عند ذلك — ويعرفونها باسم «عصر التنظيمات» — قلت إنها تبدأ قبيل نهاية القرن الثامن عشر، إلا أنها تقترن بصفةٍ خاصة باسم السلطان محمود الثاني وبالفترة من حكمه التالية لإبادة الانكشارية كما نسمِّيهم بالعربية (سنة ١٨٢٦). ويمكن القول: إن المبادئ والأسس التي قامت عليها التنظيمات وجدت خاتمتها المنطقية في الجمهورية الكمالية التركية.
وهاتان المرحلتان من تاريخ الدولة العثمانية هما أيضًا مرحلتا تاريخ العرب المندمجين في الدولة العثمانية، ففي الأولى خضع العرب لأنظمة الحكم العثماني التي وضعت للولايات، وكانت أنظمةً تَرَكتْ قدرًا كبيرًا من حرية التصرف للسلطات المحلية، وفي تلك المرحلة أيضًا تأثَّرت الولايات تأثرًا كبيرًا بعجز الأنظمة القديمة عن مواجهة الظروف الجديدة، فاضطرب الأمر وسادت الفتن؛ فتن العصابات والعصبيات والمغامرين.
ثم كانت المرحلة الثانية؛ مرحلة التنظيمات، التجديد. وقد تأثَّرت بها الولايات أيضًا تأثُّرًا كبيرًا، وكان التنظيم على نوعين؛ نوع تمَّ على يد الحكومة وعمالها، ويرمي عمومًا إلى ربط الولاية بحكومة العاصمة ربطًا قويًّا وإلى إخضاع الجماعات والهيئات إخضاعًا تامًّا للحكومة، ونوع آخر تَمَّ على يد الجماعات والهيئات نفسها، وخصوصًا في أمور التربية والتعليم والاستثمار. وهذه المرحلة الثانية هي المرحلة التي عملت فيها العوامل الجديدة في تكوين العرب المحدثين.
- (١)
في القرن الخامس عشر والسادس عشر بلغتْ حركة الكشف الأوروبي الجغرافي أَوْجها، ونتائجها جد خطيرة للعرب؛ فقد مكَّنت الأوروبيين من الالتفاف حول العالم العربي وتطويقه، وقد هيأت لهم أيضًا سيادة في بحار لم ينازع الملاحة العربية فيها منازع. ولقائل أن يقول: إن العرب قبل الزمن الذي حددناه وبعده أيضًا كانت لهم حركات ارتياد واستعمار: برية وبحرية، فكيف إذن نجعل للحركة الأوروبية تلك الخطورة؟ والرد على ذلك ما يأتي: إن الحركات العربية كانت من صنع جماعات أو أفراد، لا تنشأ عن سياسة قومية — كسياسة البرتغاليين أو الإسبانيين أو الهولنديين … إلخ — وتنتهي باستقرار إمارة أو جالية عربية على ساحل أو في واحة أو ما إلى ذلك، وشتان بين هذا وبين الإمبراطوريات البرتغالية والهولندية والإسبانية والبريطانية … إلخ.
وعلى هذا ففي الطور العالمي من التاريخ الذي فتحته حركة الكشف الجغرافي دخل العرب مدافعين عما في أيديهم، ممثلين لطورٍ قديم لا مشاركين في بناءٍ جديد.
- (٢)
وعلى هذا فالدول الكبرى الإسلامية التي تشكَّلت في القرن السادس عشر تمثل القديم ولا تقبل التجديد إلا مضطرة، وتقبله في القرن التاسع عشر واردًا عليها من الخارج.
وهذه الدول هي العثمانية وفيها اندمج العرب كما قدمنا، والفارسية والمغولية بالهند، ويصحُّ أن نُضيف إليها الدولة المغربية، هذا إلى الكثير من الإمارات والمشيخات في مختلف الأقطار.
- (٣)
شهد التاريخ الأوروبي «الثورات» أو التغييرات الآتية:
بناء الوحدات القومية على يد الأسرات: ملكية – النهضة – الانقسام الديني والحروب الدينية وانتصار فكرة السماحة الدينية وفكرة تحرير الدولة من سلطان الكنيسة – الثورة العلمية – الثورات الهولندية والإنجليزية والأمريكية – الثورة الفرنسية – الانقلاب الصناعي – بناء المذاهب الاجتماعية الكبرى – بناء النظريات العلمية العامة – حركة التطبيق العلمي – الثورات الاجتماعية.
وفي هذه كلها لم نشارك في الإنشاء، ولكن تلقَّينا من النتائج ما تلقَّينا، أحيانًا بالرضا وأحيانًا كارهين، وفي كل الأحوال نقبل تحت ضغط الضرورة.
- (٤)
وفي القرون الأربعة التي أشرنا إليها تمر العلاقات الأوروبية العثمانية في الأدوار الآتية:
وفي هذه العلاقات كان لاختلاف الأمم دينًا شأنٌ وأيما شأن. على أنه يحسن بنا أن نتبيَّن حقيقة هذا الأمر. وأقول إن ذلك الاختلاف كان مما أثار عامة الناس، وإن العامة أحبت أن يكون الاختلاف أساس السياسة الخارجية، وإن الملوك والسلاطين والقادة في شئون الدين والدنيا كانوا يجارون العامة حيث لم يجدوا من المجاراة مناصًا، وإنهم كانوا يشنُّون الحرب باسم الدين في سبيل توسيع الرقعة وإعلاء الكلمة.
وفي ميادين الحروب الصليبية المختلفة — في الأندلس وفي المغرب وفي فلسطين والشام — أقرأ عن علاقات بين الملوك والأمراء المنتسبين للدينيين لا تدل على أن الاختلاف الديني كان الشيء المتحكم في جميع التصرفات، وأقرأ عن مرتزقة نصارى يستخدمهم المسلمون في المغرب ومسلمين يستخدمهم النصارى في الأندلس. «وآخر ما نسمع كان عن المغاربة المسلمين الذي شدوا أزر القائد فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية».
ولا أصدق أن ألوف المحاربين المماليك في مصر وسائر الممالك الإسلامية الذين ربوا في حجر النصرانية، وأمثالهم من الانكشارية والملاحين العثمانيين نسوا تمامًا كلَّ ما كان في صباهم واستحالوا إلى زبانية تعذيب وعذاب بالنسبة لذوي رحمهم. ونقرأ في كتب الرحلات الأوروبية عن صلاتٍ بين الرحالة والمماليك تدل على أن «الإسلامية» لهؤلاء كانت قشرة سمكها قليل، وأن بناء السياسة الخارجية والسياسة الداخلية للدولة على أساسٍ ديني كان شيئًا اقتضاه المجتمع، وكان نقض ذلك الأساس يبرر الانتقاض على الملك إما سترًا لبواعث أخرى عامة أو فردية، أو بناءً على إيقان بأن الدين حقيقة في خطر.
هذا ما نقوله في شأن الدين في العلاقات الأوروبية العثمانية أو الإسلامية النصرانية عمومًا، ونرجو ألا يفهم أحد أن السلطان الفلاني عندما ينشر لواء الجهاد أو أن الملك الفرنجي الذي دعا قومه للحرب الصليبية كان رجلًا «منافقًا» يحارب دينيًّا وهو لا يؤمن بدين، ليس بهذه البساطة أو السذاجة.
لا السلطان ينافق ولا الملك الفرنجي ينافق، ولكن للدين في تنظيم المجتمع إذ ذاك من القوة ما يجعل إقامة السياسة الخارجية أو الداخلية إذ ذاك على غير أساس الدين أمرًا مستحيلًا. وكان السلاطين وكان الملوك يحاولون ما استطاعوا ألا يجعلوا من الاختلاف الديني سببًا يفوت عليهم مصالح، كما أن منهم من كان يستغل الاختلاف لقضاء مصالح دولهم.
وخير سبيل لترتيب ما لدينا من حقائقٍ ووقائع العلاقات أن نوردها حسب التقسيم الآتي:
(١) في الدور الأناضولي البلقاني من التاريخ العثماني
في القرن الثالث عشر كانت نشأة الإمارة أو السلطنة العثمانية في الأرض حول مدينة إسكي شهر في غربي الأناضول، في منطقة الحدود بين الملك التركي السلجوقي ودولة الروم (الدولة البيزنطية).
ومنشئو الإمارة أو السلطنة جماعات من الغزاة أو المغامرين يعملون في الغزو تحت إمرة بيت زعامة تقليدي؛ بيت عثمان.
وهي إمارة كرست نفسها للغزو، واتسعت نحو الأملاك البيزنطية في الأناضول وفي البلقان ونحو بلاد الصقالبة والألبان والرومان واليونان، واتسعت في نفس الوقت في الأناضول شرقًا وجنوبًا وشمالًا في ممالك وإمارات السلاجقة، وهذا بأساليبٍ حربية وغير حربية.
ويتوج هذا الدور بالانتصار الباهر الذي أحرزه محمد الفاتح بالاستيلاء على القسطنطينية في ١٤٥٣ والقضاء نهائيًّا على دولة الروم (الدولة البيزنطية)، وكان قد تم قبل ذلك امتلاك معظم الممالك والإمارات البلقانية والأناضول.
وها هي ذي الدولة العثمانية عند نهاية القرن الخامس عشر دولة تربَّعت على الأناضول والبلقان — على الطرف المسيحي الشرقي الأرثوذكسي لأوروبا — وتستعد للإيغال في أوروبا الكاثوليكية في أوروبا الشرقية (بولونيا أو بولندة) وأوروبا الوسطى (المجر). وفي نفس الوقت هي في طرف آسيا تمثل في نظر الأوروبيين آسيا والآسيويين، وأهم من هذا أنها أصبحت تتاخم دولتين إسلاميتين كبيرتين؛ إحداهما الدولة المصرية السورية والحكم فيها للسلاطين المماليك، وهي دولة إن شاء الإنسان أن ينعتها بنعت يدل على طبيعة موقعها قال عنها: إنها «دولة البرَّين والبحرين» — البر المصري والبر الشامي، والبحر المتوسط والبحر الأحمر — أما الدولة الأخرى فهي الدولة الفارسية والحكم فيها للصفويين، وهؤلاء وإن كانوا يستخدمون لسانًا تركيًّا فهم ينتسبون لإقليم من الأقاليم الفارسية.
وبهذا الجوار أخذت الدولة العثمانية تستعدُّ لتتبوأ مقعدها في العالم الإسلامي، وسيكون لهذا الاستعداد ما بعده كما سنرى.
والدولة العثمانية عاصمتها القسطنطينية، وهي سيدة البلقان وسيدة الأناضول، فصارت سيدة البحر الأسود، نفوذها يسري في الشعوب والجماعات حوله وبخاصة فيما نعرفه الآن بجزيرة القرم وجنوبي الروسيا، حيث كان الأمر إذ ذاك لمن استقرَّ في تلك المناطق من جماعات التتار، وكانوا قد اعتنقوا الإسلام. والدولة العثمانية بحكم سواحلها الأناضولية والبلقانية تستعدُّ لأنْ تُقصي عن بحر الأرخبيل وعن الحوض الشرقي للبحر المتوسط القوات البحرية المعادية، بل وتستعدُّ لتتخذ أيضًا من حوضه الغربي ميدانًا يقطع طريق الحملات الأوروبية المسيحية عند السواحل المغربية الإسلامية.
وهكذا خرج الاتساع العثماني عن نطاق ميادينه البلقانية الأناضولية وبحاره «الساحلية» إن صح التعبير، ليمتد نحو أوروبا الوسطى وأوروبا الغربية، ليتبوأ مقامه في العالم العربي والعالم الإيراني نحو البحار الآسيوية الكبرى، ولتخفق بنوده بين جزائر البحر المتوسط وسواحله، ولتنشأ للدولة العثمانية من هذا الوقت علاقات بالدول الكبرى العامة رأسًا، بعد أن كان الأمر حتى ذلك الوقت بينها وبين دول البيزنطيين والبلغار والصرب والرومان والألبان، وبينها وبين المؤسسات والمنشآت التجارية الإيطالية أو الإقطاعية الغربية في تلك السواحل لبحر الأرخبيل والبحر المتوسط، وبينها وبين الإمارات التركية السلجوقية في الأناضول.
ولم يخل الميدان أو الميادين تمامًا للعثمانيين وخصومهم، فقد جهَّزت أوروبا حكومات وشعوبًا أكثر من حملة لمعاونة البيزنطيين أو الصقالبة، ومن أشهرها حملة نسيكو بوليس، وهي التي درسها المؤرخ المصري عزيز سوريال عطية دراسة ممتازة، هذا بالنسبة للأوروبيين. وأما بالنسبة لجارات الدولة العثمانية في فارس وفي سوريا فإن «ديوان الإنشاء» في القاهرة كان في سبيل الانتباه إلى ذلك الأمر الجديد؛ نقل القلقشندي في الجزء الخامس من صبح الأعشى (ص٣٦٨) عن ابن فضل الله العمري صاحب مسالك الأمصار العبارة الآتية، وكان هذا قبل فتح القسطنطينية وإتمام التغلب على الأناضول والبلقان: «ولو قد اجتمعت هذه البلاد لسلطانٍ واحد، وكفت بها أكف المفاسد، لما وسع ملوك الأرض إلا انتجاع سحابه، وارتجاع كل زمان ذاهب في غير جنابه.» ثم قال: «الله أكبر إن ذلك لملك عظيم، وسلك نظيم، وسلطنة كبرى، ودنيا أخرى: ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.»
(٢) القرن السادس عشر
(أو بحسابٍ أدق: حكم سليم الأول من ١٥١٢ إلى ١٥٢٠ وحكم سليمان القانوني من ١٥٢٠ إلى ١٥٦٦.)
وفي هذا القرن — وبزعامة السلطانين سليم وابنه سليمان — تحقق للعثمانيين الملك العظيم الذي تحدث عنه ابن فضل الله العمري فيما نقلنا عنه.
ففي عهد سليم الأول كان القضاء على دولة السلاطين المماليك في مصر وسوريا — وسنشرح فيما بعد ما يفيده معنى دولة ومعنى القضاء على دولة في ذلك الزمان — وبعد أن تمكَّن سليم من هذا ورث ما كان لتلك الدولة من نفوذ وواجبات ومصالح في البحر الأحمر، في ساحله الحجازي واليمني وفي ساحله الحبشي الصومالي. ومن أهم ما ورث خدمة الحرمين والاضطلاع بها إزاء مسلمي الأرض قاطبة، وورثت الدولة أيضًا مواجهة الخطر البرتغالي في البحار العربية وقد أخذ يستفحل.
وتحولت الدولة في تلك السنوات القليلة من دولة أناضولية بلقانية أغلب رعاياها من المسيحيين إلى دولةٍ إسلامية حقًّا، فيها بالإضافة إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة وبيت المقدس من مراكز الحضارة العربية حلب ودمشق والقاهرة.
ووضع السلطان سليم العثماني والشاه إسماعيل الصفوي العلاقات بين فارس وعالم أهل السنة في الأوضاع التي عرفها زماننا.
أثار الرجلان حربًا دينية، واستمرت الحرب ساخنة بعد زمنيهما أحقابًا ثم باردة إلى قرب أيامنا. ومن المؤرخين من ذهب إلى أن سليمًا وإسماعيل بحروبهما فصلا العثمانيين عن بيئتهم الإيرانية — وهي بيئتهم الطبيعية — وفرضا العثمانيين على العرب؛ فشقي العرب بهم وشقوا هم بالعرب … والقول سنعود إليه بعد قليل.
وجاء بعد سليم ابنه سليمان وقد قبل تحدي مطالب الأوضاع التي ورث، وقضى ما يقرب من نصف قرن من الزمان مكافحًا منشئًا. وقد يكون قد خلَّف لخلفائه ما لا قبل لهم به، ولكنه سلمهم ملكًا غير منقوص. ولو عرف سليمان سياسة بناء دول وإمارات حليفة في العالم الإسلامي عمومًا والعالم العربي خصوصًا لاتخذ التاريخ اتجاهات غير التي اتخذ.
قلت: إن سليمان قبل تحدي مطالب الدولة، ولنستعرض ذلك سريعًا؛ حارب «فارس» كما حاربها أبوه وانتزع منها العراق، ووضع رؤساء البحر العثمانيون ما استولوا عليه من ثغور المغرب تحت سيادته. وفي سبيل إبعاد البرتغاليين من البحر الأحمر كانت تجريداته البحرية للبحار العربية ونزول الحاميات العثمانية في عدن وفي غيرها من ثغور السواحل العربية والأفريقية.
وبهذا كله أضاف سليمان للدولة أقطارًا عربية أخرى، أهمها العراق والثغور المغربية في طرابلس الغرب وتونس والجزائر، ولم تمتد السيادة العثمانية إلى المغرب الأقصى، وكان يصحُّ أن تنشأ جبهة عثمانية مغربية عظيمة الشأن قوية النفوذ، ولكن نشأت علاقات كانت عمومًا سيئة المنظر والمخبر، وكان يصح أيضًا أن توضع أسس تسوية عامة (سياسية دينية) مع فارس تكون أساس العمل السياسي الاقتصادي الحربي في تلك المناطق، ولكن استمرت الحرب بين الدولتين ساخنة أو باردة كما قدمنا، وكان يصح أن تقام في اليمن إمارة يمنية تؤيِّد وتعاون على ضغط الأمن الداخلي والخارجي وكذلك في الحجاز، ولكن كانت السياسة العثمانية تقوم على إشاعة الفرقة والغدر والإسراع إلى اكتساب المنافع العاجلة الرخيصة.
وتقدم سليمان نحو أوروبا الوسطى من الملك الذي ورث في البلقان، وضم أجزاء من المجر لملكه، وبسط نفوذه على أجزاء أخرى، وتقدم لحصار ڨيينا وأخفق في ذلك الحصار، ووقف الأمر في أوروبا الوسطى عند ذلك.
وفي البحر استولى على رودس وطرد منها فرسان القديس يوحنا، وانتقل هؤلاء إلى مالطة، وتبعهم إليها سليمان في أواخر أيامه، ولكنه أخفق في الاستيلاء عليها.
وكانت خلال هذا كله حروب في البر والبحر ضد الدول المجتمعة في ملك شارل الخامس أو شارلكان: وهي الممالك والإمارات النمسوية والبوهيمية والإسبانية والأراضي المنخفضة، تضاف إليها الإمبراطورية الاستعمارية الإسبانية في الأمريكيات وفي الفلبين في المحيط الهادي.
فقد عرفت الدول إسلامية ومسيحية قبل أيام سليمان نظمًا تماثل نظام الامتيازات، والواقع أن المهم في أمر معاهدة ١٥٣٥ أنها أحلت الدولة العثمانية محلًّا في العالم الأوروبي تأثرًا باتساع نطاق إخضاع العلاقات الدولية لقانون دولي واحد. ومثل الدولة العثمانية في هذا يماثل مثلًا الصين أو سلطنة المغرب أو فارس ويختلف عنها، ويماثله من حيث إن الدول الأوروبية من ناحيتها والدول غير الأوروبية من ناحيتها لم تكن مستعدة لقبول فكرة المساواة الحقيقية فيما بينها، وكذلك لم تكن مستعدة لأن تدخل في علاقات ما مع الغير أو أن تكون تلك العلاقات شيئًا غير الحرب، هذا من حيث المماثلة.
أما من حيث الاختلاف فواضح أن الدولة العثمانية تشتبك شئونها بالدول الأوروبية وبالأوروبيين في كل مكان وفي كل يوم، ومن ثم كان الاتصال وثيقًا وخصوصًا إذا تذكرنا أن الحكومات الأوروبية والهيئات التجارية التابعة لها والكنائس المسيحية أنشأت علاقات مباشرة برعايا السلطان من جميع النحل وبالطوائف العثمانية غير الإسلامية، وقامت على هذا أوضاع تجعل العلاقات بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية فريدة الذات.
- أولًا: إن الصين القديمة اعتبرت نفسها دنيا قائمة بنفسها مكتفية بما
لديها، ولا يهمها في قليلٍ أو كثير أن تنشأ بينها وبين غيرها من
الدول علاقات، ولنذكر القصة المشهورة للسفارة التي أرسلتها حكومة
الملك جورج الثالث لإمبراطور الصين، وكذلك اليابان القديمة اتخذت
نفس الموقف.
ولنذكر كيف أوفدت الحكومة الأمريكية الأميرال بيري Perry في ١٨٥٣ و١٨٥٤ ليرغم اليابان على فتح ثغورها للتجارة.
- ثانيًا: إن النظرية الإسلامية المشهورة عن تقسيم العالم إلى دار إسلام
ودار حرب تُقابِلُهَا نظرية مسيحية من نفس النوع.
بيد أن اعتناق الدول المسيحية لتلك النظرية لم يمنعها من توثيق مختلف الصلات بالدول الإسلامية وبشعوبها، فاستطاعت أن تحقق بذلك لنفسها منافع متنوعة في ميادين التفوق والتغلب والعلم والتعلم واستثمار المال … إلخ. وكانت الحال بالنسبة للمسلمين غير ذلك؛ فحكموا على أنفسهم بالعزلة مطمئنين راضين، ازدروا دار الحرب وأهلها في أيام تساوي القوى وتشابه الأنظمة، وازدروها أيضًا في أيام اختلال توازن القوى ورجحان كفة أوروبا كفتَهم بدعوى أن لهم الجنة أو ما إلى ذلك، أو أن «مادية» الغرب ستسير به حتمًا نحو الهاوية، وأن لا خلاص للغرب إلا باكتساب شيءٍ من «روحانية الشرق» وما إلى ذلك من أوهام. وخير لنا ولهم أن نتأكد من أن الذي سيسير نحو الهاوية لن يسير وحده بل سيجر معه غيره حتمًا.
- ثالثًا: إن ظروف المجتمع الأوروبي الغربي في القرن السادس عشر هيَّأتْ
لنمو قواعد التنظيم ما بين الدول الأوروبية من علاقات في حالتي
الحرب والسلم. ولم ينشأ ما يماثل هذا في المجتمع الإسلامي المعاصر
له؛ ذلك لما انتهى إليه التحول في ذلك القرن من صورة الجماعة
المسيحية مشخصة في الإمبراطور الروماني المقدس وفي البابا إلى بروز
الدول التامة السيادة، ومن هذه الدول ما كان أساسه قوميًّا (فرنسا،
إنجلتره، إسبانيا … إلخ)، ومنها ما لم يكن قومي الأساس (ملك آل
هابسبرج إلخ)، والدول بنوعيها تامة السيادة كما قدمت، فكان مما لا
بد منه إنشاء روابط وتنظيم علاقات تقوم مقام الجماعة
الواحدة.
وفي مجتمعنا الإسلامي المعاصر لذلك الوقت لم يحدث شيء من ذلك، ففكرة انفصام عرى الجماعة الإسلامية لم يسلِّم بها أحد، حتى ولو كانت العرى منفصمة تمام الانفصام في الواقع. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فقد رأينا الدولة العثمانية تبتلع الدول والوحدات العربية والإسلامية، ولم يبقَ قائمًا كما رأينا إلا دولة المغول في الهند والدولة الفارسية والدولة المغربية، وإمارات أخرى أقل شأنًا عربية وتركية وإيرانية. ولم تنشأ بين هذه والدولة العثمانية أو فيما بينها علاقات تقوم على أساس «الأجنبية»؛ ومن ثم لم يتمَّ في بيئتها قانون دولي.
وأخيرًا يمتاز عصر سليمان القانوني بتنظيم الحكومة، ولنترك الكلام عليه إلى أن نتحدث عن العرب في الدولة العثمانية.
(٣) القرن السابع عشر والثامن عشر
في العقود الأخيرة من القرن السادس عشر والأولى من القرن السابع عشر كانت الأنظمة العثمانية المختلفة الخاصة بالحكم والحرب والإدارة والجباية تؤدي وظيفتها. وفي الحقبة نفسها كانت حروب الاتساع قد بلغت مداها، ولكن ظهر في الوقت نفسه بوادر فساد الأنظمة وأخذ كل شيء سبيله للتدهور، وأخذ الملاحظون الخارجيون لأحوال المجتمع العثماني يزعمون أنْ لا صلاح يرجى له إلا بأن يتخلى عن أسسه، وإن شق ذلك عليه، كان الأسهل — والأحسن — أن ينتقل الحكم على نحوٍ ما إلى أيدٍ أوروبية، وأدرك أو أخذ يدرك المسئولون العثمانيون أن هناك أزمة في هذا، وكان منهم من رأى أن فساد الأنظمة لا يرجع إلى علةٍ فيها، ولكنه يرجع إلى سوء تطبيقها، فإذا ما حاول المسئولون إصلاح التطبيق عادت الأحوال إلى أحسن ما كانت.
على أن أحدًا من المسئولين لم يقتنع بذلك، وكان الاتجاه لديهم ابتداءً من أواخر القرن الثامن عشر إلى إنشاء الحكومة القومية المسيطرة على كل شيء، التي تملك كل الأدوات وتُخضِع كل شيء لإرادة واحدة، ووجدوا في النقل من الأنظمة الغربية ما يكفل لهم ذلك. أما الشعوب البلقانية فابتدأت تنتعش فيها عناصر البناء منفصلة عن الدولة، وأما الرعايا المسيحيون في الولايات الآسيوية والأفريقية فكانت شئون الطائفة من طوائفهم أو الملة (ملت عند الترك) من مللهم تستغرق من أبنائها كل آمالهم وآلامهم.
وأما الرعايا المسلمون في الولايات نفسها فهم متفرقون حسب انتمائهم لجماعات أهل الحرب أو أهل العلم أو الشرع أو الكتابة أو الفلاحة أو الحرف أو التجارة. ولم يكن ظهر فيهم أساس من نوعٍ ما لبناء جديد، بل لم تكن قد نبتت فيهم فكرة «البناء» في ذاتها. فكانت الحقبة حقبة حركات الجماعات الشعبية حينما لم يعد في طوقها مزيد احتمال للعنف والظلم واضطراب الأمن، أو حركات أصحاب العصبيات من زعماء العشائر والمغامرين من قادة الجند ومن إليهم.
على أن المجتمع العثماني الذي أجملنا تصويره على هذا النحو كان خلال هذين القرنين في موقفٍ لم يكن من صنعه وحده، بل كان أيضًا من صنع سياسة الدول الأوروبية نحو الدولة العثمانية. وقد نذهب إلى أبعد من هذا فنقول: إن هذه الدولة فقدت في تلك الحقبة الكثير من حرية الحركة أو التصرف في بيتها، وإن الدول الأوروبية خلقت في الواقع أوضاعًا عثمانية وتولت حتى قرب زماننا حماية تلك الأوضاع.
والحكومات والشعوب الأوروبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر تعيش في جوٍّ كله حركة، في جو الأزمات الفكرية وأزمات التنظيم الاجتماعي والحروب والثورات الدينية. وأغلب الظن أن الثورة الفرنسية حاولت أن تجد شيئًا لحل جميع المشكلات، وفعلًا حلت مشكلات وأصبحت هي في ذاتها مشكلة. والواقع أن ازدهار الحضارة في أوروبا في تلك الحقبة بلغ شأوًا عظيمًا مما دفع الرحالة الأوروبيين في الولايات العثمانية إلى المبالغة في تصوير سوء أحوال تلك الولايات بلونٍ مفرط في السواد. بيد أن الازدهار الأوروبي أخفى أن الذين نعموا به حقًّا كانوا قلة في كل مكان؛ وهذا منشأ الثورة الفرنسية وما تلاها من ثورات.
ولم تكن الحكومات والشعوب الأوروبية تكره — هذا إذا خففنا التعبير — سقوط الدولة العثمانية واختفاء رايتها تمامًا، وكانت كل من هذه الدول الأوربية تحبُّ أن تنال من تراث العثمانيين ما يطيب من ولاياتها، وكان الأوروبيون يؤلمهم بصفةٍ خاصة خضوع شعوب مسيحية لحكومةٍ إسلامية. بيد أن هذه العبارات تحتاج إلى تقييد لتكون أضبط وأدق. ولنضبط العبارات بالكلام على واقع الحال. كانت الروسيا تعمل على إجلاء العثمانيين عن البلقان واكتسابه وأممه منطقة نفوذ روسية — إن لم تضمه وأممه لحكمها — بهذا تخلِّص البلقانيين وهم على مذهبها الديني من الحكم الإسلامي، وتصل لبحر الأرخبيل ومنه للبحر الأبيض المتوسط.
وكانت الروسيا تعمل للوصول إلى البحر الأسود، لتعمر أراضيها الجنوبية الخصبة ولتصل إلى منفذٍ آخر يصلها هي أيضًا بالبحر المتوسط. وكانت الروسيا تحب أن يجلس قياصرتها على عرش بيزنطة في القسطنطينية، فيكون تشفٍّ ومحو عار وأخذ ثأر وتحيا روما الثالثة. بيد أن الروسيا لا تحب أن يشاركها غيرها في شيءٍ من هذا، بل هي تفضل على المشاركة المحافظة على الدولة العثمانية تحت حمايتها أو — بعبارةٍ أصح — تحت قدميها. أما سياستها نحو مسيحيي الدولة الأرثوذكسيين من أرمن وروم وعرب وأقباط فقد بدأت في القرن الثامن عشر تتحدث إلى رجال السلطنة العثمانية في أمورهم؛ تمهيدًا للتدخل في القرن التاسع عشر في تلك الأمور بل وللدخول في حربٍ ضد فرنسا وبريطانيا والدولة العثمانية — حرب القرم عند منتصف القرن التاسع عشر — من أجل نفوذها في الدولة.
والإمبراطورية النمسوية نجحت في طرد العثمانيين من بلاد المجر، وهي أيضًا يرضيها اقتصاديًّا وسياسيًّا أن يسود نفوذها في البلقان؛ اقتصاديًّا لأن الطونة يخرج من المجر للبلقان ليصب في البحر الأسود فهو منفذ من منافذ الإمبراطورية، واقتصاديًّا أيضًا لأن الفاردار يلتقي به وينتهي في بحر الأرخبيل وهذا مخرج آخر للإمبراطورية، وسياسيًّا لأن الإمبراطورية تضم سلالات صقلبية — الكروات مثلًا — ويهمها أن يسود نفوذها إخوانهم الصقالبة البلقانيين (الصرب وأهل الجبل الأسود)؛ فهي تعمل على إبعاد الروسيا عن البلقان ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا.
وينبغي ألا ننسى أبدًا أن التنافس بين النمسا والروسيا في البلقان — وعلى صربيا بالذات — كان العامل المباشر على اشتعال الحرب العالمية الأولى. وقد دخل ذلك التنافس في طوره الأخير لما احتلت النمسا عسكريًّا المقاطعتين الصربيتين جنسًا — وبهما طائفة مسلمة — البوسنة والهرسك في ١٨٧٨، وزاد الأمر توترًا وحدة ضمها لهما نهائيًّا في سنة الدستور العثماني ١٩٠٨. على أن النمسا بالإضافة إلى هذا عملت بصفتها دولة كاثوليكية على أن تحصل لها نصيبًا من رعاية رعايا السلطان الكاثوليك.
وبالإضافة إلى هذا أخيرًا كانت النمسا أميل عمومًا لتأييد الدولة العثمانية في الأزمات الأوروبية العامة، وذلك على اعتبار أن أساس الدولتين (العثمانية والنمسوية) كان لاقوميًّا، والدولتان لا تحبَّان تشجيع العصبية القومية، فواضح أن انتصارها معناه تفكك الإمبراطوريات من نوع النمسوية والعثمانية. هذا والسياسة النمسوية سياسة محافظة؛ ولذا فهي أميل لتأييد الدولة العثمانية. ومن الطريف أن تقرأ أن مترنيخ الوزير النمسوي المشهور لاحظ للساسة العثمانيين أن سياسة التنظيمات (أو التجديد) لاتجاري منطق النظام العثماني.
تكلمنا عن خطط دولتين أوروبيتين مجاورتين للدولة العثمانية، والآن نتكلم عن خطط دولتين أخريين هما فرنسا وبريطانيا، ولنترك دول أوروبا الأخرى فليس لها تأثير قوي في تشكيل الموقف الأوروبي في الحقبة التي نتحدث عنها. لفرنسا مصالح في الدولة العثمانية: فهي الدولة الكبرى في البحر المتوسط، وفرنسا كانت أول دولة كبيرة حالفت الدولة العثمانية، وفرنسا كانت أول دولة أوروبية كبيرة نالت لرعاياها «امتيازات» في الأراضي العثمانية، ولفرنسا مصالح تجارية كبيرة؛ فهي تريد أن تستأثر بتجارة الدولة الخارجية استيرادًا وتصديرًا، وفرنسا تزعم لنفسها حق رعاية رعايا السلطان المسيحيين على اختلاف مللهم ونحلهم.
ولفرنسا مصالح فيما وراء الدولة العثمانية؛ في فارس وفي الهند وفي البحار العربية الهندية. فالولايات العثمانية في الساحل المغربي، وفي مصر، وفي الساحل السوري، وفيما وراءه وفي الأناضول، وفي جزيرة كريد، وفي اليونان إذن ميادين نشاط فرنسي اقتصادي ثقافي وديني، وأنشأت فرنسا صلاتٍ وثيقة بشعوبه. وبريطانيا خلال القرنين في موقف يشبه الموقف الفرنسي ويختلف عنه: يشبهه في العمل البريطاني على الاستئثار بالتجارة الخارجية للدولة استيرادًا وتصديرًا، ويشبهه في أن طرقًا برية بحرية تخترق الأراضي العثمانية لمناطق في فارس وفي الهند وفي البحار العربية والهندية تهم بريطانيا جدًّا، ويختلف عنه في انعدام الجانب الديني الثقافي من العمل البريطاني حتى أواخر القرن الثامن عشر، فبريطانيا كانت بروتستنتية وحتى القرن التاسع عشر لم يكن قد بدأ البروتستنت نشاطهم بين رعايا السلطان.
ويهم فرنسا وبريطانيا بالذات أن تمنعا حصول عملية كبيرة من نوع تقسيم الدولة العثمانية؛ لاعتقادهما أن شيئًا من هذا لا يمكن أن يتم دون حرب عامة، قلت عملية كبيرة، وألفت النظر للوصف «كبيرة»؛ فهي مقصودة، وبيان ذلك أن الدولتين تعلمان أن حدوث العمليات الصغرى أو العمليات المتفرقة أمرٌ مستحب بل هو أمر لا بد منه، فالدولة مريضة فلتمت شيئًا فشيئًا دون أن يصحب ذلك إضرار بالمنتفعين. قلت: إن العمليات الصغرى أو المتفرقة شيء مستحبٌّ أو ضروري، من أمثلته اكتساب حقوق السيادة في منطقة من المناطق، إنشاء منشآت من شتى الأنواع، استلحاق أفراد بالتبعية البريطانية أو الفرنسية، اكتساب أسرات وعشائر وطوائف … إلخ.
وسنرى في القرن التاسع عشر عمليات كبرى يحاول الفرنسيون والبريطانيون إظهارها بمظهر العمل الصغير الذي لا يمس جوهر السيادة العثمانية. في ١٧٩٨ حاولت فرنسا أن تمتلك مصر، وكانت مستعدة لأن تقبل سيادة السلطان وأن تؤدي له مالًا، ورفض السلطان أن يقبل ذلك، وفي ١٨٨٢ احتلت بريطانيا مصر واحتفظت بسيادة السلطان ولم يعلن السلطان الحرب في ١٨٨٢ كما أعلنها في ١٧٩٨؛ لأنه لم يجد من يحالفه كما وجد في ١٧٩٨، ولأن أوروبا في ١٨٨٢ كانت في ذروة القوة.
ونختم هذا الجزء من القسم بهذا الملخص: إن الدولة العثمانية أصبحت عند آخر القرن الثامن عشر في موقفٍ يستدعي نظرًا شاملًا في شئونها. إن الدولة العثمانية قد أفلتَ من يدها زمام حياتها الاقتصادية. إن الدول الأجنبية قد أنشأت علاقاتٍ مباشرة من جميع الأنواع بشعوبها وطوائفها غير الإسلامية.
(٤) القرن التاسع عشر والقرن العشرون: انحلال الدولة العثمانية وانتشار فكرة التنظيم السياسي على أساسٍ قومي
شهد المجتمع العثماني منذ الربع الأخير من القرن الثامن عشر جهودًا متتابعة لتجديد شئون هذا المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وكانت الجهود التي بذلتها حكومة السلطنة؛ أي الحكومة المركزية للدولة، أو تلك التي بذلها بعض ولاة الولايات الممتازة (أي الولايات المتمتعة بقسطٍ من الاستقلال الواقعي) كمحمد علي وخلفائه في مصر، أو بايات البيت الحسيني في تونس مما لفت نظر المؤرخين، إلا أنه مما فاتهم (بصفةٍ عامة) دراسة ما بذلته شعوب الدولة لرفع مستواها عمومًا وفي ناحيته الاقتصادية والثقافية خصوصًا. وقد بذلت الشعوب هذه الجهود إما لأداء ما عجزت الحكومة عن أدائه أو للقيام بما رفضت الحكومة أن تقوم به أو لتكملة جهودها.
وهذه الجهود من جانب الشعوب أو الطوائف مبعثها ما انتشر من تذمُّر بسبب سوء أحوالها، ومن غضب لما كانت عليه من مهانة إذا ما قاست نفسها بحكامها الأتراك أو بذوي الامتيازات الغرباء، ومن رجاء في تحقيق حياة أكرم؛ أي إن الرغبة الملحة في إزالة المفاسد وتقويم المعوجِّ ملكت على الناس في كل مكانٍ أمرَهم.
والمطالبة بالإصلاح على هذا النحو أوسع من الإصلاح متأثرًا بانتشار الوعي القومي بين شعوب الدولة العثمانية أوسع؛ لأنه يشمل العاملين على إصلاح الدولة على أساسٍ لاقومي أو مضادٍّ للأساس القومي (ويدخل في ذلك رجال حكومة السلطنة)، وأوسع لأنه يشمل العاملين في حركات الإصلاح الإسلامي (وهؤلاء أيضًا لا يؤكدون — على الأقل — الناحية القومية، إن لم يستنكروها). ولكن الوعي القومي أخذ شيئًا فشيئًا يتأثَّر بجهود المصلحين وسيشكلها ويوجهها نحو التنظيم على أساسٍ قومي، بل إن رجال السلطنة سيتَّجِهون إلى تغليب المصلحة القومية التركية على كل اعتبارٍ آخر، بيد أن الوعي القومي في الشعوب العربية تأثَّرَ بعاملين: أحدهما عامل الوطنية (مصر مثلًا) والآخر عامل القومية (الأمة العربية)، وسنزيد هذا كله تفصيلًا فيما يلي من الفصول.
وقد اعتاد الكتاب الأوروبيون أن ينسبوا انتشار الوعي القومي بين ترك وعرب ويونان وصقالبة وأرمن الدولة العثمانية إلى محاكاة من جانب هذه الشعوب للحركات القومية الأوروبية. وهذا وَهْمٌ فإنَّ اليوناني لا يحتاج لكي يشعر بيونانيته أو المصري بمصريته إلى أن يقلد شعور الإنجليزي — مثلًا — بإنجليزيته، إنما الذي تأثَّر به المصري أو اليوناني هو أوضاع التنظيم على أساسٍ قومي، وهذا التنظيم هو الذي سبقتنا أوروبا إلى إيجاده.
وننتقل الآن إلى شرح تاريخ الإصلاح عمومًا والإصلاح متأثرًا بالوعي القومي خصوصًا خلال هذه الحقبة من الزمان. وقد يعيننا على إيضاحا أن نتناولها في أدوارٍ أو مراحل.
(٤-١) الدور الأول: ونقرنه باسم السلطان سليم الثالث (١٧٨٩–١٨٠٧)
- (١)
سبق توليه الحكم الحروب الروسية التركية (١٧٦٨–١٧٧٤) التي ختمت بمعاهدة الصلح المشهورة كجك قينارجي، وكانت حربًا خاسرة بالنسبة للعثمانيين.
- (٢)
وصحب هذه الحرب استثئار علي بك الكبير بحكم مصر دون السلطات العثمانية الشرعية، وتدخله في شئون جنوبي الشام واتخاذه مظاهر السلطان المستقل في مصر والحجاز. والدولة وإن تغلبت على علي بك بإثارة مملوكه محمد أبي الذهب فإن أمور مصر والشام سارت من اضطرابٍ إلى اضطراب في عهد مراد بك وإبراهيم بك إلى أن قدَّمَها الفرنسيون في حملتهم المشهورة.
- (٣)
وصحب هذه الحرب أول محاولة لليونان للحصول على استقلالهم، والعراق أمره للمماليك دون السلطات العثمانية، وفي سائر الولايات الآسيوية والأفريقية والأوروبية السلطات الشرعية مغلوبة على أمرها، فإما متآمرون يحاولون إنشاء حكم مستقر (وهذا أحسن ما كان هناك) وإما عصابات لا تختلف في وسائلها وأهدافها عن قُطَّاع الطرق، وحقوق السلطنة وواجباتها معطلة.
- (٤)
وتتحرك الاضطرابات التي تمخضت عنها الثورة الفرنسية من بعد ١٧٨٩، ويزداد أمر أفراد طوائف السلطنة (الملل) اضطرابًا، فبعد أن كان الأمر قاصرًا فيما يتعلق بهم على مجهودات المبشرين الغربيين لاجتذابهم إلى حظيرة الكثلكة الرومانية، وعلى المعاملات القائمة بينهم وبين التجار الأوروبيين، بدأت تنتشر نداءات إلى عقائدهم تتسم بدعوة الحرية، وهي في نظر السلطات العثمانية بل وفي نظر الرؤساء الدينيين للملل إباحية مطلقة أو إلحاد.
- (٥)
وأخيرًا وفي ١٧٩٨ يحدث ما لم يكن أحد يتصوَّره؛ ذلك قدوم حملة فرنسية برية بحرية لامتلاك مصر، مفتاح الحرمين وإنسان عين السلطان.
وهذه الحملة يبدأ بها تحول في مشروعات الفتح في ولايات الدولة العثمانية، فقبل هذه الحملة كان الضغط الأوروبي المباشر على الولايات البلقانية أو حول سواحل البحر الأسود أو على سواحل البحار العربية الآسيوية، أو بعبارةٍ أخرى كان يتم اتصال الأوروبيين بالشرق بالالتفاف حول العالم العثماني الأفريقي الآسيوي. أما الآن فقد أخذ الأوروبيون يهمون باختراق ذلك العالم، وامتلاك أقصر الطرق بين الشرق والغرب.
هذه — في إيجاز — صورة العالم العثماني في العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر، ماذا تصنع السلطنة؟
من العثمانيين إذ ذاك (كما هو الحال عند سائر الأمم في كل زمان) من قرر أن الأنظمة التي حققت للعثمانيين العزة والرفعة بين الأمم في زمنٍ مضى كفيلة بأن تحقق لهم العزة والرفعة من جديد إن هم عادوا إليها مطهرة خالصة من شوائب الفساد وسوء التطبيق. والواقع أني لا أعرف زمانًا حدث فيه عودة الناس إلى الأنظمة قبل أن يعتورها الفساد حتى ولو ادعى زعماؤهم أنهم يفعلون ذلك. كان ذلك حينما كان التغيير يتخذ مظهر العودة للقديم الطيب على اعتبار أن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. واستمر الحال كذلك إلى أن تبدَّلت الأوضاع فاعتبرت المحافظة رذيلة والتغيير فضيلة، وفي الحالتين الأولى والثانية غفل الناس عن أنهم يهتمُّون بالعرض ويهملون الجوهر.
ولم تكن المسألة كما واجهت سليم الثالث ورجاله مسألة أيهما أصلح: هل نجدد تمامًا أو نخلص الحاضر من شوائبه؛ الأمر الذي واجهه كان أخطر: ما وسيلة إنقاذ البلاد من هوة الفوضى التي تردَّتْ فيها؟ الوسيلة الوحيدة: الحكومة القوية الفعالة. وماذا نتخذ لتحقيق ذلك؟ أن نعطيها أدوات السلطان الصالحة: الجند في البر والبحر. فلنصلح الجند، وإصلاح الجند هو عقدة العقد في تاريخ الدول الإسلامية.
والجند عند العثمانيين يتركَّب من عنصرين: أحدهما نستطيع أن نسميه العنصر النظامي أو الثابت والآخر العنصر الإقطاعي؛ فأما العنصر النظامي فكان يتركب من فتيان ورجال نشئوا أرقَّاء ودُرِّبُوا منذ حداثتهم على شئون الحرب وانقطعوا لها، وتُجري عليهم الدولة أرزاقهم. ومن أشهر هؤلاء العسكر النظاميين ألينتيشري أو الانكشارية. وأما العنصر الإقطاعي فيتركب من رجال يحوزون الأرض التي يزرعون مقابل أداء الخدمة العسكرية عندما يُدعَون لها في أوقات الحروب. وقد اختلَّ أمر العنصرين: فصارت القاعدة أن يقيد في صفوف العسكر النظامي الأحرار، كما كثر في صفوفهم الدخلاء الذين لا يباشرون حربًا. وقد يكون منهم الباعة أو الفطاطرية أو القهوجية وما إلى ذلك، وتضخَّمت الأعداد وناءت الدولة بمرتباتهم.
ولما اختل أمر الجباية كان يعيث الجند فسادًا ونهبًا ليحصل على قوته. ويقال إن مبدأ قيد غير المحاربين في سجلِّ الجند كان عندما أحب أحد السلاطين أن يكافئ المهرجين الذين اشتركوا في مهرجانات ختان ابنه فقيَّدهم في سجلات الجند. وأما العنصر الإقطاعي فقد اختلَّ عندما صارت الإقطاعات تمنح لا لأداء الخدمة العسكرية ولكن لبواعث أخرى كالإحسان أو الحظوة أو الرضا أو ما إلى ذلك، ففقدت الدولة بهذا خدمة عسكرية كانت تؤدى بلا نفقة؛ فإن الجندي الإقطاعي كان يحضر معه حصانه وسلاحه.
ولم يكن من الممكن عمليًّا أن يعود سليم الثالث لجمع جيشه النظامي، كما كان يفعل أجداده، من الأرقاء، كما لم يكن من الممكن عمليًّا أن يعود بالإقطاعيين إلى قواعد الإقطاع القديمة. وكانت الخطة التي اختارها هي أن يؤلف فرقًا جديدة مدربة تدريبًا حديثًا متصلة الصلة بالقوات التقليدية، وأن يدعوها «النظام الجديد»، وكان رجاءه أن ينمو النظام الجديد إلى أن يكون هو النظام الوحيد، وأن تجد فيه الدولة أداة الحكم القوي والدفاع الناجح، وسهل عليه أن يستخدم مدربين أوروبيين في المدفعية وفي دور بناء السفن؛ إذ إن الأسطول أيضًا كان موضع اهتمامه.
دل هذا على أن السلطان سليمًا ولى وجهه في أمور تدريب القوات الحربية نحو الأنظمة العسكرية الغربية، ودل هذا على استعداد لإنشاء صلات بالغرب، وعلى هذا نجده ينشئ تمثيلًا سياسيًّا لبلاده في العواصم، لندرة وباريس وفينا، بعد أن كانت الدولة العثمانية لا توفد للممالك الأوروبية إلا سفارات لمهماتٍ خاصة، يقضيها السفير ويعود لبلاده، وهذا بينما كانت الدول الأوروبية ممثلة دائمًا ببعثات سياسية دائمة، فاتجاه سليم نحو إنشاء تلك الصلات كان اتجاهًا جديدًا دلَّ على إدخال شيء من التعديل على وجهة نظر كانت تقضي باعتبار الصلات بغير دار الإسلام شرًّا لا بد منه أحيانًا.
ولم يصفُ الجو للسلطان سليم للمضيِّ في سياسة الإصلاح، ندرك هذا إذا تذكَّرنا أن ما بقي له من سني الحكم بعد غزو نابليون لمصر في ١٧٩٨ عاصر جو الحركة العنيفة التي بعثتها الثورة الفرنسية وقبض نابليون على أزمة الحكم في بلاده، وهذه الحركة امتدت آثارها السياسية لسياسة الباب العالي ولأحوال ولاياته؛ فأشاعت جوًّا مضطربًا في القسطنطينية، وانتهز الفرصة أعداء التجديد فكانت ثورات الجند القديم وطلاب المعاهد الدينية ومن انضمَّ إليهم في سنتيْ ١٨٠٦ و١٨٠٧؛ وخلع السلطان سليم في ١٨٠٧ وولَّى الثائرون مكانه ابن عمه مصطفى الرابع. وتحرك أنصار سليم في سنة ١٨٠٨ لإعادته للعرش ولكنهم لما وصلوا إليه في معتقله وجدوه مقتولًا بأمر مصطفى الرابع، فلم يستطيعوا إلا الانتقام له بقتل قاتله وأجلسوا على العرش محمودًا الثاني، أخا مصطفى الرابع، وكان ذلك في سنة ١٨٠٨.
(٤-٢) الدور الثاني: ونقرنه باسم السلطان محمود الثاني (١٨٠٨–١٨٣٩)
فترة مهمة حكم هذا السلطان: تأكد فيها الاتجاه الجديد الذي بدأه سلفه سليم.
- أولًا: اجتاز محمود بسلامٍ في السنوات الأولى من حكمه — أي من سنة جلوسه على العرش في ١٨٠٨ إلى سقوط نابليون ومؤتمر فيينا في ١٨١٥ — عواصف تلك الفترة.
- ثانيًا: وفي أوائل حكمه كانت قد بلغت أوجها قوة الإمارة السعودية
النجدية عاملة تحت لواء الإصلاح الديني المنسوب للشيخ محمد بن
عبد الوهاب.
ثم زال سلطان هذه الإمارة بسقوط الدرعية في يد قوات إبراهيم باشا في سنة ١٨١٨. وأصبح النفوذ في الجزيرة العربية وخصوصًا في الحجاز وسواحل البحر الأحمر، للحكومة المصرية إلى أن انسحبت قواتها من بلاد العرب في سنة ١٨٤٠ على أثر التدخل الأوروبي المسلح ضدها.
- ثالثًا: وأثناء ذلك كان محمد علي قد سار قدمًا في خطط التجديد وهدفها القوة بجوانبها الثلاثة: التنمية الاقتصادية (قوة المال)، الجيش والبحرية الوطنيان (قوة الحديد)، التعليم الحديث (قوة العلم). وسنشير بعد قليل إلى خطط محمود في التجديد، ولا نريد بهذا مقارنة أو تفضيلًا، فظروف محمود أصعب ومشكلاته أعقد.
- رابعًا: إلحاق محمد علي الأقطار السودانية في حوض النيل بالمجتمع العثماني، ابتداء من حوالي ١٨٢٠.
- خامسًا: قيام الثورة اليونانية ضد الحكم العثماني في شبه جزيرة
المورة ابتداءً من سنة ١٨٢٠ ونجاح تلك الحركة، فعهد السلطان
محمود إلى محمد علي أن يتولى إخماد الثورة، وقبل محمد علي
وتولى ابنه إبراهيم باشا القيادة ونجح في التغلب على الثوار.
ولما ضاق السلطان ذرعًا بعصيان الانكشارية وفتنهم لم يتردد في
الفتك بهم جموعًا وأفرادًا، وذلك في سنة ١٨٢٦، وهذا على الرغم
من ظروف الثورة اليونانية.
وتدخلت الدول العظمى لإنشاء مملكة يونانية صغيرة مستقلة، ولكن محمودًا رفض الاتفاق؛ فحطمت الأساطيل الأوروبية المشتركة الأسطولين المصري والعثماني في خليج نافارينو، وأعلنت الروسيا الحرب على الدولة، وانتهى كل هذا بتسليم السلطان باستقلال اليونان في الحيز الضيق الذي حدد لمملكتهم، وخارج حدودها يونان كثيرون في البلقان وفي جزر الأرخبيل وفي الأناضول يحلمون بإحياء بيزنطة بكرسيها في القسطنطينية؛ ولهذا الحلم نتائجه خلال القرن التاسع عشر، ثم في الحرب العالمية الأولى وخواتيمها. وشهدت الساعات الأخيرة لهذا الحلم اليوناني بطولة مصطفى كمال ومولد الجمهورية التركية.
- سادسًا: وفي ١٨٣٠ غزو فرنسا للجزائر وابتداء فتحها.
- سابعًا: وفيما بين ١٨٣٠ و١٨٤٠ كان الاشتباك المسلح بين جيوش السلطان
وجيوش محمد علي، والمؤرخون مختلفون فيما بينهم على أهداف محمد
علي. أما عن أهداف السلطان فلا اختلاف، فمحمود يعمل دائبًا على
تقويض نفوذ الولاة من نوع محمد علي؛ فقد حطَّم (كما رأينا من
قبل) الأسرة القرامانلية في طرابلس الغرب، ونجح فجعل من طرابلس
الغرب ولاية عثمانية عادية لا يتوارثها أعضاء بيت معين، ويسري
عليها ما يسري على الولايات من أنظمة … ونجح في نفس الوقت
تقريبًا في وضع نهاية لغصب الباشوات المماليك لولاية بغداد
وحوَّل هذا أيضًا إلى ولاية عثمانية عادية.
أما بالنسبة لمحمد علي فأعتقد أنه سعى عمليًّا لتحقيق أغراض محددة تتلخص في استقلال مصر استقلالًا فعليًّا، وضمان هذا الاستقلال. وكانت الضمانات هي: الحكم الوراثي واعتراف الدول الأوروبية به، وإدخال مناطق معينة في نطاق الإدارة المصرية هي الأقطار النيلية والحجاز وسواحل البحر الأحمر الأفريقية والعربية وسورية. وفي رأيه أن اتساع مصر على هذا النحو يكفل سلامتها؛ وذلك لأنها تجد في هذا الملك المتنوع الصفات، الفريد الموقع، المواردَ التي تُقِيمُ عليها قوتها الاقتصادية؛ ولأنها تجد فيه أيضًا ضمان سلامتها الحربية، ويكسب هذه الأقطار وحدة وقوة أنها تكون قسمًا كبيرًا من العالم العربي. وقد قدَّر محمد علي أهمية هذا لا على أساس العاطفة أو الشعور بل على أساس آخر هو أن ما بين تلك الأقطار من صلات الموقع الجغرافي والتكامل يزيدها قوة انتماء أهليها للأمة العربية.
أما عن العلاقة بالسلطنة العثمانية فأعتقد أنه رأى فوائد في عدم الانفصال عنها؛ من هذه فوائد سلبية، فهو بعدم إعلان الاستقلال يتجنَّب إثارة الأهلين وهم إذ ذاك متعلِّقون بالعرش العثماني وبالخلافة الإسلامية، كما أن محاولة الانفصال تؤدي دون شك إلى أزمة أوروبية كبيرة، وإلى إيجاد جو سياسي غير صالح لتحقيق أمانيه بموافقة الدول. أما الفوائد الإيجابية فقد قرر أنه إذا حصل على ما يصبو إليه داخل السلطنة أصبح المتحكم في توجيهها، المسيطر على سياستها، وقد عبر هو بأنه عندئذٍ يعمل على إحياء قوتها وإعادة عظمتها. وعلى كل حال فليس هناك ما يدعو للإفاضة في التحليل بعد أن تألَّبت الدول العظمى (فيما عدا فرنسا) ضد اتساع مصر واستغلالها، وفرضت عليها قيود التسوية الأوروبية في سنة ١٨٣٩–١٨٤١.
هذا؛ وأما بالنسبة إلى آثار تلك الفترة في اليقظة أو النهضة العربية، فسندرسها في القسم الثالث من هذا المنهاج.
ولم يعش السلطان محمود الثاني ليرى أوروبا تقتصُّ له من تابعه؛ فقد أنهكته أزمات حكمٍ دام ثلاثين سنة ومات قبل أن يبلغه نبأ انتصار المصريين على جيوشه في نزيب عام ١٨٣٩. وعقب وفاته سلم قائده البحري الأسطول العثماني لمحمد علي في الإسكندرية.
ودور التجديد المقترن باسم محمود الثاني جد خطير في تاريخ الحركة كلها، ومحمود الثاني واضع أساس الحكومة الحديثة في الدولة العثمانية، الحكومة التي تزعم لنفسها حق السلطان الكامل، وهي في نفس الوقت تتكفَّل بأداء واجبات وتتحمل مسئوليات مما لم يكن للرعية عهد به قبل ذلك.
حارب محمود ادعاءات أصحاب العصبيات وأصحاب الحقوق المكتسبة في كل مكان، ونجح في طرابلس الغرب في إزالة القرامانلية، وفي بغداد الباشوات المماليك، وفتك بالانكشارية، وجعل «النظام الجديد» الذي بدأه سلفه هو النظام السائد، وقضى على «أمراء الوادي» في الأناضول وكانوا إقطاعيين لا معقِّب لكلماتهم في إقطاعاتهم، وحاول أن يُلغِيَ الاحتكارات.
وأخيرًا كسب محمود لطاعة الدولة من حيث لا يحتسب. فإن مصر لما انسحبت في ١٨٤٠-١٨٤١ من الولايات التي كانت تديرها تسلَّمت الدولة تلك الولايات وقد عرفت من معاني الطاعة والنظام ما لم تكن تعرفه قبل خضوعها للإدارة المصرية!
(٤-٣) الدور الثالث: ونقرنه باسمي السلطان عبد المجيد (١٨٣٩–١٨٦١) والسلطان عبد العزيز (١٨٦١–١٨٧٦)، دور تنظيم الدولة الحديثة ومحاولة إنشاء النظام النيابي
- أولًا: إكمال بناء الإمبراطورية الألمانية في ١٨٧٠، نظامها نظام دولة اتحادية، وكمل البناء بعد التغلب حربيًّا على النمسا ثم على فرنسا.
- ثانيًا: إتمام بناء الوحدة الإيطالية واتخاذ روما عاصمة لها، وكان
نظامها النظام الملكي الدستوري، وأمرها يهمنا، فهي دولة تقع في
البحر المتوسط، واتصالها وثيق قديم بسواحله، وستنمو لها مع
الزمان مطامع وأحلام موضوعها إحياء الملك الروماني القديم في
البحر المتوسط، والإمبراطورية النمسوية تجدد دستورها في سنة
١٨٦٧ على أساس إنشاء دولة ثنائية من النمسا وما يلحق بها، ومن
المجر وما يلحق به. وأخيرًا نذكر الروسيا في حكم قيصرها نيقولا
الأول ذي اليد الحديدية، وبعده قياصرة آخرون يختلفون عنه في
الآراء الخاصة بالإصلاح الداخلي ولا يختلفون عنه في السياسة
الخارجية الواجب اتباعها.
وفي الغرب كان إحياء الإمبراطورية النابليونية في شخص نابليون الثالث، فتأليف هذه الإمبراطوريات على هذا النحو جاء بعد فشل الحركات الثورية المختلفة، ثورات سنة ١٨٤٨؛ أي إن العقود من ١٨٥٠ ومن ١٨٦٠ ومن ١٨٧٠ تمثِّل تثبيتًا وتنظيمًا في عناصر الحياة الأوروبية مكَّنَها من التقدم الاقتصادي، والأخذ بأسباب القوة الحربية، ونشأ عن هذا كله تنظيم سوق مالية عالمية واحدة، كما نشأ عنه أن البت النهائي في مشكلات العلاقات بين الأمم، سواء أكان نطاق هذه العلاقات أوروبيًّا أم غير أوروبي آل ابتداءً من ذلك العصر وفيما يليه حتى قيام الحرب العالمية الأولى إلى «الدول العظمى»، وستحاول الدول الصغرى وما نسميه «الدول» تجاوزًا أن تَلفِت النظر لوجودها بمختلف الوسائل، وأن تلحق كل واحدة منها (وخصوصًا في البلقان) بحامية أو ولية أمر من بين الدول العظمى.
- ثالثًا: انتشار النفوذ الأوروبي ممثلًا في هذه الدول الكبرى في جميع أنحاء العالم، وأخذها بأسباب السيطرة على الدول والحضارات غير الأوروبية: الصين، اليابان، فارس، المغرب الأقصى، الدولة العثمانية وولاياتها.
- رابعًا: الحضارة الأوروبية تستهوي وتنفر غير الأوروبيين في آنٍ واحد، ينجذبون نحوها، آنًا طوعًا وآنًا كرهًا، ويمدحونها ويذمونها، وهم دائمًا يأخذون بأسبابها، ولا يزالون يفعلون، مهما يقولون.
ننتقل إلى سير الحوادث خلال هذه الحقبة من التاريخ العثماني:
بدأت الحقبة في ١٨٣٩ بأزمة العلاقات المصرية العثمانية، وكانت التسوية «الأوروبية» قاضية بوضع مصر في موضعٍ ينتهي حتمًا بارتباك شئونها ارتباكًا يقضي على ما لَهَا من استقلالٍ داخلي محدود، وتفسير ذلك أن شرط المحافظة على الاستقلال حرية الحركة، فإذا منحت أمة ما استقلالًا داخليًّا وحالت قيود السيادة العثمانية والامتيازات الأجنبية دون حرية الحركة انقلب استقلالها المحدود وبالًا عليها، فالاستقلال المحدود يغري بالتصرف على غير أساس.
وإذا انتصرت الدول العظمى للدولة العثمانية على هذا النحو فإنها كان يسرها أن يؤكد السلطان الجديد عبد المجيد استعداده للسير في طريق الإصلاح؛ فأصدر السلطان في نوفمبر ١٨٣٩ العهد المشهور باسم خط كلخانة، وهو وثيقة لها خطرها في تاريخ التجديد، وفيها وعد السلطان بأن يضمن لكل رعاياه على اختلاف مللهم الحياة والشرف والمال، وشرح في إيجاز الخطوات التي سيتخذها لجعل تلك الضمانات نافذة، وخط كلخانة — فيما رأى — من معالم تطور الدولة الإسلامية، وسنعود بعد قليل للكلام عنه بتفصيلٍ أكثر، وهو يستحق هذا — فالذين أصدروه كانوا مؤمنين به — وإن ما أصاب وعود العهد من قصور التنفيذ لا يرجع لعدم الإيمان بها، بل هو يرجع لأن الصعوبات كانت فوق طاقة الرجال.
نشير بعد هذا إلى ما كان في لبنان من اضطراب طائفي في العقد الخامس من القرن (أي من بعد سنة ١٨٤٠)، نشير إليه لأنه يتطور في سنة ١٨٦٠ إلى ما هو أخطر وإلى ما سيكون من أثر حوادث سنة ١٨٦٠ في وضع نظام خاص لحكم لبنان، وما بين طوائف لبنان من توازن قابل سريعًا للاختلال. وكانت السياسة التي اتبعتها الإدارة المصرية وخصوصًا في اضطرارها للاعتماد على طوائف دون أخرى، وفي محاولتها إدخال نظام التجنيد ونزع السلاح عاملًا من عوامل اختلال أمور الطوائف. نضيف إلى هذا أن الرجال الذين عينتهم السلطات البريطانية القنصلية لإثارة الفتن على الإدارة المصرية وتوزيع السلاح والمال بين رجال بعض الطوائف أخلَّ هو أيضًا بميزان العلاقات بين الطوائف. وأخيرًا عمد أنصار الحكم السلطاني العثماني إلى وضع الثورة ضد الإدارة المصرية على أساسٍ ديني إسلامي. وأخيرًا سقط الأمير بشير الكبير مع سقوط الحكم المصري، وبسقوط بشير زالت نهائيًّا السيطرة العليا لبيت شهاب على شئون الجبل.
وبعد انسحاب المصريين وحدوث الاضطراب الذي أشرنا إليه لم تستطع السلطنة العثمانية أن تستقل بالنظر في ترتيب شئون الجبل وإعادة الهدوء إليه، بل أخذت تشارك في ذلك الدول الأوروبية وبخاصة فرنسا وإنجلترة: فرنسا لما لها من علاقات بتلك الأقاليم (ذكرناها من قبل)، وإنجلترة لما أدَّته للدولة العثمانية من إفساد الأمر على الحملة النابليونية على مصر والشام، ومن إفساد الأمر أيضًا على محمد علي، وللعلاقات التي أنشأتها خلال هذين الإفسادين مع طائفة الدروز.
وهذا الاشتراك الدولي في ترتيب شئون الجبل سيكون هو دستور العمل في لبنان.
هذا ما نكتفي باستخلاصه الآن، ويصح أن نضيف إليه أن الترتيب الذي اتجه إليه في ذلك العقد الخامس من القرن التاسع عشر كان إنشاء نوع من الإدارة الثنائية يشارك فيه الدروز والموارنة.
والاضطراب الطائفي كان أيضًا من أسباب إثارة أزمة أوروبية انتهت باشتعال الحرب المشهورة باسم حرب القرم (١٨٥٣–١٨٥٦)، وأصل الفتنة الطائفية خلاف بين السلطات الكاثوليكية والسلطات الأرثوذكسية على أيهما يتولى رعاية بعض الآثار الدينية في بيت المقدس. وانتصرت فرنسا للكاثوليك بحكم كفالتها لهم من أزمنةٍ قديمة وبحكم اعتراف الدولة العثمانية بذلك في معاهداتها مع فرنسا، وتحمست فرنسا لهم بحكم أن إمبراطورها نابليون الثالث كان قد فرض سلطانه الإمبراطوري على فرنسا وكان يعتمد لتوطيد سلطانه على العناصر المحافظة والمتدينة من رعاياه، هذا إلى شيءٍ في نفسه نحو شخص قيصر الروسيا (وهو المنتصر للأرثوذكس) نيقول الأول. ونيقولا الأول هذا كان ينظر إلى نابليون الثالث نظرة أصيل النعمة إلى محدَثِها، فأخذت السياسة الفرنسية تضغط على السلطات العثمانية لتفصل الخلاف بين الأرثوذكس والكاثوليك فصلًا يرضي الأخيرين ويحرم الأولين.
وكانت حماية الطوائف الأرثوذكسية بالنسبة للقيصر نقولا الأول مسألة كرامة شخصية فوق كونها مسألة مصلحة روسية.
ولو أن الأمر اقتصر على الفصل في الخلاف حول الآثار الدينية لما تطور إلى حربٍ، ولأمكن للدولة العثمانية أن تفصل في شأنه على وجهٍ مقبول من الطرفين — وفعلًا تمكنت الدولة في النهاية من أن تضع حلًّا — إلا أن الأمر لم يقتصر على ذلك فقد تقدمت الحكومة الروسية بمطالب لو كانت الدولة العثمانية قبلتها لخرج رعاياها الأرثوذكس (وأغلب مسيحيي الدولة على هذا المذهب) من سلطانها، فرفضت الحكومة العثمانية المطالب وكانت الحرب وغزت الجيوش الروسية أراضي السلطان في البلقان.
وقد شجع مندوبا فرنسا وبريطانيا في القسطنطينية حكومة السلطان على عدم قبول المطالب الروسية، وفي النهاية دخلت الحكومتان الغربيتان الحرب في صف الدولة في سنة ١٨٥٤، واتخذت الدولتان هذا الموقف لأسبابٍ أهمها منع الروسيا من إخضاع الدولة العثمانية لسيطرتها، ومن الأسباب أيضًا ما كان يسود الرأي العام في فرنسا وفي بريطانيا من كره للروسيا واعتبارها معقل الحكم المطلق وعدوة حرية الشعوب واستقلالها. ومن الأسباب أيضًا أن من المطلعين على شئون الدولة العثمانية من الغربيين من كان يعتقد إذ ذاك أن حكومة السلطان لو أعطيت شيئًا من الطمأنينة لأمكنها أن تحقق لرعاياها سلامًا وخيرًا.
والدولة العثمانية — من جهتها — اتخذت خطوات إيجابية لخير رعاياها، فأصدر السلطان عبد المجيد في ١٨٥٦ عهده المشهور باسم الخط الهمايوني، وأكثر ما في العهد يتعلق بحقوق الطوائف غير الإسلامية ومصالحها — وسنعود إليه بعد قليل — ويكفي الآن أن نقول: إن الخط الهمايوني يبني دستور الدولة على أساسٍ طائفي. أما النزعة التي كانت تنمو إذ ذاك في بعض الأوساط التركية فكانت تدل على فكرة أخرى هي المواطنون المنتسبون لأمة واحدة المولين وجوههم شطر دولة واحدة. وسنعود إلى هذا أيضًا وإلى شرح كيف وجدت هذه الفكرة ومَنِ الذين فكروا فيها.
وتدخلت الدول الأوروبية، وأرسلت فرنسا تجريدة عسكرية، ودارت مفاوضات طالت حتى سنة ١٨٦٤، وعلى أساسها صدر تنظيم للجبل يحدد حدوده، فلا يدخل في نطاقه بيروت وطرابلس، إنما يدخل فيه حيز من الساحل يحتوي على ثغور إن صحت تسميتها من نوع جونية أو البترون، ولا يدخل فيه شيء من إقليم البقاع. فالجبل هو الجبل، وأخضع الجبل للسيادة العثمانية على أن يتولى إدارة شئونه متصرف مسيحي يعينه السلطان ويعاونه مجلس. وتاريخ لبنان من ١٨٦٤ إلى الحرب العالمية الأولى بتطوره الاجتماعي وشئونه الإقطاعية والإكليروسية والهجرة منه ومساعي الأوروبيين (ونضيف إليهم ابتداءً من هنا الأميريكيين) للاتصال بطوائفه ورعايتهم وخدمتهم ومعاهده التعليمية الوطنية وجمعياته وأنديته ومطابعه وأدبائه وعلمائه تاريخ حافل حقًّا، على أنه يجب أن يتسع هذا التاريخ ليشمل مساعي اللبنانيين في مهاجرهم.
وأثناء الأزمة اللبنانية توفي السلطان عبد المجيد في ١٨٦١، وتولى السلطنة أخوه عبد العزيز — وقد زار مصر بدعوةٍ من تابعه الخديو إسماعيل، وكان هو وفاتح مصر السلطان سليم الوحيدين من آل عثمان اللذين زارا هذه البلاد — وشارع عبد العزيز يذكر بها.
وبين عهد عبد العزيز في الدولة عامة وعهد إسماعيل في مصر أوجه شبه كثيرة، أهمها آثار إدخال أدوات المعاملات المالية الأوروبية في مجتمعٍ كان لا يزال محتفظًا بأدواته القديمة، وكان هذا الإدخال فوق ذلك قد حدث دون إدراك واضح لشروط تلك المعاملات الأوروبية ومقتضياتها وآدابها، فكان الخراب الذي لم يجتح المالية العامة وحدها، بل اجتاح أكثر أصحاب الأرض الزراعية وأكثر التجار، وهي ظاهرة في تاريخ مصر في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وقد استمرت إلى أن جاءت الحرب العالمية الأولى فهيأت للاقتصاد المصري رغمًا عنه فصلًا جديدًا في تاريخه.
ومن أوجه الشبه أيضًا ما ناءت به الطبقات الكادحة من ثقل الأعباء التي حملها إياها الارتباك المالي أو الإفلاس أو مواجهة الدائنين الخارجيين والداخليين، وكانت أعباء من الثقل بحيث لم تكن تعني الضيق ولكنها كانت تعني الجوع وتعني الموت جوعًا، وهذا خصوصًا بين فلاحي مصر.
ومن أوجه الشبه أيضًا أن ما حاوله السلاطين والخديويون من إقامة الحكومة العامة المهيمنة على جميع المرافق أدى في مصر وفي الدولة العثمانية إلى انتشار الاعتقاد بأن إطلاق يد حكومة من هذا النوع قد نشأت عنه مفاسد أشكالها ومظاهرها غير أشكال المفاسد القديمة، وظهرت الحاجة إلى غَلِّ يد الحكومة — أو على الأقل مراقبتها ومحاسبتها — وذلك بإنشاء النظام النيابي البرلماني وفق ما اهتدت إليه تجارب الأمم الأوروبية، وانتشرت هذه الأفكار بين الأعيان وبين من أصابوا حظًّا من التعليم الحديث وعملوا في الإدارة وفي الوظائف الفنية والعسكرية. ولم يكن ضباط الجيش العثماني أو الجيش المصري أكثر الجماعات المكونة منهم ومن أمثالهم قبولًا للأفكار السياسية الجديدة، ولكن تهيأت لهم بحكم ظروفهم فرص للعمل لتحقيقها لم تتهيأ للآخرين، وهذا من حيث فرض الاجتماع والتجمع ومن حيث التدرج من أصغر إلى أكبر، وهكذا فالجيش أداة عمل قبل أن يكون شيئًا آخر، وهو أداة في يد الحكومة، وقد يكون أداة العمل لإسقاطها أو تشكيلها على وجهٍ آخر.
والواقع أن ضباط الجيش العثماني في عهد عبد العزيز وضباط الجيش المصري في عهد إسماعيل لم يكونوا أول من تحرك لتغيير أنظمة الحكم — سبقهم إلى ذلك المدنيون — بل سبقهم إلى ذلك في مصر رجال لم نعتد أن نقرن أسماءهم بالثورات والانقلابات من أمثال نوبار ورياض وشريف — ومن مسائل التاريخ العثماني والمصري الممتعة كيف بدأ اتصال العسكريين بتلك الحركات.
وزاد نشاط الدستوريين في القاهرة والقسطنطينية، وبينما الأزمات التي كان يواجهها إسماعيل ميدانها مصر وعناصرها تتكون من التدخل الأجنبي ومن مطالب المصريين، كانت أزمات عبد العزيز أشدَّ تعقيدًا بحكم ما بين مصر والدولة العثمانية من فروق فبالإضافة إلى ما يجري بمصر — وهو أيضًا من الشئون التي تهم الدولة — واجه عبد العزيز الاضطرابات القومية في البلقان، وانفجرت الفتنة في إقليم الهرسك في سنة ١٨٧٥، وامتدت الحركة لأقاليم أخرى، منها بلغاريا حيث ارتكب الجند العثماني غير النظامي (الباشبوزق) فظائع أهاجت الرأي العام الأوروبي، وتدخلت الدول الأوروبية فيما هو جارٍ وأعلنت الروسيا الحرب على الدولة العثمانية في ١٨٧٧، وكانت الحرب المشهورة ووصول الروس إلى قرب العاصمة العثمانية، وعقد معاهدة الصلح المعروفة باسم معاهدة سان إستيفانو في ١٨٧٨، وتعديلها في معاهدة برلين في نفس السنة نتيجة لمداولات مؤتمر أوروبي، وسنعود لهذه الحرب والمعاهدتين ببيان أوفى، فإنها حدثت في عهد سلطان جديد سننتقل إليه بعد قليل؛ ذلك أن الدستوريين تمكَّنوا من خلع عبد العزيز في ١٨٧٦، وبعد مدة قصيرة من خلعه وُجِد عبد العزيز مقتولًا، واختلفوا في هذا، فقيل إنه اغتيل، وقيل إنه انتحر.
وبعد خلعه ولى القائمون بالحركة مراد الخامس (وهو ابن عبد المجيد)، ثم تبينوا ضعف عقله فخلعوه واعتقلوه وولوا أخاه عبد الحميد الثاني، وسندرس أحداث زمانه في فصلٍ منفصل لأهميته.
- (١)
إتمام حفر قناة السويس وفتحه للتجارة الدولية في ١٨٦٩، وهو مشروع دولي يؤخذ على الخديو سعيد تبنيه وتعضيده، وكان الأولى به أن يدرك — كما أدرك محمد علي — أن المشروعات من هذا النوع تودي باستقلال الأمم المكبلة بقيودٍ وأغلال تحد سلطانها وتمنعها من الأخذ بأسباب التقدم. وكان سعيد يستطيع أن يجد في معارضة السلطنة وبريطانيا للمشروع عونًا يمكنه من مقاومة ضغط فرنسا لتبني مشروع وصل البحرين.
- (٢)
استمرار فرنسا في أعمال الفتح والاستعمار في الجزائر.
- (٣)
ارتباك في تونس من نوع ارتباك مصر والدولة العثمانية.
- (٤)
وأخيرًا نحلل — طبقًا لما وعدنا — الوثيقتين: خط كلخانة والخط الهمايوني.
بدأ عهد كلخانة بالقول بأن في مبدأ الأمر حينما سارت الأمور وفق أحكام كتاب الله وشرائع المملكة سعدت الرعية، ولكن في المائة والخمسين سنة الأخيرة لم تلقَ الشرائع ما يجب لها فأصاب الدولة الضعف والفقر، وانتقل السلطان إلى إعلان الضمانات المشهورة لكافة رعاياه في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، ووعد بإصلاح نظام الجباية ونظام التجنيد والقضاء عن طريق التشريع. ثم بيَّن أن التشريع سيتم بناءً على مداولات مجلسين أو هيئتين؛ أحدهما للشئون المدنية ويتكون من الوزراء والأعيان (المعينين) والقضاة، وآخر للشئون العسكرية من رجالها، وأن كل قانون تنتهي الهيئتان من إعداده يقره ويصدره.
وأعلن أن عهده هذا سيودع في خزانة الآثار النبوية الشريفة، وأنه سيقسم بالعمل وفق أحكامه بحضور العلماء وأصحاب المناصب، وأنهم سيقسمون هم أيضًا فردًا فردًا، ومن يحنث بعدُ في يمينه فإنه سيلقى عقابًا، وأن العقوبات سيصدر بها قانون خاص، كذلك عرض العهد لشئون الموظفين وإعطائهم المرتبات المجزية والانتظام في دفعها، وعرض للرشوة وندَّد بها وبفظائعها. وأخيرًا ختم العهد بالقول بأن ما يحتويه من تنظيمات هي إما تعديل للأنظمة القديمة للدولة أو تبديل أنظمة جديدة لها.
أما الخط الهمايوني فكان أكثر تحديدًا ووضوحًا.
بدأ الخط الهمايوني بتأكيد ما ورد في خط كلخانة، كما أكَّد جميع ما منحه السلاطين منذ أقدم العهود للطوائف غير الإسلامية من حقوقٍ وامتيازات وإعفاءات.
ثم طلب إلى هذه الطوائف متفرقة أن تفحص أوضاعها ثم تتقدم إلى الباب العالي بمقترحات الإصلاح التي تتفق مع ما بلغه العصر الحاضر من تقدم في مدارج التمدُّن.
ويحدِّث الخط بعد ذلك عن إجراءات ترشيح وتعيين رؤساء الطوائف وأعضاء مجالسها، وعن إصلاح الكنائس والمدارس والملاجئ، وأمر بأن يحذف من الوثائق الديوانية كل ما كان يرد فيه من ألفاظ وصيغ مهينة لغير المسلمين من الرعايا، كما أمر بعقاب الأفراد الذين يستعملون ألفاظ السبِّ والإيذاء والفحش ضد غير المسلمين من الرعايا. وسجَّل أن المناصب مفتوحة لكل من يستحقها بصرف النظر عن معتقده الديني، وكذلك معاهد التعليم العسكرية والمدنية. وفي الوقت نفسه أباح للطوائف أن تنشئ معاهد تعليم العلوم والفنون والصناعات، وكفل حرية هذه المعاهد التعليمية الطائفية على أن يكون لمجلس أعلى للتعليم مختلط التكوين إشراف على اختيار الطوائف لمدرسي تلك المدارس.
ثم نصَّ الخط على إنشاء محاكم مختلطة، وعلى مبادئ إجراءات التقاضي، وعلى إصلاح السجون، وعلى وضع نظام الشرطة، وحرَّم التعذيب، ونصَّ أيضًا على مبادئ تكوين مجالس بلدية ومجالس للولايات، وعلى نظام البدل في التجنيد، وعلى وضع ميزانية مفصلة للدولة، وعلى وضع عقوبات رادعة عن الرشوة والاختلاس، وعلى تشجيع إنشاء البنوك، وعلى إصلاح النقد — وهذا كله لتكوين رءوس أموال تستخدم في تنمية الزراعة والصناعة — وعلى الاهتمام بالأعمال العامة من إنشاء الطرق والترع وتيسير سبل المواصلات، وعلى إزالة كل ما يعوق التقدم الاقتصادي. وختم الخط بالقول بأن تحقيق هذه الأغراض يكون عن طريق الانتفاع في علوم أوروبا وفنونها ورءوس أموالها.
هذا هو الخط الهمايوني، وسنعيد الكلام على «الطائفية» التي اتجه إليها هذا الاتجاه الواضح عندما نصل للحياة الدستورية العثمانية في مختلف عهودها.
(٤-٤) الدور الرابع: ويقترن بحكم السلطان عبد الحميد الثاني (١٨٧٦–١٩٠٩)
كان عبد الحميد في زمانه ملء الأسماع؛ فهو من أطول آل عثمان مدة حكم، وهو ذو شخصية يحار فيها الناس، وهو وإن غلبت عليه الأوهام أحيانًا واستولت عليه المخاوف أحيانًا أخرى؛ فتصرف تصرف المذعور، أو هاج هياج المسعور؛ فإنه أبدًا يحاول أن يبلغ هدفًا ثابتًا حتى حينما كان يسلك إليه طريقًا معوجًّا: وضع نصب عينيه بناء دولة ترتكز على دعامتين: العثمانية والإسلامية، والعثمانية عنده رابطة تربط شعوبًا تختلف أصلًا وفصلًا ولكنها تتفق رعوية في ملكٍ واحد، والحركات القومية في نظر عبد الحميد تهلك دولة كالدولة العثمانية ولا تنفع أهلها في شيء، فإن نمت العاطفة القومية عند الترك مثلًا فهم — لأسبابٍ تاريخية — يقومون عندئذٍ ببناء دولة تركية تسود الشعوب غير التركية، وإن نمت العاطفة القومية عند غير الترك من شعوب السلطنة دفعها هذا نحو شقِّ عصا الطاعة والارتماء في أحضان الدول الأوروبية، وإن اعتقد أحد أنها تخرج من التبعية العثمانية لتكون دولة مستقلة حقًّا فإن حقائق التاريخ والجغرافيا والاقتصاد تهدم هذا الاعتقاد.
فلمَ لا نتصور إذن إمكان إنشاء رابطة عثمانية تجعل من أبناء الطوائف والملل مواطنين في وطن عثماني واحد؛ وبناءً على ذلك جُعلت (بضم الجيم) العثمانية الأساس لتشريعات التابعية كما عرفوها إذ ذاك (أو الجنسية كما نقول الآن). هذا؛ ولم يقدر «للعثمانية» التغلب على العصبيات القومية من تركية أو عربية أو أرمنية أو يونانية أو ما إلى ذلك. ومع ذلك فهي جديرة بالدراسة الجدية، وهي في حقيقة الأمر من أهم مباحث تاريخ القومية العربية.
هذا عن «العثمانية». أما عن الإسلامية فإن اتخاذها دعامة لخطة الحكم كان من ناحية استجابة من السلطان لموجةٍ من الشعور الإسلامي الصادق دفعت الأمم الإسلامية للاتجاه نحو الدولة العثمانية والالتفاف حول «الخلافة الإسلامية»، وكان السلاطين العثمانيون قد أخذوا منذ القرن الثامن عشر يهتمُّون بإحياء رسومها وألقابها وإبراز صلاتها بالسلطنة.
هذا جانب من الإسلامية. أما الجانب الآخر فهو سياسي؛ ذلك أن السلطان كان يستغلُّ لحدٍّ ما مكانته لدى الشعوب الإسلامية الخاضعة للدول الأوروبية؛ ليحمل الدول الأوروبية على أن تعدل من سياستها نحوه بعضَ الشيء مجاراةً لشعورٍ من تحكم من المسلمين.
وكان السلطان عبد الحميد ملء الأسماع في زمانه؛ لأنه عمل على أن يملأ الأسماع؛ فهو أول السلاطين العثمانيين فهمًا واستخدامًا لما نسميه «البروبجنده»، كما كان إسماعيل أول الخديويين إدراكًا واستغلالًا لها. وقد خلق للرجلين عصرهما أدوات البروبجنده الجديدة، كما شحذ للاستعمال أدواتها القديمة. فأما مثال القديم الذي شحذ فمنظومات النظامين ومنبريات المتصدين للإرشاد وتنبؤات المنجمين، وأما مثال الجديد فالتوجيه الصحفي يتولاه «الصحفيون»: طائفة جديدة في مجتمعنا من نوع جديد من أصحاب الأقلام.
ونلحق بكلامنا هذا عن عمل عبد الحميد على «خلق» بيئة الرأي «الصالح» إشارة موجزة إلى أداتين أخريين اشتهر بهما عصره أيما شهرة: هما «الرقابة على الطبع والنشر» والجاسوسية. فأما الرقابة فقد بلغت حد الهوس وحد السخف؛ فمن أمثلة ذلك حظر استعمال لفظ «دينامو» فقد يذكر بالديناميت، والديناميت مما يستخدم في الاغتيال السياسي، وقد جمع الصحفي المعروف سليم سركيس طائفة صالحة من تصرفات الرقباء تحت عنوان: «غرائب المكتوبجي». وأما الجاسوسية فكانت هي أيضًا من المبكيات المضحكات.
على أن أدوات هذا العصر للدعوة أو لخلق جوِّ الرأي المناسب كانت قليلة المفعول إذا قيست بما بلغه زماننا؛ فجاسوسية عبد الحميد هي جاسوسية القيصرية الروسية المعاصرة له شبكات مهلهلة، وأين هما من الجستابو والأجبو وما إليهما؟! وأين نظامو عبد الحميد وعرافوه من «دعاة» اليوم الذين لا يبشرون بالدعوة فحسب، بل هم «ينظفون» الأدمغة القديمة ويحرصون على ألا يتسرب إلى الجديدة إلا مادة مقررة محضرة. وفن التربية الآن هو تركيب دماغ تستطيع أن تطمئن إلى أنه لا يقبل إلا المادة المقررة المحضرة حتى إذا تركته وحده. وأين عبد الحميد وقياصرة الروس من هذا؟
وعبد الحميد بما حاول أن يوجد وبما حاول أن يمنع شكَّل حركات عصره أكبر تشكيل، وهذا على الوجه الآتي: أصبحت في عهده قضية «الحكم المطلق» القضية الأساسية، وقل التفكير السياسي المنظم المثمر في قضية القوميات وفي حلها حلًّا يتَّفِقُ مع المحافظة على وحدة الدولة. وعلى هذا فكان الكلام في الإصلاح في مختلف نواحيه يجري على أساس لاقومي، إلا أننا نلحظ في نفس الوقت أن الحركة الدستورية عند الأتراك بالذات أخذت تتشكل بشكلٍ قومي تركي، وهذا اتجاه سيكون له ما بعده، وسنحاول أن نشرحه على نحوٍ وافٍ فيما بعد.
وقد يكفي أن نقول في شأنه الآن إن مما قوَّاه إذ ذاك أن من طوائف الدولة أو مللها من كان يحلم بالانفصال عنها مستقلًّا أو مندمجًا في دول أجنبية، ومنها من كان يرجو أن يبقى كما هو يعيش تحت سيادة السلطان محتميًا بدولةٍ أوروبية يستظلُّ بظلِّ سفرائها وقناصلها، ويعيش على هامش جاليتها يشارك في حياتها بالقدر الذي يتمكَّن وخصوصًا في علاقاتها الاقتصادية بالولايات العثمانية. وكان مما قوَّاه أيضًا أن مسلمي الدولة عمومًا تمسَّكوا ببقاء الدولة وودوا لو استطاعت حكومتها أن ترفع أسباب سوء الحكم وأن تحقق لهم من أدوات التقدم ما تستطيع.
وأخيرًا يجب ألا ننسى أن الدولة بأجهزتها الإدارية والقضائية … إلخ كانت شيئًا معقدًا حقًّا، يتعثَّر فعلًا، ولكنه يسير أو يتحرك، ينسى الناس ذلك ولكن الكثير تحقق قبل الحرب العالمية الأولى، فكانت هناك جيوش عثمانية لم يستهن بها أحد إلا جنت عليه استهانته، وكانت هناك عودة من البداوة للحضارة في مناطقٍ فسيحة في فلسطين والأردن وسورية والجزيرة، وكانت هناك طرق تعبَّد وسكك حديدية تُمَدُّ — ومن أشهرها السكة الحديدية الحجازية من دمشق للمدينة المنورة — ومن مشروعات السكك الحديدية الكبرى مشروع سكة حديد بغداد — وله تاريخ حافل — ولم تنتهِ المفاوضات الدولية الخاصة به إلا قبيل نشوب الحرب العالمية الأولى فتعطل، والخط الآن حقيقة قائمة، ولكنه ليس شريان المواصلات بين القسطنطينية والبصرة في دولةٍ عثمانية عظمى.
وكانت هناك ثغور هيئت بالأرصفة والمخازن وحواجز الأمواج … إلخ. وكانت هناك طوائف من رجال الأعمال والإدارة والقانون والآداب والتعليم والطب … إلخ استأنفوا جميعًا العمل في أوطانهم المحلية بعد تفكك الدولة في الحرب العالمية الأولى في الظروف التي عرفها عالم بعد الحرب.
ويحسن بنا الآن — بعد هذه الصورة العامة — أن نستعرض سيرَ الحوادث في هذه الحقبة الحافلة من ١٨٧٦ إلى ١٩٠٩.
عرفنا الظروف التي تولَّى فيها عبد الحميد، عرفنا أن الدستوريين تمكَّنوا من خلع عبد العزيز وتولية مراد الخامس، ثم خلعوا هذا حينما تبيَّنُوا ضعف عقله وولوا عبد الحميد أخاه، واستجاب عبد الحميد للإصلاح الدستوري؛ فأصدر قانونًا أساسيًّا بنظام الحكم النيابي، وابتدأت الحياة الدستورية دورتها الأولى القصيرة.
لم يلبث عبد الحميد طويلًا حتى عطَّل النظام الدستوري، منتهزًا فرصة الأزمة البلقانية التي ابتدأت بالفتنة في إقليم الهرسك وانتشارها بين البلغار وقمع الجند الغير النظامي لها قمعًا شديدًا، وقامت الحرب بين الروسيا والدولة العثمانية. انتصر الروس وإن كانت للجيوش العثمانية مواقف رائعة. وأملى الروس على الدولة معاهدة سان إستفانو للصلح، وهي معاهدة تقوم على تصفية أمر الحكم العثماني في البلقان (تقريبًا) وتنص — فيما تنص عليه — على خلق دولة بلغارية كبيرة، ولكن الدولة الأوروبية الكبرى استطاعت أن تنقض ما تمَّ وأن تنقل الموضوع برمته إلى مؤتمر دولي عقد في مدينة برلين، وفيه تمت التسوية المعروفة بمعاهدة برلين في ١٨٧٨.
ولا يهمنا الآن من أمر معاهدة برلين ما أدخلته من تعديلٍ على الموقف في شبه جزيرة البلقان، فقد مدت في عمر الحكم العثماني هناك.
وزادت بهذا في نفس الوقت مشكلات الدولة تعقيدًا، واستمرت أمور البلقان مصدر نحس لأهليه وللدولة العثمانية وللدول الأوروبية إلى أن أدَّت إلى نشوب الحربين البلقانيتين الأولى والثانية، وهاتان الحربان وإن لم تتركا للسلطنة العثمانية إلا القليل من ملكها القديم في البلقان إلا أنهما لم يحلا ما بين البلقانيين أنفسهم من خلاف، بل سارت المسائل من سيئ إلى أسوأ إلى أن كانت الشئون البلقانية السبب المباشر في نشوب الحرب العالمية الأولى. سنترك هذه الشئون جانبًا في استعراضنا هذا السريع، ولكننا نرجو ألا يظن ظانٌّ أن عدم ذكرها يرجع إلى أن البلقان كان ينعم بالهدوء. ويبرر خطتنا هذه أن الأهمية الحقيقية منذ مؤتمر برلين كانت للولايات الآسيوية؛ أي للترك والعرب. ثم منذ مؤتمر برلين بدأت في الحقيقة التصفية التدريجية للدولة يشارك فيها الجميع على شكل «عمليات صغرى» أو عمليات محلية (وقد سبق أن شرحنا معنى هذا).
ويصح أن تخرج من هذا الوصف سياسة ألمانيا إزاء الدولة العثمانية على أيام القيصر ولهلم؛ وكانت سياسته ترمي إلى إنهاض الدولة العثمانية واتخاذ حليف قوي منها على أساس اتفاق المصالح.
ويوضح ما ذهبنا إليه ما حدث أثناء المؤتمر من موافقة الدولة العثمانية على تسليم جزيرة قبرص للحكومة البريطانية لإدارتها ولتتخذ منها قاعدة للدفاع عن الولايات الآسيوية، ويوضحه أيضًا ما حدث أثناء المؤتمر من إطلاق يد فرنسا في تونس. لم يَرَ بسمارك إذ ذاك بأسًا من أن يشجع فرنسا على المضي في التوسع الاستعماري فلا يتيسر لها عندئذٍ أن تركِّز قواتها الحسية والمعنوية لتزيل عار الهزيمة في ١٨٧٠ ولتسترد الإلزاس واللورين.
ولم تَرَ الحكومة البريطانية مناصًا من أن تسلم لفرنسا بشيءٍ نظير حصولها هي على قبرص. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الحكومة البريطانية أخذت إذ ذاك تهتم عمليًّا باكتساب مركز خاصٍّ في مصر وتأمين هذا المركز، وكانت تعلم أن فرنسا لن تسلم بذلك بسهولة، فكان مما ينفع أن تتساهل هي مقدمًا في شأن تونس. والذين أغضبهم حقًّا ما حدث كانوا الإيطاليين؛ لاعتبارات الهجرة والاستثمار والقوة البحرية والأحلام التاريخية. ولكن الإيطاليين لم يملكوا النفوذ الكافي لمنع فرنسا من بسط حمايتها على تونس في ١٨٨١.
وأثناء ذلك كانت أزمة الحركة الوطنية المصرية، ونعرف ما كان من انفراد الحكومة البريطانية بالتدخل المسلح لقمعها في سنة ١٨٨٢، وحصولها على المركز الممتاز في وادي النيل، ونجاحها في إحباط جميع ما بذل من محاولات لإرغامها على تحديد تاريخ للانسحاب من مصر. وزاده اطمئنانًا وضع يدها على الأقاليم الجنوبية من وادي النيل وإن سلَّمت بحق مصر شريكة لها في تلك الأقاليم، ثم زاد اطمئنانها في سنة ١٩٠٤ عندما عقدت مع فرنسا الاتفاق الودي المشهور.
وهذا الاتفاق يطلق يَدَ فرنسا في المغرب (مراكش) كما يطلق يد بريطانيا بمصر، ومعنى إطلاق اليد هو أن تتجنب فرنسا من ناحيتها أو بريطانيا من ناحيتها إثارة ما يحرج الدول الأخرى، وأن تلتزم عمومًا موقفًا وديًّا من مشروعات الدولة الأخرى. وتوَّجت بريطانيا مساعيها السياسية باتفاقٍ ودِّيٍّ آخر مع الروسيا تاريخه سنة ١٩٠٧. وقد سوَّى هذا الاتفاق شئونًا مختلفة، كان من أهمها بالنسبة لنا تفاهم الدولتين على تقسيم فارس إلى منطقتيْ نفوذ: شمالية للروسيا وجنوبية لبريطانيا.
وهكذا تتوالى «عمليات» تصفية أمر الولايات الآسيوية الأفريقية وأمر فارس، ويكملها — فيما بين زوال حكم السلطان عبد الحميد وإعلان الحرب العالمية الأولى — تصفية أمر المغرب بوضعه تحت الحماية الفرنسية، وتصفية أمر طرابلس الغرب باستيلاء إيطاليا عليها، وكذلك أكثر ما كان للدولة في البلقان؛ نتيجة للحربين البلقانيتين الأولى والثانية، وضم الإمبراطورية النمسوية للبوسنة والهرسك.
بقيت للدولة ولاية بغداد، وبقيت لها ولاياتها السورية، يتغلغل فيها جميعًا نفوذ الدول الأجنبية ومصالحها، وتتوزع نفوس أهليها مختلف العواطف ومتضارب الأهواء.
وهكذا أخذت تتلاشى كلما تقدَّم الزمن بعبد الحميد النظرة إلى الدولة العثمانية وحدة أو كُلًّا، اللهم إلا نظرة القيصر ولهلم إليها، وهذا ما أنتقل إلى التحدث عنه.
كانت هذه النظرة شيئًا خاصًّا، شيئًا شخصيًّا للقيصر، وهي تترتب من ناحية على تركيب مزاجه، وتأثُّر هذا المزاج بسحر البطولات التاريخية والزعامات الشخصية الكبرى، كما أنها تترتب من ناحيةٍ أخرى على إدراكه لعظم موقع الدولة العثمانية، وعلى وجوب المحافظة على وحدة هذا الموقع، وعلى أن يكسب لإمبراطوريته مزايا هذا الموقع اقتصاديًّا وحربيًّا عن طريق محالفة الدولة محالفة إخلاص، وعن طريق النهوض بمرافقها العسكرية والاقتصادية.
إن ألمانيا إن تم لها ذلك يمتدُّ نفوذها امتدادًا متصلًا عبر البلقان والأناضول إلى البحار العربية، ويتفوق هذا النفوذ على أي نفوذ أوروبي آخر منافس كالفرنسي أو الروسي أو البريطاني، يتفوق عليه لأنه نفوذ متصل متماسك من مبتداه إلى منتهاه، ويتفوق عليه أيضًا لأنه يعمل يدًا بيد مع الحكومة الشرعية، ولا يرمي إلى هدمها ولا يدخل في علاقاتٍ خاصة مع طوائف من رعاياها.
ويمثل سياسة القيصر خير تمثيل مشروعان: إصلاح الجيش العثماني ومشروع سكة حديد بغداد.
ولإصلاح الجيش وضعت الحكومة الألمانية تحت تصرف الدولة العثمانية نفرًا من خيرة رجالها العسكريين، من أمثال فون درجولتر وليمان فان ساندرس، وبفضل الخبرة الألمانية كان تاريخ الجيش العثماني في تلك العقود الأخيرة من حياة الدولة، ذلك التاريخ المشرف في شتى الميادين، وبخاصة في حرب التحرير تحت قيادة مصطفى كمال.
أما مشروع سكة حديد بغداد فهو عصب السياسة الألمانية كلها، يمثِّل النظرة الحربية الاقتصادية خير تمثيل. هو مشروع يرمي لربط أجزاء الدولة وتوحيدها على نحوٍ جديد، وهو مشروع يرمي لإحياء ما يمر به من مناطق، تتصل به مشروعات استخراج المعادن ومد الطرق الفرعية والقناطر وتجهيز الثغور … إلخ.
وقد قلت إن للمشروع تاريخًا حافلًا، وإن المفاوضات المتعلقة به لم تتمَّ إلا قبيل الحرب العالمية الأولى.
وقد يظنُّ ظانٌّ أن سياسة ولهلم نحو السلطنة تأثَّرَتْ بميوله نحو الحكم المطلق، ولكننا مع التسليم بتفضيل القيصر ولهلم للحكومة الشخصية ينبغي أن نذكر أنه استمر في خطته هذه نحو الدولة بعد إعلان النظام النيابي فيها وبعد سقوط عبد الحميد.
وكان اضطرار السلطان عبد الحميد في ١٩٠٨ لإعادة الحياة النيابية التي سبق له أن أعلنها ثم عطلها في مستهل حكمه نتيجة نجاح الجمعية السرية — جمعية الاتحاد والترقي — في استمالة القوات العسكرية لإحداث الانقلاب الدستوري. ولم يقاوم عبد الحميد أول الأمر بل أذعن، ثم أخذ يعمل في تدبير انقلابٍ مضاد للانقلاب الأول، وأخفق في تدبيره هذا، وأُنزل عن العرش في ١٩٠٩، وأُجلِس عليه أخوه محمد رشاد الذي تلقَّب بلقب محمد الخامس.