الموضوع الثاني
(١) تحديدات
-
(١)
بالنسبة للأقطار السورية والعراقية، حيث بقي الحكم العثماني المباشر إلى أن زال تمامًا خلال الحرب العالمية الأولى، ينقسم العهد العثماني من حيث أنظمة الحكم إلى مدتين: إحداهما تسبق التنظيمات أو التجديد الذي ابتدأ في أيام السلطان محمود الثاني، والأخرى تبتدئ بها.
-
(٢)
وبالنسبة لمصر فالتقسيم يكون إلى مدتين: إحداهما تسبق ولاية محمد علي في العقد الأول من القرن التاسع عشر، وهي مدة الحكم العثماني المباشر، والثانية مدة حكم محمد علي وخلفائه. وفي هذه المدة كانت مصر تحت السيادة العثمانية وجرى خلالها الخديويون على خطط من التجديد تماثل خطط التنظيمات في الولايات الخاضعة للحكم العثماني المباشر.
-
(٣)
وبالنسبة للبنان فالتقسيم يكون بين عهد البيتين المعني والشهابي وعهد المتصرفية حوالي سنة ١٨٦٠.
-
(٤)
وبالنسبة للنيابات المغربية فالتقسيم يكون فيما يتعلق بطرابلس الغرب إلى ثلاث مدد: أولاها إلى استئثار البيت القرامانلي بالحكم في أوائل القرن الثامن عشر، وثانيتها مدة القرامانلية أنفسهم، وثالثتها تبتدئ عندما تمكَّنت الدولة من إزالة القرامانلية وإعادة الحكم المباشر، وكان حُكمًا يجمع بين خصائص التنظيمات ومميزات خاصة به نشأت عما كان للسنوسية في تلك الأقطار من مركزٍ خاص.
وفيما يتعلق بتونس يكون التقسيم حتى عهد الحماية الفرنسية في عام ١٨٨١ إلى مدتين؛ أولاهما تسبق استئثار البيت الحسيني بالحكم في أوائل القرن الثامن عشر، وثانيتهما مدة الحسينيين أنفسهم، وكانت لهم خطط في التجديد خلال القرن التاسع عشر تماثل التنظيمات وتماثل التجديد في مصر.
وفيما يتعلق بالجزائر مدة واحدة تبتدئ ببسط السيادة العثمانية وتنتهي ببدء الاستعمار الفرنسي في ١٨٣٠.
-
(٥)
والمغرب الأقصى سنُفرِد له فصلًا خاصًّا، فهو كما عرفنا لم يخضع للسيادة العثمانية يومًا من الأيام.
-
(٦)
والجزيرة العربية سنُفرد لها أيضًا فصلًا خاصًّا، فقد كانت لها أوضاع خاصة بها، ويصدق هذا حتى على أقطار الجزيرة التي خضعت للسيادة العثمانية في وقتٍ من الأوقات.
ولا يتَّسِع المقام هنا لدرس أنظمة الحكم في مختلف الأقطار وفي مختلف المدد دراسة تفصيلية، ولكننا سنختار نماذج وأمثلة توضح الاتجاهات العامة أكثر مما توضح التفصيلات.
وقبل أن نفعل ذلك نفحص مسألة عامة مهمة هي:
(٢) تحديد التغيير الذي أصاب الأقطار العربية بسبب خضوعها للحكم العثماني
والمسألة مهمة؛ فقد اعتاد الناس أن ينسبوا كل شرٍّ أصاب العرب لذلك الخضوع.
والواقع أنه بالنسبة لمصر وسورية لا نجد أن التغيير الذي أصاب تلك الأقطار نتيجة للفتح العثماني مسَّ شيئًا أساسيًّا من مقومات المجتمع، فبقيت عناصره كما كانت: فلَّاحُوه وبدوه وصنَّاعُه وتُجَّاره وعلماؤه وأجناده وأصحاب المناصب. وما بين تلك العناصر من علاقات بقي كما كان. ونُظُم حيازة الأرض ونظم الجباية هي هي، والواقع الذي يحدث كل يوم هو هو، والمثل الأعلى هو هو.
حقيقةً إن مصر وسورية فقدتا في العهد العثماني ما كانتا تحصلان عليه من مكوس التجارة بين أوروبا وآسيا بسبب استخدام الطرق الملاحية البحرية، ولم يكن الخضوع للحكم العثماني مسئولًا عن هذا، فقد بدأ تحول التجارة قبله. ولا نعتقد أن السلطنة المملوكية لو استمرت لاستطاعت أن تطرد البرتغاليين وغيرهم من الأوروبيين من البحار العربية. والغوري قبل اشتباكه بالسلطنة العثمانية أرسل تجريدات بحرية نحو سواحل الهند ثبت عجزها عن قهر البرتغاليين.
ومقابل فقدان المكوس ما غنمته الطوائف المنتجة بسبب زوال السلطنة المملوكية وما صحبها من إسرافٍ شديد ترتَّب على ما كانت تضطر لإنفاقه لاسترضاء الأمراء الخارجين وعلى حروبها وعلى عماراتها وفخفختها.
إن أسوأ ما كان في الانتقال من دولة المماليك لدولة العثمانيين ينحصر في أنه في ظل الأولى كان يحدث من وقتٍ لآخر أن يتولى السلطنة رجل قوي الشخصية، يكبح عناصر الاضطراب والشغب ويضع كلَّ إنسان عند حده بينما في ظل الثانية رُتِّبَتْ أدوات الحكم على منع ظهور حاكم من هذا النوع. وكان رجاء واضعي النظام العثماني أن التوازن الذي أنشئوه بين مختلف أدوات الحكم ينبغي له أن يؤدي إلى منع التعدي وحفظ الحقوق، ولم يحدث شيء من ذلك.
وبناءً على هذا فلا نرى فرقًا جوهريًّا يعتدُّ به بين طبيعة الحكم العثماني وطبيعة الحكم المملوكي، ولا نرى دليلًا على ما زعموه من أن الأول يقتضي الجمود ويجافي التطور، بينما الثاني لم يقتضِ ذلك، ولا نرى وجهًا لما زعموه أيضًا من أن الأول أدى إلى مقاطعة حركات التغيير المعاصرة بينما الثاني لم يقاطعها في زمانه.
ولبنان كانت علاقات أمرائه الدروز والنصارى بالدولة صاحبة السيادة وممثليها في الحواضر السورية واحدةً أيامَ العثمانيين وأيام المماليك.
والنفوذ العثماني في الحرمين وفي جدة وفي السواحل اليمنية والأفريقية لا يختلف في طبيعته جوهريًّا عن النفوذ المملوكي في تلك الأقاليم.
وأعتقد أن الجديد الذي نتج عن الفتح العثماني نشاهده في النيابات المغربية العثمانية، فإن تلك النيابات في جمعها بين عناصر القوة البحرية وعناصر القوة البرية، وفي طبيعة علاقاتها بالأقاليم الداخلية وأهليها، كانت تطورًا جديدًا في تاريخ المغرب.
أما المغرب الأقصى فقد تأثَّرت السياسة الخارجية لحكومته بمجاورته للنيابات العثمانية وبمحاولة الحكومة العثمانية ونيابة الجزائر التدخل في شئونه الداخلية في أكثر من مناسبة. أما تطور المغرب الداخلي فباستثناء اتخاذ بعض الألقاب التركية ومحاكاة بعض الأنظمة العسكرية العثمانية فكان تأثره بالحضارة العثمانية قليلًا نسبيًّا.
ومما يستحقُّ الذكر فيما نحن بصدد بحثه أن خضوع أكثر العرب للحكم العثماني لم يؤدِّ إلى قيام علاقات ثقافية أو اقتصادية بين مختلف أقطارهم أكثر توثيقًا مما كان الحال قبل ذلك الخضوع.
وأخيرًا نشير إلى أن اللغة التركية أصبحت لغةَ التحرير لبعض أنواع المراسلات، ولكنها لم تنتشر بين العرب إطلاقًا؛ هذا قبل عصر التنظيمات. أما بعد ذلك العصر فالحال يختلف عن ذي قبل اختلافًا تامًّا، ولا يصعب تفسير ذلك، فقبل عصر التنظيمات والتجديد عمل الحكومة محدود جدًّا، ويمكن لأغلب المحكومين أن يستغنوا تمامًا عن تعلم التركية وعن استخدامها. أما ابتداءً من عصر التنظيمات فقد اتسع نطاق العمل الحكومي وأصبح يمسُّ حياة الفرد العادي في كل شيء، وأصبح لها نظام تعليمي رسمي يقوم على تدريس التركية، فانتشرت التركية بين العرب خلال القرن التاسع عشر على نحوٍ لم يشهده في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر بالمرة.
(٣) مبادئ الحكم العثماني في الولايات العربية قبل عصر التنظيمات
يظن بعض الناس أن ما شاب العصر العثماني من الاضطراب الشديد ومن عسف الأقوياء وضياع الحقوق يرجع إلى عدم الاهتمام بتحديد الحقوق والواجبات وبضبط الدفاتر والسجلات وبتنظيم الإجراءات وبتقييد تصرفات الأشخاص بشتَّى القيود. والواقع أن الإدارة العثمانية اهتمَّت كلَّ الاهتمام بوضع نظام مفصل لكل شيء، كما أنها اهتمت بالدفاتر والسجلات اهتمامًا كبيرًا، كما حتَّمَتْ أن يكون النظر في بعض الشئون من حقِّ دواوين أو هيئات تجتمع في مجالس تعقد دوريًّا ولا يترك النظر فيها للأشخاص مهما كانوا.
ولكن الذي يؤسَف له أن احترام الأنظمة كان شكليًّا أكثرَ منه حقيقيًّا، فمثلًا بقيت في مصر إلى أيام محمد علي حامية عثمانية مسجلة في أوراقٍ ومرتبة لها مرتبات، ولكن كانت في نفس الوقت القوة الحقيقية تتألف من المماليك الذين يملكهم أمراء أصلهم من المماليك أيضًا، وأمراؤهم هم الذين يتولَّوْن شراءهم وإعدادهم والإنفاق عليهم. وهؤلاء هم الذين قابلوا الجيش الفرنسي عندما غزا مصر في ١٧٩٨ لا الحامية العثمانية الرسمية. وقس على ذلك.
ويمثِّل السلطان في الولاية باشا، والباشوات يتدرَّجون صعودًا من مرتبة إلى أعلى منها، ويرمز لرتبتهم بعدد أذناب الخيل التي يثبتونها على على الرماح في مواكبهم. والولايات تختلف أهميةً، وهي في الغالب حاضرة وما يتبعها، كدمشق أو حلب أو طرابلس الشام … إلخ. ونلاحظ أن الدولة العثمانية حافظت على تقسيم المماليك لسورية إلى عدد من الباشوات. أما مصر فقد حافظت الدولة على وحدتها وجعلتها باشوية واحدة.
والسلطان هو الذي يعيِّن الباشوات، إما من رجال حكومته في القسطنطينية أو نقلًا من ولايةٍ إلى ولاية. ولكن كان يحدث أنه يعيِّن رجالًا محليين قد وضعوا أيديهم على مناصب الباشوية ولم تستطع حكومة السلطان عندما انتابها الضعف أن تزحزحهم عنها (من أمثلة ذلك: النيابات المغربية – بيت العظم في دمشق – الباشوات من المماليك في بغداد … إلخ)، ولكن مصر لم يحدث فيها شيء من ذلك، فكان باشواتها يقدمون من القسطنطينية إلى أيام محمد علي.
وجرت العادة أن يعين السلطان رأسًا أيضًا بعض كبار أصحاب المناصب، وهم قاضي الولاية ودفتردارها (المسئول عن الإدارة المالية) وقواد أو قباطين الثغور المهمة.
والقاعدة عند الدولة أن يعيَّن صاحب المنصب لمدة سنة واحدة قابلة للتجديد، وفي العادة لا تتجدد كثيرًا. ويرجع ذلك لسببين: أولًا لأن صاحب المنصب يؤدي مالًا أو رسمًا نظير الحصول على المنصب ونظير تمتعه به، وثانيًا لأن حكومة السلطنة تخشى أن يتمكن صاحب المنصب من تثبيت قدمه فيفعل ما يشاء.
وقد نظمت الدولة جباية الولايات بشكلٍ دقيق، كما نظمت مصروفاتها بدقةٍ أيضًا. وكان المفروض أن ترسل للسلطنة أو لجهاتٍ خيرية تقررها السلطنة (كالحرمين مثلًا) مخصصات عينية ونقدية، ثم ما زاد من مجموع الدخل على مجموع المصروف كان يجب أن يرسل لخزانة السلطان، ومقداره يختلف من سنةٍ لأخرى.
وعلى رأس مصروفات الولاية نفقات الحامية العسكرية، وكانت تتألف في مصر من فرق تُدعى الواحدة منها باسم أوجاق أو وجاق. ومن أشهر الأوجاقات أوجاق البنشرية أو الانكشارية، ويعرفون في مصر أيضًا باسم مستحفظان.
وأوجاقات الحامية تقوم بوظائف مختلفة لا علاقة لها بالحرب أو بالدفاع، وأغاواتها أو ضباطها يعهد إليهم بوظائف مهمة، كإمارة الحج أو توصيل خزانة الدولة إلى العاصمة أو حكمدارية القاهرة وما إلى ذلك.
ومن هؤلاء الضباط، ومن قاضي مصر وكبار علمائها وأعيانها، تتألف الدواوين التي تشارك الباشا في تصريف الأمور المهمة. وفي مصر أصبحت مناصب الأوجات يستأثر بها أمراء مماليك محليون قدموا البلاد أحداثًا ونشئوا فيها، وعملوا على أن تكون لهم قوات من مماليك يقتنونهم بمالهم، كما أنهم أيضًا أخذوا يستأثرون بمناصب الإدارة في أقاليم مصر؛ أي وظائف الكشاف والصناجق.
والشئون الحكومية الأساسية أربعة: حفظ الأمن، والذود عن البلاد، وجباية الأموال العامة، والقضاء. والحكومة تترك ما عدا ذلك للجماعات والطوائف والأفراد تديره طبقًا لعرفها وتقاليدها. وسنورد شيئًا عن هذا فيما يلي:
وصفنا جهاز حفظ الأمن والحرب.
أما الجباية فلها إدارة عليا: هي الروزنامة، وأهم الأموال العامة الأموال المفروضة على الأرض الزراعية، والرسوم الجمركية، وعدد لا يحصى من الرسوم المتنوعة على أرباب الصناعات.
والطريقة الشائعة في جمع الأموال العامة كانت الالتزام؛ وهو أن يلتزم شخص بأداء حق الحكومة جملة، ويتولى هو تحصيله متفرقًا؛ كأن يلتزم إنسان مثلًا بجمرك الإسكندرية فيؤدي للحكومة مبلغًا من المال هو متفق عليه لما ينتظر تحصيله على السلع المصدرة والمستوردة، ويحصل هو لحسابه ما يستطيع تحصيله. والمفروض أن الالتزامات المختلفة تعطَى بناءً على مزايدات. وأهم الالتزامات التزام الأموال الأميرية على الأطيان؛ فإن الملتزمين في هذه الحالة كانوا مزارعين ومشرفين على عمل الفلاحين في الزراعة.
والقضاء بالنسبة للمعاملات المدنية في يد القاضي ونوابه. والمفروض أنه يجري طبقًا لأحكام الشريعة أو على الأقل طبقًا لقواعد لا تخالفها. أما فيما عدا المعاملات المدنية — أي في المواد الجنائية — فيجريه رجال الإدارة طبقًا لأهوائهم، وكانوا عادة يقصدون إلى الإرهاب وبعث الرعب أكثر مما يهدفون إلى معرفة الحقيقة.
وقد انتظم أصحاب الصناعات المختلفة في طوائف، والطائفة — على خلاف نقابة العمال الآن — تضم مختلف المشتغلين بالمهنة، من صبيان يتعلمونها وصناع بالأجر ومعلمين أو رؤساء. والطائفة تسيطر على الصناعة سيطرة تامة، ولا يباح لأحد أن يحترف صناعة إلا إذا تعلَّمَها على يد معلم وشهد له هذا بإتقانها. والتجار أيضًا تنظمهم طوائف بحسب بلادهم — ففي القاهرة مثلًا الشوام والمغاربة والترك — أو بحسب نوع التجارة التي يمارسون كالعطارة … إلخ.
والتعليم حر (ومعنى حر أنه لا تتولاه سلطة حكومية، ولكنه يسير طبقًا لنظام موروث مفصل، لا يحيد عنه المعلم والمتعلم، فهو ليس بالحر)، وهو بالمجان، ويعانُ الطالب بأنواعٍ شتَّى من الإعانات. ونفقات التعليم ومرتبات المعلمين تدبَّر مما يحبسه أهل الخير من جميع الطبقات على معاهد التعليم. ولم تخلُ مدينة من المدن العربية الكبرى من معاهد التعليم، ولم ينقطع ارتحال الطلاب من مدينةٍ لأخرى لطلب العلم، ولم ألاحظ اتصالًا بين المعاهد العربية والمعاهد التركية اللهم إلا ما كان بين العلماء السوريين والمعاهد التركية وسلك القضاء العثماني.
والحياة الدينية في البلاد العربية تنظِّمها الطوائف الصوفية أو أصحاب السجاجيد. وقد بلغ من شأنها أنها كان لها محلها في الحياة الحكومية الرسمية.
ومما تختلف فيه أنظمة ذلك العهد عن أنظمة عصرنا أن الموظف كان لا يتقاضى — كما هو الحال الآن — مرتبًا محدودًا، بل كان مرتبه يتكون من عناصر مختلفة، منها عوائد عينية أو نقدية على جهاتٍ شتى، ومنها رسوم يحصلها ممن يقضي لهم عملًا رسميًّا؛ فيقضي الموظف وقتًا لا بأس به في تحصيل استحقاقاته المختلفة وإلا ضاعت عليه، كما يحاول — وهذا ممكن تصوره — أن يحصل من أصحاب المصالح أكثرَ من الرسم المستحق له، وفي الوقت نفسه على الموظف إذ ذاك أن يؤدِّي عوائد لجهاتٍ معينة نظير تعيينه في عمله أو بقائه فيه، وغنيٌّ عن البيان أن أخذ الحكومات في الوقت الحاضر بنظام المرتب المحدد للموظف لم يمحُ تمامًا النظرة القديمة للوظائف والموظفين.
وعلينا أن نتمَّ استعراضنا لأنظمة الحكم بالتكلم إيجازًا عن نظام الملل ونظام امتيازات الأجانب، والنظامان إسلاميان، ويطبقان على فئتين من غير المسلمين؛ فالفئة الأولى فئة أهل الذمة من الرعايا الغير المسلمين، والفئة الثانية فئة المستأمنين أو الأجانب الغير المسلمين الذين يقيمون في ولايات السلطان لأغراض التجارة وما إلى ذلك. أما الأجنبي المسلم فهو ليس بأجنبي، فالمغربي أو الفارسي أو الهندي المسلمون في ولايات السلطان حكمهم حكم رعاياه المسلمين سواءً بسواء.
ونظام الملل في الدولة العثمانية يقوم على تنظيم رعايا السلطان الغير المسلمين في طوائف بحسب مذاهبهم الدينية؛ فملة الروم تنتظم رعايا السلطان التابعين للكنيسة الأرثوذكسية، ويصح أن يكونوا يونانًا أو عربًا سوريين أو بلغاريين … إلخ. وأعضاء الملة يقضي بينهم فيما يرجعون فيه إلى شرائعهم رؤساؤهم الروحانيون، ولهؤلاء التحدث عمومًا عن أبناء ملتهم لدى السلطات العثمانية.
أما نظام الامتيازات فهو أقدم من الدولة العثمانية، وتجده في دول أخرى معاصرة لدولتهم، في الصين واليابان وفارس والمغرب الأقصى مثلًا.
هذا قسم من القسمين … أما القسم الآخر فقد وردت نصوصه في معاهدات عقدت بين الدولة العثمانية والدول الأجنبية، وأساسها معاهدة سنة ١٥٣٥ المشهورة بين فرنسا والدولة. وأهم تلك النصوص إباحة الإقامة لأغراض التجارة في الثغور والمدن التي تعينها الدولة، وأن يكون للجالية الأجنبية فندقها وكنيستها ومخبزها ومدفنها، وأن يخضع أعضاؤها في معاملاتهم فيما بينهم لقضاء قناصلهم، وألا يدفعوا إلا الرسوم الجمركية على ما يستوردون ويصدرون وهكذا، ولا يتعرض عمال السلطان لتركات من يموت منهم، ولا يقتحمون فندقهم، وهكذا.
والواقع أنه حتى عهد محمد علي في مصر والسلطان محمود في أراضي الدولة كان الأولى أن تسمى «الامتيازات» شروط تنظيم إقامة الأجانب، ولم تصبح هذه امتيازات حقًّا إلا عندما تغيرت ظروف إقامة الأجانب في البلاد العثمانية في القرن التاسع عشر، حينما أصبحوا يعدون بالآلاف وحينما أصبحوا يُقيمون أينما يشاءون، وحينما أصبحوا يباشرون ما شاءوا من الأعمال؛ عندئذٍ أصبحت الامتيازات امتيازات حقًّا للأجانب ونقمة على أبناء البلاد. وقد عجزت الحكومات الغير الأوروبية عن أن ترفع الحَيْف عن رعاياها؛ فقد كان العهد حتى الحرب العالمية الأولى عهد تفوق القوة الأوروبية.
ولا يتسع المقام لرسم صورة أتم لأنظمة الحكم في العصر السابق للتنظيمات. وننتقل لوصف تطورها وأحوال الأهلين في ظلها إلى آخر القرن الثامن عشر.
(٤) تطور الأنظمة في الولايات العربية من القرن السادس عشر لآخر القرن الثامن عشر وأحوال الأهلين
لا نستطيع أن نتتبع سير الأحداث، ولكن يمكننا أن نُجمِل في كلمة واحدة وصف ذلك السير؛ هي أن الذي حدث كان تدهور السلطان الشرعي، فابتدأ غصب حقوق الحكومة وحقوق الطوائف وحقوق الأفراد، وكان الغضب على يد أصحاب العصابات من المماليك أو من المرتزقة … إلخ، أو على يد العشائر والقبائل. وقد استخدم أصحاب العصابات وأصحاب العصبيات ما في أيديهم من قوة للنهب والاعتداء.
كيف حدث هذا التدهور؟ يرجع في أصله للأنظمة في ذاتها، ثم زاده شدة عجز الدولة العثمانية عن كبح جماح عوامل الفوضى والاضطراب. أما رجوعه في الأصل للأنظمة فظاهر كما قدمنا. إن الأنظمة قامت في الأصل على أساس اشتراك الهيئات والسلطات وتوازنها، فهي إذن سمحت للعناصر المختلفة بقدرٍ من الاستقلال والتصرف صلح أساسًا فيما بعد للعمل الخاص، ثم ضعفت الدولة العثمانية في المركز ولم تستطع أن تُخضِع الغاصبين لسلطانها للقانون والأنظمة، فكانت لا تستطيع أكثر من بثِّ بذور التفرقة بينهم وإثارة أحدهم ضد الآخر فيسقط غاصب ويعلو آخر ثم يثور آخر ضده فيسقطه وهكذا.
وقد بلغت هذه الحالة أسوأها خلال القرن الثامن عشر، وشَقِيَتْ بها طوائف التجار من أجانب ومن أبناء البلاد وطوائف أهل الصناعات، إلا أن أشقاهم كان الفلاحين؛ فإن التجار والصناع كانوا يملكون من الوسائل ما يدفعون به عن أنفسهم بعضَ الشر؛ فالتجار كانوا يستطيعون بشيءٍ من البذل أن ينقذوا لأنفسهم شيئًا، والصناع كانوا يملكون بأدوات التجمهر في المدن دفع الظلم. أما الفلاحون فلم يستطيعوا كثيرًا، فهم لا يملكون الاتحاد والعمل المشترك، وليس لهم عدو واحد، فقد يكون صاحب عصابة من الجند، وقد يكون عدوهم عشيرة تزحف عليهم وتتطفَّل عليهم إلى أن تميتهم.
وحتى القرن الثامن عشر لم ينتهِ تطور الحوادث في البلاد العربية عند نتيجة، فالعجلة — إن صح التشبيه — تدور ولا تقف عند شيء، كان يصح مثلًا أن يستولي على أزمة الحكم مغامر أو غاصب من نوع علي بك الكبير في مصر، وأن يقيم حكمًا مستقلًّا يتخذ لنفسه أساسًا قوميًّا، ولكن لم يحدث شيء من ذلك، وكان يصح مثلًا أن تتمكن الدولة من أن تعيد للحكومة الشرعية سلطانها، ولكن الدولة حتى آخر القرن الثامن عشر لم تستطع إلا أن تسقط غاصبًا أو مغامرًا بالذات لا أن تستأصل الغصب، وكان يصح أن يظهر من أبناء البلاد زعيم يطالب برفع الظلم عن بني قومه، وأن ينادي بأن أكثر الظلم واقع على العرب، وأن الظالمين في أكثر الأحوال من الغرباء، ولكن الذين تحدثوا ضد الظلم لم يتحدثوا عنه على هذا الأساس إنما تحدثوا عما يجب للمحكوم من الحاكم.
وكان الذي حدث آخر القرن الثامن عشر شيء لم يكن أحد يتوقعه — هو الغزو الأوروبي — وقد قطع هذا الغزو دورات العجلة فانفتح المجال لتطورات … فلننتقل إلى ذلك الغزو.