الموضوع الثالث
يتصل مشروع الفرنسيين امتلاكَ مصر وسورية عند آخر القرن الثامن عشر بأكثر من أصل؛ يتصل بالحرب بين فرنسا وأعدائها في عهد الثورة الفرنسية، وبالتنافس الاستعماري القديم بين فرنسا وبريطانيا، وبالرغبة في بناء إمبراطورية فرنسية جديدة في حوض البحر المتوسط؛ أي بجعل سواحل ذلك البحر المجال الحيوي لاستعمار فرنسي من نوعٍ جديد مؤسس على مبادئ الثورة الفرنسية والانقلاب الصناعي الجديد، كما يتصل أخيرًا بالتاريخ الداخلي للثورة الفرنسية وتطورها نحو القيصرية — كما تطورت الجمهورية الرومانية نحو القيصرية — والذي يلفت النظر أن مصر اتصلت بالفصول الأخيرة من زوال الجمهورية الرومانية وزوال الجمهورية الفرنسية.
واحتلال الفرنسيين مصر وإن كانت مدته قصيرة يستحقُّ العناية لأكثر من سبب يهم الذي يدرس الحروب؛ فهو يوضِّح مثلًا أهمية المواصلات البحرية للفتوح عبر البحار؛ فالواقع أنه بعد أن حطم نلسون الأسطول الفرنسي في خليج أبي قير كان إخفاق الفرنسيين في المحافظة على مصر أمرًا محققًا طال أو قصر احتلالهم لها. ويهم المتتبع لظهور مسألة مستقبل مصر في السياسة الأوروبية ولتاريخ العلاقات بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية عمومًا وللعلاقات بين العرب وأوروبا خصوصًا.
لقد سبق الحملة الفرنسية علاقات بين الدول الأوروبية والإمارات والشياخات على سواحل الجزيرة العربية وأفريقية الشرقية. على أن العلاقات مسَّت العروبة على الهامش — إن صح التعبير — ولم تمسَّ القلب. ولقد سبق الحملة الفرنسية بدء سيطرة الدول الاستعمارية الكبرى، الروسيا وهولاندة وبريطانيا وفرنسا على دول وإمارات إسلامية في أواسط آسيا وجزائر الهند الشرقية والهند. ولكن هذه السيطرة لم تمسَّ أيضًا قلب العروبة، ولقد سبق الحملة الفرنسية إنشاء علاقات بين فرنسا والروسيا وبعض الطوائف المسيحية من رعايا السلطان، ولكن هذه العلاقات كانت أقرب إلى تكوين ما عرف في زماننا باسم «الطابور الخامس» منها إلى تكوين ملك فرنسي دائم فيما وراء البحار وفي الأقطار العربية، ويحكم طبقًا لمبادئ وتحقيقًا لأهداف ستكون ذات أثر في تحديد سياسة فرنسا في المستقبل نحو العرب والإسلام في المغرب.
هذا كله من الناحية العربية العامة. أما من الناحية المصرية الخاصة، فالحملة الفرنسية حركت تطورات وتغيرات على درجةٍ كبيرة من الخطورة أثبتتْ إفلاس النظم القائمة، وحطمت قوة المماليك، وأتاحت للسلطنة فرصة استرداد سلطانها الشرعي، وأثبتت السلطنة عجزها عن أن تفعل، وأطلعت الناس على ألوانٍ من الحضارة الغربية قدروها أو أنكروها، ولكنهم في الحالتين لا يستطيعون إغفالها أو الإعراض عنها، وفوق هذا كله أثبت الاحتلال الفرنسي ما ستعيد الاحتلالات الأجنبية إثباته في مصر وفي غير مصر، وهو أنه لا يستطيع تقديم الأساس الصالح للتقدم أو التعاون المثمر بين مختلف المجتمعات.
والاحتلال الفرنسي يُثير مسائل كثيرة جديرة بالاعتبار منها: لِمَ اضطر الفرنسيون للانسحاب من مصر، ولِمَ بقوا في الجزائر على الرغم من أن الجزائريين كافحوا كفاحًا مريرًا في الدفاع عن وطنهم؟ ظاهر أن الدولة العثمانية في سنة ١٨٣٠ لم تبذل شيئًا في سبيل الجزائر، ولكنها بذلت في سنة ١٧٩٨ شيئًا كثيرًا في سبيل الاحتفاظ بمصر. وظاهر أن الاحتلال الفرنسي للجزائر لم يجد المقاومة المسلحة من جانب الدول الأوروبية التي وجدها احتلالهم لمصر في سنة ١٧٩٨ من جانب البريطانيين والروس، ومنها: في ١٧٩٨ ابتداء الربط في نظر السياسة البريطانية بين مصر والهند.
وينسى الكثيرون أن سفنًا حربية بريطانية دخلت البحر الأحمر من البحار العربية، وأنها احتلت جزيرة بريم ميون عند مضيق باب المندب، وأن تجريدة عسكرية من الجيش البريطاني الهندي قدمت من الهند للاشتراك في إجلاء الفرنسيين عن مصر، وأنها نزلت في القصير وانحدرت نحو القاهرة في النيل، ووصلت التجريدة بعد أن كانت العمليات الحربية قد انتهت.
ومن المسائل التي يثيرها دراسة الاحتلال الفرنسي ما زعمه الشيخ محمد عبده في مقاله المشهور ضد محمد علي، من أن أهل مصر قاوموا الاحتلال الفرنسي في ١٧٩٨ مقاومة رائعة بينما كانت مقاومتهم في ١٨٨٢ للاحتلال البريطاني ضعيفة، ثم قرَّر أن الضعف الذي أبدوه في ١٨٨٢ يرجع إلى تحطيم محمد علي لحيوية الأهلين، هذا ما ذهب إليه الأستاذ الإمام، بيد أن من يريد أن يتبيَّن وجه الحق في هذه المسألة عليه أن لا يخوض فيها بهذه البساطة، بل ينبغي عليه أن يتبيَّن طبيعة المقاومتين وطبيعة الاحتلالين قبل أن يذهب إلى أن حيوية الأهلين تحطَّمت خلال القرن التاسع عشر. والمتأمل المنصف في ١٧٩٨ و١٨٨٢ لا يسعه إلا أن يرى في ١٧٩٨ خلايا أمة، وأن هذه الخلايا أخذت أثناء القرن التاسع عشر تتجمع في بناء أمة واحدة.
(١) الدعوة العربية في سياسات الجنرال بونابرت
قامت خطة الجنرال بونابرت على التمييز بين عرب وعثمانلية ومماليك. والعرب في نظره وفي نظر من كتب في سكان مصر من علماء الحملة الفرنسية هم أهل مصر عمومًا في الريف وفي الحضر، ولم يقصروا الاستعمال على عرب البادية كما جرت عادة الناس حتى ذلك الوقت. وقال بونابرت وكتاب الحملة إنه بالإضافة إلى العرب — وقد قلنا إنهم عامة الأهلين — يوجد القبط، ونسبوهم وحدهم إلى المصريين القدماء، كما توجد جاليات من السوريين الدماشقة والحلبيين وما إلى ذلك، ومن المغاربة والأروام واليهود … إلخ.
أما العثمانلية فهم الترك ومن يلحق بهم من جراكسة وغير ذلك من رجال الأوجاقات والتجارة والمناصب والمتصوفة وطلاب العلم المستقرين في مصر من زمنٍ قديم أو حديث.
وأما كلمة «مملوك» فلم يطلقوها باستعمالها اللغوي، بل قصروها على المماليك الذين تكوَّنَتْ منهم القوات الخاصة التي تتبع البكوات أو الأمراء الذين كانوا قد استولوا على أزمَّة الحكم في البلاد قبل قدوم الفرنسيين.
وعلى هذا الأساس كانت خطة بونابرت أن يجعل من المماليك وحدهم عدوه وعدو السلطان وممثليه في مصر وعدو أهل العرب؛ العدو الذي غَصَبَ حقوق السلطان، وسلب النزلاء الفرنسيين أموالهم، واستأثر بخيرات البلاد دون أهلها وكان على يديه خراب ذلك الإقليم الحسن الأحسن، كما سماه في منشوره المشهور، وقد أعلن أنه قدم إلى مصر ليقتصَّ من المماليك الظالمين.
وفي كتاباته وكتابات معاصريه يرد الحديث كثيرًا عما كان للعرب من مآثر وعما سيكون لهم من ارتقاء بعد أن يرتفع عنهم حكم أجلاف الترك كما قالوا عنهم.
ولكن أفعال بونابرت وخليفتيه في حكم مصر إلى أن تمَّ الانسحاب منها تثبت أن كلامه إلى أهلها وعن أهلها كان إجراءً قُصِدَ به أن يستميلهم إلى جانبه أو — على الأقل — أن يقفوا على الحياد حتى يتمَّ له التغلب على المماليك.
وأفعال الفرنسيين فيما بعد عصر الحملة وفي بلاد المغرب وفي سورية ولبنان تثبت أن سياستهم تقوم على أساس سحق العروبة حسيًّا ومعنويًّا.