الموضوع الرابع
نلاحظ أن السادة الباحثين في تاريخ نشأة فكرة القومية العربية يكثر اهتمامهم بما جرى في لبنان وسورية من مطالبة بحقوق العرب المهضومة، وبما كان من إنشاء الجمعيات العربية المختلفة في الأيام التي سبقت الحرب العالمية الأولى، ويقلُّ اهتمام الباحثين نسبيًّا بنشأة الأوطان العربية المختلفة وبالعوامل التي كونتها، وبأثر الوعي القومي العربي بهذا التكوين.
وما دام الوعي القومي العربي في لبنان وفي سورية فيما قبل الحرب العالمية الأولى لم يتجه عمومًا إلى انفصال العرب عن الدولة العثمانية، بل اهتم بالإصلاح على أساس قومي عربي فلا أرى قصر دراسة الفكرة القومية العربية عليه دون حركات التحرير والإصلاح في الأوطان العربية الأخرى؛ ولذا فإني أختم هذا المنهاج بالكلام عن الأوطان العربية المختلفة وعوامل تكوينها والوعي القومي العربي بصفته عاملًا في ذلك التكوين وبصفته متأثرًا بذلك التكوين في وقتٍ واحد.
ويصح أن نضيف سببًا آخر لزيادة العناية بتلك الأوطان العربية؛ هو أنها هي التي يتكون منها الواقع العربي الحالي، وهي بأوضاعها الراهنة نطاق حركات التحرير والتآلف والتضامن العربية.
وقد فضَّلْنا تسميتها «الأوطان» على أية تسمية أخرى؛ ذلك لأن الوصف «وطن» يصدق عليها جميعًا، الوصف «وطن» أصدق من الوصف «دولة»، ففيها ما ليس كذلك، والوصف «وحدة» ينقص من قيمتها الروحية في نظر أبنائها.
والأوطان العربية عمومًا أوطان مجيدة التاريخ في كل أدوارها، قبل أن تصبح عربية وبعد أن أصبحت عربية، وفي كل أدوار تاريخها، قبل أن تصبح عربية وبعد أن التأمت بعضها بالبعض الآخر في دولٍ كبرى، واتخذ هذا الالتئام أشكالًا شتى تبعًا لمقتضيات حسية ودوافع معنوية.
وقد ألممنا إيجازًا فيما سبق بشيءٍ من ظروفها في العهد العثماني السابق للقرن التاسع عشر. والآن نحاول أن نلمَّ إيجازًا أيضًا بشيءٍ من أحوالها في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وخصوصًا بتلك العوامل التي ولَّدت في تلك الأوطان الوعي القومي العربي، وجعلته يؤثِّر في أول أمره في تطورها تأثيرًا محليًّا، ثم كان أن نما ذلك الوعي واتخذ نطاقًا لتأثيره العربي بأجمعه على ما نشاهد الآن.
(١) عوامل تكوين الأوطان الرئيسية ابتداءً من مطلع القرن التاسع عشر
أول هذه العوامل انتهاء عهد المغامرين من رؤساء العصابات أو أصحاب العصبيات، وإنشاء الحكومات المستتبة في الولايات العربية، من هذه الحكومات ما كانت تقيمه السلطة وتهيمن عليه تمامًا من العاصمة؛ كحكومات الولايات السورية بعد جلاء القوات المصرية في ١٨٤٠-١٨٤١ وبغداد بعد عزل آخر الباشوات المماليك داود باشا حوالي سنة ١٨٣٠، وطرابلس الغرب بعد عزل القرامنلية في ١٨٣٤ وهكذا. ومن الحكومات ما قام في الولايات الممتازة كتونس ومصر، وفي الحالتين لا نرى ولاة من أمثال الجزار، أو باشوات من نوع باشوات مصر وبغداد، أو مغامرين من نوع علي بك الكبير أو ظاهر العمر … إلخ، يغتصبون حقوق الدولة وحقوق الرعية ويخرِّبون ما بأيديهم من أقاليم، فكان الواحد منهم يعيش ليومه ولا يخطر له أن يعمل لغده.
والحكومة المستتبة في الولاية الخاضعة للعاصمة مباشرة قد يعتورها الفساد وقد يجانبها التوفيق، ولكن فضيلتها أنها مستتبة وأنها لها سياسة ولها خطط، وأن جوهر السياسة يستمر.
وقد أدى هذا إلى أن ولايات الدول العربية تحددت حدودها ومعالمها ورسومها وأنظمتها، وأن ذلك أكسبها كيانًا وأكسب ذلك الكيان أهلها وعيًا بقوميتهم، واستتباب أمر الحكومة أدى إلى استتباب موقف الأهلين من الحكم ومن الحاكم؛ فجرى تأييدهم للحاكم أو معارضتهم له على أسس مستقرة، واتخذ صفات العمل السياسي المنظم الذي يعرف أدوات الصحافة والجماعات المنظمة والنشر … إلخ. وشتان بين هذا وبين الفتن الشعبية والتجمهرات التي عرفتها الحواضر العربية قبل القرن التاسع عشر.
وثاني هذه العوامل تأليف القوات المحاربة من أبناء الأهلين، وانتهاء استقدام المماليك من أسواق الرقيق وجماعات المرتزقة من أبناء المناطق الجبلية. وهذا العامل أعدُّه من أهم العوامل في بناء الوعي القومي العربي، وواضح أنه ما دامت أمور الحرب والحكم متروكة للغرباء من مماليك ومرتزقة هان أمر الشعب على حكامه وعلى أنفس أبنائه، ولا غرو فالجيش الوطني أصدق مظهر للوعي القومي.
ويرجع انتهاء استقدام المماليك لسببين: أحدهما داخلي والآخر خارجي؛ فأما الداخلي فكان عدول السلطنة وعدول حكومات الولايات الممتازة عن استقدام المماليك لأسباب: أولها ثبوات عجزهم عن مجاراة النظم العسكرية الحديثة التي أدَّت إلى تفوق الجيوش الأوروبية على جيوش السلطنة ومماليك مصر، ثانيها ثبوت كونهم مصدر شغب واضطراب ونهب وسلب، ثالثها أن الحكومات لا تستطيع أن تكون قوات كبيرة العدد من المماليك أو المرتزقة لما يتطلبه هذا من نفقاتٍ جسيمة. وأخيرًا أن الحكومات بعد عهد الإصلاح والتجديد اتخذت المواطنة أساسًا لنظمها عمومًا ولقواتها العسكرية خصوصًا.
هذا عن الأسباب الداخلية. أما الأسباب الخارجية فمن الواضح أن محاربة الرق في شتى أشكاله قد أخذت تبرُز ابتداءً من أواخر القرن الثامن عشر، وتقوى الحركة إلى أن بطلت النخاسة تقريبًا إلا في مناطق محدودة.
وببطلان استقدام المماليك والأرقاء وتكوين القوات المحاربة على أساس وطني، وتكوين الفنيين عن طريق التعليم الحديث توطدت الأسرات واتصلت الأنساب والأجيال ووضحت مدلولات الأمة والقومية، وتميَّز الوطني المستقر عن الغريب الطارئ، ولا يلبث هذا الغريب إلا أن تتمثله كتلة المواطنين.
وثالث هذه العوامل أنه ابتداءً من مستهل القرن التاسع عشر أخذت حركات العشائر والقبائل تقلُّ شيئًا فشيئًا إلى أن تصبح الحركات الموسمية المحدودة التي تقتضيها حاجات البداوة.
وتتضح أهمية هذا العامل إذا عرفنا أن شرط نمو الوعي القومي الاستقرار، وأنه لا استقرار إذا أطاحت الهجرات وحركات العشائر والقبائل بالسكان، وخصوصًا بأهل الزراعة منهم. وقد تعرضت البلاد العربية عمومًا والعراق وسورية خصوصًا في الأزمنة الحديثة لهجرات واسعة النطاق، يذكرون منها حركات شمر وعنزة نحو بادية الشام والعراق في القرنين السابع عشر والثامن عشر، إلا أنه في القرن التاسع عشر أخذت تلك الحركات تقلُّ شيئًا فشيئًا إلى أن صارت كما قلنا الحركات الموسمية من مرعى إلى مرعى التي تقتضيها حاجات البداوة، وحتى البداوة الصرفة لا شأن لها يُعتدُّ به في الحياة العربية المعاصرة. والعشائر أخذت سبيل الاستقرار منتصف القرن التاسع عشر.
وقد نشر باحث بريطاني في مجلة الشئون الدولية التي تصدر في لندن (عدد يناير ١٩٥٥، واسم الكاتب نورمان لويس) بحثًا يوضح أهمية ذلك الاستقرار في سورية. وقد أثبت هذا الباحث أن نطاق الأرض المزروعة في الأقطار السورية اتسع بما يساوي المثل خلال القرن التاسع عشر وما انصرم من القرن العشرين.
ورابع هذه العوامل ما أفاده كل شعب من الشعوب العربية من توثق الصلات بين مختلف طوائفه بسبب اتجاه أنظمة الحكم والإدارة والتعليم نحو التوحيد على أساس المواطنة وبسبب تقدم وسائل المواصلات بين مختلف أجزاء القطر الواحد من الأقطار العربية. وأثر هذا العامل واضح في تكوين الوعي القومي.
وخامس هذه العوامل كان ردَّ فعلٍ لتغلغل النفوذ الأوروبي في مختلف الأقطار العربية، واستئثار الأوروبيين بشتى المنافع واعتبارهم أنفسهم أصحاب حق دون أبناء البلاد. ونضيف إلى هذا رد فعل آخر نتج عن أن الطبقات الحاكمة كانت بصفة عمومية غير عربية، هذا إلى سياسة التتريك التي انبعثت في الولايات الخاصة للسلطنة مباشرة.
فلا عجب أن تأثَّر الوعي القومي بهذا واصطبغ بصبغةٍ عربية.
والآن وقد عرضنا إيجازًا لمختلف عوامل تكوين الأوطان العربية ونمو الوعي القومي العربي بها، نعرض لاعتراض له أهميته، ويقوم الاعتراض على التسليم بنمو وعي قومي في مصر أو في تونس أو غيرهما، ولكنه لا يسلم بأن هذا الوعي كان وعيًا عربيًّا، بل هو مصري أو تونسي أو هو وعي إقليمي يناقض أو يضعف الوعي القومي العربي.
ونسلم بأن نظر المصريين إلى قضاياهم كان نظرًا مصريًّا صرفًا، ونسلم أيضًا بأن التعبير عن قوميتهم اتخذ هذا المظهر الإقليمي، ولكن من تتبع الحركات الوطنية المصرية لا يفوته أن يلحظ أن مما غذاها كان شعور الكافة بأنهم «عرب» أو «أولاد عرب»، وأن هذه الصفة لا يشاركهم فيها أبناء الطبقة الحاكمة، قد يشاركونهم في الوطنية ولكنهم لا يشاركونهم في تلك الصفة، ولا أظن أن منصفًا يستطيع أن يتصور عملًا قوميًّا مصريًّا قبل الحرب العالمية الثانية إلا في نطاق الوطن المصري. وهذا شأن الأوطان العربية الأخرى وإن اختلفت مظاهر التعبير فيها بعض الشيء.
وبانتهاء الحرب العالمية الثانية يبدأ فصل جديد من تاريخ الوعي القومي العربي، وهو فصل اشتراك الشعوب العربية المستقلة في بناء مجتمع عربي يقوم على أسس التضامن والتكافل. والتمهيد لهذا الفصل الجديد وتاريخ الأحداث الأولى منه مما تدرسونه في العام المقبل.