الملك كامس
•••
حقًّا يظهر أن قبر «كامس» لم يُصَبْ بسوء في عهد «رعمسيس» التاسع، غير أنه من المحقَّق أن حراس القبر خافوا عليه عبث اللصوص في تاريخ متأخر في العهود القديمة، فنقلوا تابوته ودفنوه على وجه السرعة سليمًا كما هو في حجر من تراب السهل الذي تطلُّ عليه جبانة «ذراع أبو النجا»، في مكان يقرب من المكان الذي كشف فيه عن تابوت الملكة «أعح حتب» السالفة الذكر، وقد ظلَّ الملك «كامس» مستريحًا في تلك الحفرة حتى كشف عنه «مريت» عام ١٨٥٧ ميلادية.
(١) قصة الكشف عن بقايا الفرعون كامس
ولما كانت قصة الكشف عن بقايا هذا الفرعون، وما دُفِن معه في تابوته من الحوادث العظيمة في تاريخ علم الآثار المصرية وتأسيسه في مصر، لم نَرَ بدًّا من تلخيصها هنا؛ إذ إنها في الواقع تكشف لنا أمورًا كثيرة عن أحوال مصر في تلك الفترة من تاريخها، وكيف كان ينظر ولاتها لآثارها وتراثها الخالد، وذلك أنه في ربيع عام ١٨٥٧ ميلادية كان الأمير «نابليون» ابن عم الإمبراطور «نابليون» الثالث، عائدًا من رحلة في المحيط المتجمد، ولما كان هذا الأمير مصدر قلق ومضايقة دائمة لابن عمه الإمبراطور، فقد كان الأخير لا يردُّ له طلبًا يقتضي رحلة خارج فرنسا؛ ولذلك لم يتردَّد طرفة عين في إجابة مطلبه في القيام برحلة إلى الشرق، ولا تزال رحلة الأرشدوق «مكسمليان» النمساوي في النيل ترنُّ في الآذان وموضوع حديث علية القوم؛ ولم يكن الأمير «نابليون» يرغب في منافسة الأرشدوق وحسب، بل يريد أن يفوقه في الحصول على مجاميع أثرية أهم من التي حملها إلى النمسا، وعندما وصل إلى «سعيد باشا» والي مصر خبر هذه الزيارة المزعومة، عقد العزم على أن يظهر لسمو زائره الإمبراطور كل مظاهر التجلة، ومراسيم الاحترام التي يستطيع إبداءها؛ ولذلك أرسل في الحال إلى «مريت» باشا الذي كان ملحقًا «بمتحف اللوفر» وقتئذٍ بالحضور إلى مصر في أكتوبر سنة ١٨٥٧ في إرسالية مدتها ثمانية أشهر، وقد رغب سعيد باشا في أن تكون كل خطوة يخطوها الأمير في زياراته جهات القطر ينبت فيها من الآثار ما يسرُّ عينَ الأمير، ويملأ قلبه غبطةً وعجبًا.
واقتصادًا في وقت الأمير، أمر «سعيد» باشا «مريت» أن يصعد في النيل، ويقوم بأعمال الكشف عن الآثار، ثم يدفنها ثانية في الأماكن التي سيمرُّ بها الأمير في رحلته، وقد أعدَّ المال اللازم لتلك الأعمال من جيب كلٍّ من «سعيد باشا» والأمير «نابليون»، وكذلك خصص الوالي يخته لذلك، وأصدر الأوامر إلى المديرين لتقديم ما يلزم من الأيدي العاملة، وفي هذه اللحظة كان «هنريخ بركش» قد وصل إلى مصر، فكلَّفَه «مريت» بالاستعداد للقيام معه بأعمال الحفر، وقد قامت فعلًا الكشوف الأثرية على قدم وساق في «الجيزة» و«سقارة» و«العرابة المدفونة» و«طيبة» و«إلفنتين»، وقد كشف فعلًا عن مجموعة عظيمة من الآثار الهامة، غير أن الأمير الذي من أجله قامت هذه الاستعدادات لم يحضر لاعتبارات هامة. وفي فبراير سنة ١٨٥٨ طلب إلى «مريت» العودة إلى عمله الرسمي «بمتحف اللوفر»، ولكنه كان وقتئذٍ قد رسم لنفسه خطة البقاء في مصر ليبني مستقبله العلمي بها، وقد اتخذ فعلًا الخطوات الأولى المؤدية إلى ذلك، فقد كان يعرف ميول الأمير «نابليون» إلى عمل مجموعة أثرية ليضعها في قصره؛ ولذلك عرض عليه عن طريق سكرتيره أنه إذا أخَرَّ موعد سفره إلى فرنسا، فإنه يكون في استطاعته أن يستولي له من «سعيد باشا» على بعض هدايا من التي كانت أُعِدَّت لرحلته التي لم تنفذ، فأُجِيب «مريت» على طلبه هذا بأن الأمير يكون سعيدًا جدًّا إذا حصل على مجموعة لا تكون نفاستها من ناحية قيمتها العلمية، بل يرغب في بعض مجوهرات وتماثيل صغيرة، ونماذج من الفن المصري، مع إيضاحات عن كيفية الكشف عنها.
وقد وافَقَ الوالي على ذلك ورجا «مريت» أن ينتخب من الآثار كل ما يروق في عين الأمير ويرضيه، ويضعها تحت تصرُّفه دون مقابل، ولم يَبْقَ على «مريت» بعد ذلك إلا أن يرتِّب أمرَ الحصول على سفينة بدون أجر لهذا الأمير المقتصد، وفي مقابل هذه الخدمات يستعمل هذا الأمير نفوذه لتعيين «مريت» مأمورًا للآثار المصرية بالقطر المصري، وقد تم له ما أراد، وبذلك أصبحت مصلحة الآثار المصرية في عالم الوجود.
نتائج الحفائر التي قام بها مريت وبركش في القرنة
وقد كانت للحفائر التي قام بها كلٌّ من «مريت» و«بركش» في «القرنة» نتائج سريعة، وقد وقفنا على معلومات عن المكان الذي وُجِد فيه تابوتان لاثنين من الأناتفة، وهما التابوتان اللذان كانا قد اشتراهما «مريت» قبل ذلك بثلاثة أعوام لمتحف «اللوفر»، وبمعرفة هذا المكان الذي كان يُعَدُّ مفتاحًا للعثور على آثار أخرى من نوعهما، أخَذَا يتابعان عمل الحفر في السهل المنبسط الذي تشرف عليه «جبانة ذراع أبو النجا»، وعلى مقربة من نفس هذا المكان كان قد عثر على تابوت «أعح حتب»، وكشف «مريت» في ديسمبر سنة ١٨٥٧ عن تابوت الملك «كامس» مدفونًا تحت كومة من التراب، وقد وُضِع بدون عناية ولا اهتمام؛ غير أنه كان لم يُمَسَّ بعدُ، ولما فحص «مريت» باشا محتوياته وجد أن التابوت ذاته ليس من الأشياء التي تروق في عين الأمير «نابليون»؛ ولذلك بقي في مصر. والواقع أن هذا التابوت ليس من نوع التوابيت الملكية الفاخرة التي كانت توشى بطبقة من الذهب النضار، كما أن الفرعون لم يكن يحمل على جبهته الصل الفرعوني المعروف. حقًّا إن التابوت كان من النوع الريشي، غير أنه كان ممَّا يُعمَل للأفراد لا الملوك، وقد ذُكِر اسم الملك «كامس» عليه! الملك ابن الشمس «كامس»، وكذلك وُجِد عليه اسم الملك «كامس» دون أن يُذكَر لقبه، كما وجدنا مثل هذه الحالة على تابوت الملك «أنتف» ممَّا جعل الباحثين وقتئذٍ في حيرة مستمرة.
محتويات التابوت
وقد لُوحِظ أن المومية لم تُجهز للدفن بعناية كما كانت الحال في كثير من الأحيان في هذا العهد المضطرب؛ ولذلك فإنه عندما كشف عنها «مريت» الغطاء ذهبت هباءً لتحللها تحللًا كليًّا، وقد لاحظ «مريت» أنه كان مربوطًا على أعلى ذراع «كامس» بردية مجدولة جدلًا أنيقًا، يتدلى منها خنجر من الطراز النوبي، كما وجد معه جعران وبعض تعاويذ، ووضع على صدره طغراء ملكية محاطة من كلا الجانبين بأسدين مصنوعين من خالص النضار، هذا إلى مرآة من البرنز، وقد كان الخنجر والطغراء والأسدان ضمن ما تشمله الهدية التي قدَّمها «سعيد باشا» للأمير «نابليون»، وقد آل مصير الخنجر إلى «متحف بركسل» ببلجيكا، أما الطغراء والأسدان فقد كانا من نصيب «متحف اللوفر». وكذلك كان «مريت» قد أرسل المرآة مباشَرةً إلى «متحف اللوفر»، أما الجعران والتعاويذ فقد اختفت ولا نعلم عنها شيئًا حتى الآن.
ويُعَدُّ الخنجر من الآلات الفاخرة التي عُثِر عليها في الآثار المصرية، ويبلغ طوله نحو ٣١ سنتيمترًا، ويشبه في صنعه الخنجر الذي وُجِد مع الملكة «أعح حتب»، اللهم إلا في بعض التفاصيل، أما المرآة فكانت مصنوعة من البرنز الذهبي اللون، ويبلغ حجمها حجم المرآة التي وُجِدت مع الملكة «أعح حتب».
ما يُستنبَط من دفن الملك «كامس» بهذه الكيفية
ويمكننا أن نستخلص بعض حقائق هامة من دفن الملك «كامس»؛ إذ تدل ظواهر الأمور على أن الفرعون قد قضى نحبه بعد حكم قصير، فلم يستطع أن يجهز لنفسه تابوتًا ملكيًّا مذهبًا يتفق مع ملكه؛ ولذلك نجد أن خلفه قد دفنه بعد وفاته بزمن قصير في تابوت رخيص، ممَّا كان يُشترَى عادةً من حانوت المتعهد لأفراد القوم، وقد خلفه على العرش «أحمس»، وهو الذي وُجِد سواره على مومية «كامس»، والرأي السائد الآن أن «أحمس» كان أخاه الأصغر، وهذا ما توحي به كل القرائن التي جُمِعت من «جبانة طيبة»، على أنهما كانَا ابني الفرعون «سقنن رع» والملكة «أعح حتب»، ولم نعرف شيئًا مباشرًا عن آثار هذا الفرعون إلا اللوح الذي وجده «كارنرفون»، وسنتكلم عنه فيما بعدُ، ولكن من جهة أخرى نعرف اثنين من الكهنة الذين كانوا في حراسة قبر هذا الملك في باكورة الأسرة الثامنة عشرة: أولهما «مس» الذي كان يحمل ألقابًا كاهنية في معبدَيِ الملك «تاعا» والملك «تحتمس» الأول، وكان يعمل كاهنًا جنازيًّا للملك «كامس»؛ والكاهن الآخَر اسمه «مس» أيضًا، وقد وجد له الأثري «لانسنج» بعض بقايا من آثاره في «البرابي»، وكان يقوم بوظيفة رئيس الكهنة للفرعون، وقد ذكرنا أن «كامس» كان يُعَدُّ ضمن أرباب الغرب الذين يُعبَدون في عهد الأسرة التاسعة عشرة.
مقبرة الملك كامس
أما القبر الذي وجد فيه «اللورد كارنرفون» لوح هذا الفرعون الخاص بحروب الهكسوس، فإنه يبعد عن هذا الهرم بنحو ١٥٠ مترًا.
ولهذا الفرعون ثلاثة أسلحة في المجاميع الأثرية الإنجليزية قد يُحتمَل أنها من إحدى مقابر حاشيته، وكلها تحمل اسم هذا الفرعون، وأجمل قطعة بينها سيف من النحاس آية في دقة الصنع، وهو في مجموعة «إيفانز» منقوش عليه: «وازخبر رع» محبوب «أعح»، وعلى نصله كتب أبو الهول الإله الطيب رب القربان «وازخبر رع» إني أمير شجاع محبوب رع بن «أعح» (القمر)، والذي أنجبه «تحوت» ابن الشمس (كامس) منتصرًا في الأبدية.
ولا نزاع في أن هذا النقش يشعر بما كان يحسه هذا الملك من الثقة بنفسه في المعركة المقبلة التي كانت تنتظره لطرد الهكسوس من البلاد، فيقول: «إني أمير شجاع»، وقد لقب والده من قبله «تاعا» الشجاع؛ ممَّا يدل على أن هذه الأسرة كانت سليلةَ الشجاعة والإقدام في البلاد.
(٢) كامس يتخذ لنفسه اسمًا جديدًا
والظاهر أن السبب المباشر الذي دعا أولئك الفراعنة الأماجد — الذين يؤلفون باكورة فراعنة الأسرة الثامنة عشرة، وهم الذين على يدهم كان القضاء على قوم الهكسوس الغاصبين للبلاد — إلى المحافظة على هذا التقليد، هو أنهم أرادوا أن يظهروا للعالم المصري أولًا، وللأمم المجاورة ثانيًا، أنهم قد أصبحوا حكامًا على البلاد؛ ريفها وصعيدها، وأنهم نالوا ذلك بشجاعتهم وقوة بأسهم، فبدلًا من أن يركبوا أسماءهم بأسماء الآلهة مزجوا أسماءهم بصفات الشجاعة أو ما يدل على القبض على ناصية القطرين، فنعت «سقنن رع» أول مناضل مع الهكسوس نفسه بالشجاع، ثم خلفه «كامس» وسمَّى نفسه «بالأمير الشجاع»، ثم جاء بعده «أحمس» فأطلق على نفسه «أمير الأرضين» بدلًا من اسم «أحمس»، وأخيرًا جاء «تحتمس» الأول وقلَّد جده فسمَّى نفسه كذلك «أمير الأرضين»؛ والظاهر أنه بعد أن استقر لتلك الأسرة مُلْك البلاد نهائيًّا، وأخذت فتوحهم تمتد خارج حدود مصر، لم يروا ضرورةً للتسمية بهذه المسميات.
(٣) لوح كارنرفون الخاص بحروب الملك «كامس»
والآن نعود لشرح الجزء الذي قام به هذا الفرعون (أحمس) في تحرير البلاد كما جاء على لوحة «كارنرفون».
«السنة الثالثة» — «حور» الظاهر على عرشه، وصاحب الإلهتين، لمعبد الآثار — حور الذهبي الذي يجعل الأرضين مسرورتين، ملك الوجه القبلي والوجه البحري (واز خبر رع ابن الشمس) «كامس»، معطي الحياة مثل «رع» أبد الآبدين، محبوب «آمون رع» سيد الكرنك.
الملك القوي في ربوع «طيبة» «كامس» معطي الحياة مخلدًا، كان ملكًا محسنًا، وقد جعله «رع» ملكًا حقيقيًّا، وسلَّمه القوةَ بالحق المبين، وقد تكلَّمَ جلالته في قصره إلى مجلس كبار الدولة الذين كانوا في حاشيته، قائلًا: إلى أي مدًى أدرك كنه قوتي هذه عندما أرى حاكمًا في «أواريس» وآخَر في بلاد «كوش» (بلاد النوبة)، وأنا أجلس (في الحكم) مشتركًا مع رجل من «العامو» (الهكسوس) وعبد، وكل رجل منهما مسئول عن جزئه من مصر هذه؟ وذلك الذي يقاسمني الأرض لا أجعله يمر في ماء مصر حتى «منف» تأمل! إنه يسيطر على الأشمونين، ولا يرتاح رجل لصيرورته عبدًا للستيو (الآسيويين)، وإني سأصارعه وأبقر بطنه، وإن رغبتي هي تحرير مصر والقضاء على الآسيويين.
وعندئذٍ قال عظماء مجلسه: تأمل لقد تقدَّم الآسيويون حتى وصلوا إلى القوصية، ولقد أخرجوا ألسنتهم لنا حتى آخرها (احتقارًا كما يُفعَل الآن). إننا في طمأنينة؛ نملك نصيبنا من مصر، و«إلفنتين» قوية، والأرض الوسطى في جانبنا حتى «القوصية» (وهي عاصمة المقاطعة التالية لمقاطعة الأرنب). والقوم يحرثون لنا (أي الهكسوس) أحسن أرضهم، وماشيتنا ترعى في مستنقعات الدلتا البردي، والشعير يدرس لخنازيرنا، ومواشينا لم تُغتصَب … بسبب ذلك وهو (العدو) يستولي على أرض العامو (أي: أرض الدلتا) ونحن نملك مصر، ولكن كل مَن يأتي إلى أرضنا ويناهضنا، عندئذٍ سنناهضه.
وكانوا قد أغضبوا قلب جلالته (بقولهم هذا): أما عن مجلسكم هذا … فإن هؤلاء العامو الذين … تأملوا فإني سأحارب العامو وإن النصر سيأتي وإذا … بالبكاء فإن الأرض قاطبة سترحب بي بوصفي الحاكم القوي في داخل «طيبة» «كامس» حامي مصر، ولقد أقلعت منحدرًا في النيل بوصفي محاربًا لأهزم «العامو» بأمر «آمون» صادق النصيحة، وقد كان جيشي شجاعًا يسير أمامي كأنه عاصفة من نار، وكان جنود «المازوي» في مقدمة معاقلنا ليتجسسوا على مواقع الستيو، وليدمروا مواقعهم شرقًا وغربًا، ومعهم طعامهم وأدمهم، وقد كان جيشي مكتظًّا بالمؤن في كل مكان، وقد أرسلت جيشًا من «المازوي» في حين أني قد أمضيت اليوم … لأحبس (؟) … «تيتي» بن «بيوبي» داخل «نفروسي» (وهي مدينة على بُعْد بضعة أميال شمالي الأشمونين، وتقع بين الأخيرة والكوم الأحمر)، وكنتُ لا أريد السماح له بالهرب، ثم جعلت «العامو» الذين اعتدوا على مصر يولون الأدبار، وقد كان مثله كمثل رجل … قوة العامو. ومضيت الليلة في سفيني وقلبي فَرِح، وعندما أضاء النهار انقضَضْتُ عليه كالصقر، وعندما جاء وقت تعطر الفم (الإفطار) كنت قد هزمته وخربت أسواره، ذبحت قومه، وجعلت زوجه تنزل إلى شاطئ النهر.
وكان رجال جيشي كالأسود عندما ينقضُّون على الفريسة، ومعهم العبيد والقطعان والأدم والشهد، فقسموا غنائمهم وقلوبهم فَرِحة، وكان إقليم «نفروسي» على وشك السقوط، ولم يكن بالأمر العظيم عندنا أن تُحبَس زوجه؟ … وكان «برشاق» غير موجود عندما وصلته، وهربت خيولهم في الداخل والحامية (؟) …
محتويات هذا اللوح
(٤) النصوص الخاصة بحروب الهكسوس
ولذلك فلا بد أن نحول أنظارنا إلى ترجمة حياة رجلين من كبار رجال الجندية في عصر هذا الفرعون لنقف على بعض تفاصيل عن طرد الهكسوس، وأولهما هو «أحمس بن أبانا» (أبانا اسم والدته)، وقد التحق بخدمة الفرعون «أحمس» في أوائل حكمه، وقبل مماته ترك لنا قصة تاريخ حياته على جدران قبره بالكاب.
يقول الضابط البحري «أحمس» بن «أبانا» (أبانا اسم والدته) صادق القول:
أيها الناس إني أتكلم إليكم جميعًا، وأجعلكم تعرفون الإنعامات التي نلتها، وكيف أني قد كُوفِئت بالذهب سبع مرات أمام الأرض قاطبة، وكذلك بالعبيد والإماء، وكيف أني قد مُنِحت أراضي شاسعة جدًّا؛ لأن اسم الرجل الشجاع يمكث في الشيء الذي فعله، وأنه لن يغمر (اسمه) في هذه الأرض إلى الأبد.
وهكذا تكلم: لقد نشأت في مدينة (نخب) الكاب الحالية، وقد كان والدي جنديًّا لملك الوجه القبلي والوجه البحري المرحوم «سقنن رع» واسمه «بابا» بن «رعنت»، وقد انخرطت جنديًّا بدلًا منه في سفينة الثور الوحشي، في زمن سيد كلتا الأرضين، صادق القول «نب بحتي رع» (أي: الملك أحمس) حينما كنت شابًّا، ولم أكن قد اتخذت لي زوجًا، بل قضيت ليالي في سرير بحار، وعندما أسست منزلًا (أي: تزوجت) نقلت على ظهر السفينة المسماة «الشمالية»؛ لأني كنت شجاعًا، وكنت قد اعتدت مصاحبة الملك على الأقدام، في خلال أسفاره إلى الخارج في عربته، وعندما جلسوا أمام مدينة «أواريس» (حاصروها) أظهرت شجاعة، وأنا على قدمي في حضرة جلالته، وعلى ذلك رُقيت إلى السفينة المسماة «الظهور» في «منف».
وعندما بدءوا الحرب على الماء في القناة «بزدكو أواريس» أسرت أسيرًا وأحضرت يدًا، وقد أعلن ذلك لحاجب الفرعون، ومن أجل هذا أُعطيت «ذهب الشجاعة».
وقد أعيد القتال في هذا المكان، وقمت بأسر أسير آخَر هناك، وأحضرت يدًا؛ فأعطيت «ذهب الشجاعة» ثانيةً، وعندما حاربوا في مصر في الجزء الجنوبي من هذه البلد (أي: أواريس) أحضرت أسيرًا حيًّا، وقد ذهبت به إلى الماء؛ لأنه كان قد أُسِر في الجهة التي فيها المدينة، وحملته معي في الماء إلى الجهة الأخرى، وقد أعلن حاجب الملك بذلك، وتأمَّلْ: لقد كُوفِئت «بذهب الشجاعة» من جديد، ثم ساروا بعد ذلك لنهب «أواريس»، وقد أحضرت من هناك أسلابًا: رجلًا واحد وثلاث نساء، أيْ مجموع أربعة رءوس، وقد أعطانيهم جلالته عبيدًا؛ ثم حاصروا بلدة «شروهن» ثلاث سنوات، وعندما نهبها جلالته أحضرتُ من هناك غنائم: امرأتين ويدًا، وقد أعطيت «ذهب الشجاعة»، وتأمَّلْ فإن غنيمتي قد أعطيتها عبيدًا.
والآن عندما ذبح جلالته «منتيو» (آسيا) صعد جنوبًا إلى «خنت حن نفر» (بلاد النوبة) ليقضي على بدو «بلاد النوبة»، وبدأ جلالته مذبحة عظيمة فيهم، وبعد ذلك أحضرت من هناك غنيمة: رجلين على قيد الحياة وثلاث أيدٍ، وقد كُوفِئت بالذهب من جديد. انظر! فقد أعطيت أَمَتَيْن، وأقلع جلالته شمالًا وقلبه فَرِح (بما أُوتِي) من شجاعة وفوز؛ لأنه استولى على الجنوبيين والشماليين.
وبعد ذلك جاء «آتا» صاحب الجنوب إذ ساقه حتفه، وآلهة الوجه القبلي مستولون عليه، وقد وجده جلالته في «تنتاعا» (مورده)، وأحضره جلالته أسيرًا حيًّا، وكذلك أخذ كل قومه غنيمة باردة، وبعد ذلك أحضرت محاربين أسيرين من سفينة «آتا»، وأعطيت خمسة رءوس وجزءًا من الأرض مساحته خمسة «أرورا» في مدينتي، وقد كُوفِئ كل الأسطول بمثل ذلك.
ثم أتى ذلك الخاسئ المسمى «تيتي عن» وقد جمع العصاة معه، فذبحه جلالته وقضى على بحارته، وبعد ذلك أُعطيت ثلاثة رءوس وخمسة «أرورا» في مدينتي.
وحملت على الماء ملك الوجه القبلي والوجه البحري المرحوم «زسر كارع» (أمنحوتب الأول)، عندما كان متجهًا جنوبًا إلى «كوش» ليوسع حدود مصر، وقد قضى جلالته على ذلك النوبي البدوي في وسط جيشه، وأحضره إلى مصر في الأغلال، ولم يفلت واحد منهم، ومَن أراد الفرار أُلقِي أرضًا وصار كالذين لم يسبق لهم وجود أبدًا؛ والآن كنتُ في مقدمة جيشنا، وقد حاربت بكل شجاعة، ورأى جلالته شجاعتي، وقد أحضرت يدين وقُدِّمتا لجلالته، وعندما ذهبوا ليبحثوا عن قومه وماشيته أحضرت أسيرًا حيًّا وقد قُدِّم لجلالته، وحملت جلالته في يومين إلى مصر من بئر «حراو» وكُوفِئت على ذلك بالذهب، ثم أحضرت أَمَتَيْن غنيمة خلافًا للائي قدَّمتهن لجلالته، وقد رُقيت إلى وظيفة محارب للحاكم (لقب حربي).
وقد حملت على ظهر الماء ملك الوجه القبلي والوجه البحري المرحوم «عا خبر كارع» (تحتمس الأول)، عندما كان مصعدًا جنوبًا إلى بلاد النوبة ليقضي على العصيان في كل الأراضي؛ وليطرد المُغِيرين من الأقاليم الصحراوية، وقد أظهرت شجاعة في حضرته في المياه المضطربة، وذلك بجعل السفينة تقتحم الشلال، وعلى ذلك رُقيت ضابطًا بحريًّا.
وقد سمع جلالته أن … وصار جلالته غاضبًا عند ذلك كأنه فهد، وأرسل جلالته سهمه؛ وقد لصق أول سهم في عنق التعس، وهؤلاء العصاة كانوا … وارتبك عند صل جلالته، وقد أقيمت هناك مذبحة لمدة ساعة، وأحضر قومهم أسرى.
ثم انحدر جلالته في النهر نحو الشمال، وكل أراضيه الأجنبية في قبضة يده، ورأس ذلك الخاسئ النوبي البدوي منكس في مقدمة سفينة جلالته (الصقر) ونزلوا في «الكرنك».
وبعد ذلك قام (جلالته) بحملة إلى بلاد «رتنو» ليغسل قلبه (أي: لينتقم) من كل البلاد الأجنبية، فوصل جلالته نهرينا (أي: بلاد النهرين) أو (مسوبوتاميا).
وقد وجد جلالته ذلك الخاسئ عندما كان ينظم قواته، وقد أحدث بينهم مذبحة عظيمة، وكان الجنود الأسرى الذين أحضرهم جلالته من انتصاراته يخطئهم العد وكنت في مقدمة جيشنا، وقد رأى جلالته كيف كنت شجاعًا، وقد غنمت عربة بجوادها، وكان الجندي الذي فيها أسيرًا حيًّا، وقد قدمت هذه لجلالته، وكُوفِئت بالذهب من جديد، وإني قد أصبحت مقعدًا ووصلت إلى سن الشيخوخة، ولكن العطف الذي أظهر لي كان مثل العطف الأول … إني أضطجع في القبر الذي أقمتُه لنفسي في الأرض العالية (الجبانة).
أهمية نصوص تاريخ حياة أحمس بن أبانا
وقد كان المصري يبذل همه في إلباس الحقائق المجردة ثوبًا من التنميق والزخرفة، فلم نجد في الوثائق المعاصرة التي في متناولنا شيئًا من حقائق التاريخ المجردة الخاصة بالاستيلاء على «أواريس»، وهي حادثة تاريخية من الأهمية بمكانٍ، اللهم إلا في ترجمة حياة ضابط حربي نقشها على جدران قبره في بلد ريفية بعيدة.
والواقع أنه رجل من عامة الشعب قد جَنَتْ له شجاعته ثروةً طائلة، ولكنه على وجه التأكيد لم يكن أميرًا بحريًّا للأسطول المصري كما يقال عنه، ومن المحتمل أنه كان له أقران في مدينته التي وُلِد فيها. والقائمة الخاصة بالأراضي التي منحها إياه «أحمس» تتبعها قائمة أخرى تنص على العبيد الذين أعطاهم إياه الفرعون.
ومعظم أسماء هذه القائمة هي أسماء مصرية، ولا بد أن نستنبط على الأقل أن بعض الأجانب الذين ضموا إلى بيت «أحمس»، قد غيَّروا أسماءهم الأجنبية بأسماء مصرية، والاسم الوحيد الذي يمكن أن نعدَّه (بشيء من الصحة) اسمًا ساميًّا هو اسم الأَمَة «استارام»، وهو الذي قد رُكِّب على ما يظهر تركيبًا مزجيًّا مع اسم الإلهة «عشتارت»؛ ويقول «بورخارن» إنه يتركب من اعتشارامي؛ أي «عشتارت أمي»، وإنْ كان ذلك ليس محققًا، والاسم «تاموثو» وقد قرن بأسماء عبرية مثل «آموس»، غير أنه وجد أن مصرية من علية القوم تحمل هذا الاسم بعد ذلك العهد بقرن من الزمان.
أحمس بن أبانا وأعماله في حروب الهكسوس
وبعد ذلك جاء حصار «شاروهن»، وهي بلدة في قبيلة «سيمون» جنوبي «يوده»، وهي التي قد تقهقر إليها الهكسوس، وقد سلمت بعد حصار ثلاث سنوات، وقد كان «أحمس» حاضرًا واشترك في الغنائم، وقد وجد الأستاذ «زيته» في مقدمة تاريخ «تحتمس» الثالث المهشم، ما يعتبره إشارةً إلى استقرار حامية الهكسوس في «شاروهن»، ولكن هذه العبارة تظهر لنا أنها تشير إلى عسكرة الجنود المصرية في البلدة إلى أن أصبح مركزهم مهدَّدًا بعصيان واسع النطاق في سوريا، وذلك عندما شعر الفرعون بأنه لا بد من تدخُّله وحمايتهم.
السنة الثانية والعشرون، الفصل الرابع من فصل الشتاء، اليوم الخامس والعشرون، مرَّ جلالته بقلعة «ثاروا» في أول قلعة مظفرة؛ ليطرد الذين هاجموا حدود مصر بشجاعة ونصر، وبقوة وفوز.
وقد مرت مدة طويلة من السنين كان فيها الآسيويون يحكمون البلاد اغتصابًا، والكل يخدمون أمام (أمرائهم الذين كانوا في أواريس)، وقد اتفق في أزمان أخرى أن الحامية التي كانت هناك كانت في مدينة «شاروهن»، وهم الآن من «يرذ» حتى نهاية الأرض في استعدادٍ للثورة على جلالته.
على أن سقوط «شاروهن» لم ينهِ حملةَ «أحمس» الأول في فلسطين؛ وذلك لأن لدينا جنديًّا آخَر يُدعَى «أحمس بنخبت» من مدينة «الكاب» أيضًا يخبرنا كيف أنه سار في ركاب الملك إلى «زاهي» أو «فينقيا»، حيث أسر أسيرًا ويدًا، أما عن «أحمس بن أبانا» فإنَّا نسمع عنه ثانيةً في بلاد النوبة حيث قام بأعمال جليلة جديدة، وكُوفِئ عليها بكرم.
أما الحملتان الأخريان اللتان حارَبَ فيهما في عهد «أحمس» الأول، فكانتا على ما يظهر في مصر نفسها، حيث قام عصيان أولًا بقيادة عدو مغمور الذكر، قد يُحتمَل أنه نوبي يُدعَى «آتا»، وثانيًا عصيان آخَر بقيادة شخص يُدعَى «تيتي عان»، وهو على ما يظهر من اسمه قد يكون مصري المنبت.
ما نستخلصه من رواية أحمس بن أبانا عن حروب الهكسوس
(٥) الدور الذي قام به أحمس «بنخبت» في حروب الهكسوس
لقد رافقتُ ملك الوجه القبلي والوجه البحري «نب بحتي رع» (أحمس الأول) المرحوم، وقد غنمت له من «زاهي» أسيرًا حيًّا ويدًا.