الهكسوس من المصادر الأثرية
لا جدال في أن علم الآثار منفردًا لا يمكنه أن يمدنا بنوع المعلومات التي تمدنا بها
الوثائق المكتوبة، اللهم إلا إذا وُجِدت الوثائق في أثناء الحفر؛ لأن معظم القطع
الأثرية تكون عاريةً من النقوش، والواقع أن المخطوطات تبحث في الآراء والحوادث
والشخصيات، أما الآثار فخاصة بالأشياء الأكثر ماديةً، غير أن هذه الأشياء المادية قد
تنطق أحيانًا بما لا تنطق به أية وثائق.
والواقع أنها قد نمت معلوماتنا كثيرًا عن الهكسوس. هذا، ونجد أن كلًّا من المصدرين
مكمِّل للآخَر، كما أنه لا يمكن الاعتماد على واحد منهما دون الآخر.
ومع أنه قد تظهر مادة جديدة في عالم الوجود في أية لحظة زيادة عمَّا كُشِف، فإنه
مما
لا شك فيه الآن أن الهيكل العظمي الأثري لهذا العصر يمكن أن نعتبره قد تكوَّنَ واتخذ
شكلًا ظاهرًا، ويرجع معظم الفضل في ذلك للأستاذ «ألبريت
Albright» أولًا: لِمَا قام به من حفائر علمية دقيقة في «تل بيت مرسيم»
في «يودا»، وثانيًا: لتطبيقه علم الآثار المقارن، ولا أدل على ذلك من تقاريره عن حفائر
«تل بيت مرسيم».
١
غير أن عمل «ألبريت» كان لا يمكن أن يأتي بثماره المطلوبة دون الملاحظات السابقة
التي
أدلى بها كبار الباحثين مثل الأب «فنسان» و«كلرنس فشر».
٢
وإذا حاولنا أن نضع هنا بيانًا مختصرًا قد لا يفي بالمقصود عن الطريقة اللازمة للوصول
إلى هذا الغرض، فإن ذلك قد يُعزَى إلى وجوب تحقيق المواد التي صنعها الهكسوس أو
استعملوها في حاجياتهم. والواقع أنه قد اعترضَتِ الباحثَ في بادئ الأمر عدةُ عقبات،
فقبل البحث المقارن كان بعض الآثار الخاصة بالهكسوس وحدهم (وهي التي لم تكن معروفةً
بأنها من صناعة الهكسوس) قد أُرِّخت بعهد متأخِّر يرجع إلى القرن العاشر قبل الميلاد،
وهذه الغلطة قد صُحِّحت في الحال، ويرجع معظم الفضل في ذلك لوجود جعارين معروف تاريخها
مع تلك الآثار؛ ومن ثَمَّ أصبحَتِ المسألةُ تنحصر في درس هذه الآثار على أنها داخلة في
نطاق عهد الهكسوس.
(١) الكشوف الأثرية في فلسطين تزيد في معلوماتنا عن الهكسوس
وقد تقدَّمَتْ معلوماتنا تقدُّمًا محسوسًا في هذا السبيل في خلال السنين القليلة
الماضية، ومن العجب أن هذا التقدُّم في الحصول على معلومات في هذا الصدد لا يرجع
كثيرًا لمصر كما يرجع إلى فلسطين، وهذا الموقف يُعزَى إلى أن فلسطين من الوجهة
الأثرية بلد فقير؛ إذ ليس فيها معابد فخمة أو مقابر ضخمة كما يوجد في مصر؛ ولذلك
كان لزامًا على الأثري أن يتعرَّف ثانيةً تاريخَ البلاد القديم من فحص بقايا البلاد
التي دُفِنت منذ زمن بعيد بكل دقة وعناية، وقد كانت نتيجة ذلك أنه أصبح في مقدور
الأثري أن يضع المواد الأثرية الخاصة بعهد الهكسوس، في مكانها التاريخي بثقة، بسبب
ارتفاع النيل في طبقات تربتها الآن؛ إذ لا نزاع في أن الدلتا هي المكان الذي يجب أن
نتطلع إليه قبل أي مكانٍ للعثور على آثار قد تأثَّرَتْ بمدنية الهكسوس.
أما في «سوريا» فإن التقدُّمَ في هذا السبيل يسير بخطًى واسعة، غير أنه يجب أن
نحوِّل أنظارنا في الوقت الحاضر نحو «فلسطين» وما يُكشَف فيها من آثار عملت على حسب
حفائر نظمت موادها وفق الطبقات التي خرجت منها؛ إذ تُعتبَر فلسطين الضابط الحقيقي
لعصر الهكسوس في سوريا ومصر.
(٢) الدور الذي لعبته قطع الفخار في التاريخ
ولسنا في حاجة لتأكيد الدور الذي لعبته قطع الفخار في تقدُّم التاريخ الصحيح على
حسبها، والواقع أنه على إثر إمكان تحديد فخار عصر الهكسوس، قد أصبح من الممكن أن
نعرف نواحي أخرى من ثقافة هؤلاء القوم؛ فالآلات المعدنية مثلًا التي كانت في العادة
توجد جنبًا لجنب مع فخار عصر الهكسوس، يمكن عدُّها من صناعة الهكسوس أيضًا. والواقع
أنه أصبح من الميسور درسُ كلِّ نواحي بلدٍ ما من جهة الحياة والعادات والمميزات
الهكسوسية.
ومع وجود أشكال عدة من الفخار في «فلسطين» خاصة بعهد الهكسوس، فإنها كلها لا
تعنينا في هذا البحث، وسيكفي لغرضنا هنا ذكر القليل منها الذي يُعَدُّ من إنتاج
الهكسوس بكل معاني الكلمة.
طراز فخار تل اليهودية
وأحسن طراز معروف خاص بعصر الهكسوس هو ما يسمى طراز «تل اليهودية»، وقد
سُمِّي بذلك من اسم موقع هام يُنسَب للهكسوس في الدلتا، حيث قد وُجِد فيه هذا
النوع من الفخار بكثرة.
٣ وهذا الفخار كمثري الشكل ذو رقبة طويلة ضيقة، وقبضته تمتد من كتف
الإناء إلى حافته، وتمتاز بأنها مزدوجة، وتنتهي قاعدته في الغالب بزر، وظاهر
الإناء مصقول، ولونه في العادة أسود غربيب، أو برتقالي لامع، وعندما يكون لون
الإناء أسود فإن ظاهره يكون غالبًا مغطًّى بأشكال مختلفة غائرة، وهذه الخطوط
الغائرة المؤلَّفة لهذه الأشكال مملوءة بصبغة بيضاء اللون.
وكذلك يوجد طرازان آخَران خاصان بعهد الهكسوس كبيرَا الحجم نسبيًّا، ولكل
واحد منهما مقبض مثبت عند كتف الإناء.
٤ هذا، إلى إبريق صغير ظريف الشكل له قاعدة مدببة.
٥ ومن ذلك يُرَى في الحال أنه عندما يتعرَّف الإنسان على طراز من هذا
الذي ذكرنا بأنه من صناعة الهكسوس، يصبح مساعدًا ذا قيمة لا تُقدَّر لكشف
المواقع التي كان يحتلها الهكسوس.
ظهور فخار من طراز جديد يدل على هجرة قوم جدد
ويُلحظ أنه بعد أن وطد الهكسوس أقدامهم بمدة في فلسطين قامت حركة هجرة أخرى
تركت آثارها في البلاد، وليس لدينا وثائق مدوَّنة من فلسطين تدلُّنا على مَن هم
هؤلاء القوم الجدد، ولكن الفخار ذا اللونين الذي كان يُرسَم عليه غالبًا أشكال
طير أو شجرة أو سمكة،
٦ هو الذي كان يستعمله هؤلاء القوم، هذا بالإضافة إلى أختامهم
٧ الأسطوانية الشكل ذات الطابع الخاص، التي تجعلنا إذا ما قرَنَّاها
بمثيلاتها مما يُصنَع في شمالي «مسوبوتاميا» نقترح بأن هؤلاء حوريون، وبعبارة
أخرى نقول إن العناصر الجديدة من الفخار التي دخلت «فلسطين» يمكن قرنها بمواد
استعملها قوم يسكنون شمالي «مسوبوتاميا» كانوا يتكلمون اللغة الحورانية،
٨ وستستعمل كلمة «حوراني» في هذا المعنى هنا، وإنْ كنَّا سنبرِّر
استعمال هذا الاسم بأسباب أخرى فيما بعدُ.
وهذه العناصر الجديدة من الفخار مع كونها «حورانية» يجب أن نعتبرها هكسوسية؛
لأن الأساس الثقافي الذي وُضِعت قواعده على يد الهكسوس الأول قد استمر جنبًا
لجنب مع الثقافة الجديدة، وكذلك لأن هذا التغيير قد ظهر في مصر قبل طرد الهكسوس
منها بمدة ما (راجع المصدر عن ظهور الفخار الحوراني في العصر الذي يقع قبل
الأسرة الثامنة عشرة في مصر فيما يأتي).
٩
أما فيما يخص فلسطين وحدها، فإنه كانت توجد ثقافتان تُنسَب إحداهما إلى
الأخرى في خلال احتلال الهكسوس للبلاد.
(٣) علاقة الهكسوس ببلاد مسوبوتاميا
ويلاحظ أنه لم يَرِد إلى مصر أيُّ صنف من الفخار الذي ذكرناه أبدًا، ولكن هذا لا
يمنع نقل بعض الأفكار الصناعية إليها، وهذا مؤكد على ما يظهر في التقدُّم الزخرفي
الذي يشاهد على القدور، ولكن الأوعية نفسها كانت تُصنَع في مصر كما يبرهن على ذلك
وجود المصانع المحلية الخاصة بها، ووجود مقدار عظيم من الطراز الحوراني يجعلنا
مُحِقِّين إذا أرجعنا سببَ ذلك إلى هجرة مباشِرة من بلاد «حوري» الواقعة شمالي
«مسوبوتاميا» إلى مصر، على أنه من جهة أخرى توجد بعض أشياء مستوردة لا تحتمل الشك
نشاهدها في زمن خرائب الهكسوس، وفي مدافن هذا العصر، وهذه الواردات معظمها من
«قبرص».
(٤) انتشار تجارة الهكسوس ومدنيتهم
وفي الوقت نفسه نجد أواني من صناعة «الهكسوس» في «قبرص»، ممَّا يوحي بتبادل تجاري
بين البلدين،
١٠ ولم تكن التجارة كاسدة في عهد الهكسوس، بل كان من المحتمل وجود موانٍ
بحرية أكثر نشاطًا على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط في ذلك العصر، وكان يزيد
عددها على ما هو موجود الآن، وقد كان الهكسوس أصحابَ نشاط كذلك في ميدان صناعة المعادن،
١١ وتدل التحاليل العدة التي أُجرِيت في المعادن التي عُثِر عليها في
فلسطين بأن النحاس كان المعدن الهام المستعمل في العهود التي قبل عصر الهكسوس، ولكن
عند وفود القوم الجدد على البلاد أمكننا أن نرى بداية حلول عصر استعمال البرنز، ومن
المعلوم أن أول ظهور للبرنز في أي مجتمع كان له دائمًا تأثير انقلابي؛ وذلك لأن
مقدار القصدير الذي يضاف إلى النحاس، وهو المادة الهامة في تكوين سبيكة البرنز،
يكون عونًا في الحال على إحداث تحسينات فنية؛ لأن السبيكة الناتجة من هذا المزج
تسهل عمل قالب نظيف، وكذلك تنتج معدنًا أشد صلابةً وأكثر نفعًا، فضلًا عن انصهاره
بدرجة حرارة منخفضة،
١٢ وتوجد ميزة أخرى لهذه السبيكة، وهي إمكان معالجتها في قوالب مقفلة تكون
نتيجتها إخراج أشكال جديدة.
وقد أحضر الهكسوس معهم هذا المخترع الفني إلى البلاد في صورة راقية رقيًّا
بارعًا، ومن المحتمل أن فوائده كانت ظاهرة في حالات عدة في معاملاتهم مع البلاد
التي لم تكن تعرف بعدُ البرنزَ وبخاصة مصر.
وليس من الضروري أن نعالج هنا أشكالًا معدنية معينة؛
١٣ لأن بعض هذه سيشار إليه عند فحص مسائل نوعية، ونكتفي هنا الآن أن نقرر
بأنه يوجد طراز خاص يشمل الأسلحة والمجوهرات التي كانت على ما يظهر مميِّزة لعهد
الهكسوس، وذلك ينطبق على أشياء أخرى مثل الجعارين، والأواني المصنوعة من المرمر،
والمطعمة بالعظم، ومواد أخرى عُثِر عليها في بلاد أو مدافن تُنسَب إلى
الهكسوس.
(٥) طراز التحصينات الخاص بالهكسوس
وطراز تحصين المدن الذي كان من أعظم مخصصات الهكسوس يتألف من طوار منحدر أو
استحكام يُبنَى فوقه جدار البلدة نفسها، وزيادة في التحصين كان يحاط بحفر خندق أو
حفرة في غالب الأحيان، وكان يُستعمَل في إقامة مثل هذا الطوار غالبًا المواد
الموجودة في البيئة التي أُقِيم فيها هذا المبنى، مثل الرمل والطين واللبن والأحجار
والجص. وكان تصميم بناء مدن الهكسوس يمليه إلى حدٍّ ما التكوين الطبعي للأرض التي
ستقام عليها المدينة، فإذا كانت السلالة الجديدة قد عقدت العزم على أن تقيم بلدتها
مثلًا على تل بيضي الشكل أو غير منتظم الأضلاع، لأجل أن تكون بالقرب من عين ماء أو
لتستفيد من البناء على قلعة، فإن أفرادها في مثل هذه الأحوال يبنون جدرانهم حسب
طبيعة المكان وما فيها من شذوذ.
١٤
وهذا أمر على ما يظهر طبعي جدًّا، ومن خصائص بعض تحصينات الهكسوس أنها تميل إلى
الشكل المستطيل أو المربع حينما تسمح بذلك طبيعة الأرض التي سيقام عليها المبنى.
هذا، وقد لفت نظر الباحثين أن جوانب هذه المباني وأركانها، كانت تقام مواجهة الجهات
الأربع الأصلية، وقد كشف عن مثل هذه التحصينات في الوجه البحري، وفي فلسطين وسوريا،
وفي معظم الأحيان قد عرفت أنها من مباني «الهكسوس» بخصائصها، وقد كان أحسن معسكر
مستطيل الشكل، وهو الأول الذي عُرِف أنه من بناء الهكسوس، هو المعروف الآن ﺑ «تل
اليهودية» في الدلتا.
١٥
وصف حصن تل اليهودية
وكانت مساحة المبنى نحو ١١٠٠ قدم مربع من الداخل، وأركانه مستديرة، وله رصيف
من الرمل مطلي بالجص، وقد دُعِم بعناية من الداخل بجدارٍ واقٍ كان يبلغ اتساعه
عند القاعدة ما بين ١٣٠ و٢٠٠ قدم، أما في الجزء الأعلى فكان يتراوح ما بين ٥٠
إلى ٧٠ قدمًا، وكان الطوار ينحدر بزاويةٍ متوسط انفراجها نحو أربعين درجة، وتدل
الشواهد على أن الاستحكام لم يكن يعلوه جدار؛ لأنه كان بطبيعته عاليًا بقدر
الحاجة، وكان لهذا الحصن طريق طويلة منحدرة تؤدِّي إلى باب محصن أُقِيم على قمة
الاستحكام، وعلى مسافة أحد عشر ميلًا جنوبي «هليوبوليس» أُقِيم بناء مماثل
للسابق، غير أنه كان أكثر بساطةً منه، مربع الشكل، أركانه مستديرة، ولم يكن له
على ما يظهر مدخل على مستوى الطريق العامة،
١٦ ويشير هنا «بتري» إلى حظائر أخرى عظيمة مسورة دون وجود أي باب
أصلي، وقد لحظ مثل ذلك في الدلتا، وكذلك في مصر الوسطى.
١٧
وفي فلسطين كُشِف عن موقعين حصن كل منهما على وجه عام مستطيل الشكل، وفي
سوريا كُشِف عدد من هذا الطراز، أهمها الحصن الذي وُجِد عند بلدة «مشرفة» (قطنا القديمة)،
١٨ وحجم هذا الحصن ضخم جدًّا؛ إذ تبلغ مساحته مساحة «تل اليهودية» ست
مرات، والواقع أن كل المواقع التي أقامها الهكسوس كانت تحتوي على طوار في صورة
ما.
ويظهر على قدرِ ما وصلَتْ إليه معلوماتنا أن الطوار والاستحكام المربع كانا
فكرة خاصة بالهكسوس؛ ولذلك عندما نرى هذا الشكل من البناء في «سوريا» أو في
«فلسطين» أو في «مصر»، نعرف أنها أقاليم خاضعة لنفوذ الهكسوس، وإذا حكمنا على
الهكسوس من هذه الناحية فقط أيقَنَّا أنهم شعب محارب، ولدينا في الواقع من
الأسباب الأخرى ما يحملنا على الاعتقاد بأن الهكسوس كانوا كذلك في بعض الأوقات،
وهذه الآراء الجديدة، وكل الآراء الأخرى التي تصادفنا في الأوساط الهكسوسية
تجعل الإنسان بطبيعة الحال يفحص مسائل أصلهم، وسنقوم بمحاولةٍ للإجابة على بعض
هذه المسائل في فصل خاص.
(٦) الهكسوس يجلبون الخيل والعربات إلى مصر
وإذا كنَّا نرى أن كثيرًا من نجاح الهكسوس يُعزَى إلى أسلحتهم المتفوقة وحصونهم
الممتازة، فلا نبعد عن الصواب إذا قلنا إن الخيل والعربات قد لعبت دورًا كبيرًا في
أقدارهم، والواقع أن الهكسوس كانوا يعتبرون منذ زمن بعيد أنهم هم الذين جلبوا هذه
العناصر الجديدة الهامة من المدنية إلى مصر، وقد كان سندنا الهام في ذلك لغويًّا،
وقد كانت أول إشارة وردت في المتون المصرية عن الخيل واستعمالها في المتون المصرية،
ما جاء في لوح «كارنرفون» الأول بلفظة «حترو» أي: الخيل،
١٩ والآن يأتي علم الآثار متقدمًا بنفس القصة، فقد أمدتنا الحفائر التي
قام بها السير «فلندر زبتري» في «تل العجول» الواقع في جنوب فلسطين بمعلومات عظيمة
عن الحصان بوصفه حيوانًا خاصًّا بالهكسوس؛ إذ لم يظهر الحصان هناك حيوانًا يسرح
فقط، بل كذلك عُثِر عليه في ودائع الأساس (أي: يُقدَّم قربانًا)؛ هذا إلى أنه كان
مظهرًا هام من مظاهر المدافن الآدمية، فكان يُوضَع ضمن القرابين التي تُوضَع مع الميت،
٢٠ وعلى الرغم من أنه لا توجد إلا أمثلة قليلة نسبيًّا تدل على امتطاء
صهوة ظهور الخيل، فإن الحصان كان عمله الرئيسي في الأصل ينحصر في جر العربة، وقد
بقيت الحال كذلك إلى عصور التاريخ المتأخرة، والأسباب الداعية لذلك ليست واضحة، غير
أنه من الجائز أن الأحوال التي جُلِب بسببها الحصان قد تكون هي التي هيَّأت طريقة
استعماله؛ أما ما يقال بأن صِغَر حجم الحصان هو الذي جعله غير صالح للركوب، فقول
مردود على مَن ادَّعاه؛ إذ نعلم أن الحمار كان أصغر حجمًا من الحصان، ومع ذلك كان
يُركَب في مصر منذ زمن بعيد جدًّا قبل عهد الهكسوس.
(٧) عظم مدنية الهكسوس
ولا نعلم حتى الآن من الآثار عن أحوال الهكسوس ومظاهر حياتهم إلا القليل، فإذا
ألقينا نظرةً على حياتهم كما نتصوَّرها على أساس البلاد الأثرية المكشوفة حديثًا،
وما عُثِر عليه في مقابرهم، اتضح لنا أنهم قوم على جانب عظيم من المدنية، بل كانوا
أكثر تقدُّمًا في بعض النواحي من جيرانهم في وادي النيل، الذين كانوا يُعتبَرون
أقدم منهم، فصفاتهم الحربية ظاهرة في كثيرٍ من المواد التي شاهدناها حتى الآن، ولكن
إذا كان ذلك يستلزم أن ننظر إليهم بأنهم قد بقوا قبيلة بالمعنى المتعارَف لكلمة
قبيلة مدةً طويلةً بعد نزولهم على ساحل البحر الأبيض المتوسط، فإن ذلك لا يرتكز على
حقائق ثابتة، بل على العكس لدينا أمارات عدة على أنهم كانوا يعيشون عيشة منظمة
بالمعنى الاجتماعي الصحيح، فقد خططوا البلدان المنظمة التي راجت فيها التجارة، وقد
كان صانع الفخار عضوًا هامًّا في الجماعة، فقد كانت أوانيه الجميلة الصنع يُوضَع
فيها محاصيل الحقول الخصبة، وكان الحدَّاد وصائغ المجوهرات كلٌّ ينتج في صناعته
بمهارة فائقة، ولم تشهد من قبلُ السواحلُ الجنوبية الشرقية للبحر الأبيض المتوسط
إتقانًا في ميدان صناعة المعادن، والواقع أن هذا الإتقان لم يكن ميسورًا قبل تقدُّم
عمل السبائك والتفنُّن فيها، وهو ما ظهر على يد الهكسوس في صناعتها.
ولا نزاع في أن التجارة بين الجماعات كانت من الأشغال اليومية العادية، ومع هذا
فإن البرهان على ذلك كان يظهر للباحث أصعب وأشد تعقيدًا من البرهنة على التجارة بين
الأقطار النائي بعضها عن بعض، فنعلم أن «قبرص» ومصر «وفلسطين» و«سوريا» كانت تتجر
سويًّا في مواد مختلفة في خلال عهد احتلال الهكسوس للبلاد كله؛ فقد كان كل ساحل
سوريا وفلسطين يزخر بالموانئ البحرية الصالحة للتجارة، وكانت المواد الكمالية تأتي
من قبرص إلى هذه الموانئ، ثم تُوزَّع منها إلى الداخل، كما كانت محاصيل الهكسوس
تُشحَن إلى قبرص؛ فهذه الأدلة وغيرها توضِّح لنا بجلاء أن حياة الهكسوس كان لها شأن
ومكانة راسخة لم يعترف بها كل المؤرخين، ولا نزاع في أن كل ما أتى به الهكسوس من
جليل الأعمال التي أشرنا إليها لا يمكن أن يتم في جو كله حروب مستديمة، بل يجب أن
تُعزَى تلك الأعمال إلى قوم على جانب عظيم من المهارة، قد اعتنقوا طرائق الحياة
المتمدينة التي تحيط بهم عندما حطوا رحالهم واستقرَّ بهم المكان.