والآن ننتقل إلى نقطة عويصة في تاريخ الهكسوس لم تُبحَث حتى الآن بطريقة علمية منظمة،
وهي وجود عنصر الهكسوس في مصر في عهد الأسرة الثانية عشرة، قبل أن يغزوا البلاد جملةً،
وسنرى أن المواد الأثرية التي كُشِف عنها قد لعبت دورًا هامًّا في كشف النقاب عن الجواب
على هذه المسألة، والواقع أن وضع تاريخٍ متصلِ الحلقات مهما كان سليمًا في نظرنا، لا
بد
أن يعتمد في خطاه الأولى على المواد الأثرية، على أن الأهمية التامة لذلك لا يمكن
تحقيقها إلا إذا كان هذا التسلُّل مؤرخًا بطريقة ما، ثم تحقيقها على ضوء ما يقابله
بالنسبة للأقطار المحيطة، ونحن هنا سنعالج موضوعًا خارجًا عن حدود عهد احتلال الهكسوس
لمصر، وهو العهد الذي ينحصر على ما يظهر من المتون المصرية بين عامَيْ ١٧٥٠ و١٥٨٠ق.م؛
وإذا فحصنا اتجاه حركة هجرة الهكسوس، رأينا من الواضح أنهم قد استوطنوا سوريا وفلسطين
قبل أن يحتلوا البلاد المصرية، ولكن السؤال الهام هو: ما مقدار السرعة التي احتُلَّتْ
بها هذه الأماكن؟
والجواب على ذلك يتوقف على طريقة الغارة التي قام بها هؤلاء الغزاة، هل كان هجومًا
خاطفًا مخربًا، أو كان تقدُّمًا جاء تدريجًا وعلى مهل، ولكن بقوة متزايدة ذات مفعول
محس؟ ولا نزاع في أن طريق فحص مثل هذا الموضوع مليئة بالأحابيل التي تستلزم اليقظة
والانتباه التام، وسنفرض أولًا أن الفخار والحصون والأشكال المعدنية، والمواد الأخرى
التي ذكرناها فيما سبق كلها دلائل تحدثنا عن وجود الهكسوس في البلاد، وقد زعمنا أن كل
فخار «تل اليهودية» وكذلك كل الفخار والأشياء الأخرى التي توجد معه، متصلة بالهكسوس،
وكذلك اعتبرنا الثقافة الجديدة الخاصة بعصر البرنز المتوسط، وهو ذلك العصر الذي يختلف
اختلافًا يكاد يكون تامًّا عن التقاليد الثقافية لعصر البرنز الأول؛ لأنه جاء عن طريق
الشعب الجديد وهم الهكسوس؛ فإذا حاز هذا الرأي قبولًا حسنًا فإنَّا نكون في حلٍّ من أن
نحاول تأريخ بقايا آثار الهكسوس كما وجدناها في سوريا وفلسطين ومصر.
عندما وجد علماء الآثار طراز أواني «تل اليهودية» لأول مرة عدوه من إنتاج الأسرتين
الثانية عشرة والثالثة عشرة، ولم يكن مفهومًا وقتئذٍ أن هذه الأواني من إنتاج عصر
الهكسوس، ولكن عندما عُرِفت صلتها بالهكسوس فيما بعدُ، تنحَّى العلماء عن اعتبارها
معاصرة للأسرتين الثانية عشرة والثالثة عشرة؛ وذلك لأن عصر الهكسوس قد خلف سقوط الدولة
الوسطى، وقد كانت المؤثرات السياسية والثقافية تُعتبَران إلى حدٍّ بعيد متعاصرتين، أي
إنهما تقعان في عهد واحد؛ فمثلًا نجد الأستاذ «بيت»
peet يحدثنا بالبيان التالي عن أواني «تل اليهودية»: أما فيما يتعلق
بتاريخ هذه الأواني المحززة فليس فيه صعوبة كبيرة؛ إذ لا أعرف مثالًا واحدًا من عهد
الأسرة الثانية عشرة.
١ ولا شك في أن هذا الدفاع كان طبيعيًّا للغاية بالنسبة لمعلومات الوقت الذي
قيل فيه، ولكن منذ أن كتب الأستاذ «بيت» ما كتبه، ظهر في جو الكشوف الأثرية براهين
جديدة في متناول الباحث الآن، وهي التي على ضوئها أصبح من الممكن إعادة فحص المواد
القديمة التي سبق الحكم عليها خطأً، وفي الصفحات التالية سنستعرض البراهين الخاصة بهذا
الموضوع كما وجدناها في مواقع أثرية تمتد ما بين نوبيا وسوريا.
آثار الهكسوس في اللشت
وقد وُجِد في «اللشت» الواقعة عند مدخل الفيوم عدة قطع من طراز «تل اليهودية»،
بما في ذلك إبريقٌ ذو مقبض مزدوج، ومحلًّى بطيور ملونة وسمك، وقد وُجِد في نفس
البئر المؤرخة بالأسرة الثانية عشرة عدة أوانٍ سوداء محززة، ولها مقابض وتُنسَب إلى
طراز أواني «كاهون»، أيْ طراز «تل اليهودية»،
٥ وقد وافَقَ المستر «أمبروز لانسنج» على هذا التأريخ عندما كان يتحدث عن
أعمالٍ قامت بعدُ في نفس هذا الموقع بقوله: «وجدت قطعة من نفس الفخار في حفرة
منفردة يرجع تاريخها للأسرة الثانية عشرة، وقد كانت كل محتوياتها أشياء من الأسرة
الثانية عشرة، غير أنه لم يوجد من بينها قطعة مؤرخة بعهد ملك خاص.» ويجب أن نضيف
إلى ما قاله أن هذه كانت القطعة الوحيدة التي وقعت تحت نظر المستر «لانسنج»
مباشَرةً، والتي يمكن أن تُؤرَّخ في نظره بالتحديد إلى عهدٍ يرجع إلى الأسرة
الثانية عشرة، على حين أنه كانت توجد قطع أخرى قد تكون من هذا العهد يمكن أن يرجع
تاريخها كذلك إلى العهد الإقطاعي.
وقد كشف في «كاهون» الواقعة عند مدخل «الفيوم»، وهي التي ظهرت في عالم الوجود
عندما أقام «سنوسرت» الثاني هرمه؛ عدة أشكال من الفخار المنسوب إلى «سوريا» في
«فلسطين». ويقول الأستاذ «بتري» إن فخار «تل اليهودية» الأسود اللون قد وُجِد مع
آثار أخرى يرجع تاريخها للأسرتين الثانية عشرة والثالثة عشرة،
٦ ولكنه قال فيما بعدُ: إن هذا الفخار لم يكن معروفًا حتى الآن في مصر في
أي عصر من عصور تاريخ البلاد، إلا في عهد الأسرتين الثانية عشرة والثالثة عشرة،
وهذا يوجهنا إلى أن الفخار المستخرج من «كاهون» يجب أن يُفحَص فحصًا دقيقًا؛ لأنه
علم فيما بعدُ أن طراز فخار «تل اليهودية» كان من خصائص الإنتاج الهكسوسي. وقد ذكر
لنا «هرمان ينكر» أنه لا يوجد أساس لاعتبار فخار «كاهون» من عهد الأسرة الثانية عشرة،
٧ وأنه لمن الجائز أن يكون قد صُنِع بعد هذا العهد بزمن كبير، غير أنه
على ما يظهر لا توجد براهين تدحض نسبته للأسرة الثانية عشرة.
٨
آثار الهكسوس في كاهون
وكذلك عملت حفائر في «كاهون» في سنة ١٨٨٩، وقد وُجِد فيها ثانيةً قِطَع فخار من
هذا النوع، وعُزِيت للأسرتين الثانية عشرة والثالثة عشرة، غير أن هذه لم يكن في
الإمكان تحقيقها بطريقة مرضية.
٩
ولكن لحسن الحظ عُثِر على طراز آخَر من الفخار يُنسَب إلى شكل طراز خاص بالهكسوس،
١٠ قد أشرنا إليه فيما مضى، ولكنه في هذه الحالة قد أُرِّخ بعهد «سنوسرت»
الثاني (١٩٠٦–١٨٨٦ق.م).
١١
وتفسير هذه الحجة بوصفها ذات علاقة بظهور الهكسوس في مصر يمكن أن يُعزَى إلى جلب
عمال من «سوريا» و«فلسطين» للعمل في إعداد هرم هذا الملك، أو لإقامة مبانٍ أخرى
ومشاريع للريِّ في الجهة المجاورة، وتاريخ الفخار الذي يجب أن يكون مبكرًا عن تاريخ
ظهور الهكسوس حقيقة في مصر يجد سندًا إضافيًّا في الأدلة الحديث التي عُثِر عليها
في «ببلوص» الواقعة على شاطئ سوريا.
آثار الهكسوس في ببلوص من عهد الأسرة الثانية عشرة
ففي القبرين رقم واحد ورقم اثنين في «ببلوص»، وهما في كل مظاهرهما يرجعان إلى
عهدَيْ «أمنمحات الثالث» و«أمنمحات الرابع» (١٨٤٩–١٧٩٢ق.م)؛ عُثِر في قبر رقم ١ على
إناء من حجر الأبسديان نُقِش عليه لقب «أمنمحات الثالث»، وفي القبر رقم اثنين وُجِد
فيه صندوق من الأبسديان كذلك، وعليه لقب «أمنمحات الرابع»،
١٢ ووُجِدت أمثلة عدة لطرازين من الفخار يُنسَبان بوضوح إلى الأشكال
الهكسوسية التي سبقت الإشارة إليها.
١٣
وقد كشفت الحفائر الحديثة في «ببلوص» عن وجود طراز جديد آخَر متصل بقائمة فخار
الهكسوس، ويمكن قرنه بفخار «بيت مرسيم»
١٤ (G-F.) الملوَّن، ويدل
المتن الذي معه على أنه أقدم من القبر رقم واحد والقبر رقم اثنين، اللذين عُثِر
عليهما في «ببلوص»، على أنه يكاد يكون من المستحيل الآن أن نحكم من أدلة «ببلوص»
على مقدار هذا القدم.
ولكن على ما يظهر كان هذا الفخار من عصرٍ لا يخرج عن نطاق القرن التاسع عشر ق.م،
وذلك بسبب تاريخ القبرين رقم واحد ورقم اثنين، ومع ذلك فإن هذه الأدلة لا يجب أن
تعبِّر عن أن الهكسوس كانوا يحتلون «ببلوص» في ذلك الوقت، وإن كان من الجائز وجود
بعض أفراد الهكسوس وقتئذٍ في المدينة، والذي يظهر مؤكدًا هو أن الهكسوس كانوا
معاصرين لأهل «ببلوص» في تلك الفترة.
والقول بأن فخار «مرسيم»
(G-F.) يُنسَب إلى
الهكسوس، يرتكز جزئيًّا على معاصرة فخار «مرسيم» لأقدم طراز من الفخار وُجِد في «تل اليهودية»،
١٥ وتوجد أدلة تعضد وجهة النظر هذه فيما أنتجته الحفائر التي عُمِلت في
«تل كيسان» في سهل «عكة»؛ حيث وجد الأثري «رو» أن هذا الطراز من الفخار الملون كان
أحدث ما لُوحِظ في حشو طوارات الهكسوس التي كانوا يقيمون عليها حصونهم.
١٦ والمنطق هنا هو أن يفترض الإنسان أن أحداث مواد توجد في بناءٍ مثل بناء
الطوار الذي تتألَّف مواده إلى حدٍّ ما من تراب ومواد أخرى؛ أُخِذت من جهة مجاورة
تمكِّن الإنسان من أن يؤرِّخ بها المبنى، فمثلًا الجدار الذي يوجد فيه قطعة نقود
مطبوعة باسم الإمبراطور «هدريان» لن يكون أقدم من عهد «هدريان»، وبطبيعة الحال يمكن
أن يكون الجدار قد بُنِي في أي عهد آخَر بعد عهد هذا الإمبراطور.
ولكن هذا الموقف يختلف بعض الشيء في حالة طوار بالنسبة لطريقة بنائه؛ إذ لا يمكن
منع وجود قطع من الفخار في التراب المحلي الذي استُعمِل في حشوه.
وقد استعملت هذه البقايا الأثرية التي عُرِف تاريخها بصفة محققة أساسًا لبحثنا،
وبخاصة تلك التي وجدت فيها مواد يمكن تأريخها خلافًا للفخار الذي نحن بصدده.
ولا يزال كثير من المواد الأثرية التي نسبها الحفارون للأسرتين الثانية عشرة
والثالثة عشرة باقيًا، غير أنه لا يمكن عقد موازنة بينها على الوجه الأكمل!
١٧
على أن تفسيرنا للحجج السابقة يمكن الاعتراض عليه، ولكن إذا قبلت نظرية وجود
الصفات المادية المعينة الخاصة بالهكسوس بأنها تحمل معنى وجود الهكسوس عندما نجد
لأول مرة هذه الصفات المميزة، فعندئذٍ يكون من الصعب أن ننظر إلى الحالات التي
عرضناها الآن نظرة مخالفة.
يضاف إلى ذلك حقيقة أخرى، وهي أن هذه البراهين قد جاءت إلينا من عدد من الأماكن
تقع في نطاق مساحة (جغرافية)
١٨ شاسعة.
وهكذا حتى الآن كان أساس بحثنا مرتكزًا على الفخار، ولكن قد يكون في الإمكان
الحصول على صورة مماثلة للتي عرضناها إذا كان في مقدورنا معالجة أشياء من مواد أخرى
غير الفخار، مثل الذهب والبرنز والعظم بنفس الثقة؛ ولكن الواقع أن علم الآثار
المقارن لم يصل إلى الحدِّ الذي يمكن فيه معالجة الأشياء الصغيرة، التي يمكن أن
تكون ذات أهمية في فهم ثقافة حوض البحر الأبيض المتوسط الشرقي في باكورة الألف
الثانية قبل الميلاد. ولا نزاع في أن فحص النفوذ الأجنبي الذي برهن على وجوده بقطع
آثار صغيرة يرجع تاريخها إلى عهد الدولة الوسطى في مصر، ستستمر متابعته بثقة
متزايدة وفائدة أعظم بعد عمل قوائم شاملة للأشكال الفلسطينية.
١٩
الآثار الأخرى التي تُنسَب إلى الهكسوس
ويظهر حتى الآن أن بعض أشكال الأسلحة الآسيوية قد جلبها الهكسوس إلى حوض البحر
الأبيض المتوسط الجنوبي الشرقي في خلال عهد الدولة الوسطى، مثال ذلك: السيف «خبش»،
وقد سُمِّي بذلك لأنه يشبه مقدمة ساق الحيوان،
٢٠ وكذلك مقبض خنجر على صورة هلال كالذي وُجِد في مقبرة «إتا»،
٢١ وفي نقش ملوَّن في مقابر «بني حسن»
٢٢ يرجع تاريخه إلى أوائل الأسرة الثانية عشرة يشاهد آسيويون يستعملون
«بلطا» من طرازٍ يوجد عادةً في «سوريا».
٢٣ أما مسألة النقوش أو أشكال الحلية الحلزونية التي نشاهدها على الجعارين
التي كانت تستعمل أختامًا في عهد الأسرة الثانية عشرة، فإنها تحتاج إلى دراسة خاصة.
٢٤ وتوجد أدلة على أن هذه الجعارين قد صُنِعت في مصر، وكذلك لدينا براهين
على أنها قد صُنِعت خارجها،
٢٥ وإذا سلم بأن فكرة الشكل الحلزوني قد استعارتها مصر، فقد يصبح من
الضروري إذن أن نفحص الفن «المنواني» المبكر.
٢٦
والدور الذي قام به الهكسوس في هذا الموضوع يخالف الحقيقة الثابتة في أن النقوش
التي على الجعارين كانت من مميزات الهكسوس،
٢٧ وقد اختفت باختفائهم، وهذه مسألة مشكوك فيها، فنجد أن كلًّا من
«نيوبري» و«جارستانج» يرى في مميزات بعض مجوهرات الأسرة الثانية عشرة التي وُجِدت
في «دهشور»؛ أنها قد ترجع إلى تأثير أجنبي، وأن الحوادث التي تلت قد كشفت عن أهمية
هذه الأشياء؛
٢٨ غير أنه قد يكون من باب المخاطرة ادِّعاء أن كل العناصر الجديدة في
ثقافة الأسرة الثانية عشرة قد شملتها يد أجنبية، وإنْ كانت توجد دلائل على أن بعضها
قد تأثَّرَ فعلًا بعوامل أجنبية، والواقع أنه لا يمكن أن نُجرِي فحصًا مرضيًا في
مثل هذه الأمور إلا إذا نظمت قوائم مضبوطة لكل ثقافات الأقاليم المحيطة بمصر. كما
حدث في أنواع الفخار، وقد عدت كل من هجرة الهكسوس وهجرة الكاسيين غالبًا أنهما
مشهدان من هجرة عظيمة جدًّا، وفدت إلى الشرق الأدنى في باكورة الألف الثانية قبل
الميلاد، ووجهة النظر هذه لا تحتاج إلى سند كبير، ومع ذلك فإنه لا يخلو من الفائدة
أن نلفت النظر إلى تفاصيل معلومة عن غزو الكاسيين لبلاد «بابل».
ويُشاهَد في الإيضاح الذي سيأتي بعدُ، العلاقات بين التقدُّم الكاسي، والتقدُّم
الهكسوسي حسب السنين، والأخير منهما يرتكز على وجهة النظر التي نتتبعها في هذا
الفصل عن الهكسوس.
موازنة بين هجرة الهكسوس وهجرة الكاسيين
وأول ظهور معروف للكاسيين في «بابل» كان في خلال حكم الملك «حمورابي»
٢٩ (١٩٤٧–١٩٠٥ق.م)، والظاهر أنهم كانوا في هذه الفترة سكانًا مسالمين في
هذه البلاد، وعلى إثر موت «حمورابي» انتقل عرش الملك لابنه «سامسيولونا»،
٣٠ وهو الذي صَدَّ في السنة التاسعة من حكمه غارات الكاسيين التي انقضوا
فيها من الجبال.
٣١ والوثائق الخاصة بأعمالهم مدة القرن ونصف القرن التالية تذكر لنا
«الكاسيين» بوصفهم زراعًا وعمالًا،
٣٢ وعلى إثر غارة «الخيتا» على «بابل» أضحَتِ البلاد تحت سيطرة الأسرة
الكاسية (١٧٤٩).
وتنقصنا التفاصيل عن نمو قوة الكاسيين، ومع ذلك يمكننا إدراك صورة معينة عن
نموها، فقد أعقب صدهم تدخُّل سلمي في البلاد كانت نتيجته النهائية النجاح،
٣٣ وليس ثمة مانع من أن نزعم في بادئ الأمر أن غزو الهكسوس لمصر قد جاء
على غرار نموذجٍ مماثِلٍ لما ذكرناه عن الكاسيين، ومن المحتمل أن «مانيتون» لم يكن
بعيدًا عن الحق عندما قال إن الهكسوس قد استولوا على مصر من غير معركة.
الكاسيون: حمواربي = عمال في مسوبوتاميا (١٩٥٧–١٩٠٥ق.م) = عمال فى مصر.
الهكسوس: المغيرون الكاسيون — يصدون عمال في مسوبوتاميا — ١٩٠٠ق.م — عمال في
مصر.
الأسرة الكاسية: (١٧٥٠–١٧٣٠ق.م) أول أسرة للهكسوس.
ومن جهة أخرى يحتمل أن سيطرة أسرة الهكسوس في «فلسطين» و«سوريا» قد حدثت في عهد
مبكر عنه في مصر؛ وذلك لأن حركة هجرة الهكسوس قد اتخذت سبيلها من الشمال إلى الجنوب
على الأقل على ساحل البحر الأبيض المتوسط، أما عن حالة كلٍّ من «سوريا» و«فلسطين»
خلال حكم الهكسوس لهما، فليس هناك ما يحمل على الظن في أنهما كانتا تؤلفان وحدة
سياسية أكثر ممَّا كانتا عليه في نهاية الأسرة الحادية عشرة المصرية؛
٣٤ حيث نجد أن عدة ولايات مستقلة قد وضحت بجلاء، وكذلك تشعرنا قصة
«سنوهيت» بنفس الفكرة، وهو نفس النظام الذي كان موجودًا في عهدَيِ التحامسة وتل
العمارنة (راجع تحتمس الثالث وخطابات تل العمارنة، وهذه الحقيقة يمكن ملاحظتها
عندما أشار «أحمس» الأول الذي طرد الهكسوس من البلاد إلى أراضي «الفنخو» في صيغة
الجمع كما ذكرنا آنفًا).
وإذا جاءت نتائج حفائر مقبلة معضدة للرأي القائل إن الهكسوس قد وصلوا حوالي عام
١٩٠٠ق.م درجةً في تقدُّمهم الثقافي بحيث كانوا يصنعون منتجات خاصة بجماعتهم كما
نعرفهم فيما بعدُ، وأنهم على ذلك كانوا قد استوطنوا بعض أجزاء سوريا وفلسطين، فإنه
سيكون من الضروري وقتئذٍ أن نفحص أدلة اتصالات الأسرة الثانية عشرة بالبلاد
الآسيوية، وسيكون معنى ذلك أن أمثال هذه الاتصالات كلها بعد عام ١٩٠٠ق.م تجعلنا نشك
في أنها تتضمن وجود الهكسوس.
٣٥
على أن المسألة ليست بالأمر الهيِّن؛ إذ لا يمكن أن يقال إن كل «سوريا» و«فلسطين»
لم تكونا تحت نفوذ الهكسوس، فمثلًا نجد أن «ببلوص» (جبيل) لم تكن خاضعةً لحكم
الهكسوس قبل عام ١٧٣٠ق.م تقريبًا، وذلك على الرغم من وجود طراز من فحار الهكسوس
٣٦ فيها، والواقع أن «ببلوص» كانت متمصرة أكثر من الإقليم المحيط بها؛
ولذلك يمكننا أن نفرض على أية حالة أن الهكسوس كانوا مجاورين لها، وأن بعض صناع
الهكسوس ومنتجاتهم الحديثة الطراز، كانت تلاقي سوقًا رائجة في «ببلوص»، ومن الجائز
كما ذكرنا آنفًا أن عمالًا من الهكسوس كانوا يجدون مجالًا متسعًا لأعمالهم في
«كاهون» بلدة الهرم التي أقامها «سنوسرت» الثاني. وقد كان الهكسوس بطبيعة الحال في
عهد عزِّ الأسرة الثانية عشرة يأتون إلى مصر بوصفهم نزلاء مسالمين، كما كان
الكاسيون في عهد «حمورابي» ينزلون في بلاد «بابل»، ومن المحتمل أن بعضهم قد رحلوا
إلى مصر في الوقت الذي رحل إليها «إبشا» الذي صُوِّر على مقبرة حاكم المقاطعة «خنوم
حتب» في «بني حسن»، وهذا المنظر قد أرخ بالسنة السادسة من حكم الملك «سنوسرت
الثاني» (١٩٠٠ق.م)، وهو يمثِّل الحاكم «إبشا» ومعه ثلاثون تابعًا من العامو يحملون
كحلًا لزينة العينين. ومن الجائز أن السوريين الفلسطينيين قد انخرطوا في عداد جيش
الملك جنودًا مرتزقة، غير أن هذه الفكرة على الرغم من رجحان حدوثها لا يوجد ما
يدعمها في الوثائق المعاصرة، على أن عدم الإشارة لأعداء مصر من الآسيويين باسم
الهكسوس، لا يكاد يُعَدُّ دليلًا على أن الهكسوس لم يكونوا قد وضعوا أقدامهم في
فلسطين وسوريا في عهد منتصف الأسرة الثانية عشرة، ولقد رأينا فيما سبق أن المصريين
المعاصرين كانوا يسمون الهكسوس أنفسهم «عامو» و«ستتيو» و«منتيوستت»، وهذه الأسماء
كانت تُستعمَل للتعبير عن الآسيويين في خلال الأسرة الثانية عشرة.
وطريقة البحث هذه تظهر غير مجدية للبرهنة على أي شيء، اللهم إلا أنها تترك بصفة
جازمة السؤالَ مطروحًا أمام الباحث عمَّا إذا كان الهكسوس قد استوطنوا فلسطين
وسوريا حوالي عام ١٩٠٠ق.م، أم لا.