ظهور طراز جديد من الفخار غير فخار تل اليهودية
يتمثَّل الاتساع الذي قام به الهكسوس في عصرهم الثاني العظيم في مصر في خصائص
حورانية كما سبقت الإشارة لذلك، فقد ظهر في هذا العصر طرازٌ من الفخار ذو لونين من
صنع الحورانيين، وقد أظهرت أعمالُ الحفر التي عملت على أُسُس علمية على حسب طبقات
الحفر في فلسطين، أن هذا الطراز من الفخار أحدث من طراز الفخار الذي استُخرِج من
«تل اليهودية»، الذي كان يُعَدُّ رمزًا خاصًّا لإنتاج عهد الهكسوس القديم، والطراز
الجديد يُؤرَّخ بعهدٍ يرجع إلى ما قبل الأسرة الثامنة عشرة؛ فلا بد من أن يكون
تاريخ وجوده إذن في مصر قبل عام ١٨٥٠ق.م، وهذا هو السبب الرئيسي الذي من أجله يعتقد
بأنه يُنسَب إلى الهكسوس والحورانيين على السواء، ولدينا حقيقة أخرى بدهية، وهي أن
الفخار الحوراني لا بد أن يكون إحضاره إلى مصر قد وقع في حدود عهد الأسرة السادسة
عشرة لا الأسرة الخامسة عشرة التي لم يوجد فيها، وإذن فليس من خطل الرأي أن نرى في
ظهور الفخار الجديد في البلاد المصرية علامةً على تغيير أُسَري.
وقد كان كلٌّ من طراز الفخار الجديد والقديم على ما يظهر يُستعمَل بكثرة في مصر،
ولكن لما كانت الأسرتان اللتان خصَّصهما «مانيتون» لعهد الهكسوس لم يمتد أجلهما
أكثر من قرنٍ ونصف قرن من الزمان، فإنه قد يكون من المعقول أن نرجع ظهور الفخار
الحوراني إلى حوالي عام ١٦٥٠، أما في فلسطين وسوريا فلا بد أن يكون قبل ذلك بزمن
قليل، وعلى الرغم من احتمال وقف صنع الفخار ذي اللونين في مصر بشكله الخاص حوالي
عام ١٨٥٠ق.م، عندما طرد «أحمس» الأول الهكسوسَ من البلاد، فإنه كان لا يزال بقية في
البلاد من المتمسِّكين بالقديم، وقد استمروا في البلاد إلى منتصف القرن الخامس عشر
على أقل تقدير، وبين هؤلاء نلحظ وجود فخار حوراني في شكل مختلف،
١ هذا إلى ظهور طراز جديد من المرمر
٢ ومن الجعارين؛
٣ ومن ذلك نرى أنه في الوقت الذي لم يكن فيه نفوذ «الهكسوس» السياسي في
مصر قائمًا بعد عام ١٥٨٠ق.م، نجد من جهة أخرى أن ثقافة الهكسوس لم تُمْحَ من الوجود
في البلاد المصرية مباشَرةً، أما في «سوريا وفلسطين» فكان الموقف يختلف تمامًا في
خلال الجزء الأول من الأسرة الثامنة عشرة، ففي نهاية الأسرتين السادسة عشرة
والسابعة عشرة اللتين كانتا تحكمان البلاد في مدة واحدة تقريبًا، هُزِم الهكسوس في
«أواريس» ووَلَّوا الأدبار مخترقين الصحراء إلى أن وصلوا إلى «شاروهن»، حيث قاوموا
حصار «أحمس» لهذه المدينة طوال ثلاثة أعوام، ثم دارت الحرب بعد ذلك في
الشمال.
ولكن بعد أن أحَسَّ «أحمس» أن الخطر قد زال عن بلاده، عاد إلى مصر ليلتفت إلى
مهام البلاد الأخرى، والظاهر أن الهكسوس في الوقت نفسه لم يتقهقروا إلى أبعد من
النقطة التي طُرِدوا إليها، بل من الجائز أنهم قد عادوا فتَقَدَّمُوا ثانيةً نحو
مصر بعد عودة المصريين إلى بلادهم، غير أن عملهم هذا لم يَتَعَدَّ مجرد حركات حربية
وحسب، وبطبيعة الحال بقي جزء كبير من السكان في مساكنهم، وتحدِّثنا الوثائق المصرية
عن غزوتين أخريين لآسيا قبل عهد «تحتمس» الثالث؛ فقد قام تحتمس الأول بحملة إلى
آسيا وصلت في سيرها حتى بلاد نهرين على نهر الفرات، على حسب ما جاء في حياة «أحمس
بن أبانا»، وكذلك «أحمس» بن «بنخبت»، وهما اللذان جاء ذِكْرهما لأول مرة في عهد
«أحمس» الأول، وقد قاد «تحتمس الثاني» في مدة حكمه القصيرة على أقل تقدير حملةً إلى
«آسيا» كما سيجيء بعدُ، وقد ذكرنا فيما سبق الأسبابَ التي تحمل على الاعتقاد بأن
الهكسوس كانوا لا يزالون في «فلسطين» و«سوريا» عندما اعتلى «تحتمس» الثالث العرشَ،
وأنه هو وابنه «أمنحوتب» الثاني قد قضيَا على الهكسوس القضاء الأخير في هذه
البلاد.
تحتمس الثالث يقضي على فلول الهكسوس في آسيا
على أن الصورة التي كانت نتيجةً مباشرةً لهذه الحروب، على الرغم من أنه تنقصها
تفاصيل كثيرة محسة، هي في الواقع تمثِّل عدم استقرار زمني، وسخط عظيم من جهة
الآسيويين ظلَّ مدةً تنيف على قرن بعد طرد الهكسوس من مصر؛ وبعد ذلك عندما اعتلى
«تحتمس» الثالث (١٤٧٩–١٤٤٧) عرشَ الملك بعد حكم «حتشبسوت» الذي سادَتْه السكينة،
بدأت سلسلة غزواته في آسيا. ومن الواضح أن حلفًا من ولايات آسيا يقودهم ملك «قادش»
قد شعروا في أنفسهم بالقوة الكافية لمقاومة ذلك الفرعون الذي كان مجهولًا وقتئذٍ،
وقد ساق «تحتمس» جيوشه في ست عشرة حملة في خلال نحو عشرين عامًا إلى هذه البلاد،
وبعد فترة ساد فيها السلام ظاهرًا في تلك الأصقاع، قام «أمنحوتب» الثاني بحملتين
مظفرتين على إثر ثورات شبت بعد وفاة والده؛ والظاهر أنه بعد هذه الحملات المتتالية
لم يَعُدْ للهكسوس وجودٌ في هذه البلاد من الوجهة السياسية أو الحربية، وتدل
المعلومات الأثرية التي يتزايد ظهورها كلَّ يوم في فلسطين على أن نظام الحكم المصري
لم يصبح ذا أثر فعَّال في البلاد الآسيوية حتى عهد «تحتمس الثالث»، وأن الهكسوس لم
يُغلَبوا على أمرهم في هذه الأراضي الآسيوية إلا في هذا الوقت، ومن أهم العوامل
التي تبرهن على ذلك أنه وُجِد طراز من الجعارين الخاصة بالهكسوس، قد بقي شائع
الاستعمال بكثرة حتى عهد «تحتمس» الثالث، ولا نزاع في أن استعمال الجعارين خدَّاع
من الوجهة التاريخية، وذلك بالنسبة لحجمهما، وفي عادة دسِّها في غير أماكنها
الأصلية، ولكن عندما نجد الجعارين في أماكن لم تُمَسَّ بعدُ، ويشفع ذلك نتائج حفائر
واسعة النطاق في موقع غير مشتبه فيه، يمكننا عند ذلك فقط أن نحكم بأننا قد كشفنا عن
حقيقة جديدة.
وقد أصبح من الأمور التي تزداد وضوحًا كلَّ يوم، نتيجةً للملاحظات التي تُشاهد
كلَّ يوم في خلال الحفائر التي تُجرى في فلسطين؛ أن الجعارين الخاصة بالعهد الذي
قبل عهد التحامسة كانت من طراز جعارين
٤ الهكسوس، وكذلك الفخار الحوراني يُعَدُّ طرازًا خاصًّا بالإنتاج
الهكسوسي، والظاهر أنه كان عظيمَ الانتشار قبل عهد «تحتمس» الثالث، غير أنه حدث فيه
تغيير عظيم بعد ذلك العهد، هذا إلى أن بعض المواد المصنوعة من المرمر كذلك،
والأسلحة المصنوعة من البرنز، والتطعيم بالعظام، قد بطل استعمالها في أشكالها
الهكسوسية الخاصة بها في غضون عهد «تحتمس»
٥ الثالث.
ثقافة الهكسوس في فلسطين
ومما سبق نعلم أنه يوجد لدينا حجج تدل على أن ثقافة الهكسوس كانت سائدة في
«فلسطين» على أقل تقدير حتى منتصف عهد الأسرة الثامنة عشرة، وبالعكس لا نجد أي
تأثير للحكم الإمبراطوري المصري في أي طبقات أرضية قبل عهد «تحتمس» الثالث فيما
كُشِف عنه حتى الآن.
والعصور التي مرت بها بلدة «مجدو» تعد ضابطًا ممتازًا لمعرفة ذلك؛ إذ من المعلوم
أن «تحتمس» الثالث قد حاصَرَ هذه المدينة، واستولى عليها في حملته الأولى إلى
فلسطين (١٤٧٩ق.م)، ونعلم من نتائج أعمال الحفر أن الطبقة الحورانية الرئيسية
المعلمة برقم ٩ تُنسَب إلى طراز فن الهكسوس المتأخر المحض، ولكن الطبقة التي فوقها
وهي الثامنة، يدل ما وُجِد فيها بوضوحٍ على أنها من آثار أواخر الأسرة الثامنة عشرة،
٦ ولا شك في أن المدينة التي استولى عليها «تحتمس» كانت تمثل آثار عهده
في الطبقة التاسعة، ومنذ ذلك العهد نلحظ أن ثقافة الهكسوس قد تغيَّرت تغيُّرًا
محسوسًا، والصورة الأثرية العامة لعهد «تحتمس» الثالث في «فلسطين» تمثل أمامنا
القضاء على ثقافة الهكسوس.
ويمكن وضع تواريخ تقريبية لعهد الهكسوس المتأخر في فلسطين، وهو العهد الذي مُيِّز
بوجه خاص بالفخار الحوراني؛ إذ يظهر لنا من المصادر المدونة ومن المصادر الأثرية أن
هذا العهد قد استمر نحو قرنين من الزمان، أيْ من حوالي عام ١٦٥٠ق.م حتى عام
١٤٤٥ق.م، وذلك عندما أخمد «أمنحتب الثاني» ثورة أوقد نارها القوم الذين حاربهم
والده سنين عدة.
وقد يكون من الأمور التي يظهر فيها التكلف أن يرسم الإنسان خطًّا فاصلًا بين عهد
الهكسوس والعهد الذي جاء بعده؛ وذلك لأن نفوذ الهكسوس لم يُقْضَ عليه في سنة معينة،
ولكن يمكن القول بوجه عام إن عمود الهكسوس الفقري قد كُسِر، وأن ثقافتهم قد قُضِي
عليها بالحروب الطاحنة التي شنَّها «تحتمس» الثالث، ومن بعده ابنه «أمنحوتب
الثاني».
ولقد حاولنا فيما سبق أن نوضِّح أن كلمة «حوراني» قد استُعمِلت بسبب أن بعض
المظاهر الأشد تمييزًا لثقافة الهكسوس المتأخرة، يمكن قرنها بالصور المادية التي
كان يستعملها قوم الحورانيين القاطنين شمالي «مسوبوتاميا»، وهم الذين كانوا يعاصرون
الهكسوس، على أنه ليس من الضروري في هذه الحالة أن يكون قوم الهكسوس المتأخرين،
يتكلمون اللغة «الحورانية»؛ وذلك لأن الثقافة يمكن نقلها بطرق ملتوية. وعلى أية حال
فإن انتشار المواد الحورانية في بلاد الهكسوس يدل على حركة هجرة أقوام حدثت، ولدينا
دليل أكيد في أحد الأسماء، وهو كلمة «خارو»،
٧ وهي التي استُعمِلت في عهد الإمبراطورية المصرية لتدل على «سوريا»
وفلسطين، ولدينا حجج تدعم هذا الرأي فيما وجدناه في شكل بعض أسماء العبيد الذين
وُجِدت أسماؤهم على قطعةٍ من الحجر الجيري عُثِر عليها في مصر، ويُحتمَل أن تاريخها
يرجع إلى النصف الأول من الأسرة الثامنة عشرة.
٨
وإذا وُجِدت متون أخرى زيادة على ما ذكرنا، يمكن أن توضِّح الموقف كثيرًا، فإن
الاسم الجديد الذي أُطلِق على «فلسطين» و«سوريا» وحده ذو أهمية بالغة في توضيح
الموقف، ويُلاحَظ أن انتشار الثقافة الحورانية في شكلها الثابت نسبيًّا في أنحاء
أجزاء كبيرة من فلسطين وسوريا في عهد الهكسوس المتأخر (ومن المحتمل حتى حوالي عام
١٤٤٥ق.م)، يحمل معنًى أوضح لوجهة النظر إلى الحوادث التالية؛ إذ نجد بعد انقضاء
جيلين من ذلك التاريخ (١٤١١–١٣٧٥ق.م) أن «أمنحوتب الثاني» قد واجَهَ في هذه البلاد
عصيانًا علنيًّا أو سريًّا، وقد كان كثير من رؤساء الثورة يحملون أسماء حورانية كما
هو معلوم من قبلُ.
٩
وفضلًا عن ذلك نجد أن مملكة «متني» وإن كانت في ذلك الوقت قد تحالَفَتْ مع مصر،
كان لها مطامع في قطر مصبوغ بالصبغة الحورانية، على أن هذا البحث وإنْ كان ليس له
اتصال بالمسألة التي نفحصها الآن، فإن الغرض منه إبراز نقطة خاصة هي أن العنصر
الهكسوسي الحوراني الذي كان يعيش في فلسطين وسوريا في منتصف القرن الخامس عشر، يمكن
أن يكون منتسبًا إلى عنصر حوراني في نفس البلاد في نهاية هذا القرن. والواقع أنه
يُحتمَل أنَّ أهل متني والحورانيين الذين كانوا يقطنون سوريا وفلسطين كانوا ذوي
قرابة وطيدة منذ حوالي منتصف القرن السابع عشر، وانتشروا جنبًا لجنب.
١٠
وقبل أن نترك هذا الموضوع، ورغبة في تأكيد وجهة نظرنا، يُستحسَن أن نقيِّد هنا
براهينَ أثريةً عن العلاقة بين الهكسوس المتأخرين، وعصور العمارنة، والواقع أن
الروابط عديدة ومشجعة لتقرير حقيقة وجود علاقة كبيرة من الوجهة الثقافية، والوجهة
الجنسية بين العهدين، ولا بد أن يُعتبَر ذلك طبعيًّا، ولا يكاد يكون فيه ما يناقض
الرأي العام القائل بأن ثقافة الهكسوس كانت قد تغيَّرت من أساسها حوالي منتصف القرن
الخامس عشر قبل الميلاد، وهذه العوامل الخاصة التي لا يمكن تقديرها الآن تمامًا،
ولكنها في الوقت نفسه تظهر على أعظم جانب من الأهمية؛ قد نشأت من فحص بقايا
العهدين، وهي التي وُجِدت في «مجدو». فقد وُجِد في العهد الأخير أن الرسوم التي على
الفخار الملون لا تخرج عن أنها رسوم «حورانية» محورة، وكذلك يظهر أن طراز الأختام
الأسطوانية المستخرج من كركول-نوزي، كان من خصائص العصر الأخير، كما كان من خصائص
العصر الأول، هذا ويدل فحص الهياكل التي وُجِدت هناك على أن نفس العنصر في كلا
العهدين كان واحدًا،
١١ وكان العالم «الكنعاني» الذي واجَهَ العبرانيين عندما دخلوا هذه البلاد
يرتكز إلى حدٍّ بعيد على شعب أساسه من الهكسوس.