إن أعمال الحفر الحديثة التي قامت بوجه خاص في «سوريا» قد وضعت أمامنا فكرة حسنة
عن
حياة الهكسوس وعاداتهم، وبذلك يمكننا أن نرى أولئك القوم في بيوتهم، وفي مصانعهم، وقد
عثرنا على أشياء كثيرة من التي صنعوها، فيمكننا أن نصوِّرهم كذلك في معاملتهم التجارية
مع البلاد الأخرى، كما أننا نعرف بعضَ السلع التي كانوا يتجرون فيها، وقد وصلتنا تفاصيل
كثيرة عن حياة الهكسوس، ومع ذلك عندما يُطرَح السؤال مَن هم الهكسوس؟ فإنه لا يسعنا إلا
الاعتراف بالجهل التام،
١ ولكن من المؤكد أن ثقافتهم كانت مختلفةً بدرجة ظاهرة تلفت الأنظار عن
الثقافة التي سبقتها، ممَّا يحتم علينا الاعتراف بأن هذه الثقافة قد جاءت إلى حدٍّ بعيد
عن طريق شعب جديد. على أن الأمر لم يكن ليقتصر على حد وفود طبقة قوية من الحكام ليقوموا
بهذا التغيير الكلي في الثقافة؛ إذ كان الأمر أعظم من ذلك، فالقليل الذي لدينا من
البراهين الخاصة بفحص الهياكل العظيمة، يدل على أن جنسًا من أجناس البحر الأبيض المتوسط
القدامى، قد حلَّ محله جزئيًّا في خلال عهد الهكسوس جنسٌ يشبه الجنس الألبي، على أن هذا
البيان لا يرتكز إلا على فحص أشكال بعض جماجم قليلة العدد
عُثِر عليها في «مجدو»،
٢ غير أنها لا يمكن أن تمثِّل كل جماعة الهكسوس، وعلى الرغم من القليل الذي
نعرفه عن هذا الموضوع المعقَّد، فإنه مع ذلك يُحتمَل أن عددًا من السلالات قد اشتركت
في
تنشئة الهكسوس،
٣ ولا غرابة إذن في أن تكون الجماجم التي وُجِدت تدل على أن أصحابها كانوا من
سلالة من السلالات التي كان لها شرف الاشتراك في هجرة الهكسوس، وكذلك كان من بين
الطوائف اللغوية التي ذُكِرت «الساميون» و«الحورانيون» و«الهنود الإيرانيون» و«الخيتا»؛
وقد أراد «يوسفس» أن يرى فيهم العبرانيين، والواقع أن نسبة كلِّ أولئك الأقوام إلى
الهكسوس لا يخرج عن دائرة الاحتمالات، فالأسماء السامية مثل «يعقوب هر» و«يعقوب بعل»
قد
عُرِفت بوضوح في النقوش الخاصة بالهكسوس.
٤
وهذه الأسماء، بصرف النظر عن بعض الأسماء المصرية التي انتحلها الهكسوس لأنفسهم مثل
«أبو فيس» و«تيتي»،
٥ هي الأسماء الوحيدة التي حققت نسبتها للهكسوس، وقد فشلت المحاولة التي
بُذِلت لتوحيد العلاقات اللغوية لأسماء الهكسوس التي وردت في المصادر الإغريقية، إلا
إذا كان رسم الأسماء المصرية المعروف كتابةً يحقق ما يماثله في المصادر الإغريقية؛ وعلى
ذلك كان يوجد في الهكسوس عنصرٌ ساميٌّ واضح قد اختلط فيما يُطلَق عليه هجرة الهكسوس،
هذا إذا استثنينا عنصرًا غير سامي لم يحقق بعدُ، وهذا ليس بغريب بالنظر إلى التفوق
الشامل للسامية (ويشمل ذلك العاموريين والكنعانيين) في فلسطين وسوريا حوالي ٢٠٠٠ق.م،
كما يدل على ذلك متون
٦ «اللغة» التي تُنسَب إلى أواخر عهد الأسرة الحادية عشرة المصرية، وكذلك
اللوحات الكابوديشية التي تشير إلى مدن شمال سوريا.
الساميون هم العنصر الهام لقوم الهكسوس
وعلى أية حال فإن الساميين لا يكاد يتألَّف منهم العامل الرئيسي المسئول عن الزحف
الجديد الذي شنَّتْه آسيا على مصر، وقد تُعزَى غلبة الأسماء السامية المعروفة لنا
الآن لتفوُّق الساميين في العدد، ولكن يمكن أن يرجع سببها لعدم كفاية الأدلة التي
في متناولنا؛ أو لأن العناصر غير السامية قد هُضِمت بسرعة، ويجب ألَّا ننسى
الاشتباكات الخاصة بالتغيير الأساسي في الثقافة، وأن أقوامًا من سلالة غير سامية
كانوا يزحفون على حدود عريضة شمالية، فظهر الحورانيون في الأناضول، أما الكاسيون
الذين كان يظهر أن بعض آلهتهم من أصل هندي إيراني، فكانوا ينجرفون كالسيل في «مسوبوتاميا»،
٧ ومن مكانٍ ما خارج فلسطين وسوريا، وفَدَ قومٌ من الأجانب جلبوا معهم
صناعة معادن راقية، وأفكارًا جديدة في صناعة الفخار، وكذلك أحضروا الحصان والعربة،
وآراءً جديدة في إقامة حصون غريبة تمامًا عن البلاد التي اتخذوها موطنًا جديدًا
لهم. ولما كنَّا لا نزال في فجر دراسة الشرق الأدنى، فلا يمكننا إذن أن نخبر من أين
أتَتْ تلك العناصر؟ أو مَن الذين نقلوها
٨ إلى مصر؟ ولكن منذ أن بدأنا نتعرَّف على الهكسوس في مصر، يمكن الإنسان
عند البحث عن أصلهم أن يرجع في ذلك إلى اقتفاء آثارهم في شمالي «سوريا»، وبعد ذلك
نجد على أية حال أن الأثر قد أخذ يتضاءل، فإذا أردنا أن نحصل عليه ثانيةً كان لا بد
من قطع مسافات طويلة، وقد تزداد الصعوبة باحتمال أن الأثر لم يكن فرديًّا قبل
«سوريا»؛ إذ من المحتمل أنه كان يحتوي على وحدات قد جاءت ثم عادت بحالة يسودها سوء
النظام والارتباك التامان.
من أين أتى الهكسوس؟
وإذا اقتفينا أثر المعدن الجديد وهو البرنز، والأشكال المعدنية الجديدة إلى
منابعها الأصلية، فقد تكون هذه طريقة مجدية للوصول إلى الحقيقة التي نتبعها، ولا
نزاع في أن ذلك يكون له في النهاية قيمة ثمينة للغاية، غير أن ما كُشِف من المواد
للآن قليل جدًّا لا يكفي أن يكون أساسًا متينًا للبحث، وقد ظنَّ البعض
٩ أن بلاد القوقاز قد تكون مصدرَ هذا المعدن وهذه الأشكال المعدنية، غير
أنه وُجِد بالمقايسة أن أشكال المعادن التي عُثِر عليها في هذه البلاد، كانت على
وجهٍ عامٍّ أحدثَ من التي وُجِدت في «سوريا» وفلسطين، وقد نشر العالم «شيلدا»
١٠ النظرية القائلة بأن بلاد «سومر» نفسها كانت مركزًا مبكرًا لنشر هذه
الأشكال المعدنية،
١١ ومما لا ريب فيه أن أقدم نماذج من الأشكال التي تشبه أو تقرن ببعض
الآلات المعدنية
١٢ التي تُعَدُّ من الطراز الهكسوسي، قد وردت من «مسوبوتاميا»، ويمكن أن
يذكر على وجه خاص مقبض الخنجر الذي على هيئة هلال، وكذلك رءوس «البلط» التي لها
ثقوب تثبت فيها،
١٣ وقد ظهرت كذلك الدبابيس القصيرة في «مسوبوتاميا» منذ ٣٠٠٠ عام.
أما فكرة صناعة البرنز نفسها، فإن من الحقائق الثابتة أنها كانت معروفة في «سومر»
والأناضول في النصف الأول من الألف الثالثة،
١٤ في حين أن مصدر الصفيح وحتى النحاس ووجود معدنَيْهما في «سومر»، يجب أن
يُبحَث عنهما خارج هذه الأصقاع؛
١٥ ولذلك يقترح «لوكاس» أن كلًّا من «أرمينيا» و«إيران» قد تكون مصدرًا
لاستخراج الصفيح؛ ومن الأدلة التي سِيقَتْ حتى الآن، يظهر أن بلاد «مسوبوتاميا» لها
ضلع في هذه المسألة، ولكن علينا أن ننتظر نتائج حفائر منتظمة في بلاد القوقاز،
والأصقاع الأخرى التي يُظَن وجود هذه المعادن فيها، قبل أن نكوِّن فكرةً ثابتةً.
١٦ وإذا كانت المواد المسوبوتامية من عهد الألف الثالثة ق.م، وهي المقابلة
لنفس مواد الهكسوس، تبرهن على أن لها علاقة مباشرة بالحالة التي نبحثها، فإن ذلك قد
يبرهن على أنها إنتاج سامي أو سومري، مهما بعدت شقة الزمن بين العهدين.
الموطن الأصلي للحصان
والفكرة العامة المتفق عليها الآن أن الحصان له علاقة أصلية بالأقوام الآرية،
والظاهرة أنه يمكن اقتفاء أثر أصل الكلمة المصرية والسامية الدالة على لفظة الحصان
إلى اللغة الهندية الإيرانية، وهي «أسوا» في السانسكرت «أسفا».
١٧
ومن الواضح أن الكلمة المصرية «سسمت» مشتقة من اسم الجمع العبري (الكنعانية)
«سوسيم»، وكلمة «سسمت» لا تمثِّل إلا الحروف الساكنة للاسم، وحرف التاء فيها تاء
التأنيث، وعلى أية حال فإن وجود وسيط «سامي» في نقل الكلمة إلى المصرية يجعلنا نظن
بعض الشيء أن الجنس الهندي الآري نفسه لم يأتِ إلى مصر، ولكن من جهة أخرى يُحتمل
أنهم قد اختلطوا بعنصرٍ ساميٍّ من بين الهكسوس. ولدينا كلمة أخرى نجدها في اللغة
المصرية، وهي «مرين» ومعناها «جندي سوري» أو خيال (سائق عربة)، والظاهر أنها تُنسَب
إلى الكلمة المتنية «مارينا»، وهذه الكلمة الأخيرة قد قُرِنت بالكلمة السانسكرتية
«ماريا»، ومعناه «الرجل الفتي» (الشاب)؛
١٨ والكلمة المصرية «ورريت» التي تدل على «العربة» اشتقاقها غامض، وتوجد
كلمة أخرى تدل على العربة وهي «مركبة»، وهي سامية الأصل.
وكذلك قد تكون عاملًا وسيطًا بين الهنود الإيرانيين والمصريين.
ولا نزاعَ في أن الحصان والعربة وما يلزمهما من عدد قد أُدخِلت في مصر في عهد
الهكسوس، وبصرف النظر عن الاعتقاد السائد أن مهدها الأصلي آري، وأنها لم تُستعمَل
في جنوب شرقي آسيا ومصر إلا في عهود
١٩ متأخرة نسبيًّا، فإن الاشتقاقات التي اقتبسناها عن أصل الحصان والعربة
وغيرهما تُعَدُّ حججًا على وجود الهنود الآريين في الشرق الأدنى، ولكن مع هذه الحجج
لا يمكن أن نثبت أو ننفي وجود الآريين في مصر.
نسبة اختراع الحصون المستطيلة للآريين
وكذلك قد نُسِب إلى الآريين اختراع بناء الحصن المستطيل وطواره الخاص، وإن كان
ذلك لم يُدعَم إلى الآن بالبرهان البيِّن.
٢٠ حقًّا إن هذا الطراز من الحصون كان غريبًا عن مصر وفلسطين وسوريا، وكان
أول ما ظهر في الآثار الخاصة بالهكسوس في هذه البلاد. ولا شك في أن النظرية التي
تربط مثل هذا الطراز من الحصون بما يشابهها من المباني في «إيران» و«ترنس كاسبيا»
(ما وراء بحر خوارزم)
٢١ نظرية مغرية، غير أنها تحتاج لإثباتات أكثر لتجعلها حقيقة مؤكدة. وعلى
أية حال، هل هذه الحصون مباني آرية؟ والواقع أن الشكل المستطيل الذي اتخذته مدن
الهكسوس عند تشييدها يُشعِر بأن هؤلاء القوم كانوا يسكنون في بلاد ذات سهول، حيث
كان الشكل الذي تُبنَى على غراره المدن لا يُقيَّد بتعاريج طبيعة قمة التل الذي
تقام عليه، وعلى ذلك نستنتج أن حل مسألة الهكسوس يقع بوضوحٍ تامٍّ في أراضٍ بعيدة
جدًّا من مصر. والواقع أن التحصينات التي تُنسَب إلى العهد النيولتيكي وعصر البرنز
المبكر كانت عظيمة الانتشار في أوروبا، بما في ذلك جنوبي «روسيا»، ويمكن أن يكون
ذلك له علاقة بالمسألة، فإذا كان هذا الغرض صحيحًا، فإن بلاد القوقاز يُحتمَل أن
تكون طريقًا ممكنًا للهجرة. ومع كلٍّ يمكننا أن نقرِّر ما يأتي عن وجود المعسكرات
الأجنبية في الجنوب الغربي من آسيا ومصر.
من المحتمل جدًّا أن سلالة جديدة، قد أحضروا الفكرةَ التي تشمل عدة خصائص ثابتة،
وأنهم أقاموا تلك المباني بأنفسهم تحت إشرافهم، لا أن الفكرة قد نُقِلت إلى مصر
ونفذت بطريق غير مباشر.
على أن الصعوبة الحقيقية في قبول فكرة وجود عنصر هندي إيراني بين الهكسوس، هو
انعدام وجود العلاقات اللغوية في «فلسطين» و«سوريا» حتى عهد العمارنة،
٢٢ ولم يحقق وجود أسماء هندية إيرانية في الوثائق الحورانية المبكرة بما
في ذلك الوثائق التي عُثِر عليها في «أربخا»
٢٣ في شمالي سوريا، على أنه من باب الحيطة فقط نعيد إلى الذاكرة أن من أهم
النقط الخاصة بالهكسوس في مصر، أنهم على ما يظهر قد انتحلوا اللغةَ المصرية لغةً
لهم، وأن ملوكهم اتخذوا لأنفسهم الألقابَ الملكيةَ، هذا إلى أنهم في بعض الحالات
كانوا يحملون أسماء مصرية، ممَّا كان يغطي على سمات أصول مسمياتهم اللغوية.
الهكسوس يصطبغون بالصبغة المصرية
وقد يعترض بأن ما ذكرنا لا يُعَدُّ أدلةً حقيقية على قبول الهكسوس الذين وصلوا
إلى مصر الثقافةَ المصرية قبولًا شاملًا، والجواب على ذلك نجده في أن ملوك البطالمة
قد أقاموا مبانيهم على الطراز المصري، واستعملوا اللغة المصرية الفصحى في نقوش
آثارهم، واتخذوا الألقاب الفرعونية التقليدية شعارًا لهم، ومع ذلك فإنهم عاشوا عيشة الإغريق.
٢٤ حقًّا قد يلفت النظر مع ذلك أن البطالمة لم يتسَمَّوا بأسماء مصرية كما
فعل بعض ملوك الهكسوس، ومن الأدلة التي تبرهن على أن الهكسوس قد حاولوا أن يعدوا
أنفسهم لقبول الثقافة المصرية، ما نشاهده في استعمالهم إشارات هيروغليفية رديئة
الصنع لا تُفهَم في نقشِ عددٍ عظيم من الجعارين، والنقطة الهامة في ذلك هي أنه على
الرغم من أن اللغة المصرية كانت غريبة عنهم، وأن استعمالهم لها كان غالبًا
استعمالًا رديئًا، فإنهم مع ذلك اتخذوها لغةً لهم.
والظاهر أن الحورانيين هم العنصر الوحيد الذي قد برز بوضوحٍ نتيجةً للبحوث
الحديثة، دالًّا على أنه كان ضمن العناصر التي تكوَّن منها الهكسوس، ومع ذلك فإنه
لم يتعرف على اسم من الأسماء غير السامية التي تسمى بها الهكسوس بأنه حوراني الأصل.
٢٥ وعلى أية حال فإن الأستاذ «ألبريت» يرى أن بعض الأسماء الملكية مثل
«سمقن» و«شارك» و«خيان» ترجع إلى أصل حوراني، وقد استعملنا في مناقشاتنا حتى الآن
كلمة الحورانيين؛ لتدل على عصر الهكسوس المتأخر، وقد كان أساسنا في ذلك تشابه
الصفات في الصناعات التي كانت قائمةً في بقعة شمالي «مسوبوتاميا»، وهي التي كانت
فيها اللغة الحورانية اللغة السائدة في ذلك العصر؛ ويدل مقدار صبغ مدنية الهكسوس
بعناصر الثقافة الحورانية في عهدهم المتأخر، على أن ذلك لم يأتِ عفوًا، بل جاء عن
طريق هجرة واسعة النطاق، ويُحتمَل أنها بدأت في «أرمينيا»
٢٦ حسب الرأي الحديث، وهذا الرأي مضافًا إلى صبغ مدنية فلسطين وسوريا
بصبغة حورانية شديدة في عهد الهكسوس المتأخر، مما يرجح كفة اشتراك الحورانيين في
هجرة الهكسوس بدرجة عظيمة، وعلى أقل تقدير في مظاهرها المتأخرة،
٢٧ في حين أنه قد يكون من الصعب أن يبرهن على عدم احتمال وجود التأثير
الحوراني بين الهكسوس الأول، فإن هذا التأثير على أية حال لم يكن قويًّا كما كان في
عهدهم المتأخر. وعندما نقول ذلك يحضر إلى ذهننا الأسماء القليلة التي من هذا النوع
في المتون الكابوديشية، التي يرجع تاريخها إلى القرن العشرين قبل الميلاد، ولكن
مهما كانت معلوماتنا قليلةً عن موضوع أصول هؤلاء السلالات التي يتألف منها الهكسوس،
فإن وجود أي عنصر جديد في الجهات المجاورة يحتم فحصه؛ فبعد مرور قرن أو أكثر، أيْ
في خلال القرن الثامن عشر، نجد سلاسلة الحورانيين في جماعات منظمة قد تصادموا مع
«الخيتا» في غارتهم على «حلب» و«بابل»؛ ونرى أن ثلاثة أجيال من ملوك «الخيتا»
(حنوشيليش، موشيليش، ختيليش) قد تكلموا عن الحورانيين في تاريخهم، وإذا كان بعض
المتون يحيطه الإبهام بالنسبة لموقع بلاد هؤلاء القوم، فإنَّا نعرف مع ذلك أن بعضهم
كان يسكن على وجه التأكيد شمالي «سوريا».
٢٨
وعلاقة هؤلاء «الحورانيين» بهجرة الهكسوس الأولى محض تخمين، ومع ذلك فإنه بسبب
عنصر الزمن الذي وجدوا فيه، وما لدينا من تأكيدات على أنه كان يوجد دم سامي بين
الهكسوس، يجدر بنا إذن ألَّا نهمل ما قد يكون هناك من علاقة.
على أن أيَّ دليلٍ لقرْنِ الحورانيين بهجرة الهكسوس الأولى يكون أساسه الجوار،
فإذا لم يكن للجماجم علاقة في تدعيمه، فعندئذٍ يجب أن تُعتبَر «الخيتا» ضمن
السلالات التي يحتويها شعب الهكسوس لنفس السبب وهو الجوار. على أن كل معلومات لدينا
عن الحورانيين الأول الذين ذكرناهم الآن، ندين بها «للخيتا» الذين تلاقَوا معهم في
غاراتٍ قاموا بها على «سوريا» و«مسوبوتاميا»، ويظهر أن فحص هذا الموضوع من الوجهة
الأثرية ليس فيه أمل يُذكَر بالنسبة للأناضول، على أنه من المحتمل أن تُسفِر حفائر
مقبلة في كلٍّ من بلاد «الأناضول» وشمالي «سوريا» عن علاقات ثقافية لها أهميتها.
٢٩
والآثار الحورانية التي تُعَدُّ أقدم ممَّا سبق في شمالي «سوريا»، لم تحقق بعدُ
بصفة قاطعة، وكذلك لدينا عنصر آخَر يُحتمَل عدُّه من الهكسوس، ويجب فحصه، مع العلم
أنه يشتمل على صفة تختلف اختلافًا ظاهرًا عن العناصر التي عالجناها حتى الآن، وهذا
العنصر هم قوم «الخبيرو» وقد كان أول ظهورهم في التاريخ في «مسوبوتاميا» حوالي
نهاية الألف الثالثة ق.م، وقد كان لهم اتصال وثيق بالحورانيين في القرون التي تلت،
٣٠ ولم يكن الخبيرو طائفة لها لغتها الخاصة أو جنسيتها الخاصة، بل كانوا
على ما يظهر قومًا أَرْخَوا لساقهم العنان، يتألفون من سلالات مختلفة، ويحمل معظمهم
أسماء سامية، ولكنهم أحيانًا يدَّعون لأنفسهم صلات لغوية أخرى.
٣١
على أن تحقيق أسماء «الخبيرو» في المتون يتوقَّف كليةً على النص عليها بأنها
أسماء «خبيرو»، فهؤلاء القوم على ذلك يؤلفون طائفةً لا جنسًا له طابعه الخاص، وإنه
لَمِن الصعب أن يضع الإنسان تعريفًا يحدد به هذه الطائفة قبل رُقِيِّهم فيما بعدُ
ووصولهم إلى مرتبة طائفة قومية هي طائفة اليهود؛
٣٢ ولكن كلًّا من الأثري «خبيرا» و«سيزر» قد وجد من دراسته لوحاتِ «نوزي»
تعابيرَ خاصة يظهر أنها تنطبق على كلِّ «الخبيرو»، وهي: أغراب، عبيد مغيرون،
جوَّالون، أعداء أجانب، مخاطرون.
٣٣
وفي حين أن غالبية «الخبيرو» ساميون، فإنهم كانوا في العادة على اتصال وثيق مع
العنصر الحوراني المنتسب إلى «الهكسوس»، ولما لم يكن هناك وحدة جنسية أو لغوية بين
«الخبيرو» القدامى، فإنه من المحتمل عدم وجود وحدة ثقافية بينهم.
وفي الإمكان البرهنة على وجود علاقة بين الحقائق التي لاحظناها، وبين قصص
الأنبياء، فمن المحتمل أن إبراهام هو «هاعبري» أيِ البدوي، قد صُوِّر يزور
٣٤ مصر في رحلة سلمية، والواقع أنه قد قرن غالبًا بين رحلته ورحلة «إبشا»
الذي سار على رأس قافلة لزيارة مصر في عهد «سنوسرت» الأول كما أسلفنا، ومن غريب
الصدف أن هذا العصر هو العصر الذي لاحظنا فيه لأول مرة أدلةً على وجود الهكسوس في
مصر كما سبق تفصيله، وبعد فترة من الزمن دخلت كل أسرة يعقوب مصر، واتخذوها موطنًا
لهم، ومن المحتمل أن لدينا في هذا الحادث ذكرى لاحتلال الهكسوس الشامل للوجه البحري.
٣٥ والواقع أن تكوين الهكسوس الجنسي لا يزال موضوعًا بعيدًا عن الحل،
ويجوز أن بعض نواحيه لن يُكشَف عنها أبدًا، غير أنه واضح أن العنصر السامي كان
قويًّا فيه، وكذلك يظهر أن الحورانيين، قد لعبوا دورًا هامًّا في هجرة الهكسوس، ومن
المحتمل أن بعضًا من طائفة «الخبيرو» المختلطة الأجناس قد صاحبوا المهاجرين، ومن
بين الذين يجوز إسهامهم في هذه الهجرة كذلك الهنود الإيرانيون، فإنهم على ما يظهر
قد قاموا بنصيبٍ هامٍّ في هذه الحركة.
ويجب عند فحص مسألة التكوين القومي للهكسوس أن تُعالَج من وجهات النظر اللغوية
والجنسية والثقافية، على ألَّا تُعالَج ناحية من هذه النواحي بأهمية دون معالجة
النواحي الأخرى بنفس الأهمية؛ لأنه من المعقول أن نفرض أن أسرة حورانية الأصل
مثلًا، لها مخصصاتها الجنسية والثقافية، قد تتكلَّم بإحدى اللهجات السامية بعد
استيطانها «سوريا» و«فلسطين» مدةَ جيلٍ من الزمان، وتشير البراهين اللغوية الخاصة
بالألف الثانية قبل الميلاد إلى أن اللهجات السامية كانت سائدة في هذه البلاد،
٣٦ وإذا أردنا مثلًا أن نقتبس مثالًا حيًّا ينطبق على الحالة التي نتكلم
عنها، حيث نجد كلَّ أنواع الجنسيات والقوميات والعادات يختلط بعضها ببعض تحت نفوذ
لغة واحدة رئيسية؛ فلدينا الولايات المتحدة الحالية. ومهما يكن أصل تكوين الهكسوس،
فإن اللغات التي استعملوها كانت تميل إلى الاختفاء أمام اللغة السائدة في البلاد،
في حين أن العادات كانت تمكث مدة أطول من اللغة والجنس على ما نعلم، ويمكن الكشف عن
هذا الجنس إذا كان في الإمكان جمع طائفة كافية من الجماجم لدرسها، وقد أبرزنا فيما
سبق الدورَ الذي لعبه الساميون في هجرة الهكسوس، والظاهر أن نفوذهم كان عظيمًا بسبب
انتشار لغتهم، ومع ذلك فليس لنا الحق في أن نقول إن مَن يحمل اسمًا ساميًّا بين قوم
الهكسوس لم يكن حورانيًّا أو حيثيًّا (خيتا) أو هنديًّا إيرانيًّا؛ إذ نجد من بين
ملوك الهكسوس مَن كان يحمل أسماء مصرية محضة، ومع ذلك فإن أولئك الملوك لم يكونوا
منتسبين إلى أصل مصري؛ على أن استمرار بقاء أسماء من مسميات الطوائف التي كانت
لغاتهم خاضعة لسيادة لغة أخرى، يكون مفيدًا للغاية، وبهذه المناسبة يجب ألَّا
نتغاضى عن التنبيه على أن عددًا من أسماء الهكسوس قد بقي إلى الآن لم يحقق لغويًّا؛
وهكذا سيظل موضوع أصل شعب الهكسوس في حاجةٍ إلى أدلة جديدة بعد أن استعرضنا الوثائق
الحديثة العظيمة التي وصلتنا عنه حتى الآن؛ ولذلك كان الكشف عن متون جديدة من
البقاع التي احتلَّتْها الهكسوس مساعدًا عظيمًا لحل هذه المسألة، ويجب أن يكون قيام
بحوث أثرية جديدة في سوريا وما وراءها على أساس العناية الدقيقة في جمع الأدلة
الثقافية ونتائج فحص العظام؛ جزءًا من الطريقة التي تُتَّبَع لحلِّ هذه
المسألة.