تحتمس الأول
(١) أسرة تحتمس الأول
خلف «أمنحتب الأول» على عرش الملك «تحتمس الأول»، وتدل المعلومات التي لدينا حتى الآن على أنه ليس ابنه كما يدَّعِي البعض أحيانًا؛ إذ إن «تحتمس» أعلن في صراحةٍ في المرسوم الصادر بتوليته الملك، أنه وضعته والدته «سنسنب»، ومن ذلك نعلم أن أمه لم تكن زوجة ملك شرعية، أو بنت ملك شرعية، ويُشاهَد في أعلى اللوحة التذكارية التي نُقِش عليها هذا المرسوم؛ «تحتمس الأول»، وخلفه زوجه «أحمس»، والملكة «نفرتاري» والدة «أمنحتب الأول» التي شاركته في عرش الملك.
(٢) تاريخ تتويجه ملكًا على البلاد
ولا بد أنه تُوِّج ملكًا على البلاد حوالي عام ١٥٣٥ق.م، أيْ بعد وفاة «أمنحتب» مباشَرةً، وقد استقينا معلوماتنا عن إعلان تتويجه ملكًا على البلاد من نسخ مرسوم توليته على عرش البلاد، أُرسِلت إلى حاكم بلاد النوبة «توري» الذي كان قد عُيِّن حديثًا لإدارة شئونها، ولُقِّب بلقب جديد هو ابن الملك للبلاد الجنوبية (كوش)، وكان يقوم بإدارة هذا الإقليم في عهد سلفه «أمنحتب» الأول على ما يظهر حاكم الكاب، والواقع أنه كان الوالي على بلاد السودان كما سنشرح ذلك في حينه.
مرسوم ملكي إلى ابن الملك حاكم بلاد «كوش» «توري»؛ لقد أُرسِل إليك هذا المرسوم لتكون على علمٍ بأن جلالتي (له الحياة والسعادة والصحة) قد أشرق ملكًا على الوجهين القبلي والبحري، جالسًا على عرش «حور» الأحياء، الذي لن يكون له مثيل طول الأبدية، وستكون ألقابي كالآتي: حور (١) «الثور القوي» محبوب آلهة العدالة، (٢) سيد العقاب والصل الذي يظهر بالصل العظيم في قوته، حور الذهبي — من سنيه جميلة، ومَن يجعل القلوب تحيا، ملك الوجه القبلي والوجه البحري عا خبر «كارع» — ابن الشمس «تحتمس» — يعيش مخلدًا أبدًا. مرَّ على ذلك بتقديم القرابين لآلهة إلفنتين (الواقعة) في نهاية الجنوب، لأجل أن يقدِّم الناس قربانًا لحياة وعافية وصحة ملك الوجهين القبلي والبحري «عا خبر كارع» معطي الحياة، وكذلك مر بحلف اليمين باسم جلالتي الذي ولدته الأم الملكية «سنسنب»، والتي تتمتع بصحة مجددة. وهذه رسالة لتُعلِمك بالأمر، وبأن البيت المالك في صحة وعافية. (التاريخ) السنة الأولى، الشهر الثالث من فصل الشتاء في يوم الظهور (أي: ظهور الفرعون وعلى جبينه الصل، وهو علامة على التتويج).
(٣) أوصاف تحتمس الأول
ولا غرابة في أن نجد هذا الفرعون يحمل لقب «الثور القوي»، فإن هذا اللقب كان ينطبق عليه وعلى ما قام به من أعمال الشجاعة؛ إذ كان طويلَ القامة، عريضَ المنكبين، متينَ البنية، قادرًا على تحمُّل أهوال الحروب من غير ملل وإعياء، وقد صوَّرته تماثيله بوجه ممتلئ مستدير، وأنف طويل، وذقن مربعة، وشفتين تميلان إلى الغلظ، ومحيا ترتسم عليه ابتسامة ولكنها في الوقت نفسه تمثِّل قوة الإرادة، ولا نزاع في أن هذا الفرعون قد حمل معه عند تولِّي العرش روح الجيل الناشئ، الذي جاء على أعقاب تخليص البلاد من نير الهكسوس، فقد نما وترعرع في عهد «أمنحتب الأول»، ذلك العهد الذي كان يسوده السلام بوجه عام، وكان أبناء جيله يفخرون بتلك الانتصارات التي أحرزوها على أقوام الجنوب من غير كبير عناء، مما جعل روح الطموح تدبُّ في نفوسهم إلى الغزو ومتابعة الفتح، وبخاصة في آسيا، تلك البلاد التي فرَّ إليها أولئك القوم الذين سيطروا على بلادهم بيدٍ من حديد أكثرَ من قرن ونصف. والواقع أنهم لم يفكروا في غزو بلاد أفريقية ثانيةً؛ إذ كان يُخَيَّل إليهم أنه ليس فيها مجال واسع يسعر نار مطامعهم؛ لأن كل البلاد السودانية حتى ملتقى النيل الأزرق بالنيل الأبيض كانت ملكًا لعاهلهم، وكان الآلهة المصريون يعبدون في «نباتا» كما كانوا يعبدون في «طيبة» بنفس الحماس والتقى.
(٤) حروبه في السودان
(٤-١) النص الذي يتحدَّث عن حروبه في السودان والنهرين
السنة الثانية، الشهر الثاني من فصل الفيضان، اليوم الخامس والعشرون في حكم جلالة الثور القوي محبوب آلهة العدل … «تحتمس الأول».
لقد حضر وظهر بوصفه رئيسَ الأرضين ليحكم ما يحيط به قرص الشمس، والوجه القبلي والوجه البحري، وبخاصة نصيبي «حور وست» (أي: مصر كلها)، وهو الذي وحَّدَ الأرضين وجلس على عرش «جب»، ولبس التاجين القويين (سخمتي)، وقد تسلَّمَ جلالته بحق إرثه، واطمأن على عرش «حور» ذي الدرج؛ ليمدَّ حدود «طيبة» على «خفت حرنبس» (من ضواحي «طيبة») وليصبح سكان الرمال، والبرابرة الذين يمقتهم الإله، وسكان جزر البحر الأبيض، وقوم «رتحو قابت» خدَّامًا لها، وهو الذي جعل سكان الجنوب يقلعون شمالًا وسكان الشمال يصعدون جنوبًا، وكل البلاد الأجنبية يأتون محمَّلين بجزيتهم للمرة الأولى (في التاريخ) للإله الطيب «تحتمس» الأول عاش مخلدًا، وإنه «حور» المظفر، رب الأرضين، وهو الذي يخدمه … ومستعمراتهم تابعة له؛ لأنهم يقبلون الأرض بين يدَيْه، وأصحاب السقاية ينحنون أمام جلالته، ويخضعون أمام الصل الذي على جبينه، وهو الذي قد طرح أرضًا رجال بلاد النوبة، ولم يفلت من قبضته السود إلا بمشقة (؟)، وقد ضمَّ إليه الحدود التي على كلا الجانبين (للنيل)، ولم يفلت واحد من أهالي الذين أتوا، فلم يَبْقَ منهم واحد، أما بدو النوبة فقد سقطوا على وجوههم من الفزع، وخروا على جنوبهم في بلادهم، وانتشرت رائحة جثثهم في وديانهم، ولطخت أفواههم بالدماء كأنها صوب المطر، أما الذين قتلوا … فحملوا إلى مكان آخَر، وقد انقضَّ التمساح على الهارب الذي كان يريد أن يختبئ أما «حور» قوي الساعد، (وهذا كله) حدث بقوة الفرعون وحده، ابن آمون، ونسل الإله صاحب الاسم الخفي (كلمة آمون معناها الخفي) وسلالة ثور التاسوع (أي: سلالة آمون)، والصورة الفاخرة لأعضاء الإله، والذي يفعل ما تحبه أرواح «عين شمس» (أي: الملوك القدامى)، وهو الذي برأه أرباب «حت عات» (معبد بعين شمس)، وهو حصن لكل جيشه، والجسور على مهاجمة قبائل الأقواس التسعة مجتمعين كأنه فهد فتي بين قطيع من البقر المطمئنة، قد أعمتهم قوة جلالته، وهو الذي وصل إلى حدود الأرض من قاعدتها، والذي اخترق نهايتها بقوته المظفرة، والذي يبحث عن الحروب، وليس مَن يجسر على مواجهته، وهو الذي فتح الوديان التي كان يجهلها الأولون، والتي لم يرها حاملو التاجين، وحدود بلاده الجنوبية وصلت إلى بداية هذه الأراضي (بلاد النوبة)، ومن الشمال إلى تلك المياه التي تسير من الشمال إلى الجنوب (يعني نهر الفرات؛ لأن مياهه تسير عكس مياه النيل الذي يجري من الجنوب إلى الشمال)، ولم يحدث لملك آخَر شيء مماثل لهذا، وقد وصل اسمه إلى دائرة السماء، وكذلك وصل إلى الأرضين … والناس تعقد الأيمان باسمه في كل البلدان؛ لأن شهرة جلالته عظيمة جدًّا، ولم يَرَ الإنسان مثيلًا لذلك في تاريخ الملوك القدامى منذ عهد أتباع «حور».
وهو الذي يعطي مَن يتبعه نفسه (أي: نفس الحياة)، ومَن يسير على نهجه قربانه، حقًّا إن جلالته هو «حور» الذي استولى على دولته لملايين السنين، وهو الذي تخدمه جزر المحيط، والأرض جميعها تحت قدمَيْه، ابن الشمس من جسده، ومحبوبه «تحتمس» عاش مخلدًا أبديًّا، المحبوب من «آمون» رب الآلهة، والده الذي صور جماله، ومحبوب تاسوع الكرنك، معطي الحياة، والثبات والعافية والصحة، وفرح القلب على عرش «حور»؛ لأنه قائد كل الأحياء، مثل رع مخلدًا.
ما نستخلصه من هذا النص
(٤-٢) نقوش أخرى عن حروبه في السودان
(٥) حروب تحتمس الأول في آسيا
هذا هو كل ما وصَلَنا عن حروب تحتمس الأول في تواريخ مَن جاء بعده، وهو من مصدر مصري، أما عن المقاومة التي اعترضته أو عن قوة جيشه أو الخسارة التي حاقت به، وكذلك الطريقة التي حاول أن يحافظ بها على فتوحه، فإنَّا قد تُرِكنا في ظلام حالك، وإنْ شئتَ فقد بقي كل ذلك صحيفة بيضاء حتى الآن. والواقع أن الأعمال الحربية التي نهض بأعبائها «تحتمس الأول» قد غطَّتْ عليها حروبُ «تحتمس الثالث» الكثيرة، ومع ذلك فإن الحملة إذا كانت تُقدَّر بأهمية نتائجها بالنسبة لما كانت تشتمل عليه من قوة في ساحة القتال، فإنه لا يوجد إلا القليل من الحملات التي دوَّنها لنا التاريخ القديم، تستحق الالتفات أكثر من تلك المخاطرة التي قام بها «تحتمس الأول» في آسيا، وإذا نظرنا إلى عمله هذا باعتباره جزءًا من تاريخ الشرق القديم، فإنه كان بداية الصراع الدنيوي للاستعمار بين آسيا وأفريقيا، وبين ثقافة وادي النيل وثقافة بلاد نهرين، وهو ذلك الصراع الذي كانت عواقبه وبالًا على كلتا المدينتين، وانتهى أخيرًا بسقوطهما، فهَوَتْ أولًا مصر أمام الفرس، وثانيةً أمام الإسكندر الأكبر، أما إذا اتخذناها جزءًا من تاريخ مصر، فإنها كانت النقطة التي تحوَّلَ فيها الشعب المصري للمرة الثانية إلى شعب حربي ساد العالم، بعد أن كان سيده ومعلمه في الفنون والصناعات والعلوم قبل ذلك النهوض الحربي.
ومن الغريب أننا لا نعرف شيئًا عن الطريقة التي بها قبض تحتمس على زمام الأمور في تلك الأصقاع العظيمة التي فتحها بحد السيف، ومن البدهي أنه قد اتخذ بعض التدابير للمحافظة على هذا الفتوح، وأن حملته لم تكن مجرد انتقام، بل كانت محاولة حقيقية لتأسيس السيادة المصرية على تلك البقعة الشاسعة من آسيا، التي تبتدئ من الحدود عند برزخ السويس، وتنتهي عند منحنى الفرات العظيم، وهي التي يمكن تصوُّرها القنطرة بين آسيا وأفريقيا، ولا أدل على وجود نظام حكومي في هذه الجهات تحت سيطرة مصر من أنه لم تحدث حروب تستحق الذكر في عهد خلفه «تحتمس الثاني» والملكة «حتشبسوت»، كما أنه لم يسمع بثورات علنية في «سوريا» لتنزع النير المصري عن عاتقها، وقد بقيت الحال كذلك إلى أن اعتلى عرش الملك «تحتمس الثالث»؛ وعندئذٍ ألَّفَ فلولُ أمراء الهكسوس والولايات الأخرى حلفًا لنزع النير المصري، ومن ثَمَّ شبت الثورات هناك، ولذلك قال «تحتمس الثالث» في نقوش تاريخ حروبه التي دوَّنها على جدران معبد الكرنك: تأمل! إنهم قد بدءوا بالعصيان على جلالته من أول «يرزة» (يوده) حتى مستنقعات العالم (أي: إلى ما وراء نهر الفرات).
(٦) مباني تحتمس الأول
ولا نزاع في أن «تحتمس الأول» بعد أن مد فتوحه إلى تلك الجهات النائية، أخذ يشعر بأن ضغط الهكسوس وجبروتهم قد زال نهائيًّا، وأنه كان من حقه وقتئذٍ أن يفتخر بسيادته على العالم كما جاء على نقشٍ تركه لنا في «العرابة المدفونة»، فاستمع إليه: «لقد جعلت حدود مصر واسعة كدائرة الشمس، وقويت الذين كانوا في خوف، وطردت عنهم الشر، وجعلت مصر سيدة كل الأراضي.»
ويدل ما وصَلَنا حتى الآن من الكشوف الأثرية على أن «تحتمس الأول» لم يَقُمْ بأية حروب أخرى، بل على ما يظهر وجَّهَ كلَّ جهوده إلى إقامة المباني العظيمة تخليدًا لأولئك الآلهة الذين وهبوه النصر على أعدائه، وبخاصة إله الدولة «آمون رع» وإله الآخرة «أوزير».
(٦-١) إقامة مسلتين
الإله الطيب الذي يؤدِّب النوبيين، رب القوة ومبدِّد الآسيويين، والذي جعل حدوده تمتد حتى قرني الدنيا (تعبير عن نهاية الدنيا من الجهة الجنوبية) ونهايتها في سماء «حور»، والذي يُؤتَى له بخشب أرز الغابة مثل ما يُؤتَى له بخشب مصر، والذي يأتي إليه النوبيون يحملون جزيتهم، مثل ما يحمل له دوم إلفنتين، وسكان الرمال يحملون إليه جزيتهم مثل ما يُؤتَى إليه بجزية الوجه القبلي والوجه البحري، وهي التي يقدِّمها جلالته إلى والده «آمون» في «طيبة» كل عام، وتوكل إليه هذه الأشياء جميعًا … لأنه ملأ قلبه مني (وثق بي)، ولذلك رقيت أميرًا، ومدير شونة، وحقول القربان كانت تحت إدارتي، وكل المباني القيمة كانت جميعها تحت رعايتي، وقد أشرفت على المباني الأثرية العظيمة التي أقامها في الكرنك؛ فقد أقام قاعة العمد الفاخرة بأعمدة على هيئة سيقان البردي، وكذلك أقمت أبراج (البوابتين) العظيمتين بالقرب منها مستعملًا حجر «عيان» الأبيض الجميل، وكذلك أقام عمد الأعلام الفاخرة أمام المعبد من خشب الأرز من أحسن خشب المدرج (يعني جبال سواحل لبنان) ونهايتها من السام، ورأيت كيف كان يقام … موشى بالذهب، ورأيت كيف كان يقام الباب العظيم المسمَّى «قوى منظر آمون»، وكان مصراع بابه العظيم من نحاس آسيا وصورة الإله التي عليه (أي: المصراع) من ذهب، ورأيت كيف أُقِيمت المسلتان العظيمتان أمام مدخل المعبد من الجرانيت الأحمر، ورأيت كيف بُنِيت السفينة الفاخرة التي طولها مائة وعشرون ذراعًا، وعرضها أربعون ذراعًا، ليُنقَل عليها هاتان المسلتان (من محاجر أسوان إلى طيبة)، وقد أُحضِرتا صحيحتين لم تُمَسَّا بسوء، وأُنزِلتا في الكرنك، ورأيت كيف حُفِرت البحيرة التي حفرها جلالته على الجانب الغربي للمدينة، وغُرِست جوانبها بكل أنواع الأشجار البهيجة، وأشرفت على كيفية حفر قبر جلالته، وكنت وحيدًا ولم يَرَه إنسان، ولم يسمع به أحد، وكنت أنا الذي أبحث عن الصالح لذلك … في عمل دائم (يقصد القبر)، وكان رأسي يقظًا للبحث عن كل مفيد، ووضعت ملاطًا من الطين على جدران مقابره ليرسم عليها؛ وهذه الأعمال لم تعمل منذ الأزمان الغابرة قطُّ. وقد أنجزت ما كُلِّفت بعمله هنا كما يجب … سور لها؛ أديت للخلف (كل مفيد)، وكان ذلك ما يرغب فيه قلبي، وميزتي كانت في العلم، فلم أتلقَّ تعليمات مسن، ومُدِحت بعملي بعد السنين التي وصلت بها إلى ما أنجزت (من عمل)، وقد قدت … لأني كنت الفم الأعلى لكل أعمال البناء، وثبت قدمي في القصر، وكافأني جلالته بالعبيد، وكان دخلي من مخازن بيت الفرعون يوميًّا، ثم ارتاح الفرعون من الحياة وصعد إلى السماء بعد أن أتمَّ سني عمره في حياة راضية.
(٦-٢) مسلات تحتمس الأول
وأشرفت على كيفية حفر قبر الملك، وكنت وحيدًا، ولم يَرَه أحد ولم يسمع إنسان به.
وهاك نص اللوحة:
وتم صنع الآثار لوالده أوزير، وثبت تمثاله إلى الأبد، وقد كانت صنعه متينًا وسريًّا جدًّا دون أن يراه أحد أو يلمحه، ودون أن يعرف صورته أحد، وكذلك صنع له القارب الذي يحمل على الأعناق المسمَّى «وتس نفرو» (حامل جمال الإله) من الفضة والذهب واللازورد، والنحاس الأسود، ومن كل الأحجار الأخرى الثمنية.
والواقع أن هذه اللوحة مفعمة بالمعلومات العظيمة عن حالة البلاد في ذلك الوقت، ممَّا جعلنا نترجمها هنا برمتها؛ فنرى أولًا أن الملك قد جمع مستشاريه وحادَثَهم فيما يريد القيام به في معبد الإله «أوزير» بالعرابة المدفونة، ذلك البلد الذي كان الكعبة التي يحج إليها كل مصري غنيًّا كان أو فقيرًا، لزيارة الإله «أوزير» الذي كان أعظم الآلهة في أعين الشعب المصري وملوكه في عهد الدولة الوسطى، وفي الدول التي تلت، بوصفه إله الآخرة، التي كان يرجو كل مصري أن ينال فيها مقامًا محمودًا مثل «أوزير»؛ ولذلك فإنهم خاطبوا الفرعون بقولهم إنه بعمله هذا — وهو تجديد ما خربته يدُ الدهر في معبد هذا الإله — يُدخِل السرور على قلب الشعب المصري، وبخاصة ملوك مصر؛ فإنهم منذ الأزل كانوا ولا يزالون خدامًا لهذا الإله العظيم بوصفهم أولاده مثلما كان حور ابنه؛ فالملك بإقامة هذه الآثار، وصنع أثاثه نال مساعدة كل الآلهة بما لديها من كنوز ومال ونشب، وعلى ذلك أمر الفرعون باستخدام أمهَرِ الصنَّاع لإعداد المعبد بكل ما يلزمه، على أن ينفذ له ذلك وزير ماليته، وقد كان أهم ما صنع له تمثاله وقاربه اللذان يُستعمَلان في الاحتفال بعيده، كما كان يفعل منذ قديم الأزل في المكان المعروف باسم «بقر»، وهو المقر الذي يزعم القوم أن فيه دفن أوزير بالعرابة المدفونة.
على أن الفرعون لم يكتفِ بصنع تمثال «أوزير» وحده، بل أصدر الأمر بعمل تماثيل لتاسوع الآلهة الذين كان «أوزير» على رأسهم، ثم يذكر لنا الفرعون بعد ذلك السببَ الذي من أجله عمل كل هذا للإله «أوزير»، فيقول لنا إنه كان يحبه أكثر من كل الآلهة؛ لأجل أن يخلد اسمه في العرابة، ولأن «أوزير» هو إله الآخرة الذي سيكون مصير تحتمس إليه في العالم السفلي؛ ولذلك طلب الفرعون من الكهنة فضلًا عن ذلك أن يحيوا اسمه، ويقدِّموا له القربان، وأن يجعلوا أولادهم من بعدهم يحيون ذِكْر الفرعون حتى تبقى على مدى الدهور ذكراه مثل «أوزير»، ثم إنه يذكرهم بأنه كان ملكًا شجاعًا دافَعَ عن بلادهم، وأنه ليس فيما يقوله كذب أو افتراء؛ ولذلك يذكِّرهم بما قام به من جليل الأعمال في أرض الكنانة فيقول إنه قد أقام المباني الأثرية الدينية للآلهة في طول البلاد وعرضها، وإنه أصلح ما خربه الهكسوس في زمن محنة البلاد، فهو بذلك قد عمل أكثر ممَّا عمله أي ملك قبله، هذا إلى أنه جعل الكهنة يعرفون حدودهم وواجباتهم، وعلم الجاهل ما يجب علمه، ثم ينتقل إلى ما قام به من الفتوح العظيمة المنقطعة القرين، فيقول: لقد وسَّعت رقعةَ أرض مصر، فجعلتها تشمل كل ما يحيط به قرص الشمس، وبذلك أصبح مَن كان يمشي خائفًا وَجِلًا مُزعَجًا من الهكسوس وطغيانهم، يمشي مرفوع الرأس؛ لأنه أصبح الفائز المنتصر على ذلك العدو الذي طُرِد من البلاد وجعل مصر سيدة العالم، مهيبة الجانب في كل المعمورة، وبعد أن كانت خاضعةً ذليلةً أصبحت كلُّ البلاد المتمدينة عبيدًا لها؛ ذلك هو «تحتمس الأول»، أو بعبارة أخرى ابن القمر الذي أضاء مصر وجعل نورها يمتدُّ من الشلال الرابع إلى أعالي دجلة والفرات.
(٧) أسرة الفرعون تحتمس الأول
(٨) الموظفون والحياة الاجتماعية في عهد «تحتمس الأول»
(٨-١) باحري
يُعَدُّ «باحري» من أعظم رجال عهد «تحتمس الأول» وقد كان أول ظهوره في مدينة «الكاب» مسقط رأسه، وألقابه كالآتي: «حاكم نخب»، وحاكم «دندرة»، والمشرف على الأراضي الزراعية في الجنوب من أول «إسنا» حتى «نخب» (الكاب)، والكاتب الماهر، وحاسب الحبوب، والمشرف على كهنة «نخب»، والمقرَّب لدى سيده، والمشرف على الكهنة، والحارس الوحيد على ممتلكات سيده، والمعروف لنفسه بقلمه، وكذلك كان يُلقَّب «مربي» ابن الملك «وازمس».
ولسنا في حاجة إلى الإشارة إلى ما جاء في نقوش تاريخ حياة هذا الرجل العظيم من معلوماتٍ على جانب عظيم من الأهمية من الوجهة الدينية والخلقية في هذا العهد، على الرغم مما تنطوي عليه عباراته من مبالغات يمكن معرفتها بدون كبير عناء، ومع ذلك فإننا نستخلص من هذه المبالغات نفسها أمورًا عدة عن حياة القوم.
المناظر الاجتماعية والخاصة في مقبرة «باحري»
تحتوي مقبرة «باحري» على مناظر عدة عن حياته الخاصة وحياته الحكومية، وكذلك على مناظر جنازية عامة، وهذه المناظر قد شُفعت لحسن الحظ بنقوش مفسِّرة لها، ممَّا جعلها ذات مزايا عظيمة؛ وبخاصة لأنها تُلقِي بعضَ الضوء على حياة القوم اليومية وأعمالها بما فيها من فكاهات ومداعبات حلوة قلَّ أن نحصل عليها في وثائق تلك الأزمان السحيقة، ففي منظرٍ نشاهد «باحري» يتبعه خَدَمُه حاملين ملابسه ونعاله وكرسيه والمعدات التي تلزمه، وتقول لنا النقوش عن هذا المنظر: إنه فحص أعمال فصل الصيف وأعمال فصل الشتاء، وكل الأعمال التي أنجزها في الحقول عمدة «نخب» وعمدة «دندرة»، وهو الذي يشرف على الحقول في أراضي الجنوب، الكاتب وحاسب الغلال «باحري» المرحوم.
ويلحظ في المنظر أن عربة «باحري» تنتظره، غير أن أحد جوادَيْها نفد صبره، وأراد أن يرخي لساقيه العنان، فوبَّخه السائس قائلًا: قف ولا تتحرك، ولا تكن عاصيًا أيها الجواد الممتاز، يا أيها (الأمير) الذي يحبه سيده، ومَن يفخر به الحاكم «باحري» أمامَ كل إنسان.
وفي نفس المنظر نجد رجلًا يحطم قطعًا من الطين بفأسه، وينادي رفيقه الذي يعمل معه قائلًا: «يا صديقي أسرع في العمل حتى ننتهي في وقت مبكر.» غير أن ذلك يحفظ زميله فيجيبه قائلًا: «إني سأعمل أكثر من العمل الذي يجب أن أعمله للشريف، فالزم الصمت.»
أما العمال الذين كانوا يجرون المحراث فإنهم كانوا مَرِحين؛ إذ إن «باحري» عندما كان متجهًا نحو النهر مارًّا بهم، حضَّهم على الإسراع في عملهم فأجابوه: إننا نفعل ذلك، انظر إلينا لا تَخَفْ على حقول الغلال، إنها حسنة جدًّا.
وقد أجاب على ذلك الحرَّاث المسن قائلًا: حقًّا إن مقالك مدهش جدًّا يا بني، فإن السنة طيبة خالية من الأمراض، وكل أعشابها جيدة، والعجول فيها ممتازة أكثر من أي شيء.
أما القمح الذي قد نضج فكان يحصده عمال بمحشاتهم وخلفهم امرأة وطفل يلتقطان ما تُرِك خلف الحصادين، في حين نشاهد امرأة ثالثة تحمل سلة وبعض الخبز، ويلحظ أن أحدهم ينادي الحصادين قائلًا: «أعطني حزمة؟ انظر سنأتي في المساء، فلا تعد لشح البارحة، تخلَّ عنه اليوم.» (أي: اترك لنا بعض السنبل نلتقطه اليوم). وفي نهاية حقل الحصاد توجد مظلة صف فيها أوانٍ للشرب على قواعد من الخشب، ويشاهد اثنان منها خارج المظلة يروح عليهما خادم بمروحة من عسف النخل لتحفظ برودتها، وبعد ذلك يُحمَل القمح المحصود في سلال كبيرة معلقة في قضبان ومحمولة على الأكتاف للدرس، وهنا يُرَى «باحري» يقبض بيده على غصن، ويأمر حاملي السلال بالإسراع خوفًا من الفيضان الذي كان يهدِّد الحقول قبل حصد الغلال منها، ثم يسمع عامل وهو عائد ليأخذ حملًا جديدًا يقول بصوت عالٍ: «أَلَمْ أحمل القضبان طول اليوم كرجل؟ وهذا ما أحبه.»
ومما تجدر ملاحظته هنا أن النغمة التي كانت سائدة في هذه المحادثات نغمة مرح تدل على الجد والإخلاص، وهذا المرح بعينه نجده في الدولة القديمة، وقد عُبِّر عنه في أغنية حاملي المحفة (راجع كتاب الأدب جزء ٢ ص٢٢٣).
أما العامل الذي يسوق الثيران في دوراتها التي لا تنقطع، فكان يغني وهو ماشٍ: «ادرسي لنفسك، ادرسي لنفسك يا أيتها الثيران، ادرسي لنفسك، ادرسي لنفسك فإن التبن لعلفك، والغلة لأسيادك، ولا تجعلي قلوبك تجمد، فإن الجو بارد.»
ثم يُذرَى بعد ذلك القمح ويكال ويُوضَع في المخازن، ويُشاهَد كاتب جالس على كومة عالية من الغلال مسجِّلًا ما يكال ويخزن وهو «تحوتي نفر»؛ ويُشاهَد كذلك هنا حصد الكتان، وذلك أن شجيرات الكتان كانت تُنتزَع بجذورها ويُزال عنها ما علق بها من طينٍ، ثم تُحزَم السيقان وتُحمَل إلى رجلٍ مُسِنٍّ جالس تحت شجرة، حيث ينزع منها البذور بآلة كالمشط الضخم، ويخاطب الولد الذي أحضر له الحزم قائلًا: «إذا أحضرتَ لي تسعًا وإحدى عشرة ألف حزمة، فإني أنا الرجل الذي أفصلها كلها.» غير أن الولد يجيبه بوقاحة غير محترم سنه المتقدِّم قائلًا: «أسرِعْ لا تكن ثرثارًا يا أيها العامل القَذِر.»
تسلم ذهب رؤساء أهل الجبال، تسلم الجزية من رؤساء أهل هذه البلدة بيده المدير اليَقِظ الذي لا يكل، والذي لا ينسى ما هو مكلَّف به الأمير «باحري» المرحوم.
ويلحظ أن البحارة الذين في السفن يميلون إلى جنب ويملئون أوانيهم للشرب.
وأمام «باحري» وزوجه مائدة جلس إليها رجل وزوجه، وعلى المائدة ما لذَّ وطاب من طعام وأكاليل وأزهار وزجاجات نبيذ، وهذان هما «أحمس بن أبانا» المشهور وزوجه «إبوتي»، وعلى مائدة أخرى يُشاهَد «أتف تري» وزوجه «كم»، وهؤلاء هم أجداد «باحري» ووالده، وخلف أولئك نرى أقارب «باحري» وأصدقاءه جالسين على بساط يأكلون ويشربون الخمر ويشمون الأزهار.
والظاهر من ذلك أن صاحب الوليمة كان لا يعدُّ نفسه سعيدًا إلا إذا ثمل كل ضيفانه، على أن هذه الوليمة لم تكن لتقتصر على احتساء بنت العنب، بل كان في نواحيها طائفة من المغنين والموسيقيين والراقصات.
ويمكن القول من صور أقارب «باحري» الممثلة على جدران قبره، أنه قد دُوِّن أسماء ستة أجيال من أسرته، ابتداءً من جد والدَيْه حتى أحفاده.
ولا نزاعَ في أن أمثال قبر هذا العظيم يُعَدُّ تحفةً لكلِّ مؤرخ يريد أن يبحث في الحياة المصرية من أي ناحية أراد، غير أنه ممَّا يُؤسَف له جد الأسف أن أمثال هذا القبر المحفوظ قليل جدًّا.
(٨-٢) رعي
(٨-٣) ساتب إحو
(٨-٤) سات رع
(٨-٥) نفراعح
(٨-٦) أحمس (حومعي)
(٨-٧) أمنحتب بن سني تحوتي
(٨-٨) نخت
(٨-٩) بوي
(٨-١٠) وسر
(٨-١١) وسرحات
(٨-١٢) باك
(٨-١٣) سبك حتب
(٨-١٤) بن إن رع
(٨-١٥) عا خبر كا
(٨-١٦) منخ
(٨-١٧) تحوتي بن قاري
مدير النحاتين الذي قد حباه الإله منذ طفولته، وهو مرشد الفرعون، والذي يسير على الأعمال، ذكي الفؤاد في عمل كل شيء ممتاز، ثابت الجنان بين العظماء، ومَن يذكر اسمه لصفاته (الطيبة)، وليس فيه ما يعيبه عند سيده، لا يخرج الإثم من فمه، صادق الجنان بين الأشراف.