حتشبسوت وتحتمس الثالث
مقدمة: تعقُّد الأمور بعد وفاة تحتمس الثاني بسبب وراثة العرش
لما ارتاح الملك «تحتمس الأول» من الحياة الدنيا وصعد إلى السماء، بعد أن أتمَّ سني حياته بقلب فَرِح — كما ينص التعبير المصري على لسان مدير أعماله «إنني» — كان الشيب قد خضب لحيته وذهب بشعر رأسه، ولا بد أنه قد مات محزونًا كسير القلب؛ إذ قد وارى التراب ثلاثة من أنجاله الذكور في حياته، أكبرهم «وازمس»، وقد توفي في أول حكمه، ثم لحق به أخوه «أمنمس» الذي كان قائدًا للجيش وولي عهده، وأخيرًا ابنة تُدعَى «نفرو بتي»، وهي ابنة زوجه الشرعية المسمَّاة الزوجة الملكية العظيمة «أحمس حنت تامحو» أكبر بنات سلفه «أمنحتب» الأول كما يدَّعِي بعض المؤرخين، وبنت أحمس الأول على أشهر الأقوال كما سنبرهن على ذلك بعدُ، وقد عاشت «أحمس» هذه بعد وفاة زوجها «تحتمس الأول»، وكذلك بقي لها بنت على قيد الحياة تُدعَى «حتشبسوت»؛ ولكن تحتمس كان له ابن آخَر من زوجةٍ تُدعَى «موت نفرت»؛ وقد كان الموقف إذن معقدًا كما سبق شرحه، فقد كان الوارث الحقيقي في مثل هذه الأحوال أكبر ابن شرعي خلفه الفرعون، ولكنه كان في هذه الظروف ابنة لا ابنًا وهي «حتشبسوت»؛ ومهام الملك كان لا بد أن يتولَّاها رجل.
وقد كان الحل الوحيد للخروج من هذا المأزق أن يتزوَّج «تحتمس» ابن الملكة «موت نفرت» من أخته «حتشبسوت»، وبذلك يُتوَّج ملك الوجه القبلي والوجه البحري، وقد كان هذا الزواج غير مُوفَّق، ولما توفي هذا الفرعون أصبح الموقف أشد تعقيدًا؛ إذ قد تكررت نفس المأساة ولم تُرزَق «حتشبسوت» من «تحتمس» الثاني إلا بنتين كبراهما تُسمَّى «نفرو رع»، والصغرى تُدعَى «مريت رع حتشبسوت»، وتوفي بعدها هذا الفرعون دون أن يعقب وارثًا شرعيًّا ذكرًا للعرش؛ وبذلك وجدت «حتشبسوت» نفسها بعد ذلك أمًّا لوارثة العرش، ورئيسة البيت المالك التي لا ينازعها منازع، وكانت لا تزال في مقتبل العمر وريعان الشباب، وقد وقع على عاتقها مسألة وراثة الملك في نفس الصورة التي وجدت فيها البلاد بعد وفاة والدها «تحتمس» الأول.
والواقع أن الموقف كان حرجًا، ولا بد من الخروج منه بصورة ترضيها وترضي الشعب المصري، وتدل شواهد الأحوال على أن «تحتمس» الثاني كان ميَّالًا إلى أن يخلفه ابنه «تحتمس» الذي أنجبه من إحدى زوجاته غير الشرعيات المسمَّاة «إزيس»، وقد كان «تحتمس» هذا لا يزال في طفولته لم يبلغ الحادية عشرة وقت وفاة والده؛ والظاهر أن والده كان قد وكَّلَ أمره إلى كهنة مبعد الإله «آمون» لتربيته تربية دينية، غير أنه لم يكن قد أصبح كاهنًا بعدُ، وقد كان تحتمس هذا هو الذي انتُخِب ليكون وارثًا لعرش الملك مع أخته «نفرو رع»، وتحدِّثنا الآثار أن «تحتمس» الثاني هو الذي اختاره وارثًا له كما سيقصه علينا «تحتمس» الثالث نفسه فيما بعدُ على آثاره، والظاهر أن هذا الملك الفتي كان متفانيًا في حب والده، فكان يمقت «حتشبسوت» التي كانت تتجاهل والده مدة حياته، واتخذت من اعتلال صحته فرصة للسيطرة على شئون البلاد، وقد كان لها هي من جهة أخرى حزب يشدُّ أزرها من أشراف البلاد وعظمائها طول عهد زوجها «تحتمس» الثاني، ولم ينفض عنها هذا الحزب بعد موته، بل أخذ يقوي حجتها في تولِّي الملك، غير أنه على ما يظهر لم يكن في مقدورها هي وحزبها أن يمنعوا تتويج الملك تحتمس الثالث؛ لأن حكم النساء كان غير مرغوب فيه.
(١) تحتمس الثالث يتولَّى عرش الملك
(٢) ألقاب حتشبسوت قبل تولي الملك
أما «حتشبسوت» فقد كانت تُلقَّب الزوجة الإلهية، والزوجة الملكية العظيمة، وقد ظهرت في النقوش في بادئ حكمه مرسومة خلفه كما كانت والدتها تظهر خلف «تحتمس الثاني». ومما هو جدير بالملاحظة هنا حتى في قبرها الذي أقامته لنفسها حوالي هذا الوقت، أنها لم تتعدَّ أطماعها غير ما سمحت به التقاليد من الألقاب؛ إذ نجد أنها كانت تُلقَّب على تابوتها الأميرة العظيمة التي أُحِبَّتْ لرشاقتها، وسيدة كل الأراضي، والابنة الملكية، والأخت الملكية، والزوجة الملكية العظيمة، وسيدة الأرضين «حتشبسوت»، وقد اعترف بمكانتها بعض كبار رجال الدولة الذين كانوا معاصرين لها ممَّن خدموا البيت المالك منذ أن أسَّسه «أحمس» الأول، ولم يألوا جهدًا في إظهار شعورهم نحوها.
وفي متحف «تورين» توجد بردية (رقم ١)، يذكر فيها كاتب يُدعَى «وسرمان» أنه خدم التاج ثلاث سنوات، وقد أرَّخ الورقة بالسنة الخامسة من حكم تحتمس الثالث، ولم يذكر اسم الملكة «حتشبسوت»، ممَّا يدل على أنه بعد توليته بخمس سنوات لم تعلن «حتشبسوت» نفسها ملكةً شرعيةً على البلاد رسميًّا.
(٣) مدير بيت الإله «سنموت» والدور الذي لعبه مع حتشبسوت
والظاهر أن «حتشبسوت» كانت تفكِّر منذ تولية تحتمس العرشَ في تكوين حزبٍ يضمُّ بين أعضائه كلَّ رجالات الدولة المخلصين، الذين أظهروا مهارةً وحذقًا من أبناء جيلها لتستعين بهم على قضاء مآربها، ولتضرب ضربتها الحاسمة عندما تحين الفرصة، على أنه لم يَفُتْها أن تجعل رجالَ الدولة القدامى لا ينفضُّون من حولها، وقد كان أول مَن وقع اختيارها عليه من شباب عصرها مدير بيت الإله «آمون» المسمَّى «سنموت»، وقد كان شابًّا نَشِطًا يسترعي محياه النظرَ، قادرًا طموحًا، وقد رأى بثاقب نظره أن الفرصة سانحة ليكون لنفسه منذ باكورة هذا العهد الجديد مجدًا خالدًا؛ ولذلك يقول لنا: لقد كنتُ في هذه الأرض تحت إدارة «حتشبسوت» منذ اللحظة التي لاقى فيها سلفها حتفه (أي: تحتمس الثاني)، فلم أضيع أي وقت لاكتساب حظوة الملكة التي كانت تقبض بيدَيْها القادرتين الخلَّابتين على أقدار البلاد وإدارتها.
ولا نزاع في أن «حتشبسوت» قد وحَّدت روحها بروح «سنموت» منذ أن وقع بصرها عليه، وقد كان مستقبلها مرتبطًا تمام الارتباط بأمر الوصاية، ومنذ اللحظة التي وطدت فيها أركانَ الوصاية على العرش بدأ نجم سعد «سنموت» السياسي يظهر في الأفق ويسطع، وقد كان أول خطوة في تمكُّن هذه العلاقة الوثيقة التي أحكمت أواصرها بينهما حقبة توفي على عشرة أعوام، هي أن تجعل «حتشبسوت» خدنها «سنموت» المربي الأول لابنتها الابنة الملكية، وأميرة الأرضين، والزوجة الإلهية «نفرو رع»، وأن يكون بجانب ذلك مدير البيت العظيم لأملاكها وأملاك ابنتها «نفرو رع»، ويُحتمَل كذلك أنه كان قَيِّمًا على أملاك ابنتها الطفلة «مريت رع حتشبسوت»، والواقع أنها بإسنادها كلَّ هذه الوظائف إلى «سنموت» قد جعلته شريكًا فعليًّا معها في حكم البلاد.
ولا نعرف عن ماضي هذا المحظوظ الجديد إلا النزر القليل، وإنْ شئتَ فقُلْ لا نعلم شيئًا البتة، وتدل الأحول على أن والدَيْه لم يكونَا من أصحاب المكانة في الحياة الاجتماعية؛ فقد كان والده يُدعَى «رعموس»، ووالدته السيدة «حات نوفر» وحسب، وكان له ثلاثة إخوة لم يتربَّع منهم واحد مكانةً رفيعة في الدولة إلا «سن من»، وتُعزَى رفعته هذه إلى أخيه «سنموت» الذي عيَّنه مساعدًا في إدارة شئون الأميرات، أما أخوه الثاني فكان كاهنًا بسيطًا لسفينة «آمون» المقدسة، والثالث وهو «با إري» كان يشغل وظيفة «مشرف على الماشية». وقد تزوَّج «سنموت» من اثنتين إحداهما تُسمَّى «نفرت حور»، والظاهر أنه لم يُرزَق أولادًا؛ ولذلك فإنه في أواخر أيامه وكَّلَ لأخيه «أمنحتب» القيام له بأداء الشعائر الجنازية التي كان يقوم بها ابن المتوفَّى حسب التقاليد المصرية المرعية. ويُلاحَظ أن «سنموت» لم يهتم بذكر وظائفه الدينية؛ إذ لم يكن لها علاقة في ترقيه، وإذا ما ورد ذكرها ذكرت بغير اهتمام وبصفة عابرة. والواقع أنه كان يحمل لقب «كاهن السفينة المقدسة للإله آمون» ورئيس كهنة معبد «منتو»، وكان من المعابد الصغيرة وقتئذٍ في بلدة «أرمنت»، هذا ولم تكن تغريه الوظائف الحربية في جيلٍ كانت تسوده السكينة والاستقرار.
وقد كان «سنموت» دائمًا إداريًّا من الطراز الأول، ويُحتمَل أنه بدأ حياته في إدارة ضياع «آمون» بمعبد الكرنك الشاسعة، فلقد كان مع صعود نجمه وعلوِّ منزلته ورفعة مكانته يُعرَف دائمًا بمدير بيت «آمون». والواقع أن كل شيء في إدارة ممتلكات معبد هذا الإله كانت بإشرافه، وكذلك كان المشرف على الغلال والمخازن، والحقول والحدائق، والماشية والعبيد، ومراقب قاعة «آمون»؛ كل ذلك في قبضته بوصفه مدير البيت العظيم، هذا وكان يُلقَّب كذلك المشرف على أعمال «آمون»، وأحيانًا كان يُلقَّب «مدير كل أشغال الملك في معبد «آمون»» أيضًا، ولما رسخت قدمه وأصبح صاحب حظوة في نفس «حتشبسوت» وتمكَّنَ من عطفها، أصبحت تحت إدارته كلُّ ثروة البيت المالك، وقد بدأ بالقيام بوظيفة مدير البيت العظيم للملكتين «حتشبسوت» وابنتها الصغيرة «نفرو رع»، وانتهى به الأمر بعد فترة من الزمن أن أمسى المراقب والمشرف، والمشرف على المشرفين لكل أشغال الفرعون، كما كان كذلك المسيطر على عبيد الفرعون والمالية والأسلحة وقصر التاج الأحمر. يضاف إلى هذه الوظائف العامة الرفيعة وظائف أخرى خاصة كان لا يشغلها إلا المقربون جدًّا، الذين كانت حظوتهم تسمح لهم بأن يشتركوا في الإشراف على إعداد أخصِّ أدوات الزينة الملكية للزيارات الرسمية وغيرها؛ ومن ثَمَّ نجده لا يفخر بأنه حاكم القصر الملكي وحده، بل كان يتيه عجبًا؛ لأنه ملاحظ الغرفات الخاصة والحمام، وحجرة النوم أيضًا. على أن الإنسان بعد أن يأتي على نهاية كل ما سردناه هنا عن قصة «سنموت»، يرى من الصعب عليه أن ينسب ما بلغه من المراتب إلى المهارة والحذق في تيسير الأمور وحدهما، وكثيرًا ما ينسب الإنسان إلى الأشخاص الذين يمثِّلون قصة من القصص أدوارًا لم يقوموا بها قطُّ في الحياة، وهذا هو الواقع في الحالة التي نحن بصددها على وجه خاص؛ إذ قد ذهب الكثيرون في العلاقة التي بين «سنموت» و«حتشبسوت» مذاهب شتى. وفي الوقت الذي كان فيه «سنموت» يجمع الوظائف التي تدرُّ عليه الذهب والفضة تباعًا في الكرنك والقصر، كانت «حتشبسوت» وقتئذٍ المسيطرةَ الوحيدةَ التي لا منازعَ لها في مصر.
(٤) سلطان حتشبسوت والعقبات التي اعترضتها في تولِّي العرش
والواقع أنها منذ موت والدها كانت سيدة الأرضين، أولًا مع أخيها «تحتمس» الثاني الذي كان لا حول له ولا قوة، والآن مع ابنتها الطفلة وابن أخيها «تحتمس» الثالث، وما دام شريكاها لم يبلغَا الحلم، فقد كانت الحاكمة المطلقة في البلاد، ومع ذلك كانت تشعر في قرارة نفسها بأنه لو فُحِص موضوعها بعين العدل بوصفها الوارثة الشرعية لعرش والدها «تحتمس» الأول، لكانت هي الحاكمة المطلقة للبلاد شرعًا من بادئ الأمر، مع أن الفرق بين ما في يدها وبين ما تطمح إليه هو في اللقب وأسلوب الملكية، وقد منعته التقاليد فحرمه النساء، ولم تغتصبه امرأة منذ حكم الملكية «نفرو سبك» في أواخر عهد الأسرة الثانية عشرة.
(٥) أسباب ادِّعاء حتشبسوت أحقيةَ عرش البلاد
ومن الجائز أن «حتشبسوت» من جهتها قد أقنعت الشعب بأنها بنت الإله «آمون» نفسه من جهة، وأن والدها قد نصبها على عرش البلاد من جهة أخرى، وجعلها وارثته الشرعية، وقد حاكَ خيالُ الكهنة قصةً طريفةً لذلك قد يكون في ثناياها شيء من الحقيقة، ومن المحتمل أن «حتشبسوت» قد أذاعتها قبل اغتصابها العرش مباشَرةً، لتكون بمثابة دعاية، وقد نقشتها على جدران معبدها «بالدير البحري» الذي يُعَدُّ بناءً فريدًا في بابه، نقشَتْ عليه «حتشبسوت» كلَّ تاريخ حياتها، وما قامت به من جليل الأعمال في حياتها كما سنفصل القول في ذلك بعدُ.
وسنورد هنا ملخصًا لهذه القصة من النقوش التي دوَّنتها «حتشبسوت» فيما بعدُ على معبد الدير البحري، في مناظر لا تزال باقيةً؛ ففي المنظر الأول من هذه المناظر نشاهد فيه مجلسًا من الآلهة يرأسه الإله «آمون»، وقد قرَّرَ فيه الجميع خلق «حتشبسوت»، وفي خلال هذه الجلسة يذكِّر الإله «تحوت» الإله «آمون» بوجود «أحمس» الجميلة زوج الأمير الذي أصبح فيما بعدُ «تحتمس الأول».
ويقترح عليه أن يتقمَّص صورته عندما يكون الأمير غائبًا، وبذلك يمكنه أن يدخل حجرةَ الملكة؛ ثم تحدِّثنا القصة أن الإله «آمون» قد تزَيَّا بزيِّ «تحتمس الأول»، ووجد الملكة في غفوةٍ في قصرها الجميل، فأيقظها شذى عطور الإله الذي استنشقته على الرغم من أنها كانت في حضرة جلالته (الملك) (ظنًّا منها ذلك)؛ وعندئذٍ ذهب إليها في الحال وضاجَعَها، وفرض عليها رغبته فيها، وجعلها تنظر إليه بوصفه إلهًا (بعد أن تمثَّلَ لها بشرًا سويًّا) من أجل ذلك فرحت عندما وقف أمامها وكشف لها عن جماله، وسرى حبه في أعضائها التي غمرها شذى العطر؛ وعندئذٍ قالت الملكة «أحمس» لجلالة هذا الإله «آمون» الفاخر رب طيبة: ما أعظم فخارك! إن رؤية محياك شيء بهي! لقد ألحقت جلالتي بجمالك، وإن روحك قد تمثَّلَتْ في كل أعضائي، وبعد ذلك فعل جلالة هذا الإله كلَّ ما يرغب فيه معها، ثم قال لها: «سيكون اسم ابنتي التي وضعتها في جسمك خنمت آمون «حتشبسوت»؛ لأن هذه هي الكلمة التي خرجت من فمك أنت، وستتولى الملك في هذه البلاد قاطبة، وستكون روحي روحها، وسيكون فضلي فضلها، وكذلك «تاجي» حتى يمكنها أن تحكم الأرضين.»
ولا يعزب عن الذهن أن «حتشبسوت» لم تُذِعْ هذه الأقصوصة في عهد والدتها، بل كان ذلك بعد مماتها، فلا بد أن الملكة «أحمس حنت تاوي» قد ماتت وابنتها لا تزال تحمل لقب الزوجة المقدسة والزوجة الملكية العظيمة، فلم تَرَ ابنتها ملكة رسمية.
تعالي لأضمَّ بهاءكِ بين ذراعي لأجل أن ترى إدارتك في القصر (بعد أن رأتها مع والدها في أنحاء البلاد)، فتقومي بأعمالك الشرعية الفاخرة، وتتسلَّمي شرفك الملكي، وإنك ستصبحين ممتازة بسحرك، وستصبحين غنية بقوتك، وإنك ستسيطرين على الأرضين، وإنك ستتغلبين على العصاة، وإنك ستشرقين في القصر وسيتحلى جبينك بالتاج المزدوج، وستسرين بإرثك لي، وإنك وُلِدت لي، وأنت يا أخت التاج الأبيض، والتي تحبها «وازيت» (صاحبة التاج الأحمر)، وسيقدم إليك التيجان مَن يجلس على عروش الأرض (آمون)، وقد أمر جلالتي أن يحضر أشراف الملك، والأعيان، والسمار، ورجال البلاط، ورءوس كبار المدنيين؛ لأعلن لهم مرسومًا بأن جلالتي قد ضمَّ بين ذراعيه جلالة ابنتي هذه في قصرها مقر الملك، وقد عقد الملك الجلسة بنفسه في قاعة طائفة «أمي ورت» (طائفة من الكهنة)، وقد كان هؤلاء القوم ساجدين على بطونهم في البلاط، فقال لهم جلالته: إن ابنتي هذه «خنمت آمون» «حتشبسوت» لها الحياة، أنصبها بوصفها نائبتي، وعلى ذلك فهي وارثتي في الملك، وهي التي ستجلس على عرش المدهش، وهي التي ستأمر وتنهى الرعايا في كل وظائف القصر، وهي التي ستقودكم فاسمعوا كلامها، فهي التي تربطكم بأوامرها، فمَن يقدم لها الطاعة فإنه سيعيش، أما مَن يقول سوءًا في حقها فإنه سيموت، وكل مَن يسمع اسم جلالتها عندما تعين ينبغي عليه أن يأتي وينادي بها ملكةً مثل ما كان يفعل عندما يسمع اسمي؛ وذلك لأن هذه الإلهة هي ابنة إله، والآلهة هم الذين يحاربون لها، وهم الذين يحوطونكم بحمايتهم كل يوم كما أمر والدها سيد الآلهة «آمون».
وهكذا سمع جلالة والدها هذا، ورأى أن كل الشعب قد أعلن اسم ابنته هذه ملكةً، مع أن جلالتها كانت لا تزال طفلة؛ ومن أجل ذلك فرح قلب جلالته أكثر من كل شيء آخَر، وأمر جلالته بإحضار المرتِّلين ليعلنوا اسمها العظيم بتسلُّمها شرفَ ملك الوجه القبلي والوجه البحري، وأن اسمها يختم به في كل الأعمال الخاصة بعيد ضمِّ الأرضين والطواف حول الجدار، ولأجل زينة كل الآلهة الموحدين للأرض؛ لأنه علم أن من الخير الاحتفال بالعيد في يوم رأس السنة بمثابة بداية سنين طيبة، وأن تحتفل لها في ملايين السنين بأعياد ثلاثينية عديدة جدًّا، وعلى ذلك أعلنوا أسماءها ملكة الوجه القبلي والوجه البحري.
هذا ما ادَّعَتْه «حتشبسوت» لنفسها في دعايتها التي قامت بها لأجل اعتلاء العرش، ويرى القارئ من ذلك أنها كانت على عرش الملك منذ حياة والدها، أيْ إنها كانت شريكةً له في حياته، هذا فضلًا عن أنها في نقوش أخرى تدَّعِي أن والدها قد درَّبها على صناعة الملك قبل أن يعلنها ملكة.
(٦) تولِّي حتشبسوت عرشَ الملك فعلًا
غير أن الواقع لا يتفق مع هذه الأقصوصة الجميلة؛ إذ ظلَّتْ بعيدةً عن تولِّي عرش البلاد بصفة حقيقية طوال مدة حكم زوجها «تحتمس الثاني»، وسبعة أعوام من حكم ابن زوجها «تحتمس الثالث»، وعندئذٍ كانت قد أحكمت مؤامرتها، واعتلَتْ عرشَ البلاد مدة ثلاثة عشر عامًا انزوى في خلالها «تحتمس» الثالث، فلم يسمع عنه التاريخ إلا في مناسبات قليلة.
وقد ظل الشكُّ يحوم حول العام الذي أعلنَتْ فيه «حتشبسوت» نفسها ملكةً شرعيةً على البلاد، وإنْ شئتَ فقُلْ: العام الذي اغتُصِب فيه الملك من ابن زوجها وابنتها الشرعيين، إلى أن كشف «لانسج» و«هايس» في شتاء عام سنة ١٩٣٦ عن قبر والدي «سنموت»، وممَّا وجد في هذا القبر أمكنه أن يحدِّد التاريخَ الذي اغتصبت فيه «حتشبسوت» عرشَ الملك، وقد حدده بين منتصف الشهر الأول من فصل الزرع، أو منتصف الشهر الثاني منه، في السنة السابعة من حكمها، أيْ حوالي ١٥ يناير أو ١٥ فبراير سنة ١٤٩٤ق.م، وفي هذا التاريخ أعلنت نفسها ملكة الوجه القبلي والوجه البحري، ومن ثَمَّ عرفت بذلك، ولا ندري لماذا تجرَّأَتْ «حتشبسوت» على اتخاذ هذه الخطوة دون أن تتبعها بما يليها من خطوات كان لا بد منها في مثل هذه الأحوال، وأعني بذلك القضاء على ابن أخيها جملةً، ولكنها وقفت عند هذا الحد، وتركت «تحتمس» الثالث يعيش في عزلة وفي أمان، ولكنه موحش، وقد كان اسمه يُذكَر أحيانًا على الآثار بصفة ثانوية، ولكن لا يُذكَر إلا بعد اسمها الذي كان يحتلُّ المكانةَ الأولى. والواقع أن «حتشبسوت» لم تكن سفَّاحةً ولا محاربةً، وما وصل إلينا من المعلومات عنها يدل على أنها كانت بعيدة عن العنف، ولم يكن حبُّ سفك الدماء من طباعها، ويمكن أن نستخلص ذلك من شخصيات الذين كانوا ملتَفِّين حولها، ويسيرون في ركابها، ونخصُّ بالذكر منهم «سنموت» و«حبوسنب» و«نحسي» و«توري»، وهم كهنة ورجال إدارة لا رجال حرب وسفك دماء، وسنتناول الكلام عنهم في حينه، على أن الحملة الوحيدة التي قامت بها كانت حملة سلمية أرسلتها إلى بلاد بنت بعد اغتصابها الملك كما سيأتي شرحه.
(٧) أعمال حتشبسوت
(٧-١) إقامة معبدها الجنازي المعروف باسم الدير البحري
أما باكورة أعمال «حتشبسوت» هي ورجل ثقتها عند بداية هذا العهد الجديد من تاريخ حياتها، فتمتاز بالمنهاج الضخم لإقامة معبدٍ كان الغرض منه دعاية سياسية قبل كل شيء، فقد كان المعبد الذي وضع «سنموت» تصميمه، وأتمَّ بناءه يُعَدُّ أكبر دعاية وأخلد عمل على مرِّ الدهور كُتِب بالحجر وعلى الحجر لتبرر اغتصابها للعرش، وقد كان غرضها أن تنقل جثمان والدها من قبره الذي جهَّزَه له مديرُ المباني «إنني» كما أسلفنا، إلى قبر جديد في «وادي الملوك»، على أن يُوضَع فيه جثمانها بعد وفاتها مع جثمان والدها الذي خلفته على عرش الملك متجاورين في تابوتين منفصلين، وأن تقام لهما الشعائر الجنازية في المعبد الذي أخذت في إقامته في الوادي؛ يضاف إلى ذلك أنها اعتزمت تخصيصَ رواقٍ يُنقَش على جدرانه مناظر تلك الأقصوصة المدهشة، التي كان الغرض منها إظهار «حتشبسوت» بمنظر الملكة التي أنجبها الإله الأعظم من ظهره، وأن الإله «آمون» ووالدها «تحتمس» الأول اشتركَا معًا في تتويجها ملكة شرعية على عرش مصر في حياة الأخير. يضاف إلى ذلك أنه لما كان والدها «آمون» سيشاركها هو ووالدها «تحتمس» الأول في هذا المعبد، فقد خصَّصَتْ أروقةً أخرى فيه ليُنقَش عليها مناظر تظهر فيها تعبُّدها وإخلاصها البنوي للإله، وقد تمثَّلَ ذلك التقى والتعبُّد في صورة الحملة التي أرسلتها إلى بلاد «بنت» في العام التاسع من حكمها، ثم في نقل المسلات من أسوان في السنة السادسة عشرة من سني توليها العرش.
وقد اختارت لإقامة هذا المعبد الجون العظيم الواقع في صخور صحراء لوبية عند الدير البحري، حيث أقام «منتوحتب» الثاني معبده منذ حوالي ستمائة سنة مضَتْ (راجع مصر القديمة ج٣)، ولا بد من أن معبد «منتوحتب» كان قد تهدَّمَ في ذلك الوقت بعض الشيء، ولكنه على أية حال كان نموذجًا يمكن مهندس الملكة أن يهتدي به في إقامة معبدها، غير أنه قد تدركه الخيبة في تقليده إذا لم يراعِ الحدودَ التي تفرضها طبيعةُ المكان الذي سيقام عليه البناء عند إنشائه من حيث الذوق والتأثير. ومنذ أن كشف عن معبد «منتوحتب» وتصميم بنائه، صار من المعتاد أن ينكر المهندسون على واضِع تصميم معبد «حتشبسوت» أيَّ ابتكارٍ في إقامة هذا المعبد، فمثلًا يقول الدكتور «هول»: «إن معبد «حتشبسوت» كان تقليدًا محضًا لمعبد سلفها، وإليه يرجع الفضل في تصميمه لا إلى الملكة أو مهندسها «سنموت».» غير أن هذا الحكم مبالغ فيه، حقًّا قد يكون مهندس «حتشبسوت» قد أخذ فكرة المعبد المدرَّج من بناء المعبد القديم الذي كان يقام معبد الملكة بجواره، غير أن هذا كل ما أخذه «سنموت» عن تصميم المعبد القديم. نعم، قد يكون «سنموت» قد عظمت في عينه فكرةُ هذا البناء عندما رآه وأخذ الفكرة عنه، وهذا بلا شك دليلٌ على حُسْن ذوقه، ولكن القول بأنه لم يُظهِر أيَّ عبقرية في إقامة البناء العجيب الذي شيده للملكة، كمَن ينكر على شاعر أخذ فكرة عن شاعر آخَر، وصاغها في قالب شعري خلَّاب يفوق القالب الذي احتذاه صناعةً ولفظًا وتنسيقًا.
والواقع أن «سنموت» بعد أن أخذ فكرةَ المعبد عن المهندس «ارتسن» سلفه (باني معبد منتوحتب الثاني)، عمل على تفخيمها وتنسيقها حتى أخرج للناس بناءً يمتاز عن سابقه في كل شيء إلا أعمال البناء نفسها، فعلى الرغم من أن المعبد الذي أقامه المهندس «ارتسن» على ما يقال يروق بهاؤه الناظرين إليه على حدة، فإنه عندما يقرن بمعبد «حتشبسوت» الذي يدل درجه المتتابع ومنحدراته الطويلة وأعمدته الأنيقة على حسن ذوق مهندسه، يظهر كأنه جذع شجرة بقي مغروسًا في الأرض إلى جانب شجرة نامية الأغصان وارفة الظلال، ومعبد «منتوحتب» كما هو يشتمل على منحدر واحد وطبقتين، ويشغل الجزء الجنوبي من جون للدير البحري العظيم، وقد تُرِك متسع عظيم في جهته الشمالية للمعبد الذي أقامته «حتشبسوت».
سنموت وتصميم معبد الدير البحري
وقد زُيِّن الطريق الذي يبتدئ من باب المعبد شرقًا إلى مسافة نحو ٥٠٠ متر، حتى يصل إلى باب آخَر وجدت آثاره بتماثيل «بو الهول» في صورة الملكة نفسها على كلا الجانبين، وقد كان الرواق السفلي كذلك مزيَّنًا بمثل هذه التماثيل، وظاهرٌ أن تحتمس الثالث أزالها من أماكنها، عندما تربَّعَ على عرش الملك ثانيةً؛ وقد عثر على بعض أجزاء منها. هذا وقد عثر على تماثيل الملكة في صورة «أوزير»، واحد منها في النهاية القصوى من الرواق السفلي، وكذلك كان يوجد واحد منها في الرواق الأعلى، وفي قاعة العمد وُجِدت عدة كوًى كانت تحتوي تماثيل للملكة في صورة «أوزير».
وهكذا تضيع الحقائق التاريخية أحيانًا عندما تختلط بالفخر وحب الظهور، وبخاصة في التاريخ المصري المفعم بمثل هذه المناظر الكاذبة، وقد عُثِر على بقايا أكثر من مائة وعشرين تمثالًا من هذه التماثيل التي تمثِّل الملكة في صورة «بو الهول»، غير أنه لم يوجد منها واحد سليم، كما لم يمكن جَمْع أجزاء تمثال واحد منها؛ فقد أمر «تحتمس الثالث» بتحطيمهما جميعًا، وشتَّتَ أجزاءها في جهات مختلفة، وكانت كل هذه التماثيل تؤلِّف عنصرًا من عناصر بناء المعبد، اللهم إلا تمثالًا واحدًا من المرمر كان في مقصورة الملكة، فكان بعضها لتزيين الطريق المقدَّسة المؤدِّية للمعبد على كلا الجانبين، وكان البعض الآخَر مُقامًا في صور عمد في الأروقة، وبخاصة الرواق الأعلى فإن أعمدته كانت تتألَّف من تماثيل الملكة في صورة أوزير.
(٧-٢) الحملة على بلاد بنت
الغرض من الرحلة
ونشاهد كذلك الملكة تقصُّ ما قاله الوحي فاستمع إليه: «كان جلالة الملك يتضرع إلى رب الآلهة (آمون رع) عند درج مائدة قربانه، وعندئذٍ سمع أمرًا من العرش العظيم؛ إذ يقول وحي من الإله نفسه إنَّ طُرُقَ أرض بنت ستُقتحَم؛ وإن الطُّرُق العامة إلى الهضاب التي تنتج أشجار البخور ستُخترَق، وإني سأقود الحملة بحرًا وبرًّا لتُحضَر الأشياء العجيبة من تلك الأرض المقدسة لهذه الإلهة (حتشبسوت)؛ ولأجلي أنا مبدع جمالها.»
قيام الحملة
وقد وُضِع على رأس هذه الحملة رئيس الخزانة، ويُدعَى «نحسي» (= العبد)، وكانت الحملة تتألَّف من خمس سفن كبيرة شراعية يمكن عند الحاجة تسييرها بالمجاديف، ولما كانت تفاصيل رسم هذه السفن كما نشاهدها على جدران المعبد تُشعِر بأنها تشبه السفن الشراعية التي كانت تسير في النيل، وأنه ليس لدينا ما يوحي بأية عملية نقل، فلا بد إذن أن يفرض المرء أن هذه الرحلة قد عُمِلت في النيل، ومن ثَمَّ سارت في قناةٍ تخترق وادي طليمات إلى البحيرات المرة، ومن ثَمَّ إلى البحر الأحمر، أما في الأزمان القديمة فقد كان المعتاد أن تبدأ الرحلة من قفط على النيل، ثم تخترق الصحراء عن طريق وادي الحمامات المشهور بمحاجره إلى «القصير» الواقعة على ساحل البحر الأحمر، وهناك كانت تُبنَى السفن ليركبها رجال الحملة إلى بلاد «بنت»، ولكن هذه القناة التي سبقت قناة السويس الحالية، وهي التي نسمع عنها بعد ذلك بقرون قليلة على وجه التأكيد، يُحتمَل أنها كانت موجودةً فعلًا في عهد «حتشبسوت». وبعد ذلك تخبرنا النقوش أن الحملة وصلت إلى بلاد «بنت»، وعلى الرغم من أن الميناء التي رست عليها الحملة ليست معروفة، فإن المناظر التي رُسِمت على معبد الملكة تُظهِر لنا أن الأشجار فيها كانت متصلة حتى شاطئ الماء، ممَّا يدل على أنها كانت بعيدةً بعض الشيء عن مصبِّ النهر، الذي يُحتمَل أن يكون نهر الفيل الذي يقع بين رأس الفيل ورأس جردافوي. أما أكواخ السكان التي كانت تُبنَى تحت ظلال الأشجار فكانت من أشجار الدوم، وعلى شكل خلية النحل، وكان كلٌّ منها مُقامًا على طوار عالٍ يرتكز على أوتاد دُقَّتْ في الأرض، وكان الإنسان يصل إلى باب الكوخ بسلم، وربما كان ذلك لوجود الماء في هذه الأماكن، أما السكان فكانوا من صورهم يمثِّلون ثلاث سلالات مختلفة، اثنتان منها من الجنس الأسود الزنجي، أما السلالة الثالثة فكانت تُنسَب إلى الشعب المصري وهو الجنس السائد؛ وذلك لأن المصريين قد لوَّنوا أجسام هذه السلالة باللون الذي انتخبه المصريون لأنفسهم، وهو اللون الأحمر، وهذه السلالة الأخيرة المنتسبة للجنس المصري كان أفرادها يلبسون لحية مستعارة صغيرة أسطوانية الشكل، وهي تشبه اللحية المستعارة التي يلبسها الآلهة المصريون، ولكن كانت وجوههم حليقة تمامًا، وكانت شعورهم ترجل على الطريقة المصرية، وكذلك كانوا يلبسون القميص المصري القصير وحسب، وكانوا يستعملون الحمار لحمل أثقالهم، وكانت تحرس أكواخهم كلابٌ بيضٌ مرخية الآذان، وقد شُوهِدت كذلك النسانيس والقِرَدة يتسلَّقون فروع الأشجار ويقفزون من غصن إلى غصن، كما نجد كثيرًا من الطيور ممثَّلة، وقد شُوهِد في هذه البلاد الفهود وأفراس البحر والزرافة وغير ذلك من الحيوانات الأفريقية، ويُحتمَل أن أكواخ القوم قد أُقِيمت عاليةً تفاديًا من هذه الحيوانات الضارية التي كانت تأوي إلى الأدغال التي كانوا يسكنونها، أو اتِّقاءً لضرر رطوبة المكان الذي أُقِيمت عليه.
الوصول إلى بلاد بنت
وعندما رست سفن الحملة عند الشاطئ، نزل قائدها «نحسي» إلى الشاطئ أعزل، ولكن كان يتبعه حرسٌ من الجنود يحملون الحراب «والبلط» والقوس والنشاب والدروع، وبعد ذلك أُنزِلت الهدايا من السفن، واستُعرِضت بصفة مغرية على أخونة منخفضة؛ فنشاهد عليها معروضًا السماط من الخرز والأساور والخناجر «والبلط»، والصناديق المصنوعة من الخشب، وفي الحال حضر رئيس البلاد إلى البقعة التي عُرِضت فيها هذه الأشياء، وقد كُتِب على صورته عظيم «بنت» «برحو»، ولما كانت كلمة «برحو» قد تعني فقط متكلم القبيلة، فإنها قد لا تكون الاسم الحقيقي الذي كان يُدعَى به، وقد كانت تتبعه زوجه، وهي امرأة قد بدأ الكبر يبدو على محياها، وترتدي ملابس صفراء، ولا بد أنها كانت بدينةً فوق المعتاد في شبابها، ثم زالت عنها تلك البدانة المفرطة فارتخى جلدها، وتدلَّى في تجاعيد بعضها فوق بعض، وقد اتَّخَذَ المثَّال المصري من ساقَيْها القصيرتين، وفخذيها الضخمتين، موضعًا لتمثيلها بشيء من المبالغة الفكهة، وقد كتب فوقها: زوجة «إتي»، وهنا كذلك نعرف أن كلمة «إتي» قد تعني رئيسة؛ لذلك لا يُحتمَل أن هذا هو اسمها العَلَم، ويلاحظ خلفها ولدان وابنة، وقد مُثِّلوا ضخامَ الأجسام مثل والدتهن، وبعد ذلك يأتي ثلاثة أتباع يقودون حمارًا مسرجًا، وقد كتب فوقه المثَّال المصري: «الحمار الذي كان يحمل زوجه» (أي: زوج الرئيس)، وقد كتب فوق المنظر الذي يمثِّل هذه المقابلة التي كانت تتمثَّل في رجال الحملة والأهالي، ما يأتي: «وصول السفير الفرعوني إلى أرض الإله ومعه الجنود الذين يساعدونه، ومقابلته رؤساء «بنت»، ثم مجيء رؤساء بنت ليقدِّموا الطاعة برءوس خاشعة ليستقبلوا أولئك الجنود التابعين للفرعون، وقد قدَّموا المديحَ لرب الآلهة (آمون رع) … وعندما كانوا يلتمسون الأمان قالوا: لماذا أتيتم هنا إلى هذه الأرض التي لا يعرفها قوم (مصر)؟ هل نزلتم من مسالك السماء أم هل سحتم في ماء ذلك البحر الذي يملكه إله البلاد؟ أم هل سلكتم سُبُل إله الشمس؟ أما فيما يخص ملك مصر، أليس لجلالته طريق حتى يمكننا أن نذهب إليه ونعيش بالنفس الذي يمنحه.»
وقد نشأت بين الطرفين علاقات ودية، وعلى ذلك ضرب القائد المصري خيامه، وفيها أقام وليمة لضيفانه، وهنا تقول النقوش المفسِّرة: لقد نُصِبت خيمة السفير الملكي وجنوده في خمائل «بنت» ذات الشذى العطر، بالقرب من ساحل البحر لأجل أن يستقبلوا رؤساء هذه البلاد، وقد قُدِّم لهم الخبز والجعة والخمر واللحم والفاكهة، وكل شيء يوجد في مصر حسب التعليمات التي أعطاها البلاط. أما الرؤساء فأحضروا معهم هدية: أختام من الذهب، وعصي للصيد، وكومة عظيمة من راتنج (البخور)، وهو الذي يقدِّره المصريون بدرجة عظيمة.
شحن السفن بمنتجات بلاد بنت
أما الحادث الثاني الذي سنضعه هنا فهو شحن السفن بمنتجات البلاد المختلفة، مثل: العاج، والأبنوس، والأخشاب الأخرى، وجلود الفهد، والذهب، والبخور، والقِرَدة الحية، والنسانيس، وبخاصة أشجار البخور التي نُقِلت بجذورها محفوظةً في سلات وقدور من الفخار، والنقوش التي على هذا المنظر كالآتي:
شحن السفن بحمولة ثقيلة جدًّا بالأشياء العجيبة من أرض بنت وهي: كل الأخشاب الجميلة الغالية من أرض الإله، أكوام من راتنج (البخور)، وأشجار البخور المزهرة، والعاج، والعاج النقي، وبالذهب الأخضر (الناعم) من أرض «أمو»، وبخشب القرفة، وخشب خسيت (نوع من الخشب لم يُعرَف أصله غير أنه ذكي الرائحة) والبلسم (؟) (أموت) والراتنج، والتوتية، والنسانيس، والقِرَدة، والكلاب، وجلود الفهود الجنوبية، ومواطنين من سكان هذه البلاد وأولادهم، ولم يُؤْتَ بمثل هذا لأيِّ ملك وُجِد منذ الأزل.
عودة الحملة إلى مصر
وبعد ذلك عادت الحملة، وعندما رست نجد السفن المحملة وحقائب البخور مرصوصة على ظهر السفن، وأشجار البخور في قدورها مزهرة، والقردة والنسانيس تتسلق أمراس السفن وغير ذلك.
والنقش الذي يتبع هذا المنظر يقول: «السياحة (إلى الوطن) والوصول بسلام: إن السياحة إلى طيبة قد قام بها بقلب فَرِح جنودُ ربِّ الأرضين، ورؤساء هذه الأرض (بنت) وخلفهم، وقد أحضروا معهم أشياء لم يحضرها من قبلُ أيُّ ملك …» ويلي هذه مشاهدة رئيس «إرم» و«إلم» ورئيسي «تميو» وهما قبيلتان غير معروفتين من بلاد بنت يتبعهما رجالهما، وكلهم قد ركعوا أمام «حتشبسوت» مقدمين لها الهدايا. والآن ترى بصورة أكثر تفصيلًا الأنواع العظيمة المختلفة من منتجات هذه البلاد، والمخلوقات الحية التي أُتِي بها إلى مصر؛ فقد كانت تحتوي على نوعين من الثيران ونوعين من الفهود، واحد منها يظهر أنه كان أليفًا؛ لأنه مُثِّل وحول رقبته طوق وله رسن، وزراف ونسانيس وقردة، وأشجار بخور نامية، وأخشاب ثمينة مثل الأبنوس والعاج، والتوتية للتكحُّل بها، وحقائب من البخور، وذهب وفضة، وسام ولازورد، وفيروزج، وأصداف، وعصي صيد، وغيرها؛ ثم قدمت الملكة «حتشبسوت» كلَّ هذه الأشياء إلى الإله «آمون»، وتنص النقوش هنا على أنها أشرفت على وزن الراتنج والمعادن الكريمة، وكانت جلالتها تعمل بيديها، فوضعت أحسن العطور على أعضائها، حتى إن عبيرها كان كالأنفاس القدسية، وانتشر شذاها حتى اختلط بشذى أرض «بنت»، وكان جسمها مرصَّعًا بالسام يسطع كالنجوم في قبة السماء على مرأًى من كل الأرض؛ فعمَّ الفرح كل الشعب، ودعوا إلى رب الآلهة، وامتدحوا صفات «ماعت كارع» الإلهية لما حدث لها من معجزات عظيمة؛ إذ لم يحدث مثل ذلك في عهد أي آلهة قبلها منذ الأزل.
مرحبًا بابنتي الجميلة محبوبتي، ملك الوجه القبلي والوجه البحري «ماعت كارع» (حتشبسوت) التي تقيم آثاري الجميلة، والتي تطهر عرش تاسوع الآلهة الأعظم ليكون سكنًا لي بمثابة ذكرى لحبها. وإنك الملكة التي استولت على الأرضين «خنمنت آمون حتشبسوت» عظيمة القرابين، وما تقدِّمين من قرابين الطعامِ طاهِرٌ، وإنك تسرين قلبي في كل الأزمان، وإني قد منحتك كل الحياة، والسلام من عندي، وكل الثبات من لدني، وكل العافية مني، وكل الصحة من قِبَلي، وأعطيتك كل الأقطار، وكل البلاد ليسرَّ قلبك بها؛ لأني كنت منذ زمن طويل قد عزمت أن أمنحك إياها، وستراها الأحقاب عشرات الآلاف من السنين المفيدة التي فكرت في قضائها، ولقد أعطيتك بلاد «بنت» حتى حدود أقاليم الآلهة التابعة لأرض الإله، فإنه لم يطأ أرض خمائل البخور أحد، والناس لم تعرفها؛ بل كان يُسمَع بها مشافهةً عن طريق الإشاعة منذ زمن الأجداد.
على أن الأشياء العجيبة التي أُتِي بها هنا في عهد آبائك ملوك الوجه القبلي والوجه البحري قد نُقِلت من يدٍ إلى يد أخرى، وكذلك منذ عهد أجداد ملوك الوجه القبلي والوجه البحري الذين عاشوا في قديم الزمان، وقد سلمت على أن يدفع ثمنها غاليًا، وإنه لم يصل فعلًا إلى تلك الخمائل إلا رسلك، ولكني سأجعل جنودك تطؤها؛ لأني أقودهم بحرًا وبرًّا، وجاعلهم يخترقون مضايق مالية لا يمكن اختراقها، وقد جعلتهم يصلون إلى خمائل البخور وأرض الإله إقليم فاخر، وهو حقًّا مكان سروري، وقد أوجدته لنفسي ليكون تسلية لقلبي، وقد جمع الجنود البخور كما يرغبون، وحملوا سفنهم كما تشتهي قلوبهم من شجر البخور المزهرة ومن كل منتجات هذه البلاد الطيبة. أما أهل «بنت» الذين لم يعرفهم قوم مصر أولئك الأجانب أصحاب أرض الإله، فإني استملتهم بالحب، ليقدِّموا لك الحمد؛ لأنك إلهة، ولما لك من الشهرة في كل الممالك؛ وإني أعرفهم لأني سيدهم الحكيم … وإني «آمون رع» الخالق، وابنتي التي تغل الأرباب «الملك ماعت كارع» (حتشبسوت) ولقد أنجبتها لنفسي، وإني أنا الوالد الذي يبثُّ الخوفَ بين قبائل الأقواس التسعة عندما يأتون في سلام إلى كل الآلهة، وقد عاد الجنود ومعهم كل الأشياء العجيبة، وكل شيء طريف من أرض الإله أرسلت جلالتك في طلبها؛ فأكوام راتنج البخور، وأشجار نضرة تحمل بخورًا عذبًا، قد كُدست في قاعة الأعياد لتُحمَل إلى رب الآلهة: ليت جلالتك تجعلينها تنمو في (حدائق) معبدي حتى أستطيع أن أمتع قلبي بها، وإن اسمي أمام الآلهة، واسمك أمام كل الأحياء مخلد، وعلى ذلك فإن السماء والأرض قد غمرتا بشذى البخور، وسيكون عبيق العطر في البيت العظيم.
وأخيرًا نجد نقشًا ربما كان أهم نقوش الحملة إلى «بنت»؛ لأنه يمدنا بتاريخ عودة الحملة في السنة التاسعة، وفيه تحدِّث الملكةُ بلاطَها عن نجاح الحملة، فاستمع إليه: «في السنة التاسعة عُقِدت جلسة في قاعة الاستقبال ظهرت فيها الملكة متوَّجة بتاج «آتف» على العرش العظيم المصنوع من السام في وسط أبهة قصرها، وقد حضر الأشراف وعظماء رجال البلاط ليستمعوا إلى الخطبة، التي كانت ستُلقَى بمثابة تصريح للأشراف.
(ونهاية هذا النقش مفقود.)
ولا نزاع في أن مناظر هذه الحملة تحتوي على تفاصيل كثيرة جديرة بالاهتمام من الوجهة الفنية والعلمية والاجتماعية، لمَن أراد درس الجهات التي تشير إليها، وهي تلك البلاد الواقعة على ساحل البحر الأحمر، وتشمل الصومال حتى خليج عدن، وما يقابلها من الجهة الأخرى. ومما يلفت النظر ملامح أهل «بنت» التي أحكم المثال إبرازها، وهي تشبه كثيرًا المصريين الذين نشاهدهم في رسوم الدولة القديمة وكذلك شكل اللحية، التي تشبه لحية الآلهة المصريين. ومما يلفت النظر بنوع خاص أنواعُ السمك التي نشاهدها مصوَّرة تحت السفن، فهي في الحقيقة ليسَتْ من نسج خيال المفتن، بل درست ووُجِد أن كلَّ نوعٍ منها قد وُجِد له نظيره في سمك البحر الأحمر، ممَّا يدل على قوة ملاحظة المصري القديم في إخراج صورة طبق الأصل، وهذا السمك إما أن يكون قد أُحضِر للمفتن المصري بخاصة، وإما أن يكون بعض رجال الفن قد صحبوا الحملة، وهذا الرأي الأخير هو المعقول.
وكذلك نلاحظ طائفة أخرى من التفاصيل في الملابس الحربية التي كان الجنود المصريون يرتدونها، والأعلام التي كانوا يحملونها، هذا إلى صور في قوارب مقدسة، «وبلط» وأقواس، وعصي رماية، وطبول يدقُّ عليها من كلا الجانبين، كل هذه الأشياء قد مُثِّلت في أشكال رائعة. والواقع أن النقوش التي خلدت ذكرى هذه الحملة العظيمة، تُعَدُّ فذَّةً وأفخم صورٍ نُشِرت لأيِّ رحلة كشفية عرفها العالم، وهي جديرة بذلك البناء الفخم الذي تزينه، ولكن السير «فلندر زبتري» قد نقدها بأنها جامدة لا روح فيها ينقصها قوة التعبير، ولا نزاع في أنها تنقصها تلك القوة والدقة المدهشة التي يصبها المفتن في صوره عندما يكون عليمًا بأصول التشريح.
وهذا ما نشاهده في نقوش الدولة القديمة عندما يسمو الفن بالمفتن إلى أعلى مراتبه في ذلك العصر السحيق، ولكن إذا نظرنا إلى نقوش الرحلة باعتبارها أجزاء من تصميم زخرفة عامة عُمِلت على نطاق واسع، فإنها تُعَدُّ ناجحة نجاحًا باهرًا، ومن المحتمل أنه لو وُضِعت فيها تفاصيل أكثر لكانت أقلَّ تأثيرًا في النفس في هذه الأحوال.
(٧-٣) وصف معبد الدير البحري
على أن السير «فلندر زبتري» عندما تحدَّثَ عن تأثير المعبد برمته، مدح هذا البناء العظيم بكلمات ستظلُّ على وجهٍ عامٍّ أكثرَ دليل على مهارة المصري في فن البناء والذوق السليم، فاستمع إليه: «فَلْيَقُمْ أيُّ نوعٍ آخَر من البناء هناك، فإنه لن يكون بجانبه إلا دخيلًا هزيلًا؛ وذلك لأن خطوط المدرجات والسقف المنبسطة الطويلة، والظلال العمودية التي ترسلها قاعات العمد، تنسجم انسجامًا تامًّا مع طبيعة المكان الذي يحيط بها.»
(٧-٤) مقبرة حتشبسوت وعلاقتها بمعبد الدير البحري
أما نحت قبر جديد للملكة «حتشبسوت» ووالدها، فقد عُزِي أمره إلى «حبوسنب»، وقد حفر خلف جدار الصخرة العظيمة الواقعة وراء المعبد نفقًا طويلًا في الجانب الشرقي من «وادي الملوك» حيث كان الباب، وقد كان غرض الملكة أن تكون حجرة دفنها تحت محراب معبدها في المعبد، وهي تقصد من وراء ذلك أن تعقد شعائرها الدينية الخاصة بروحها (كا) في معبدها الذي أقامته لذلك، على أن تقام هذه الشعائر في محراب المعبد الذي حُفِرت تحته مباشَرةً حجرة الدفن، وبذلك يمكن لروحها أو قرينتها أن تصعد من الصخرة الصماء لتستقبل الشمس المشرقة كلَّ يوم، وترحب بها على ردهات المعبد. ويبلغ طول النفق الذي يؤدِّي إلى حجرة الدفن هذه حوالي سبعمائة قدم، وعمقه عموديًّا يبلغ ثلاثمائة قدم، وهو منحرف نحو اليمين، وربما يرجع السبب في ذلك إلى عيب في الصخر، ممَّا جعل العمال ينحرفون عن الاتجاه المستقيم. وحجرة الدفن التي وُضِع فيها تابوت الملكة قد كُسِيت جدرانها الخشنة بقِطَع من الحجر الجيري الأبيض، عليها متون دينية، أما التابوت الذي كان فيه جثمان «حتشبسوت» فمصنوع من الحجر الرملي (كوراتسيت).
(٧-٥) نقل مومية تحتمس الأول والدها إلى قبرها
أما القبر الأول الذي كانت قد حفرته «حتشبسوت» في وجه صخرة تقع في وادٍ عميق، فقد هُجِر وبقي فيه تابوتها الجميل إلى أن كشف عنه «كارتر» في عام ١٩١٦، ولما ازداد خطر لصوص القبور في العهد المتأخر، اضطرَّ الكهنة إلى نقل الموميات من توابيتها ووضعها مع جماعة الملوك الذين جُمِعت جثثهم في مقبرة الملكة «أنحابي»، التي لم يكن قد تمَّ حفرها في الدير البحري، وهناك بقيت جثة الملكة هادئة في مضجعها مدةً تربو على ألفين وخمسمائة سنة، على مقربة من المعبد الذي كان يومًا موضوع فخارها. وعندما نقل «إميل بركش» الموميات الملكية من خبيئتها في عام ١٨٨١ بعد الميلاد، عرفت مومية «تحتمس الأول» في الحال، أما جثة «حتشبسوت» فلم يُعرَف لها أثر قطُّ، على أنه من المحتمل جدًّا أن تكون إحدى الموميات العدة التي لم تُعرَف شخصيتها بعدُ في هذه المجموعة الغريبة. والآن لا يمكن لمخلوق أن يقول إن هذه هي جثة «حتشبسوت» بعينها من بين هاتيك الجثث التي لم تُحقَّق، وربما سرها ذلك أكثر من أن تترك معروضة للمتفرجين كما كانت الحال إلى زمن غير بعيد، عندما كانت موميات بعض أعاظم ملوك التاريخ المصري معروضةً للنظارة تُشاهَد هي والآثار التي خلفوها على حدٍّ سواء.
وقد كان قبرها الضخم لا يزال مفتوحًا في عهد «سترابون» عام ٢٤ق.م، وكذلك فُتِح جزئيًّا في عهد حملة «نابليون» سنة ١٧٩٩، وقد قام ببعض العمل فيه «لبسيسوس» سنة ١٨٤٤، غير أنه لم يُعرَف في كلتا الحالتين بأنه قبر «حتشبسوت»، وأخيرًا كشف عنه «دافيز» سنة ١٩٠٣، وأتمَّ العمل الذي بدأه «دافيز» المستر «كارتر»، وقد وجد القبر منهوبًا نهبًا تامًّا، وكان أهم ما وُجِد فيه التابوتان المصنوعان من حجر «الكوارتسيت»، وهما اللذان كانا يضمان جسمَيْ «تحتمس الأول» و«حتشبسوت».
على أنه في الوقت الذي كان منكبًّا فيه «حبوسنب» في نحت مقبرة الملكة، كما أشرنا إلى ذلك، كان «سنموت» موجِّهًا عنايته بوجه خاص إلى إتمام المعبد كما ذكر لنا هو ذلك صراحةً.
(٧-٦) حتشبسوت تقيم مسلات
أنتم يا أيها الناس، يا مَن سترون آثاري هذه في السنين المقبلة، يجب أن تتحدَّثوا عمَّا فعلت، واحذروا أن تقولوا: لا نعلم لماذا قد عمل هذا، وأن جبلًا صُنِع كله من الذهب كأنه شيء عادي قد حدث، وإني أحلف بقدر ما يحبني إله الشمس، وبقدر ما يحبوني إلهي «آمون»، وبقدر ما يملأ أنفي بالحياة الممتعة، ولبسي تاج الوجه القبلي الأبيض، وبظهوري بتاج الوجه البحري الأحمر، وبما ضمَّ إليَّ الإلهان «حور وست» من نصيبهما في مصر، وبما أحكم من أرض مصر هذه مثل (حور) بن «إزيس»، وبما صيَّرني قويًّا مثل «أوزير» ابن السماء، وبمثل ما يغيب إله الشمس في سفينة المساء، ويشرق في سفينة النهار، وبقدر ما ينضم إلى «إزيس» و«نفتيس» والدتيه في السفينة المقدسة، وبقدر ما تبقى السماء، وبما صنعه إله الشمس ليبقى، وبخلودي في الأبدية مثل النجوم التي لا تغيب، وبذهابي وغيابي وراء جبال الغرب مثل «آتوم» (الشمس المغربة)، بهذا أحلف أن هاتين المسلتين اللتين عملتهما جلالتي من السام، هما لوالدي «آمون» حتى يصير اسمي مخلدًا باقيًا في هذا المعبد أبد الآبدين. وإني أحلف أن كل واحدة منهما قد صُنِعت من قطعة واحدة من الجرانيت الصلب دون شدخ أو وصلة، وأن جلالتي هي التي أمرت بعملهما، وقد بدأ ذلك من السنة الخامسة عشرة اليوم الأول من الشهر الثاني من الفصل الثاني، وإن العمل في المحاجر نفسها استغرَقَ سبعة أشهر.
الملكة تقيم مسلتين بمعبد الكرنك
هذا بالإضافة إلى مناظر محفورة نشاهد فيها المسلتين موضوعتين على هذه السفن التي كانت تجر إلى أسفل النهر بسبعة وعشرين قاربًا تسير بالمجاديف، وهذه القوارب كانت مرتَّبةً في ثلاثة صفوف، كل منها يقوده قارب رئيسي، في حين أن قوارب أخرى مرافقة للسابقة كان فيها كهنة يرتلون الصلوات، ويحرقون البخور، رجاء نجاح المشروع، والنقوش التي على هذا المنظر تتحدَّث عن «السياحة شمالًا مع التيار بقلب فرح»، وتشير إلى عيد الملكة الثلاثيني، ثم نقرأ عن رسو السفن بنجاح عند «طيبة» المظفرة، في حين أن السماء تبتهج والأرض في عيد. ونشاهد على الشاطئ عند الكرنك جنودًا يحملون أغصان الأشجار احتفالًا بهذه المناسبة، كما نشاهد فرقةً من الرماة يتقدَّمهم حامل بوق، كما نشاهد الكهنة والجزارين يعدون الضحايا والجنود والضباط مسرعين ذهابًا وإيابًا، وهنا يقول المتن عند ذلك: «فرح بحَّارة سفن الملكة فيصيحون: أصغوا إلى الصياح! إن في السماء لعيدًا، وإن في الأرض لفرحًا؛ لأن «آمون» قد زاد في عدد سني ابنته التي أقامت هذه الآثار لتجلس على عرش «حور» الأحياء مثل إله الشمس مخلدًا. وهناك صيحات من مجندي الجنوب والشمال، ومن شباب طيبة، ومن فتيان «خنتنفر» (النوبة) بحياة وفلاح وصحة ملك الوجه البحري والوجه القبلي منخبر رع (تحتمس الثالث)، حتى تكون قلوبهم فَرِحة مثل إله الشمس مخلدًا.» ونلاحظ أنه قد نُقِش فوق ضحايا القربان ما يأتي: «قربان لروحك يا رب الآلهة لأجل أن تمنح «ماعت كارع» الصحة في هذا العيد الثلاثيني لملايين السنين.»
(٨) سنموت يُقِيم لنفسه مقبرةً في جبانة شيخ عبد القرنة
على أنه لم يَنْسَ نفسه في هذا الوقت، بل كان قد أصبح رجلًا ميسورًا، ولا أدل على ذلك من أنه أقامَ لنفسه قبرًا فخمًا يشعر بثراء صاحبه وكثرة ماله؛ فقد أقامه في جبانة «شيخ عبد القرنة» التي تقع على تلٍّ عالٍ، وفي هذه المقبرة عثر «إثناسي» على تمثالٍ له من الجرانيت ممثَّل فيه وهو مُمسِك بالطفلة «نفرو رع»، والتمثال موجود الآن بمتحف «برلين»، ومن المدهش أنه كشف في نفس المقبرة عن تمثالين مثل الأول، وهما الآن بالمتحف البريطاني، وفي هذا القبر كذلك وجد «لبسيوس» لوحةً من حجر «الكوارتسيت» تشبه في رسومها وصناعتها اللوحةَ التي عثر عليها «ونلك»، وبالقرب من هذا المكان أيضًا رأى «ديفز» قطعًا من تابوت من «الكوارتسيت» عليها اسم «سنموت»؛ وقد ذُكِر على كل تماثيل «سنموت» التي وُجِدت في قبره أنها هدية ملكية، وكذلك التمثال الذي وُجِد في معبد الإلهة «موت»، وآخَر يُحتمَل أنه وُجِد في «الكرنك»، وهو الآن بمتحف «شيكاجو»، وقد أهدَتْه الملكة هذين التمثالين أيضًا، ولكن من الطبيعي أن الرجل الذي كان في يده كل الأعمال الملكية، كان من السهل عليه أن يحصل لنفسه على بعض ما أنتجته تلك المصانع الملكية.
لقد كنتُ أعظم العظماء في كل الأرض، وكنت أمين أسرار الملك في كل أماكنه، وناصحًا خاصًّا على يمين الملك، مأمون الحظ، أُعطِيت شرف الاستماع منفذًا، محبًّا للصدق، لا أُظهِر تحيُّزًا، وإني إنسان تصغي القضاة إليه، وصمتي هو البلاغة بعينها، وقد كنتُ إنسانًا يعتمد السيد على ما ينطق به، ومَن تنشرح سيدة الأرضين بنصيحته، ومَن قد أفعم قلب الزوجة المقدسة به تمامًا، وكنتُ شريفًا يُصغَى إليه؛ لأني كنتُ أعيد كلمات الملك للرفاق، وكنتُ إنسانًا تُعرَف خطواته في القصر، ونجي الملك المخلص، أدخل محبوبًا وأخرج محظوظًا، أُدخِل السرورَ على قلب الفرعون كلَّ يوم؛ وكنت نافعًا للملك، مخلصًا للإله، لا غبار عليَّ أمامَ الشعب، وكنتُ إنسانًا منح الفيضان حتى أستطيع إدارة النيل، وأُسنِدت إليَّ شئون الأرضين، وما يُجنَى من الجنوب والشمال كان تحت تصرُّفي، وأعمال كل الممالك تحت إدارتي، يضاف إلى ذلك أني كنتُ أطَّلِع على كتب الكهنة، ولم يوجد شيء منذ الأزل كنتُ أجهله.
(٨-١) مكانة سنموت في التاريخ
ولا نزاع في أن معظم هذه الجمل التافهة إلى حدِّ السخرية ليست إلا صيغًا محفوظة لإطراء النفس، قد استعملها أفرادٌ كثيرون قبل «سنموت» من عظماء القوم منذ أزمان سحيقة، غير أنها في حالة بطلنا هنا لم تكن كلها مبالغًا فيها، وأن «سنموت» كان حقيقة شخصية من أعظم العظماء في البلاد قاطبة، ولا أدل على ذلك ممَّا وُجِد مدوَّنًا على قطعة من الفخار عثر عليها الأستاذ «ونلك»؛ فقد خطَّ عليها كاتب بالمداد الأسود حسابًا يشمل خمسة الأشهر الأول من سنةٍ ما من هذا العهد، فقيد مواد ما خص الفرعون منها ويبلغ عددها أربع عشرة، وما خص ضياع الملكة خمس عشرة، وما خص بيت المال تسع عشرة، وما خص «سنموت» تسع عشرة، ففي هذا المتن ذكرت السلطات الأربع في البلاد، فلم يُذكَر من بينها بالاسم المجرد إلا «سنموت»، أي إن هذا الكاتب كان يعتبر «تحتمس» و«حتشبسوت» والمالية مجرد مؤسسات، أما «سنموت» فكان لا يحتاج إلى لقب يفسِّر لنا مركزه أو مَن هو.
أما مقدار ما بلغه «سنموت» من الافتنان والجرأة في الرفع من شأن نفسه ما يشاهد من وضْعِ صورةٍ له خلف كل باب من أبواب معبد الدير البحري، وذلك أن معبد الملكة «حتشبسوت» كان ذا ردهات عظيمة تؤدِّي إلى مقاصير عدة؛ ولذلك كان له نحو عشرين خزانة صغيرة أو يزيد لحفظ أدوات العبادة، وقد كان لكلٍّ من هذه المقاصير والخزانات باب خشبي يفتح إلى الداخل، وعندما يقام احتفال كان الكهنة يفتحون الأبواب، ويقومون بأداء الشعيرة، ثم يُغلَق الباب ويُختَم كرَّةً أخرى؛ فلم يمكن بهذه الكيفية أن يوجد فرد في المقصورة والباب مغلق عليه، وعلى ذلك لم يكن في استطاعة إنسان أن يرى ما كان مخبَّأ على الجدار الواقع خلف الباب عندما يكون مفتوحًا، وقد استفاد «سنموت» من هذا الوضع، فأمر برسم صورته وهو يتعبَّد أمام الآلهة، وقد كلَّفَ نحَّاتًا أن يكرِّر هذه الصورة ويضعها في الجدران خلف باب كل مقصورة أو خزانة في المعبد، وقد نحت كلًّا منها بما يناسب المقام، على أن يجعل الصورة تتجه يمينًا أو شمالًا لتكون دائمًا مواجهة للمذبح.
وقد كتب أمام كل صورة صيغة الدعاء الذي يُتلَى ويتبعه باسم «سنموت»، والواقع أن هذا العمل كان يُعَدُّ جرأةً منقطعة القرين؛ إذ إن ذلك من حقِّ الملوك وحدهم، فهم الذين كانوا يصورون في محراب المعبد لمناجاة الآلهة، ولم يكن لأحد من الشعب أن يرسم في مثل هذه الأحوال إلا إذا كان تابعًا للفرعون وحسب، وفي هذه الحالة كان يرسم بصورة صغيرة جدًّا بالنسبة للفرعون، والواقع أن «سنموت» كان ضمن عصابة سياسية مجرمة تترنح نحو الهلاك، وأعني بها عصابة الملكة «حتشبسوت».
(٩) مبانيها الدينية خارج طيبة
ومن المحتمل أن «سنموت» في أواخر أيامه قد كلَّفَتْه الملكة إصلاحَ المعابد، وبخاصة ما بقي مخرَّبًا منها منذ عهد الهكسوس، وكذلك بإقامة بعض المباني خارج طيبة.
- معبد الإله «بخت»: وقد كان من أهم هذه المباني الدينية المعبدان اللذان حُفِرَا في الصخر على مقربة من «بني حسن»، وقد أُهدِي كلٌّ منهما للإلهة «بخت» التي تُمثَّل في صورة لبؤة.
-
المعبد الذي أقامته حتشبسوت في المكان المعروف ببطن البقرة: غير أن أحدهما قد أقامته بالاشتراك مع أخيها في أوائل حكمهما
المشترك، وهو الذي يُسمَّى عند العامة «ببطن البقرة»، وهو مبعد
صغير كشف عنه «الدكتور أحمد فخري»، ويقع على مسيرة خمس عشرة دقيقة
من معبدها الكبير «سبيوس أرتميدوس»، وقد لخص الدكتور أحمد فخري ما
جاء في نقوش هذا المحراب بما يأتي: يوجد في نفس الوادي الذي أُقِيم
فيه معبد «سبيوس أرتميدوس» (أي: كهف أرتميدوس)؛ كهفٌ آخَر يُنسَب
نحته للملكة «حتشبسوت» والفرعون «تحتمس الثالث»، ويُدعَى باسم «حت
من»، والوادي يُسمَّى «ست»، وقد كان مقدَّسًا للإلهة «بخت»، ويشاهد
على جدران واجهة الصخرة حول الكهف وعلى الجدران «حتشبسوت» التي
مُحِيت صورها واسمها، والفرعون «تحتمس الثالث»، يقرِّبان للإلهة
«بخت» والإله «خنوم» سيد حرور (الشيخ عبادة)، وإلى حتحور سيدة
نفروس (بلنصورة)، وإلى الإله «حوراختي»، وقد تُرِكت صورة الأميرة
«نفرو رع» التي نشاهدها تتبع والدتها دون أن يلحقها أذًى، ونجد
اسمها في طغراء مسبوقًا بلقبين لها، ثانيهما لم تُعرَف به من قبلُ
على الآثار التي كُشِفت لها حتى الآن، وهو لقب «يد الإله»، وهو في
الواقع يشبه لقب الزوجة المقدَّسة الذي كان يُعَدُّ من ألقابها،
وفي عهد «سيتي» الأول أُعِيدت الصور والطغراءات الملكية التي كانت
قد مُحِيت من كهف «أرتميدوس» الكبير، أما في هذا المعبد الصغير
فيظهر أنه لم يقم فيه بأي إصلاح من هذا النوع.
وأما معبد «سبيوس أرتميدوس» فقد أقامته في أيام حكمها المنفرد، ويطلق عليه المصريون المحدثون «إصطبل عنتر»، وقد نُقِش على واجهة الصخر فوق المدخل ذي العمد متنٌ طويلٌ تعدِّد فيه «حتشبسوت» ما فعلته لهذا المعبد، وما قامت به من الأعمال الصالحات للآلهة، وكذلك تقصُّ علينا كيف أنها أعادت بناء المعابد التي هشمها أولئك الهكسوس الغزاة، وهاك نص ترجمة المتن حرفيًّا (راجع: J. E. A, Vol. XXXII. (1946) p. 45):الحياة «لحور» = صاحب الصفات القوية، وصاحب الإلهتين، ذو السنين السعيدة، حور الذهبي = المقدَّس المظاهر، الإلهة الطيبة سيدة الأرضين «ماعت كارع» بنت الشمس حتشبسوت … لقد أقامت هذا (؟) الأثر الخالد لتثبت اسمها مثل السماء، حتى تستطيع أن تحفر بمهارةٍ تواريخ سيادتها على إقليم تلك التي على الجبل (يُحتمَل أن يشير هنا إلى الإلهة «بخت» ربة هذا المعبد)، وعلى ما تضيء الشمس عليه فوق الصحراء (؟) ولهيبه منتشر على ظهر سلسلتي الجبال (الصحراء الشرقية والصحراء الغربية)، فهناك تنصب المواقد، وهناك امتدت المعابد لتكون متعةَ كل الآلهة، كل منهم في المعبد الذي يرغب فيه، وروحه (كا) جالسة على عرشه، ولقد فتحت … وسر بقاعات عمدهم، ولقد صنعت الحجرة الخفية، وهي الجزء الداخلي من البيت لتناهض حجرة إزالة أثر القدم (وإزالة أثر القدم شعيرة خاصة تقضي بإزالة كلِّ أثر للإنسان بعد الاحتفال بالوجبة المقدسة)، وكل إله قد صنع جسمه من ذهب «عامو»، وأعيادهم قد خلدت في أفواه الناس، ودورة العيد كلها تحدث في وقتها المعتاد، وذلك بالتمسُّك بالقواعد التي وضعتها بشدة، والشعائر لإقامتها على حسب ما عمله (إله الشمس) في الزمن الأزلي (؟) قد زيد فيها، وكان قلبي القدسي يبحث وراء (أهل) المستقبل، وقلب جلالة ملك الوجه القبلي والوجه البحري آخِذ في التفكير في طاعة مَن نطق بتبريك شجرة أشد٢١ (أي: شجرة اللبخ) إلى الأبد، أي الإله «آمون» رب ملايين السنين، ولقد عظمت الصدق الذي يحبه؛ لأني أعرف أنه يعيش عليه وأنه غذائي، وأني ألتهم لذته، وأني والصدق لحم واحد، وقد ربَّاني لأجعل شهرته قويةً في هذه الأرض … إله الوجود «خبري» الذي برأ كل كائن، والذي قدر «رع» وجوده عندما ذرأ الأقطار، وكانت كلها مجتمعة تحت إدارتي، فالأرض السوداء والأرض الحمراء كانتا في وجلٍ مني، وقوتي جعلت البلاد الأجنبية تنحني لي؛ لأن الصل الذي على جبيني يهدي لي كل البلاد.
وبلاد «رشوات» (شبه جزيرة سيناء) و«أوو» (بلاد مجهولة) لم تَعُدْ مختفيةً بعد عن عين شخصي الفاخر، وبلاد «بنت» تفيض لي على الحقول، فأشجارها محملة بالمر الجديد، والطرق التي كانت مغلقةً على كلا الجانبين أصبحت الآن مطروقة، وجيشي الذي كان غير مُعَدٍّ قد أصبح يملك ثروةً منذ أن أشرقت ملكًا.
ومعبد سيدة «القوصية» الذي كان قد صار إلى الخراب، قد التهمت الأرض محرابه العظيم، وأمست الأطفال ترقص على سقفه، وإلهة الثعبان أصبحت لا تخيف، والوضعيون اعتبروا … بمثابة انحراف، وأعيادها المقررة لم يحتفل بها، وإني قد قدستها وأعدت بناءها، وصنعت صورتها المقدسة من الذهب لتحفظ مدينتها في قارب الموكب الأرضي.
أما الإلهة «بخت» العظيمة التي كانت ترود الوديان في وسط الشرق، والتي … الطرق التي غمرتها مياه المطر — إذا لم يكن هناك كاهن لصبِّ الماء — فقد جعلت معبدها جديرًا (؟) … لأجل تاسوعها، وأبوابه من خشب السنط المطعَّم بالنحاس لأجل أن يكون … في الوقت المناسب؛ وكان الكهنة قد عرفوا ميقاتها (يذكر بعد ذلك بعض الآلهة ممَّن عنيت الملكة بمعابدهم وقربانهم). والإله تحوت الذي أنجبه «رع» قد علَّمني … مائدة قربان من الفضة والذهب وصناديق كتان، وكل أنواع الأثاث قد وضعت في مكانها … والذي كان يدخل وجهًا لوجه قائد التاسوع المقدَّس هو الإله «آمون» كان جاهلًا بها، ولم يكن هناك واحد على علم تام ببيته؛ وذلك لأن والد الإله كان معدمًا (؟) … ناظرًا مع (؟) والده، وقد منح حاملو الإله ثاقب نظري الفخم، ولقد أقمت معبده العظيم من حجر عيان الأبيض (وبواباته) من مرمر «حتنوب»، وأبوابه من نحاس آسيا، والنقوش التي عليها صيغت من الذهب، وصارت مقدَّسة بوجود صاحب الريشتين العاليتين بينها (يقصد الإله مين)؛ ولقد فخمت هذا الأمجد في عيدين، وهما عيد تآلف الأرواح وعيد الإله «تحوت»، وهما اللذان قررتهما له من جديد، وقد كانا من قبلُ في فم الناس فقط … وقد ضاعفت له القربان، زيادة عمَّا كان مقرَّرًا من قبلُ، وذلك بأن جعلت قربانًا للآلهة الثمانية، أي للإله «خنوم» في صوره المختلفة، وللإلهة «حكت»، والإلهة «رننت»، و«مسخنت» التي اتخذت لتشكيل جسمي، وللإلهة «نحمت عاواي»،٢٢ والإلهة «نحمت كاو»، والإلهة «أزيت-أو-ناس-ب-تو» (مَن يقول الناس عنها إن السماء والأرض ملكها)، والإله «إمي»٢٣ وتيو (الذي بين المحنطين) والبلدان لذلك في عيد، مما يدل على أن ذلك كان غير معروف (من قبلي)، وكذلك الشرفات كانت لا تزال في حيِّز التصميم قد هيَّأتها وجعلتها بهجة، في حين تأمل! كنتُ أقدِّم بيوتًا لأصحابها، وكل إله قال في نفسه عني: إنه واحد سيخلد، والإله «آمون» جعله يظهر ملك الأبدية على عرش «حور».اسمعوا أنتم يا أيها المواطنون، ويا عامة الشعب مهما كان عددكم، لقد أنجزت هذه الأشياء بتدبير قلبي، ولم أغفل بوصفي إنسانًا نساءة، بل لقد قويت ما تداعى، ولقد رتقت ما تمزَّق، وذلك منذ أن كان الآسيويون في «أواريس» الشمال، ومعهم قبائل جائلة بينهم، هادمين ما كان قائمًا، وقد حكموا بدون رع، وإنه لم يعمل حسب الأمر الإلهي حتى عهد عظمتي، وإني ثابت المكانة على عروش «رع»، ولقد تنبئ بي لعهد مستقبل لأني ولدت فاتحًا، والآن لقد أتيت بوصفي وحيدة «حور» أقذف النار على أعدائي، ولقد نفيت ما تلعنه الآلهة، والأرض قد محت طابع أقدامهم، وهذه كانت القاعدة التي سار على هَدْيها والد آبائي، الذي جاء في أوقاته المحدودة، وهو الإله «رع»، ولن يحدث قط تخريب ما أمر به «آمون»، وإن أمري سيبقى ثابتًا كالجبال، وسيضيء قرص الشمس، ويرسل الأشعة على ألقاب شخصي الفاخر، وسيحلق صقري فوق العلم الملكي حتى الأبدية.
هذا النص الذي تركته لنا الملكة «حتشبسوت» يكشف لنا بعضَ الشيء عن الحالة التي كانت عليها المعابد المصرية في العهد الذي تلا طرد الهكسوس من البلاد؛ إذ إنه على الرغم ممَّا قام به أسلافها من ملوك الأسرة الثامنة عشرة من أعمال التعمير والإصلاح، فإن كثيرًا من المعابد كان لا يزال مخرَّبًا تخريبًا تامًّا، وقد نهب ما كان بها من أدوات لإقامة الشعائر الدينية، ولم يَبْقَ منها قليل أو كثير، حتى إن معبد «القوصية» وهي آخِر بلدةٍ وصَلَ إليها الهكسوس في زحفهم على مصر الوسطى قد وجدته «حتشبسوت» مخرَّبًا، وأن الأرض قد التهمت معبدها المجيد وأصبح سقفه ملقًى على الأرض ترقص عليه الأطفال؛ ولذلك كان أول همِّ الملكة «حتشبسوت» أن تقيم معبد الإلهة «بخت» العظيمة، وتاسوعها، فنحتت لها معبدًا في الصخر يقاوم الدهر ويغالبه ترسل الشمس عليه أشعتها، ولقد أجادت أو أجاد «سنموت» في تنسيق حجره الداخلية، ونُقِش عليها صور آلهة تاسوعها بالذهب، وخلد أعيادهم، وتضاعفت القرابين عمَّا كانت عليه من قبلُ، وبعد أن قامت ببناء هذا المعبد، وتجديد أعياد الآلهة الذين كانوا في هذا الإقليم كما ذكر في هذا المتن، نجدها تحدِّث العالم في هذا النقش بأنها أعادت المواصلات بين مصر والبلدان الأخرى التي كانت قد انقطعت أسبابها بينهم، فتقول لنا: إن شبه جزيرة «سينا» لم تَعُدْ بعدُ خافيةً عن نظر جلالتي، وإن بلاد «بنت» تفيض على البلاد بأشجارها العطرية، وإن الطرق التي كانت مسدودةً في وجه المصريين شمالًا وجنوبًا قد فُتِحت، ثم تحدِّثنا «حتشبسوت» في نهاية المتن عن الأعمال التي قامت بها في طول البلاد وعرضها، وبخاصة فيما خربه الهكسوس كما سبقت الإشارة إليه عند الكلام على طردهم.
والواقع أن هذه الملكة قد أقامت هذه المباني، ونفَّذت تلك الإصلاحات دعايةً لها كما ذكر في فاتحة هذا المتن؛ إذ يقول:لقد أقامت هذا الأثر الدائم لتثبت اسمها العظيم بقوة مثل السماء؛ حتى تستطيع أن تنقش بمهارة تواريخَ سيادتها على ذلك الإقليم … إلخ.
والواقع أن «سنموت» كان لا يرى وسيلةً للدعاية لهذه الملكة الصديقة دون أن يلجأ إليها وينفذها، إرضاءً لها وتفانيًا في حبها، غير أن «حتشبسوت» لما رأت سلطان «سنموت» قد طغى على سلطانها، أخذت تقلب له ظهر المجن، ولكن الوثائق الرسمية تعوزنا في هذا الصدد، غير أنها على ما يظهر أخذت تستلُّ منه السلطة التي كانت في يده كما سيجيء بعدُ.
(١٠) الأميرة نفرو رع وسنموت
(١١) مريت رع حتشبسوت زوج تحتمس الثالث
وكانت الزوجة الثانية للفرعون «تحتمس الثالث» «مريت رع حتشبسوت» التي لُقِّبت الزوجة الملكية العظيمة، ووالدة وارث عرش الملك (أمنحتب الثاني)، وفضلًا عن ذلك فإنه إذا كانت «نفرو رع» قد واراها التراب فانتهت وصاية «سنموت» والقيام على تربيتها، فإن عهد حداثة «تحتمس الثالث» وقصر سنه أصبحت كذلك في خبر كان؛ إذ قد نَمَا وترعرع حتى صار كهلًا، قصير القامة قوي البنية، ممتلئًا نشاطًا نابليونيًّا متأججًا، كانت جذوته قد أخمدت حتى الآن، غير أن لهيبه سيندلع فيجعل العالم المعروف وقتئذٍ يحترق بناره، فقد كان الواجب أن يكون منذ زمنٍ بعيدٍ الحاكم المنفرد لمصر لولا قيام «حتشبسوت» في وجهه، وإنَّا لا نحتاج إلى شحذ مخيلتنا لنتصور ما كان يكنُّه من الحقد والبغضاء وحب الانتقام من هؤلاء الذين حرموه حقوقه الشرعية، أو نرى الخطر الذي كان لا بد أن يداهم «سنموت» حينما يتولى «تحتمس الثالث» الملك؛ وآخِر تاريخ لدينا عن حياة «سنموت» الحكومية هو ما وجدناه على قطعة الخزف المؤرخة بحوالي منتصف السنة السادسة عشرة من حكم «حتشبسوت». وإذا فرضنا أنه قد مضَتْ سنة أو سنتان أخريان قبل الانتهاء من نقوش معبد الدير البحري وتركيب آخِر الأبواب التي خبئت وراءها صوره، فإن في استطاعتنا أن نقول إنه عاش حتى السنة الثامنة عشرة، أي حوالي ١٤٨٣ق.م، وإذا كان هو الذي قام بآخِر أعمال أقامتها «حتشبسوت» في الكرنك، فإنه لا بد قد عاش حتى السنة التاسعة عشرة، ولا نظن أنه عاش بعد ذلك التاريخ؛ إذ لا يمكن أن يفلت من يد «تحتمس الثالث» الذي كاد صبره ينفد من رؤية هذا الرجل الذي أضاع عليه الملك نحو خمس عشرة سنة.
والأمر الذي لا نزاع فيه هو أنه قد سقط من عليائه، وقُضِي عليه قبل اختفاء سيدته من عرش الملك، وتلك الحقيقة يمكن استنباطها من القبر الذي أقامه في هذه السنة؛ إذ نجد في قبره الجديد أن صوره قد هُشِّمت في حين أن صور «حتشبسوت» قد بقيت لم تُمَسَّ بسوء؛ ولذلك أعتقد أن الملكة نفسها هي التي غدرت به أو أهملته عندما رأت أنه يسيطر على كل شيء في البلاد، كما يلمس من تصرُّفاتها معه بعد موت «نفرو رع».
(١٢) سنموت يُقِيم قبرًا ثانيًا لنفسه
وتدل شواهد الحال على أن قبره الذي حفره تحت معبد الدير البحري ليخفيه عن أنظار اللصوص لم يُدفَن فيه بعد وفاته، والقبر يُعَدُّ من التحف الأثرية النادرة المثال؛ إذ يصل إليه الإنسان بدرج طويل يبلغ طوله ما يربو على تسعة وتسعين مترًا، وهذا القبر كان يتألَّف من بعض حجر بعضها فوق بعض، ومتصلة بدرج منحدر، فعلى مدخل الحجرة الأولى عتب منقوش عليه الأمير والحاكم، والفم الوحيد، الذي يتكلَّم بسكون (أو بعبارة أخرى من سكوته بلاغة) وعظيم عظماء الملك، والرفيق المحبوب بعزة مدير بيت «آمون» «سنموت» المرحوم الخادم الصادق في حبه، والذي يفعل ما يلقى موافقة سيد الأرضين.
وبعد ذلك ينحدر الإنسان عدة درجات إلى أن يجد لوحتين مستديرتي النهاية، قد ثبتتا في الجدار على كلا جانبي المنحدر، وعلى إحداهما يوجد رسم تخطيطي بالمداد الأحمر لرأس صاحب المقبرة، وكتب عليها مدير بيت «آمون» «سنموت»، وعلى الرغم من أن هذه الصورة رسم تخطيطي على الطريقة المعتادة التقليدية، إلا أن المثال كان في مقدروه أن يقنع أبناء العصر الحالي بأن «سنموت» كان ذا وجه يلفت النظر بأنفه الأقنى، ووجهه المغضن الذي ينمُّ عن مزاج عصبي، وكانت تجاعيد محياه من الأوصاف التي عُرِف بها، كما يدل على ذلك رسم تخطيطي هزلي له عثر عليه اللورد «كارنرفون» و«كارتر» في مقبرة بهذه الجهة. والواقع أنه لم يتمَّ إلا نقش حجرة واحدة في مقبرته، ومع ذلك فإنه لا يزال باقيًا فيها، ممَّا يدل على أن يد النقاش لم تكد تنتهي منها إذ وجد على الجدران ما يدل على تواريخ التفتيش في أثناء سير العمل فيها.
(١٢-١) وصف محتويات القبر
وجدران هذه الحجرة الأربعة قد نُقِشت بدقة نقوشًا عمودية من الإشارات الهيروغليفية، تحتوي على فصول انتُخِبت من كتاب ما يوجد في العالم السفلي، وكتاب البوابات، وكتاب الموتى، وهي الكتب الدينية التي ترشد روح المتوفَّى في الحياة الآخرة عندما يسبح مع الشمس في سفينتها مخترقة محيط العالم السفلي، وتخترق في سياحتها «بوابات» جهنم المخيفة، أو حقول القربان، وقبالة باب هذه الحجرة لوحة رُسِمت على هيئة الباب الوهمي الذي تخرج منه روح «كا» «سنموت»، ثم تعود منه ثانية بعد أن تتنزه في عالم الدنيا كل يوم؛ ونجده كذلك مرسومًا مع إخوته وزوجه على هذه اللوحة، ونراه كذلك جالسًا يتحدَّث إلى والده ووالدته من نافذةٍ في أعلى اللوحة، وأخيرًا نراه كرَّةً ثالثة جالسًا وحده، وأمامه غداؤه في داخل الباب الواقع أعلى اللوحة.
(١٣) مصير سنموت
على أن هذا المصير المؤلم لم يكن من نصيب «سنموت» وحده، بل كان النهاية المحتومة لعددٍ من كبار الرجال البارزين في عهد «حتشبسوت»، أو بعبارة أخرى رجال العصبة الذين آزروها وعزَّزوا ملكها، وسنتحدث عنهم فيما بعدُ.
(١٤) مكانة الملكة حتشبسوت
ولا بد أن «حتشبسوت» قد مضَتْ أيام حكمها تحفها الأبهة، وتحيط بها العظمة، وتتقلب في أعطاف النعيم والمجد المؤثل، يلتفُّ حول عرشها ويشدُّ أزرها هؤلاء الرجال العظماء، الذين ذكرناهم فيما بعدُ، وذكرنا بعض ما قاموا به من عظائم المشروعات الضخمة التي جعلت اسمها في أفواه أبناء الأجيال التي تلت حتى عصرنا الحالي، وستبقى ذكراها ما دام التاريخ يتحدَّث عن عظماء الرجال والنساء، ولا بد أن شهرتها بطبيعة الحال كانت قد ذاعت في كل العالم المتمدين في عصرها، ولا أدل على ذلك ممَّا نشاهده على قطعة صغيرة من الرسوم الملوَّنة التي بقيت لنا من قبر «سنموت»؛ إذ نرى عليها صور مبعوثين من جزيرة «كريت» النائية يحملون للملكة هدايا، ويظهر أن نشاطها كان منتشرًا في كلِّ الجهات.
(١٥) آثار حتشبسوت في جهات القطر وخارجه
وفي الكرنك تركت لنا آثارًا عدة، من أهمها ما عثر عليه حديثًا المهندس «شفرييه» عندما كان يشتغل بإصلاح «البوابة» الثالثة؛ إذ قد وجد أن «أمنحتب الثالث» صاحب هذه «البوابة» قد أخذ معظم أحجار معبدٍ أقامته «حتشبسوت» في هذه البقعة، ووضعه في حشو هذه البوابة، وقد قُطِعت أحجاره من الجرانيت الأحمر المحبب، ونقوشه غاية في الدقة، وقد زُينت جدرانه الخارجية بأسماء مقاطعات القطر المصري، كلٌّ منها في صورة إله النيل، وفوق رأسه اسم الإشارة الدال على المقاطعة، وهذه القائمة تُعَدُّ من أهم القوائم التي عُثِر عليها حتى الآن.
(١٦) سبب تزيِّي حتشبسوت بزيِّ الرجال
ولا يفوتنا بهذه المناسبة أن نذكر هنا أن بعض المؤرخين ينسبون تزيِّي «حتشبسوت» بزيِّ الرجال إلى سبب خاص، فيقول الأستاذ «ويجول» في كتابه تاريخ مصر ما يأتي:
فالواقع أنه كان يوجد ملكتان في بداية الأسرة الثامنة عشرة: إحداهما تُسمَّى أحمس سيدة تامحو «أي: سيدة أرض الشمال»، والثانية تُسمَّى أحمس سيدة تمحو (بلاد تمحو أي: لوبيا)، ومن ثَمَّ يُلاحظ في النطق بالاسمين تورية ظاهرة.
وحقيقة الأمر ما يأتي: عُثِر على مومية في خبيئة الدير البحري محفوظةً في تابوتٍ عارٍ عن النقوش، وقد كُتِب على صدرها بالخط الهيراطيقي ما يأتي: البنت الملكية والأخت الملكية والزوجة الملكية سيدة «تمحو». هذا وقد وُجِد على لفائف كتب عليها متن من كتاب الموتى نسب إلى هذه الملكة وهو: الابنة الملكية أحمس المسمَّاة سيدة تمحو المرحومة، وهي طفلة البنت الملكية المسماة «تنت حابي».
وخلاصة القول إذن أنه ليس هناك أية صلة بين الملكة «أحمس حنت تامحو» وبين بلاد التمحو أي بلاد لوبيا، وبذلك يكون ما ظنَّه «ويجل» وغيره لا أساسَ له من الصحة، بل يجوز أن «أحمس حنت تمحو» التي يشير إليها «ويجول» هي بنت الملكة «تنت حابي» التي أشرنا إليها فيما سلف، ومن الجائز أنها بنت «أحمس الأول».
وأما تزييها بزي الرجال، فإنها فعلته لتُسمَّى ملكًا لا ملكة؛ إذ إن مصر كان لا يحكمها إلا الرجال، وقد ضربت لها المثل في ذلك الملكة «خنت كاوس» في عهد الأسرة الخامسة؛ إذ سمَّتْ نفسها على نقوشها ملك الوجه القبلي والبحري. وقد حافظت «حتشبسوت» على أن تكون مذكرًا لا مؤنثًا في نقوشها كذلك، فكان ضمير الغائب المذكور هو السائد في كل وثائقها، ولم يُعرَف لها غير تمثال واحد في زي النساء.
(١٧) آثار أخرى للملكة حتشبسوت
والواقع أن ما يلفت النظر في هذه القصة الطريفة هو إلقاء اللوم على قانون الآثار المصرية، وعدم إلقاء أية مسئولية على جامعي الآثار من الإفرنج ممَّا يشجع اللصوص على الاستمرار في سرقة الآثار، وإخفاء مكان وجودها، وذلك ما يجعل قيمتها الأثرية تضيع، والمثال السابق الذكر أكبر دليل على ما ذكرناه.
(١٧-١) أشكال الجعارين في عهد حتشبسوت
(١٨) مصير حتشبسوت
ولكن ممَّا يُؤسَف له أننا لا نعلم مصيرَ مومية هذه الملكة كما ذكرنا، على أن الشيء المحقَّق أن «حتشبسوت» قد دُفِنت في مقبرتها التي أعَدَّتْها لنفسها ولوالدها، ولكن الغريب في ذلك أنها اختفت من مسرح التاريخ فجأةً؛ إذ نرى «تحتمس الثالث» يقود جيوشه إلى الحدود الشمالية لإخضاع الثورات التي قامت في أملاك الدولة في آسيا (راجع ما ذكرناه عند كلامنا على الهكسوس).
(١٩) تحتمس الأول وآثار حتشبسوت
ويُخَيَّل لي أن «تحتمس الثالث» لم يُظهِر حبَّ الانتقام مباشَرةً من «حتشبسوت» وآثارها في البلاد، بل لا بد أنه كان يساير الرأي العام الذي كان على ما يظهر لا يبغض «حتشبسوت»، وبخاصة إذا كانت هي التي أبعدت «سنموت» عن إدارة دفة الحكم، وبذلك كفَّرت عن أغلاطها معه أمام الشعب المصري، ومن المحتمل جدًّا أن «تحتمس الثالث» لم يَرَ أن مركزه كان بعيدًا عن الخطر لدرجةٍ تسمح له بمهاجمة أعمال سلفه بعنفٍ منذ بداية الأمر، بل ربما اتبع سياسة الانتظار، ثم الانقضاض.
والواقع أن مصر قد نَمَتْ نموًّا عظيمًا في خلال العشرين عامًا التي قضتها البلاد في سلام، وبفضل تجارتها وحسن تدبير مواردها، واستغلال تربتها؛ ولذلك فإنه عندما ذهبت الملكة إلى السماء، وهي تربي على الخمسين، وكان تحتمس في السنة الأولى من العقد الرابع من سني حياته، عندما أخذ مقاليد الأمور في يده جميعًا، وجد أداة عظيمة في يدَيْه استطاع بها بعد بضعة أسابيع من تولِّيه العرشَ منفردًا أن يقذف بجيش عرمرم في ساحة القتال، في سلسلةٍ من الحملات ارتفعت مكانة مصر في نهايتها، وامتدَّ سلطانها وعظمتها، وعلى رأسها أول بطل فاتح في تاريخ العالم القديم، يغزو ويفتح بقوة لا تعرف الكلل، وجيش أصبح مدرَّبًا مثابرًا مدة تربي على الثمانية والعشرين ربيعًا.
(٢٠) عهد حتشبسوت كان عهد رخاء
وعلى ذلك فإن «تحتمس» الثالث مهما يكن رأيه في سلفه وسياستها السلمية، ومهما يكن رأينا في الطرق التي استعمل هو فيها موارد البلاد وخيراتها التي تركتها له، فإنه ممَّا لا جدالَ فيه أن العشرين عامًا التي جنحت فيها عن الحروب، وعملت على تنمية ثروة البلاد، كانت أكبر هدية قدَّمتها «حتشبسوت» لتحتمس الثالث الذي قلب لها ظهر المجن بعد موتها، على الرغم من تهيئتها له الفرصةَ للصعود إلى تلك المكانة السامية التي لم يسبقه إليها عاهل في الشرق القديم، بل في العالم المتمدين في عصره. وهكذا طُوِيت صحيفة هذه الملكة بعد أن حكمت إحدى وعشرين سنة وتسعة أشهر كما ذكر لنا «مانيتون»، أي في السنة الثانية والعشرين من حكم «تحتمس الثالث» الذي أنكر وجودها ملكة على البلاد، كما أُغفِلت مدة حكمها من القوائم الرسمية التي خلفها لنا المؤرخون المصريون، ولكن كل ذلك لم يُجْدِ نفعًا، وأنَّى لهم ذلك، والفرد العظيم لا يمكن القضاء عليه بطرق العنف والجبروت، فإذا حُووِل إخفاء أعماله من ناحية برزت نواحيه الأخرى الخالدة مناديةً بصوت عالٍ بعظمة لا يمكن محوها، بل تكتسح بقوتها ما أمامها من عوامل الشر، وتفيض بضوئها على العالم، وهكذا نجد «حتشبسوت» يزدهر اسمها ويسطع كلَّ يوم وعلى مر الدهور، بين أولئك العظماء الذين أسَّسوا مجد مصر، وهي إذن بذلك من النساء الخالدات التي لم يَقْوَ أعداؤها على القضاء على ما قامت به من جليل الأعمال.
(٢١) الموظفون والحياة في عهد «حتشبسوت»
(٢١-١) سنموت
- (١) يوجد له نقش على صخور أسوان دُوِّن عليه قطع مسلتين للملكة «حتشبسوت» وعليه الألقاب التالية: حامل خاتم الوجه البحري، والسمير العظيم الحب، ومدير البيت العظيم، والأمير الوراثي، وصاحب الحظوة العظيمة عند زوج الإله، ومدير البيت العظيم للابنة الملكية «نفرو رع» (Urk. IV. Pp. 396-7).
- (٢) وله محراب حفر في الصخر في السلسلة الغربية، ويلحظ هنا أن «سنموت» قد مثل في حضرة الآلهة، غير أنه مثل بنفس حجمهم، وهذا حق كان يتمتع به الملوك وحدهم، ونجد له غير ما ذكر من الألقاب ما يأتي: المشرف على مخازن غلال «آمون»، والمشرف على القصر الخاص، ومدير كل وظيفة مقدسة (راجع: Ibid, p. 398).
- (٣)
أما النقوش التي على جدران قبره في «جبانة شيخ عبد القرنة» فقد هشمت كلها تقريبًا، وما بقي من ألقابه غير ما ذكرنا هي: «مدير أعمال … والمشرف على أعمال الفرعون، ومدير بيت «آمون»، والمشرف على حقول «آمون»».
- (٤) وعلى عتب من قبره نجد: المشرف على حقول «آمون»، ومدير بيت زوج الإله «حتشبسوت»، والمشرف على إدارة الحكومة (Ibid. p. 400).
- (٥) وعلى مخروط من الفخار نجد الألقاب التالية: كاهن «آمون» وسرحات (وهو اسم لقارب «آمون» المقدَّس)، والمشرف على ماشية «آمون» (راجع: Ibid, p. 403).
- (٦) تمثال من الجرانيت الأسود «لسنموت» يُشاهَد فيه وهو محتضن الأميرة «نفرو رع»، وهو الآن في «برلين» (No. 2296)، وعليه الألقاب التالية غير ما ذكرنا: «النائب … جب، العظيم الحظوة عند رب الأرضين، والذي يمدحه الإله الطيب المشرف على مستأجري حقول «آمون»، والمشرف على عمال حقول «آمون»، ورئيس عمال «آمون»، والمشرف على إدارة الحكومة المزدوجة، فم كل بوتي (أي: من أهالي بوتو) الرئيس العظيم في بيت «نيت» مدير القاعة الواسعة في بيت الأمير (أي: عين شمس) (أي: قاعة العدل)» (راجع: Urk. IV. Pp. 404–406).
- (٧)
تمثال من حجر الكوارتسيت (الحجر الرملي الأحمر) وُجِد في معبد الإله «موت» بالكرنك، وهو الآن بالمتحف المصري (رقم ٥٧٩)، ويشمل الألقاب التالية الجديدة غير ما ذكرنا (١) محبوب الملكة (الصقرة) صاحبة الأرواح القوية، ومَن في قلب «حور» الظاهر في «طيبة»، والمشرف على البقرات الجميلة ملك «آمون»، ومدير البيت العظيم للملك، والسمير الوحيد، ومدير بيت النسيج للإله «آمون». ومن نقوش هذا التمثال نعلم أن «سنموت» كان موكلًا بكل المباني في «طيبة» و«أرمنت» و«الدير البحري» ومعبد «موت».
ثم يقول لنا إنه عظيم العظماء في كل الأرض قاطبةً، والذي يسمع له بين الناس، والرسول الحقيقي، ومهدي الأرضين بلسانه، وكاهن «ماعت» (إلهة العدل)، ومدير القصر، والسمير، ومدير أعياد كل الآلهة، ومدير المديرين، ومدير أعمال بيت الفرعون، ومدير الصناع، والمشرف على كل كهنة «منتو» صاحب «أرمنت» ومرشد الناس، ورئيس الأرض قاطبةً، ورئيس طائفة الكهنة، والمشرف على بيوت الإلهة «نيت»، وحاجب ملك الوجه البحري لكل السمار، والمرافق للفرعون في كل البلاد الأجنبية، في الجنوب والشمال والشرق والغرب.
- (٨) نقوش الدير البحري (Urk. IV. p. 416).
- (٩) قطعة من تمثال من الجرانيت الرمادي عُثِر عليها في «إدفو» (A. S. Vol. IX. p. 106).
- (١٠) ثلاثة أوانٍ من الحجر المصقول (Urk. IV. p. 416-7).
- (١١) قطعة من الحجر مزخرفة من طيبة وعليها اسم موظف يُدعَى «توسي» Tws، ويحمل لقب المشرف على خضر آمون (؟) وقد كتب عليه لقب «سنموت» بوصفه مدير بيت «آمون» (راجع: Urk. IV. 417).
- (١٢)
تمثال من الجرانيت الرمادي «لسنموت» وهو ممسك بالأميرة «نفرو رع»، عُثِر عليه في خبيئة «الكرنك»، ويحمل لقب الأمير الوراثي، وحامل خاتم الوجه البحري، والسمير الوحيد، وكاتم السر في بيت «آمون» (معبد آمون)، ومرشد بلاد الشمال (الوجه البحري) وعماد القوم، والمشرف على مخازن غلال «آمون» في المدينة الجنوبية «طيبة»، والمشرف على عمال حقول «آمون» في … والمشرف على عبيد «آمون»، ونائب الفرعون في بيت «جب»، والمشرف على ثيران «آمون» في «الكرنك»، ومدير بيت «آمون».
- (١٣) تمثال من الجرانيت الأحمر «لسنموت» والأميرة «نفرو رع» من خبيئة الكرنك، وهو الآن بالمتحف المصري رقم (No. 42115).
- (١٤) تمثال آخَر من الجرانيت الأسود من نفس المكان له وللأميرة «نفرو رع» (No. 42116)، وعلى ذلك يمكن تلخيص ألقابه قبل اعتلاء حتشبسوت الملك وبعده ممَّا ذكرنا من الآثار وغيرها فيما يلي:
ألقاب سنموت قبل اعتلاء حتشبسوت العرش
(١) مدير البيت العظيم. (٢) مدير البيت العظيم للزوجة الملكية. (٣) مدير بيت رب الأرضين. (٤) مدير البيت العظيم للزوجة الملكية «حتشبسوت». (٥) مدير القصر الخاص. (٦) مدير البيت العظيم للابنة الملكية «نفرو رع». (٧) مربي الابنة الملكية (نفرو رع). (٨) مدير كل المباني الملكية. (٩) المشرف على بيتي الفضة، والمشرف على بيتي الذهب، والمشرف على الأختام. (١٠) المشرف على مخازن غلال «آمون». (١١) المشرف على حقول «آمون». (١٢) المشرف على أراضي «آمون». (١٣) المشرف على ثيران «آمون». (١٤) رئيس عبيد «آمون». (١٥) المشرف على بيت «آمون» وسرحات (المركب المقدسة). (١٦) المشرف على مخازن غلال «آمون» (وسرحات). (١٧) … آمون وسرحات. (١٨) الأمير الوراثي المشرف على كهنة «منتو» في «أرمنت».
ألقابه بعد اعتلاء حتشبسوت العرش
(١) مدير بيت آمون. (٢) مدير البيت. (٣) المدير العظيم للبيت (الملكي). (٤) المدير العظيم لبيت آمون. (٥) المدير العظيم لبيت الملك. (٦) الوالد المربي الكبير للبنت الملكية سيدة الأرضين والزوجة المقدسة «نفرو رع». (٧) المشرف على إدارة الأرضين (؟). (٨) مدير كل أعمال الفرعون. (٩) المشرف على أراضي آمون. (١٠) المشرف على حقول آمون. (١١) رئيس فلاحي آمون. (١٢) المشرف على الأرض المنزرعة للإله آمون. (١٣) المشرف على بقرات آمون. (١٤) المشرف على ثيران آمون. (١٥) المشرف على مخازن غلال آمون في المدينة الجنوبية (طيبة). (١٦) المشرف على مزارع آمون في «من إست». (١٧) المشرف على ثيران آمون في معبد الكرنك. (١٨) المشرف على أعمال الإله آمون. (١٩) المشرف على مخازن غلال الإله آمون. (٢٠) كاهن الإله آمون للسفينة «وسرحات». (٢١) المشرف على كهنة الإله منتو في «أرمنت». (٢٢) المشرف على إدارة آمون.
قطع الاستراكا المخطوطة التي وُجِدت في مقبرة سنموت وأهميتها التاريخية
كان من أعظم الكشوف الأثرية التي أماط اللثام عنها الأستاذ «ونلوك» أثناء تنظيف مقبرة «سنموت» مستشار الملكة «حتشبسوت»، وأكبر شخصية في عهدها كما ذكرنا؛ مجموعة قطع الفخار المكتوبة باللغة المصرية القديمة، وكلها خاصة بطوائف العمال والرسَّامين الذين وكل إليهم أمر حفر مقبرته وتزيينها؛ وقد دلَّ فحص نقوش هذه المجموعة على أنها تكشف لنا عن ناحيةٍ من نواحي الحياة الاجتماعية، وهي حياة طائفة العمال الذين عملوا في خدمة رجل من عظماء الدولة وأشهرها في خلال الأسرة الثامنة عشرة.
وتشمل هذه المجموعة نحو خمسين ومائة قطعة من الخزف، يرى فيما دون عليها كل من المؤرخ والقارئ العادي على السواء كل البيانات الضرورية لسير العمل في هذه المقبرة، وسنورد هنا مقدمة قصيرة مفيدة تحدِّثنا عن ظروف هذا الكشف، وكذلك تُظهِر لنا كيف أن أنواع المجاميع التي كُشِف عنها من هذه «الاستراكا» المختلفة، يمكن ربطها بأوجه نشاط الصناع المكلَّفين بنحت المقبرة.
فقد كان الكتَّاب المكلَّفون بالعمل يجمعون كلَّ يوم أثناء حفر المقبرة قِطَع «الاستراكا» المستوية السطح، ممَّا تراكم من الحفر، ويرسمون عليها تصميم الحجرات الجنازية التي لم تكن قد حُفِرت بعدُ، وكذلك كانوا يرسمون رسومات تخطيطية «كروكي» تمهيدًا للقيام بالعمل في نقوش القبر، فينظمون المتون الدينية والجنازية التي كان لا بد منها لتُحلَّى بها الحجرات، وكذلك كانوا يقدمون تقارير مختصرة عن حالة العمل، كما كانوا يدونون القوائم الخاصة بأسماء العمال، وأخرى للجرايات أو الأشياء التي تسلَّموها أو ورَّدوها.
ويلفت النظر أن بعض هذه القطع من «الاستراكا» التي وُجِدت حول المقبرة كان قد استعملها التلاميذ الذين جاءوا ليدرسوا بأشراف الكتبة الذين نصبوا للقيام بالأعمال الكتابية في القبر، لكتابة تمارينهم التي كانت تنتخب من المتون الأدبية والدينية الشهيرة، كما نجد قطعًا نقشها أفراد لمجرد التسلية واللهو وقت ملاحظتهم سير العمل، فنشاهد من بينها من وقت لآخر رسمًا تخطيطيًّا لحيوان وأشياء أخرى على حسب مزاج الرسام وهوايته. هذه نظرة عامة على ما تحتوي هذه «الاستراكا»، والواقع أن هذه القطع يمكن تصنيفها عدة مجاميع، وهي:
الاستراكا التي رُسِم عليها أشكال ليست من طراز ممتاز كلها، ويظهر أن رساميها كانوا بدائيين أو هواة وحسب، وتنحصر فائدة ما جاء عليها في أنها مسودات ورسم تمهيدي للوحات التي كانت تتألف منها نقوش مقصورة القبر الجنازية؛ فمثلًا نجد على أحدها رسمًا تخطيطيًّا لرءوس رجال يمكن الإنسان أن يتعرف فيها ملامح «سنموت»، ومن بينها وُجِد رسم رأس بالحبر الأسود، ويُشاهَد فيه أنه رُسِم على حسب قانون النسب المتبع عند المصريين؛ وكذلك نجد رسومًا تخطيطية أخرى كثيرة لمناظر مركبة مثل منظر الأسرة ومناظر دينية وأكوامًا مكدَّسة من القرابين، ولا بد أنها كانت تُرسَم على الجدران بحجم أكبر، ويكفي أن نذكر هنا تصميمين مختصرين، وهما يدلان بلا شك على مشروع تنظيم جزء من دهاليز القبر وحجراته، فقد وجدت إشارات تدل على مقاييس الأبعاد لهذه المباني.
وفي مجموعة ثانية نجد المتون ونشاهد طائفةً لا بأس بها تشمل رسومًا تحضيرية للنقوش العظيمة التي كان لا بد منها لكمال زينة القبر، ومعظم هذه النقوش قد دُوِّن بالهيروغليفية التخطيطية، وقد كُتِب في سطور عمودية أو أفقية على حسب ما تقتضيه طبيعة الرسوم التي معها، ويُلاحَظ هنا أحيانًا أن الرسم الأولي لا يقدِّم لنا إلا بداية السطور، ممَّا يدل على أن هذه القِطَع لم تكن إلا توجيهات مباشِرة لتزيين المزار الجنازي، والغرض منها رغبة الرسَّام في أن يحسب حسابه مقدَّمًا عن الطريقة التي يجب أن يُوزَّع بها المتن حتى يملأ به سطح الجدار الذي تحت تصرُّفه.
وبجانب هذه الاستراكا المكتوبة بالخط الهيروغليفي وُجِدت أخرى خُطَّتْ بالهيراطيقية وتشمل متونًا دينية وجنازية، ونظن أنَّ كثيرًا من هذه الاستراكا كانت تحتوي على المسودات الابتدائية للمتون التي انتخبها الكتَّاب لنقشها على جدران المزار، فقد وجد فعلًا متن جنازي على الجدران وما يقابله على قطع «استراكا». ومن بين «الاستراكا» الغريبة المكتوبة بالهيروغليفة واحدة منها (رقم ٥٧)، وتحتوي على المتن الذي يفسر عادةً في مناظر أخرى بلوحة الصيد في المستنقعات، أما الاستراكا الخاصة بالأعمال التي نُفِّذت في القبر فتُعَدُّ أكثر أهميةً أيضًا؛ إذ نجد الكَتَبَة الذين كانوا يديرون العمل يوميًّا يدوِّنون تقارير مختصرة عن سير العمل، وهي التي تُعَدُّ لتُكتَب في يوميات الأعمال بلا شك، وعلى الرغم من أن أعمال الحفر لم تنتج لنا إلا عددًا صغيرًا من هذه الوثائق، فقد كانت كافيةً لإعطائنا فكرةً عن تنظيم الأعمال ولتوضيح مدة سير العمليات، فنجد مثلًا على إحدى الاستراكا (رقم ٦٢) أن حفر المقبرة قد بدأ في السنة السابعة من حكم تحتمس الثالث، وعلى قطعة أخرى (رقم ٨٠) نعرف من المتن أن العمال كانوا ما زالوا مشتغلين فيه في السنة الحادية عشرة. وهاك ما جاء على الاستراكون الأولى (رقم ٦٢): «السنة السابعة، الشهر الرابع من فصل الشتاء، اليوم الثاني، بداية العمل في المقبرة في هذا اليوم: أحد عشر بناءً حفروا عمقًا كبيرًا في ستة قضب عرضًا بجانب ذراع واحد في الداخل.» وفضلًا عن التقارير اليومية يوجد كذلك قوائم بأسماء المأكولات والمشروبات وتعدادها، والغريب أن مجاميع الوثائق المختلفة من هذه الاستراكا تقدِّم لنا معلومات يظهر أنها خاصة بطوائف كثيرة كانت تقوم بأعمال مميزة، فمثلًا نجد بعض الاستراكا تشير إلى أن بعض العمال قد انتخبوا من الرجال التابعين لموظفين كبار في وقت معين.
وفي الاستراكون (رقم ٨٣) نجد التكوين التالي: الرئيس الأعلى الملكي (ربما يكون هذا هو «سنموت») واحد وعشرون رجلًا، الوزير، سبعة رجال، مدينة نفروس، ثلاثة وعشرون رجلًا. وكذلك ذُكِر على الاستراكون (رقم ٨٥) أن الكاهن الأعظم لسفينة «وسرحات» المسمَّى «سني من» الذي يمكن أن يكون أخا «سنموت» قد قدم ثلاثة عشر بنَّاءً؛ ويظهر أنهم كانوا من المذنبين الذين يقومون بالعمل سخرةً.
(٢١-٢) سن من
(٢١-٣) حبو سنب
رئيس مقاطعات الجنوب العظيم، والكاهن الأعظم «سم» لمحراب «حت بنو» (أي: محراب المقاطعة السابعة لمصر العليا)، وعمدة المدينة، والوزير المشرف على المعابد … والمشرف على كل وظائف بيت «آمون»، وحاسب أبقار «آمون»، والسمير الوحيد، وفم ملك الوجه القبلي وأذنا ملك الوجه البحري، والذي في قلب الإله الطيب، والكاهن الأول للإله «آمون».
الملك الطيب «عا خبر رع» (تحتمس الثاني) … ويقول: ولقد نصبني لأقوم بالعمل في مقبرته المنحوتة في الصخر، وذلك لسمو تصميماتي، وقد عيَّنني سيدي الملك «تحتمس الثاني» رئيسًا في «الكرنك» في بيت «آمون» في كل …
والنقوش التي على هذا التمثال مهشمة، غير أنه يمكننا أن نفهم منها أن هذا الوزير قد كُلِّف إقامة قربان جنازية للإله «آمون رع» على حساب الفرعون، فكان مكلَّفًا عمل باب عظيم مغشى بالذهب والفضة والنحاس الأسود، على أن يُكتَب الاسم العظيم بالسام؛ وكذلك قام بعمل محاريب من الأبانوس مغشاة بالذهب وموائد قربان عدة من الذهب والفضة واللازورد والأواني والقلائد، وأقام معبدًا من الحجر الجيري الأبيض يُسمَّى «تحتمس الثاني» مقدس الآثار …
ولا نزاع في أن «حبو سنب» كان يُعَدُّ أقوى شخصية في حزب «حتشبسوت»؛ لأنه فضلًا عن كونه الوزير الأول والقابض على زمام المالية، فإنه كان الكاهن الأكبر للإله «آمون»، والمشرف على كهنة الوجهين القبلي والبحري، وبذلك نراه جمع في شخصه كلَّ الوظائف الإدارية ووظائف الكهانة في جميع البلاد. والواقع أن هذه كانت خطوة لجمع كلِّ طائفة الكهنة تحت سلطان الكاهن الأول للإله «آمون»، وهذا دليل آخَر على سيادة الإله «آمون» على كل الآلهة المصرية قاطبةً.
(٢١-٤) حبو
(٢١-٥) تحوتي المشرف على خزانة حتشبسوت
ما أنجزه من الأعمال
يقول: «لقد عملت بوصفي رئيسًا مصدرًا التعليمات، وأرشد الصنَّاع في عملهم عند بناء السفينة العظيمة (لأجل عيد) بداية الفيضان (المسماة) «عظيمة في حضرة آمون»، وكانت موشاة بالذهب من أحسن ما وُجِد في الصحراء، وقد أضاءت الأرض بأشعتها (وكذلك أردت عمل) محراب لأفق الإله، وكذلك عرشه العظيم من السام (وأدرت العمل في) «زسر زسرو» (اسم معبد الدير البحري)، وهو معبد عشرات آلاف السنين (بوابته العظيمة مصنوعة من النحاس الأسود وأشكالها مرصعة بالسام)، وكذلك المعبد المسمَّى «مضيئًا على الأفق» عرش آمون العظيم الذي هو أفقه في الغرب، وكل أبوابه من خشب الأرز الحقيقي المغشى بالبرنز، ومعبد آمون الذي هو أفقه الدائم الأبدي، ورقعته موشاة بالذهب والفضة، حتى إن جمالها كان مثل أفق السماء، وكذلك أشرف على عمل محراب عظيم من أبنوس بلاد النوبة، والسلم الذي تحته عالٍ ومتَّسِع من المرمر الحر من محاجر حتشبسوت، و(عمل) جوسق للإله موشى بالذهب والفضة، حتى إنه ينير وجوه الناظرين بلألائه.»
(٢١-٦) أمنحوتب المدير العظيم للبيت
مناظر قبره الباقية
(٢١-٧) دوانحح
(٢١-٨) نب آمون كاتب الحسابات الملكية في حضرة الفرعون
(٢١-٩) نب آمون الثاني كاتب حساب الحبوب
(٢١-١٠) آمون أمحب ويُسمَّى محو أيضًا
ويحمل الألقاب التالية: خادم الكاهن الأول للإله «آمون» (حبو سنب)، ومدير بيت الكاهن الأول؛ وذلك يدل على عظم مكانة الكاهن الأكبر للإله «آمون»، فقد كان له موظفون خاصون به، كما كان للفرعون.
(٢١-١١) بو أم رع
وقد كُشِف لهذا العظيم عن تمثال في معبد الإله «آمون» «بالكرنك»، وقد جاء عليه نقوش عن بعض ما كلَّفَتْه الإشرافَ على إنجازه الملكةُ «حتشبسوت»، وهاك النص حرفيًّا: الأمير الوراثي، والسيد، ومهدئ الأرض جميعها، والذي يملأ قلب الملك في كل عمل، والذي ينادي بكل عمل فاخر، حامل خاتم ملك الوجه البحري، والكاهن الثاني «لآمون» «بو أم رع» يقول: لقد فتشت عن محراب عظيم من الأبنوس المغشى بالسام من قبل ملكة الوجه القبلي والوجه البحري «ماعت كارع» (حتشبسوت) لأمها «موت» سيدة «أشرو»، وأشرفت على إقامة باب مصنوع من الحجر الجيري الأبيض المستخرج من «عن» بوساطة ملكة الوجه القبلي والوجه البحري «ماعت كارع» لأمها «موت» سيدة «إشرو»، ولقد أنقذت مقبرة «بو أم رع» المقامة في «الخوخة» (بالعساسيف رقم ٣٩) من عبث رجال «تحتمس»؛ وذلك لاتصاله به كما ذكرنا.
ويشمل هذا القبر عدة مناظر تمثِّل لنا نواحي من حياته الحكومية ونشاطه، وقد تحدَّثنا عن بعضها مثل منظر المسلتين، ومن أهم المناظر منظر «بو أم رع» وهو يستقبل وفودَ رؤساء البلاد الأجنبية، وهم يحملون الجزيةَ إلى مصر، وكاتبه أمامه يحصي ما يقدِّمونه، فنشاهد فوق صورة «بو أم رع»: «تسلم جزية محصول مستنقعات آسيا وطريق «حور» (وأنف حور) وجزية الأراضي الجنوبية، والواحات الشمالية، مقدَّمة للملك لمعبد «آمون» رب تيجان الأرضين، والمشرف على الكرنك على يد الأمير الوراثي، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، والسمير الوحيد الحب … المرتل الأول … «بو أم رع» صادق القول.»
كما نشاهده يفتش عن الآثار والأشياء الثمينة التي أهداها الفرعون لمعبد «آمون»: «التفتيش عن الآثار العظيمة الفاخرة التي عملها ملك الوجه القبلي والوجه البحري رب الأرضين «منخر رع» لولده «آمون» في «الكرنك» من الفضة والذهب، وكل الأحجار الكريمة الغالية بوساطة الأمير الوراثي، محبوب الإله «بو أم رع».»
(٢١-١٢) نحسي
وقد قيل عن «نحسي»: «تأمَّلْ! لقد صدر الأمر من صاحبة الجلالة إلى الحاكم الوراثي، وحامل خاتم الوجه البحري، والسمير الوحيد، والمشرف على خاتم «نحسي»؛ أن يسير بالجيش إلى «بنت».»
وهذا ممَّا يفسِّر لنا أهميةَ الدور الذي لعبه في هذه الحملة، وفي محراب منحوت من الصخر في «السلسة الغربية» قد ذكر لقبه «المشرف على الختم».