تحتمس الثالث – انفراده بالحكم
مقدمة
وقد أدلى بحجج قوية تجعلنا نعتقد أن الموضوع قد حلَّ على وجه تقريبي إلى أن تطالعنا الآثار بما يدحضه أو يؤيده؛ ولذلك أصبح الرأي السائد كما ذكرتُ من قبلُ أن «تحتمس الأول» أعقبه على عرش مصر ابنه «تحتمس الثاني»، الذي تزوَّجَ من أخته من أبيه المسماة «حتشبسوت»، وبعد وفاته خلفه ابنه «تحتمس الثالث» الذي رزقه من زوجة ثانوية تُدعَى «إزيس»، وقد أصبح ملك مصر رسميًّا وهو لا يزال طفلًا لم يبلغ الحلم بعدُ، وقد نصبت «حتشبسوت» نفسها وصية عليه وعلى ابنتها «نفرو رع» التي كانت كذلك لا تزال قاصرةً، غير أنها لم تلبث أن أعلنت نفسها ملكةً شرعية على البلاد كما فصلنا فيما سبق، وقد بقي «تحتمس الثالث» منزويًا بعيدًا عن الحكم إلى أن ماتت «حتشبسوت»، ولا نعلم إذا كانت هذه الملكة العظيمة قد ماتت حتف أنفها أو من جرَّاء ثورة قام بها حزبٌ كان يناصِر الفرعون الفتى؛ ليقضي على تلك المرأة التي كانت شوكةً في جنب والده وشجًا في حلقه. وعلى أية حال فإن «تحتمس الثالث» عندما اختفت هذه المرأة من مسرح الحياة المصرية، قبض على مقاليد الأمور وأخذ ينكل بأعدائه، وهم أولئك الذين كانوا في ركاب «حتشبسوت» أو عاملين في بلاطها، ثم أخذ بعد ذلك في القضاء على كل آثارها بصورة مروعة يشهد بشناعتها وعنفها ما أحدثه من التدمير والتهشيم في الدير البحري، وبخاصة في تماثيلها وطغراءاتها، هذا فضلًا عمَّا ألحَقَه بسائر آثارها في كل أنحاء البلاد.
ولم يعترف «تحتمس الثالث» بحكم هذه الملكة، بل جعل تواريخه التي تُدوَّن بها آثاره تبتدئ بالسنة الأولى التي نُصب فيها فرعونًا لمصر عندما أعلنه الإله «رع» ووالده «تحتمس الثاني» ملكًا شرعيًّا على عرش مصر (١٥٠٤–١٤٥٠ق.م).
(١) قصة تتويج تحتمس الثالث
وقد نقش «تحتمس الثالث» منظرَ تتويجه على جدران معبد الكرنك في حفلٍ رائعٍ مثل بوصف تمثيلي تتضاءل أمامه تلك القصص الخيالية التي نقرؤها أو نشاهدها على الشاشة البيضاء. وقبل أن نتكلم عن أعمال هذا الملك الفذِّ، سنضع أمام القارئ ترجمةَ تلك النقوش العجيبة التي برَّرَ بها «تحتمس الثالث» وراثته لعرش الملك أمام شعبه الذي كان يقدِّسه.
وكذلك حليت بشرف الآلهة … وألبسني تيجاني، ونقش لي ألقابي، وثبت صقري على البوابة (شعار الملك)، وصيَّرني مظفرًا مثل الثور المنتصر، وجعلني أشرق في طيبة بوصفي «حور الثور المظفر» الذي يضيء في «طيبة»، وجعلني أتوج بتاج السيدتين (العقاب والصل، وهما رمزا الوجه القبلي والبحري)، وبارك مملكتي بوصفها مملكة «رع» في السماء وباسمي هذا صاحب السيدتين (أي: مملكة مباركة مثل «رع» في السماء)، وقد صورني صقرًا من الذهب ومنحني قوته وشدة بأسه، وكنتُ بهيًّا بتيجاني هذه وباسمي هذا «حور الذهبي» (أي: القوي صاحب البأس الفخم التيجان)، وقد جعلني أشرق بوصفي ملكًا على الوجه القبلي والوجه البحري (منخبرع)، وإني ابنه الذي خرج كريم الولادة مثل الإله صاحب «حسوت» (أي: «تحوت» إله العلم)، وإنه يضمُّ كل صوري، بوصفي ابن الشمس «تحتمس سما خبر» له الحياة أبد الآبدين، وقد جعل كل الأراضي الأجنبية تأتي خاضعةً لقوة جلالتي؛ لأن الفزع مني كان في قلوب قبائل الأقواس التسعة، وكل البلاد وُضِعت تحت موطئ قدمي، وكذلك جعل النصر في ساعدي، وبذلك أمد حدود مصر.
وقد فعل ذلك والدي «آمون»؛ لأن حبي كان عظيمًا من لدنه، وكذلك فرح بي كثيرًا أعظم من فرحه بأي ملك آخَر وُجِد على الأرض منذ خلقت، وإني ابنه محبوب جلالته وما ترغب فيه نفسي يُنفَّذ.
ومما سبق نعلم أن «تحتمس الثالث» أراد أن يقابل أقصوصة تولي حتشبسوت عرش الملك بمثلها، ويثبت للعالم أن الإله ووالده هما اللذان وضعاه على عرش مصر، وأن ما فعلته «حتشبسوت» كان اغتصابًا.
(٢) الملك الذي كان يحكم عند تولية تحتمس الثالث عرش الملك
على أن العقدة التي لم تُحَلَّ بعدُ في هذا المتن هي أننا لم نقف بعدُ على شخصية الملك الذي كان يحكم البلاد وقتئذٍ، هذا فضلًا على أننا لم نعرف ماذا وقع من الأحداث بعد هذا المنظر؛ لأن النقوش مع الأسف وُجِدت مهشمة عند اسم الملك الذي حضر هذا الحفل؛ لأن «تحتمس الثالث» لا بد كان قد ذكر اسمه وهو يقصُّ علينا قصته الخارقة للعادة، من أجل ذلك سنضطر هنا إلى الاستنباط ممَّا بقي لنا من الآثار، فعلى حسب نقوش «إنني» نعلم أن «تحتمس الثالث» تولى العرش بعد وفاة «تحتمس الثاني»، غير أن بعض المؤرخين يعزو تولية «تحتمس الثالث» إلى مؤامرةٍ قام بها كهنة معبد «آمون»، وعلى رأسهم الكاهن الأعظم، على أن وقائع الأحوال وتقاليد وراثة العرش في تلك الفترة لا تُشعِر بأية مؤامرة ظاهرة؛ إذ نقرأ في النقوش سردَ حوادث الاحتفال الرسمي الذي انتُخِب فيه الفرعون الذي كان على عرش الملك في «طيبة» وقتئذٍ وإرثه من بعده، ولكن بصورة تمثيلية تدعو إلى العجب ممَّا جعلها من المعجزات، وهذا الفرعون الذي انتُخِب هو «تحتمس الثالث»، حقًّا إن تدخُّل الإله آمون المباشِر في انتخاب الفرعون قد يكون فيه ما يشوِّش فكرَ القارئ، ويجعله يظن أن ذلك كله كان حديث خرافة؛ لأنه خارق للمألوف، ولكن لم يكن في ذلك ما يدعو إلى الدهشة أو العجب عند المصري القديم، بل قد لا يكون فيه غرابة للقارئ الحديث إذا وقف على الدور الهام الذي كان يلعبه الإله، أو بعبارة أخرى الكهنة، في حكم البلاد في تلك الفترة؛ أليس هو الإله الذي كان يُعتبَر والد الفرعون، وإن هذا الادِّعاء كان يُعلن ويُعرف في كل العالم أجمع، ولدينا قصة تولية «حتشبسوت» التي دوَّنتها على جدران معبدها بالدير البحري شاهد عدل، ولقد قلَّدها في ذلك فيما بعدُ «تحتمس الثالث» في معبد الأقصر، ثم «الإسكندر الأكبر»، ثم يوليوس قيصر.
وفي كثير من الأحوال عندما كانت تحتم الظروف، كان لا بد قبل التتويج من عمل انتخابٍ للملك من بين أعضاء الأسرة المختلفين، إذا لم يعقب الفرعون ولدًا يخلفه على العرش من دم ملكي طاهر، وليس لدينا معلومات أكيدة عن كيفية الاحتفال بهذا الانتخاب إلا من عصور متأخرة.
(٣) وصف الاحتفال بتتويج تحتمس
إن نقوش تولية «تحتمس الثالث» تضع أمامنا لأول مرة المناظر التي كانت متَّبَعة بعد التتويج في «طيبة»، في خلال النصف الأول من عهد الأسرة الثامنة عشرة؛ ولما كانت النقوش التي سردناها هنا ليست واضحة، فقد آثرنا أن نستعرضها هنا بصورة جلية؛ ذلك أنه كان يُحدَّد يومٌ لتتويج الفرعون مقدمًا، وعند حلول هذا اليوم كان الكهنة يضعون الفرد الذي سيقع عليه اختيار الإله الأعظم «آمون» في قاعة المعبد العظمى، ثم يخرج بعد ذلك الإله من محرابه في موكبٍ محمولًا على الأعناق في سفينته الإلهية، ثم يتقبَّل التضحية المقدسة التي كانت تُعَدُّ لمثل هذا الاحتفال العظيم، ثم يُحمَل بعد ذلك الإله على الأعناق ويطوف في أركان القاعة باحثًا عن ابنه الذي سيوليه العرش، وعندما يصل إلى المكان الذي يقف فيه هذا المحظوظ يوحي إليه، فيقدِّمه له الملك الجالس على العرش فعلًا، وفي العادة يكون أباه، ثم يملي عليه الإله ألقابَ التتويج الرسمية التي سيحملها مدةَ حكمِه، وهذا هو ما حدث بالضبط عند تتويج «تحتمس الثالث»، والواقع أن نغمة هذه النقوش كانت لا تُشعِر بأي شيء مستغرب في نظر المصري، بل كان كل شيء فيها يجري عاديًّا.
وعلى أية حال لم نفهم منها أن هناك روح ثورة، بل كان كل ما حدث لا يخرج عن حد التقاليد التي كان يرتكز عليها نظام الحكم في مصر، وأعني بذلك تدخُّل الإله المباشِر في كل ما يتصل بالحياة السياسية في البلاد، وبخاصة في كل أطوار الفرعون، وكان لزامًا على سلف «تحتمس الثالث» أن يشترك في توليته على العرش، كما فعل «تحتمس الأول» عندما ولَّى «حتشبسوت» أريكةَ ملكه، إذا صدَّقنا ما نقشَتْه في أقصوصتها العريضة، وكما فعل «رعمسيس الثاني» مع ابنه «ستي الأول» كما سيأتي بعدُ.
(٤) سن تحتمس الثالث عند توليه العرش وتربيته الأولى
غير أنه في موضوع تولية «تحتمس الثالث» يعترضنا سؤال جوهري لا بد من الإجابة عليه، وهو كم كان عمر «تحتمس الثالث» عندما وقع اختيار الإله «آمون» عليه، وعندما انتزعه من أحضان الكهنة في المعبد لتوليته عرش الملك؟ وقد ظنَّ بعض المؤرخين أن «تحتمس الثالث» كان قبل هذا الحادث قد تزوَّجَ من أخته «نفرو رع» بنت «حتشبسوت» وأخته من أبيه، بَيْدَ أن الوثائق التاريخية لم تحدِّثنا عن هذا الزواج، والألفاظ التي استُعمِلت في المتون المصرية في وصف «تحتمس الثالث» في هذه الآونة تقطع بأنه كان لا يزال صبيًّا لم يبلغ الحلم بعد أن كان يُطلَق عليه في اللغة المصرية لفظة «أنوب»، ومعناها الصبي الذي لا يزال قاصرًا، هذا فضلًا من أن والده كان قد وضعه بين أيدي رجال الدين في معبد «آمون»؛ لتنشئته وتربيته بين أحضان العلم والدين، وليحبب إليه الكهنة الذين كان في أيديهم مقدار عظيم من السلطة والقوة، هذا فضلًا عن أن والده كان يشعر بأنه هو الذي سيخلفه على عرش الملك، وكان «تحتمس» وقت توليته العرش لم يبلغ سن الرجال بين رجال الدين، بل كما ذكرنا كان يشغل وظيفة «الطفل حور» أو «عمود أمه»؛ ومن ذلك نعلم أنه كان طفلًا حدثًا أوحى إليه تمثال الإله «آمون» بأنه هو الذي سيتربع على سدة الملك، وتدل كل الشواهد على أنه لم يكن يتجاوز الحادية عشرة من عمره، وكان هذا الاختيار بطبيعة الحال آتيًا عن طيب خاطر من الفرعون الذي كان في قبضته مقاليد الأمور في البلاد وقتئذٍ.
والآن بقي علينا أن نُثبِت على وجه التأكيد اسم الفرعون الذي كان قد أُقِيم هذا الحفل في حضرته، وقد جاء في نقوش «إنني» أنه عندما صعد «تحتمس الثاني» إلى السماء ولحق بالآلهة، تولَّى مكانه ابنه «تحتمس الثالث» بوصفه ملكًا على الأرضين، وحكم على عرش من أنجبه، وأخذت أخته «حتشبسوت» (أخت تحتمس الثاني) في يدها إدارة حكومة البلاد، ومن ثَمَّ نعلم أن «تحتمس الثالث» بدأ حكمه تحت وصاية «حتشبسوت» مدة، ثم استأثرت هي بالملك فيما بعدُ كما شرحنا ذلك من قبلُ، إلى أن ماتت وخلا له الجو، فنراه يتسلَّم مقاليدَ الأمور في يده، وكان أول عمل قام به أن طار بجيشه العظيم إلى ربوع آسيا.
(٥) تحتمس الثالث يعلن الحرب على بقايا الهكسوس في آسيا
وتدل شواهد الأحول على أن «تحتمس الثالث» لم يتوانَ طويلًا في مصر بعد اعتلاء أريكة العرش، فقد كان الخلاف القائم في مصر على تولية عرش البلاد، والجفاء بين «تحتمس الثالث» و«حتشبسوت» معروفًا في الأقطار الآسيوية العامرة بالجمِّ الغفير من الهكسوس، الذين شتَّت شملهم أسلاف «تحتمس الثالث» وطردوهم من مصر جملةً، والذين ما زال حب الانتقام والأخذ بالثأر يأكل صدروهم، وبخاصة أنهم أصبحوا هم المحكومين، ويدينون لمصر بالطاعة؛ ولذلك لما تولَّتْ «حتشبسوت» اتخذوا على ما يظهر هذا الحادث ذريعةً لإعلان الثورة؛ ليتحرَّروا من ربق الاستعباد المصري.
وقد أعلنت «سوريا» كلها العصيان على مصر في تلك الفترة، وقامت بثورة محبوكة الأطراف، حتى أصبح لزامًا على هذا الفرعون الفتي الجسور أن يقابل حلفًا قويًّا مؤلَّفًا من قبائل آسيا والولايات التي وطدت العزم على خلع النير المصري الذي أثقل عاتقهم به «تحتمس الأول» وسلفه من قبله، منذ خمسين سنة مضَتْ، ولا شك في أن أكثرهم تحمُّسًا كان أولئك الأقوام الذين طُرِدوا من مصر من غير رجعة، وكان كل أولئك قد ألفوا حلفًا بقيادة ملك «قادش»، وهي بلدة على نهر الأرنت (نهر العاصي) على مسيرة مائة ميل تقريبًا شمالي دمشق، وقد زحف الفرعون لمقابلة أولئك العصاة، يحدوه غرض معين وهو منازلة ملك «قادش» والقضاء عليه، فإذا تمَّ له ذلك، كان كل شيء عداه سهلًا ميسورًا نسبيًّا؛ وذلك لأن سوريا لم تكن وقتئذٍ مملكة واحدة متحدة الكلمة بطبيعتها، بل كانت مقسَّمةً ولاياتٍ صغيرةً يحكم كلًّا منها أميرٌ أو ملك، كما كان لها «بعل» أو إله خاص بها، وكانت أقوى هذه الممالك الصغيرة وأغناها مملكة «قادش»، وقد أفلح ملكها في أن يضمَّ مؤقتًا الولايات الأخرى تحت قيادته، فإذا كان في الاستطاعة هزيمته، فإن الحلف لا يفتأ أن تنحلَّ عراه، وتعود كل دويلة سيرتها الأولى من الاستقلال الذاتي؛ ولذلك يصبح من السهل على «تحتمس» الاستيلاء على ولايات هذا الحلف الواحدة تلو الأخرى، والظاهر أن «تحتمس» قد صمَّم على الزحف بسرعة خاطفة إلى «قادش» مباشَرةً ليضرب ضربته الحاسمة هناك.
(٥-١) موقعة مجدو
طريق جيش تحتمس إلى مجدو
الجيش يعسكر في بلدة «يحم» ويعقد فيها تحتمس مجلسًا حربيًّا
وفي هذه الأثناء جيء بمعلومات عن ذلكم العدو الخاسئ، وبذلك استقرَّ النقاش في موضوع الخطة التي كانوا يتحدَّثون عنها فيما قبلُ.
الجيش يعسكر في عرونا
وفي السنة الثالثة والعشرين من الشهر الأول من فصل الصيف، اليوم التاسع عشر، استيقظ الفرعون في السرادق الملكي الذي كان قد ضُرِب له في بلدة «عرونا»، ثم سار جلالته موليًا وجهه شطر الشمال في رعاية الإله «آمون» رب تيجان الأرضين ليفتح الطريق أمامه … وكان الإله «آمون رع» يشدُّ ساعِدَ جلالتي … وزحف جلالته على رأس جيشه المنظم فرقًا (ولم يجد للعدو أثرًا)، بل كان قد عسكر جناحه الأيسر عند بلدة «تاعناخ»، في الوقت الذي كان جناحه الأيمن قد ضرب خيامه في المنحنى الجنوبي من وادي مجرى «قنا» (؟).
وقد نادى جلالته أن سيروا في هذه الطريق، فالتقى بالعدو فكسره، وولى ذلك العدو الخاسئ الأدبار … فيا أيها الجند مجدوا المليك وتغنوا بشجاعة جلالته؛ لأن ساعِدَه أشد بأسًا من أي ملك، وأنه هو الذي سيحمي مؤخرة جيش جلالته في «عرونا».
وقد كانت مؤخرة جيش جلالته المظفر لا تزال في بلدة «عرونا»، في حين أن مقدمته قد برزت في وادي مجرى «قنا»، حتى ملئوا فم هذا الوادي.
وعندئذٍ قال رجال الجيش لجلالته: حقًّا إن جلالته قد ظهر بجيشه المنتصر وملأ جنودُه الواديَ، فَلْيصغِ جلالته لقولنا هذه المرة، فيحمي لنا سيدنا مؤخرة جيشه وقومه الذين معه، وعندما تتصل بنا المؤخرة نحارب أولئك الأجانب؛ إذ لا نكون في شغل شاغل من جرَّاء مؤخرة جيشنا، وعلى إثر ذلك اتخذ جلالته مكانه عند فم الوادي حاميًا مؤخرة جيشه المظفر، وعندما تم خروج الفرقة الأمامية على هذه الطريقة كان الظل قد مال (أي: عند الظهيرة).
الجيش يعسكر عند مجدو ويستعِدُّ للموقعة
ووصل جلالته جنوبي «مجدو» على شاطئ مجرى نهر «قنا» في مدة سبع ساعات بعد ميل الشمس، وقد ضربت خيام معسكر جلالته هناك، ثم أصدر أمرًا لكل رجال الجيش وهاك نصه: «استعدوا أيها الجنود وانتضوا سيوفكم؛ لأن الفرعون سيخوض غمار حرب مع ذلك العدوِّ الخاسئ عند الصباح الباكر؛ لأنه …» ثم ذهب الفرعون ليستريح في السرادق الملكي، وقد أمدَّ الضباط بما يحتاجون، ووُزِّعت الجرايات على الجنود، واتخذ كلُّ حارسٍ مكانَه بعد أن تلقَّى التنبيهات بأن يكون ثابتًا في مكانه شجاعًا.
الجيش يهاجم الأعداء ويهزمهم
السنة الثالثة والعشرون، الشهر الأول من الفصل الأول، اليوم الحادي والعشرون، وهو اليوم الذي أعلن فيه الضباط عيد الهلال الجديد، وفيه ظهر الفرعون في الصباح وقد أعطى كلَّ رجال الجيش الأوامر للاستعداد للمعركة (؟) … وبعد ذلك انطلق جلالته في عربته المصوغة من الذهب النضار مدججًا بدرعه وزرده مثل الإله «حور» القوي الساعد رب البأس، ومثل الإله «منتو» إله طيبة (وهو إله الحرب)، وكذلك كان والده آمون يشد ساعده.
وكان جناح جيش جلالته الأيسر يقف على ربوة جنوبي «… قنا»، أما الجناح الأيمن فكان معسكرًا في الشمال الغربي من «مجدو»، وكان جلالته في وسطهما يحميه الإله «آمون» في حومة الوغى. وكانت قوة بأس الإله «ست» (إله الحرب) تدبُّ في أعضائه، ففاز جلالته فوزًا مبينًا وهو على رأس جيشه، وقد رأوا (أي: الأعداء) جلالته والنصر حليفه؛ ولذلك ولَّوا الأدبار نحو «مجدو» بوجوهٍ يغمرها الذعر، تاركين خيلهم وعرباتهم المصوغة من الذهب والفضة، وتسلَّقوا أسوار هذه المدينة بملابسهم (أي: مستعملين ملابسهم ليتسلَّقوا بها)؛ وذلك لأن أهل المدينة قد غلقوا أبوابها في وجوههم، ولكنهم مع ذلك دلوا ملابسهم ليجروهم بها إلى داخل المدينة؛ ولو أن جنود جلالتي لم يتهالكوا على نهب متاع العدو، لَكان في استطاعتهم الاستيلاء على «مجدو» وقتئذٍ عندما كان عدو «قادش» الخاسئ وعدو هذه المدينة يجرون متسلِّقين الأسوار ليدخلوا المدينة هربًا؛ لأن الخوف من جلالته كان قد سرى في أجسامهم وضعفت أسلحتهم؛ لأن صله (الذي على جبينه) قد طغى عليهم وهزمهم، واستولى جلالته على خيلهم وعرباتهم المصوغة من الذهب والفضة غنيمة باردة؛ أما صفوف جنودهم فكانوا قد طرحوا أرضًا مثل السمك في حبائل شبكه، وجيش جلالته المنتصر كان يحسب متاعهم؛ لأن سرادق هذا العدو الخاسئ الذي كان محلًّى بالفضة … وقد أخذ كل الجيش بأسباب الفرح مقدمًا الثناء لآمون؛ لما وهبه من نصر لابنه في هذا اليوم، وكذلك قدَّموا الشكر لجلالته مادحين انتصاره، ثم أحضروا الغنيمة التي استولوا عليها حتى الأيدي والأسرى والخيل والعربات المصوغة من الذهب والفضة والكتان الجميل.
وصف حركات الجيش في هذه المعركة
هذه هي رواية الكاتب المصري بنصها، وهي أول وصف لمعركة حربية في العالم، ويمكن تلخيص حركات الجيش الذي كان يقوده ذلك القائد المبتكر فيما يأتي: لما عقد «تحتمس الثالث» مجلسه في «يحم» في اليوم السادس عشر من الشهر، صمَّم هذا الفرعون على اختراق الطريق من «عرونا» إلى «مجدو»، فأمضى اليوم السابع عشر في الاستعداد للزحف، وفي اليوم الثامن عشر زحف الجيش نحو «عرونا»؛ حيث قضى فيها ليلة، وفي اليوم التاسع عشر استؤنف الزحف نحو «مجدو»، وكان الفرعون نفسه يغلظ الأيمان أن يسير في مقدمة طليعة جيشه في المعبر الضيق، فسار على رأس الجيش مخترقًا هذه الطريق الوعرة، ولم يحدث في خلال اجتيازها حوادث تستحق الذكر، اللهم إلا بعض مناوشات صغيرة، وسرعان ما تخطَّتْ مقدمةُ الجيش التلالَ، حتى عسكر «تحتمس الثالث» بعد مشاورة ضباطه عند فم الممر؛ ليكون في مأمن من هجمات العدو على جناح كتائبه الممتدة في طول المعبر وهم يسيرون متعثرين نحو العراء، وقد تمَّ خروج الجيش من هذا المعبر عند الساعة السابعة بعد الظهر، ومن ثَمَّ عسكر الجيش المصري في وادي قنا، وفي هذه الأثناء كانت قوة السوريين بلا نزاع قد ضربت خيامها في نفس الوادي بالقرب من «مجدو»، وكانت لهم قوة أخرى قد عسكرت عند «تاعنخ»، وكانت مهمتها منع زحف المصريين وإعاقة تقدُّمهم من كلتا الطريقين، ومن المحتمل أنه كان للسوريين قوة أخرى تؤازرهم قد عسكرت وسط هذين المكانين، غير أن هذه القوة التي كانت عند «قنا» قد أخفقت في مهاجمة الجيش المصري الزاحف لجهلهم بموقعهم، وكان السوريون على ما يظهر قد حشدوا كل جيوشهم في وادي «قنا» لصد الجيش المصري، غير أن المصريين هنا قد خدعوهم أيضًا، ففي الساعة الأولى من اليوم العشرين انتشر الجيش المصري عبر وادي نهر «قنا» إلى الشمال الغربي من «مجدو»، ثم إلى الجنوب الشرقي من تل هناك، مهدِّدين بقطع مواصلات العدو ببلدة «مجدو»، ثم هاجمهم المصريون ثانيةً على غرة.
وعندما كشف السوريون حركةَ الجيش المصري وقد ضرب عليهم الحصار في وادي «قنا»، حاولوا على ما يظهر أن يقوموا بهجوم مضاد، ولكن الجيش المصري لم يعطهم الفرصة لتنفيذ خطتهم، ولم يكد المصريون يهاجمونهم حتى هُزِموا وولوا هاربين، ولما رأى سكان بلدة «مجدو» ما حدث لجيوشهم غلقوا أبواب مدينتهم في الحال، وأخذوا يجرون الفارين على جدران المدينة بحبالٍ صُنِعت ارتجالًا من الملابس التي كان يرتديها أولئك الفارون، وقد هيَّأَتْ عوامل الرعب والفزع والذعر التي انتشرت بين رجال الجيش السوري فرصةً سانحةً للجيش المصري للاستيلاء على المدينة، بالهجوم أثناء الاضطراب الذي أحدَثَه فرار جيش السوريين، غير أن جنود الجيش المصري لم يكن في استطاعتهم أن يقاوموا حب السلب الذي دبَّ في نفوسهم، عندما رأوا أسلاب العدو أمامهم مكدَّسة، وبخاصة معسكر السوريين الذي كان يفيض بالخيرات والذخائر المغرية؛ ولذلك ضاعت عليهم فرصة الاستيلاء على «مجدو»، ممَّا جعل ضرب الحصار عليها أمرًا لا مفرَّ منه، وقد امتدَّ زمنُ حصارها سبعةَ أشهر، استسلمت بعدها المدينة صاغرةً، غير أن ملك «قادش» الذي كان رئيس العصاة وحامل لواء الثورة على «تحتمس» قد فرَّ من المدينة، لا لينجو بنفسه، بل ليستعِدَّ لاستئناف الحرب من جديدٍ على مصر، وليكون سببًا في مضايقة الفرعون سنين عدة.
أهمية هذه الموقعة في تاريخ الحروب
وأهمية سرد حوادث هذه الموقعة لا ينحصر في وصفها وحسب؛ بل كذلك لأننا نقرأ في وثيقة تاريخية لأول مرة في تاريخ العالم أن قائدًا حربيًّا لم تقتصر مواهبه على أنه جندي شجاع وقائد قدير ماهر فقط، بل لأنه كانت لديه الشجاعة كذلك ليخوض غمار مخاطرة قد كان يعرف عواقبها من قبلُ ليصل إلى غرضه بسرعة خاطفة، بل قد أظهر فضلًا عن ذلك مهارةً حربيةً في وجه العدو الذي جعله يتأرجح في يده كاللعبة في يد الصبي.
ولا يبعد أن كان لهذا الحادث العظيم في تاريخ الحروب في الشرق القديم منذ أربعة آلاف وخمسمائة سنة أثره في تدبير سير الحملة، التي قام بها القائد الإنجليزي «ألني» عام ١٩١٨ على الترك، عندما هزمهم في نفس المكان؛ إذ كان قد ألقى بخيالته في ممر «عرونا» خلف الأتراك المنهزمين، وقد يتساءل المرء الآن في استغراب عمَّا إذا كان الضابط «لورنس» — بما كان له من المعلومات في التاريخ القديم — قد أوحى إلى «ألنبي» بالفكرة التي جعلته يقوم بهذه الحركة الجريئة الماهرة، التي كان قد سبقه إليها «تحتمس الثالث»، الذي يلقِّبه مؤرخو الغرب بحق «نابليون الشرق القديم».
وصف حصار مجدو
بعد انتصار «تحتمس» على جموع العدو الذي احتمى داخل أسوار مجدو نفسها، حشد «تحتمس» جيشه الذي كان منهمكًا في السلب والنهب، وحاصَرَ المدينة، فأقام المتاريس حولها من الأشجار الخضراء ومن كل أشجار فاكهتها، ثم أخذ الفرعون مكانه في الجانب الشرقي من المدينة، بعد أن خصَّصَ جنودًا ليحموا سرادق جلالته، ثم أصدر أوامره لجيشه قائلًا: لا تجعلوا واحدًا منهم يخرج خلف المتاريس إلا إذا كان آتيًا ليسلم باب هذه الحصون (أي: يُلقِي سلاحه)، والظاهر كما ذكرنا أن ملك «قادش» قد تسلَّلَ من المدينة قبل أن تُسلَّم؛ إذ لم يُعثَر له على أثر. وقد استمر الحصار سبعة أشهر أتى بعدها الأمراء خاضعين مسلِّمين متاعهم ومقدِّمين طاعتهم لاسم جلالته «طالبين النفس لأنوفهم».
وفي مكان آخر تحدِّثنا النقوش أن أولئك الآسيويين الذين كانوا في «مجدو» الخاسئة قد خرجوا … قائلين: «هيِّئ لنا الفرصةَ لنسلِّم لجلالتك الغرامة …»
ولما عاد «تحتمس» إلى مصر كان يفخر بقوله: «إن الإله «آمون» قد سلَّطه على كلِّ الممالك المتحالفة في أرض زاهي، فحاصرها جميعًا في بلدة واحدة … وقد حاصرتهم في مدينة واحدة، وبنيت حولهم سورًا جداره كثيف، وقد أطلق على هذا الجدار «تحتمس صياد الآسيويين».»
وصف حملة تحتمس الأولى كما جاءت في لوحة جبل بركال
والآن أقصُّ عليكم أعمالًا أخرى عظيمة فاسمعوا أيها القوم: لقد منحني الإله كلَّ أراضي «رتنو» الأجنبية في الحملة الأولى، عندما هبوا بثورة لمحاربة جلالتي بملايين الرجال ومئات الألوف من عظماء كل الأراضي الأجنبية، وقد اصطفوا في عرباتهم، وكان عددهم ثلاثمائة وثلاثين أميرًا، وكان على كل رأسٍ جيشُه.
وكانوا إذ ذاك في وادي «قنا» معسكرين بخيامهم كأنهم في الواقع في فخ، وكان النصر حليفي عليهم؛ إذ هاجمتهم ففروا في الحال وسقط منهم على الأرض أكداس من القتلى، ثم دخلوا «مجدو» فحاصرتها سبعة أشهر إلى أن اضطروا إلى الخروج منها متضرعين لجلالتي قائلين: أعطنا نفسك يا سيدنا؛ لأن أجانب «رتنو» لن يعودوا قط مرة أخرى للعصيان، وبعد ذلك أرسل الخاسئ (أمير قادش) ومَن معه من الأمراء إلى جلالتي كلَّ قومهم حاملين هدايا كثيرة من الذهب والفضة، وكل جيادهم وما يتبعها من معدات، هذا إلى عرباتهم الفخمة المصفحة بالذهب والفضة، وكل دروعهم وقسيهم ونشاشيبهم وكل آلات الحرب، وكانوا قد حضروا بكل هذه الأمتعة من أماكن قاصية لمحاربة جلالتي، وها هم أولاء قد أحضروها الآن هدايا لجلالتي، وكانوا في ذلك الوقت واقفين على جدرانهم (وقت الحصار) مقدِّمين الخضوع لجلالتي، راجين أن يمنحوا نفس الحياة، وعندئذٍ جعلتهم يحلفون يمينًا قائلين: لن نقوم قط بأي عمل عدائي كرَّةً أخرى على «منخبر رع» (تحتمس الثالث) أمدَّ الله في عمره أبديًّا، وهو سيدنا ما دمنا أحياء؛ لأننا شهدنا عظمته، فَلْيمنحنا نفس الحياة كما يجب؛ لأن والده «آمون رع» هو الذي أكسبه النصرَ في الواقع لا قوة الإنسان، وعلى إثر ذلك سمح لهم بالسير إلى بلادهم، فعادوا جميعًا ممتطين حميرًا؛ لأني كنت استوليت على خيل عرباتهم وأخذت مواطنيهم معي غنيمةً لمصر، وكذلك استوليت على ماشيتها.
الغنائم التي استولى عليها الفرعون تكشف عن ثروة هذه البلاد
والواقع أن قائمة الغنائم التي غنمها «تحتمس الثالث» في هذه الموقعة، كما جاء ذكرها في نقوش الكرنك تكشف لنا عن ثروة هذه البلاد المفتوحة، وما كان يتمتع به أمراء سوريا من نعيم العيش والأبهة، هذا فضلًا عن أنها تعطينا فكرةً عن مقدار ما كانت عليه تلك الولايات من التقدُّم في الصناعات والحِرَف وفنون الحياة ممَّا لم يكن في الحسبان، وسنذكر هنا بالتفصيل قائمة هذه الأسلاب التي استولى عليها جيش «تحتمس الثالث» من «مجدو»؛ لنضع أمامنا فكرةً عامةً عن مقدار ثراء القوم، واستعداداتهم الحربية التي كان لا بد للفرعون أن يقف أمامها وجهًا لوجه:
«فاستولى على ثلاثمائة وأربعين أسيرًا، وثلاثة وثمانين يدًا (كان الجندي تُقطَع يده بعد قتله)، وألفين وواحد وأربعين فرسًا، ومائة وتسعين مهرًا، وستة جياد … وعربة مغشاة بالذهب وقضبانها من الذهب من متاع العدو، وعربة جميلة مصفحة بالذهب ملك أمير مجدو، وثمانمائة واثنين وتسعين من عربات جيشه المخذول مجموعها تسعمائة وأربع وعشرون عربة (لا بد أنه قد ذكر ثلاثين عربة في الأماكن المهشمة من النقش)، ودرع جميل من البرنز ملك الأعداء، ودرع آخر من البرنز لأمير «مجدو» … وعلى مائتي درع من دروع الجيش الخاسئ، وعلى خمسمائة قوس وسبعة قضبان من خشب المرو مصفحة بالفضة، وهي من قضبان سرادق العدو.»
هذا خلاف الأطباق من الأحجار الغالية والذهب وأوانٍ أخرى … وإناء ذي مقبضين من صنع خارو (البلاد الآسيوية)، وأوانٍ وأطباق مفرطحة، وأقداح للشرب مختلفة، وغلايات وسكاكين يبلغ وزنها سبعمائة وأربعة وثمانين دبنًا (أي: إن الأدوات السالفة الذكر يبلغ وزنها ١٩١ رطلًا من الذهب).
وهذه المدن الثلاثة التي استولى منها الفرعون على الأسلاب الأخيرة تقع بعضها قريبة من بعض في الطرف الشمالي من لبنان، وقد هاجمها «تحتمس الثالث» عن قصدٍ لغرض معين؛ وذلك لأنه فكَّرَ أولًا في إيجاد وسيلة لمنع ملك «قادش» من الوصول إليها، وقد كان لم يُقهَر بعدُ، فزحف جنوبًا وثانيًا ليجعل الطريق الشمالي الواقع بين جبال لبنان في قبضة يده لأهميته العظمى لحركاته الحربية؛ ولذلك سار بجيشه شمالًا واستولى على هذه المدن، وممَّا يؤيِّد صحة ذلك أنه بنى هناك قلعة «تحتمس قاهر الأجانب».
وبعد أن تم لتحتمس النصر على هذه الصورة، وجَّهَ عنايته لتنظيم الأقاليم التي فتحها، فقد أصبحت فلسطين ولبنان خاضعتين لسلطانه، وكذلك الجزء الأعظم من بلاد فينيقيا.
(٥-٢) سياسة تحتمس في حكم الأقاليم المقهورة
غير أن سياسة «تحتمس» ومن بعدها سياسة الإنجليز الذين اقتفوا أثرَه، لم تأتِ بالغرض المطلوب منها؛ لأن كلًّا منهما قد نسي أن التعليم يفتق الأذهان، وأن أول ما يستفيد منه الشخص هو حب الحرية والاستقلال، وهذا بعينه ما رأيناه بعد وفاة «تحتمس» ومَن اتبع هذه السياسة، فإن أولئك الأبناء الذين عادوا من مصر إلى بلادهم قد شقوا عصا الطاعة على مَن استعمر وطنهم، وهو نفس ما نجده اليوم مع الإنجليز وأولئك الأمراء الهنود، الذين يحاربون حتى النهاية لنيل استقلالهم في بلادهم ورفع النير الإنجليزي عنهم.
وبعد أن تمَّ «لتحتمس الثالث» النصر على هذا الوجه، عاد إلى مصر بعد ستة أشهر من مغادرته لها، وهذه مدة قصيرة جدًّا إذا قيست بما أحاطها من المصاعب في تلك الأزمان السحيقة، بل تُعَدُّ سرعته في الواقع أعجوبةً؛ إذ ممَّا لا شك فيه أنه حتى في عصرنا هذا تُعَدُّ سرعةُ غزو بلادٍ كهذه والعودة منها بعد تنظيمها، من الأمور العظيمة، ولا بد أن المصريين قد شعروا أن «تحتمس الثالث» عندما عاد إلى مصر محمَّلًا بكل تلك الغنائم الهائلة، قد انتقَمَ لقومه انتقامًا أثلج صدورهم التي كانت تحترق غيظًا بسبب ما حاق بهم من الذل والخذلان في أيام سيادة الهكسوس، الذين ارتدوا بين أولئك الأمم الذين دحرهم «تحتمس»، وجعل بلاده الأولى بين دول العالم. ولا نزاع في أن الجملة المألوفة التي كان يستعملها كل فرعون لما قام به من جليل الأعمال، كانت جديرةً بأن تقال بحق عن أعمال «تحتمس الثالث» في غزوته الأولى هذه المنقطعة النظائر في تاريخ الحروب، وهي: «إذ لم يحدث مثلها قط في عهد الآلهة الذين سلفوا منذ الأزل.»
(٥-٣) تحتمس يقيم لنفسه معبدًا جنازيًّا
(٥-٤) إقامة معبد للإله بتاح
(٥-٥) إقامة لوحة بها انتصارات تحتمس بالقرب من وادي حلفا
ولا نزاع في أن عودة الفرعون مظفرًا كانت من الحوادث التي لا يمكن أن تُنسَى قط في تاريخ البلاد؛ لأن هذه كانت المرة الأولى التي نشاهد فيها فرعونًا على رأس جيش مصري اشتبَكَ في ساحة القتال، في موقعة حاسمة، في أرض أجنبية، مع ملك يسيطر على مملكة آسيوية كبيرة يؤازره جيش آسيوي جبار، وقد شتَّتَ الفرعونُ شملَه بعد هزيمة نكراء. على أن هذا الحادث كان في الوقع يُعَدُّ مسابقةً حربيةً في مضمار كانت مصر فيه هي الفائزة فوزًا حاسمًا، ولا بد من أن هذا النصر قد غيَّرَ نظرةَ الأمة المصرية إلى العالم الذي حولها وعلاقتها الخارجية به.
ويحدِّثنا الفرعون بقوله: «إن جلالتي قد أسَّس للإله «آمون» عيدَ نصر، وقد احتفل به لأول مرة عندما حلَّ جلالتي بأرض «طيبة»، من حملته الأولى المظفرة في السنة الثالثة والعشرين، بعد أن هزمت السوريين الخاسئين ووسَّعت حدودَ مصر.»
(٥-٦) تحتمس يقيم الأعياد لانتصاراته
(٥-٧) تحتمس يفرِّق الهدايا على معبد آمون
وقد كان من نتائج هذا الثراء الذي كان يتدفَّق على مصر منذ غزوته الأولى هذه، أن أصبحت موائد قربان الإله «آمون» مفعمة بالضحايا، وتضاعفت ثروة معابد الكرنك وعَمَّها الخير، وفضلًا عن ذلك تحدِّثنا الوثائق أن الفرعون أخذ في بناء محاريب جديدة في الكرنك، وأن كل الأواني التي أُعِدَّتْ لها كانت من السام والذهب وكل حجر ثمين من الأسلاب التي غنمها جلالته في حملته الأولى المظفرة، ويقول الفرعون: «إن جلالتي قد ساق معه كلَّ زوجات ملك قادش الخاسئ وأولاده، وأزواج الأمراء الذين كانوا هناك ومعهم أولادهم، ووضع جلالتي هؤلاء النسوة …» (هنا بكل أسف هشم النقش ولم يُذكَر أين أسكنهن، وذكر فقط اسم اثنتين أو ثلاث منهن) «وقد أهدي كل ما خسروه لمعبد والدي «آمون»، بمثابة جزء من الجزية التي فُرِضت على سوريا، أما مجوهرات زوجات ملك قادش الخاسئ، فقد أُخِذت واستعملها جلالتي لتجميل السفينة المقدسة لعيد بداية الفيضان.» (المعروف الآن بفتح الخليج) وهذا العيد كان يُعقد في الشهر الأول من الفصل الثالث.
(٥-٨) العيد السنوي للإله آمون
- جزية أمراء آشور: «قطعة من اللازورد الحقيقي تزن عشرين دبنًا وتسع قدات، وكذلك قطعتان أخريان من اللازورد (المجموع ثلاث قِطَع)، وقِطَع وزنها ثلاثون دبنًا، فيكون مجموعها خمسين دبنًا وتسع قدات (أي: ما يعادل ١٢ رطلًا من اللازورد)، وكذلك لازورد جميل من بابل، وأوانٍ من آشور من حجر حرت الملوَّن …»
- جزية سوريا: وفي الوقت نفسه وصل إلى الفرعون رسل من سوريا يحملون الجزية والهدايا من بينها: «بنت الأمير ومعها حليها ولازورد من بلاده، ومعها كذلك ثلاثون من العبيد، هذا إلى خمسة وستين من العبيد والإماء، ومائة وثلاثة من الجياد، وخمس عربات مصفحة بالذهب وقضبانها كذلك من النضار، وخمس عربات مغشاة بالسام وقضبانها من «العجت»، فيكون المجموع عشر عربات؛ هذا إلى خمس وأربعين ثورًا وعجلًا، وسبعمائة وتسعة وأربعين ثورًا، وخمسة آلاف وسبعمائة وثلاثة رءوس من الماشية، وأطباق مفرطحة من الذهب … لا يمكن وزنها، وأطباق مفرطحة من الفضة، وقِطَع «زنتها» مائة وأربعة دبنات وخمس قدات، هذا إلى بوق من الذهب مرصع باللازورد وزرد من البرنز مطعم بالذهب ومحلى بحجر «نخن» الحقيقي … وثمانمائة وثمانية وعشرين إناءً من البخور، وألف وسبعمائة وثمانٍ وعشرين زجاجة من النبيذ الحلو، هذا إلى خشب «عجت»، وخشب «عجت» ذي الألوان المختلفة، وعاج وخشب خروب، وخشب مرو وخشب «بسجو»، وحِزَم عدة من خشب الحريق، وكل طرائف هذه البلاد.»
-
أثر هذه الجزية في الحياة المصرية: ولسنا في حاجةٍ هنا إلى لفت نظر القارئ إلى ما كانت عليه هذه
البلاد من الثراء والغنى والتفنُّن في الصناعة، والتأنُّق في
إخراج قِطَعٍ تُعَدُّ في عصرنا من قِطَع الفن الرفيع والذوق
السليم، كما يُلاحَظ أن الأمراء السوريين أخذوا يرسلون بناتهم
ليكنَّ في القصر في خدمة
الفرعون بين وصيفاته وهن مجهَّزات بحليهن وخَدَمهن وحشمهن،
ويُلاحَظ من الآن أن كل هذه الخيرات التي كانت تُجبَى من سوريا
ومن كل الفتوحات الأخرى، كان للإله نصيب وافر منها، ولم يَفُتِ
الفرعون ذِكْر كل ذلك في نقوشه الدينية التي دوَّنها على
المعابد التي كان يقيمها للآلهة المحليين في طول البلاد
وعرضها، فنراه مثلًا يقصُّ علينا ما قدَّمه للإله «بتاح» في
المعبد الذي أقامه له في الكرنك في هذه الفترة؛ إذ يقول على
اللوحة التذكارية التي أقمها في هذا المعبد ما يأتي: «لقد ملأت
معبد «بتاح» بكلِّ شيء طريف٢٠ من ثيران وإوز وبخور وخمر وقربان، ومن كل أنواع
الفاكهة عندما عاد جلالتي من سوريا بعد حملته الأولى المظفرة
التي منحني إياها والدي «آمون»، عندما سلَّطني على كل بلاد
زاهي المتحالفة، وهم محصورون في مدينة واحدة «مجدو» … لأني
احتبلتهم في هذه المدينة، وأقمتُ حولهم حصارًا يتألَّف من
متاريس سميكة.»
وكذلك يحدِّثنا: «أنه أقام لهذا المعبد أبوابًا من خشب الأرز الجديد من أحسن أخشاب منحدرات لبنان وصفحتها بنحاس آسيوي وجعلته (بتاح) ثريًّا، وجعلته أعظم ممَّا كان عليه من قبلُ، فقد صفحت عرشه العظيم بالسام من أحسن ما تنتجه البلاد، وكذلك أصبحت كلُّ أواني المعبد من الذهب والفضة وكل حجر ثمينٍ غالٍ، وقدمت نسيجًا من الكتان الجميل والكتان الأبيض والعطور المصنوعة من عناصر قدسية، وكذلك لتكون إقامة شعائره سارَّةً.»
ثم تحدِّثنا اللوحة بعد ذلك عن احتفالات ثلاثة كان لا بد لإقامتها من قرابين خاصة، وأول هذه الاحتفالات هو عيد الإلهة «موت حتحور» التي كانت تُعتبَر زوج الإله «بتاح»، وكان يُعقد في آخِر يوم من السنة، والعيد الثاني كان يُعقد في اليوم السادس والعشرين من الشهر الأول من الفصل الأول، والعيد الثالث هو كما ذكرنا من قبلُ، وهو عيد زيارة الإله «آمون» لمعبد الأقصر، وكان الإله «آمون» في عيده هذا يزور وهو سائر في موكبه معبدَ الإله «بتاح»، الذي كان في طريقه، وهكذا كان اهتمام الفرعون بأولئك الآلهة الذين قدروا له النصر في ساحة القتال.
(٥-٩) موت أحمس بننخبت ومآثره
وفي هذه الفترة من حكم «تحتمس الثالث» مات رجل من أعظم رجالات مصر الذين خدموا بلادهم، وخلدوا ذكراهم بأعمالهم لا بمَحْتِدهم وشرف أرومتهم، ذلكم هو «أحمس بننخبت» الذي عاصَرَ ستة فراعين من ملوك مصر وخدم خمسة منهم، وقد ذكرنا ما قام به من عظيم الأعمال فيما سبق؛ فقد انخرط في سلك الجيش في عهد «أحمس»، وهو في الخامسة عشرة من عمره، واشترك معه في حملته على سوريا في السنة الحادية والعشرين من حكمه، ثم يقصُّ علينا في نقوشِ تاريخِ حياته أنه خدم في عهد أخلافه «أمنحتب الأول» و«تحتمس الأول والثاني»، وعاش حتى عهد «تحتمس الثالث»، وعندئذٍ يقول لنا إنه «بلغ من الكبر عتيًّا، وكنت موضع رعاية جلالتهم، وكنت محبوبًا في البلاط.» ثم يستمر قائلًا: «إن الزوجة المقدسة والزوجة الملكية العظيمة «ماعت كارع» المرحومة كانت قد أغدقت عليَّ الإنعامات ثانيةً، وكنتُ قد ربيتُ أكبر بناتها، وهي الابنة الملكية «نفروع رع» المرحمة عندما كانت طفلةً رضيعةً.»
ومما يُؤسَف له أن سائر نقوش تاريخ حياته قد هشمت ولم يَبْقَ منها شيء، ومما سبق نعلم أن هذا الجندي العظيم قد عاش بعد موت «حتشبسوت»، وأن «نفرو رع» كانت قد توفيت على ما يظهر منذ زمن بعيد، والمعلومات التي نستنتجها من تاريخ حياته لها أهمية عظمى، فنعلم أولًا: أنه بعد ممات «حتشبسوت» بعامين كان لا يُشار لاسمها بوصفها ملكة حكمت البلاد، وعلى الرغم من أن اللقب الذي كانت تحمله وهو «ماعت كارع» بوصفها ملكة فعلية، فإن «أحمس بننخبت» لم يذكرها هنا بلقب الملكة، بل «بالزوجة الإلهية» و«أرملة تحتمس الثاني».
كما نعلم ثانيًا أن «تحتمس الثالث» لم يعجل بمحو اسمها من الآثار بعد اعتلائه عرش الملك، بل انتظر مدة كما ذكرنا. وثالثًا: نعلم أن «أحمس بننخبت» كان مربي الأميرة «نفرو رع» قبل أن يقوم على تنشئتها «سنموت»، اللهم إلا إذا كان لقب مربي الأميرة لقبًا فخريًّا يمنحه المصريون في البلاط أحيانًا. ورابعًا: نفهم من الحملة التي قام بها «أحمس الأول» على بلاد سوريا أنها كانت قد حدثت في أواخر أيامه لا في أوائل حكمه كما هو المفهوم؛ لأنه لو صحَّ ذلك لكان «أحمس بننخبت» قد بلغ سنًّا أرفع من التي وصل إليها؛ إذ كان قد تخطَّى المائة عندما لاقى حتفه على فراش الشيخوخة.
(٥-١٠) تحتمس يقيم معبدًا خاصًّا للإله آمون في الكرنك
وهذه اللوحة مهشمة ولم يَبْقَ منها إلا الأسطر الافتتاحية، غير أننا نفهم منها أن «تحتمس الثالث» قد أقام قائمتي العمد والمحراب اللتين يتكوَّن منهما الجزء الشرقي من امتداد معبد الكرنك، وقد كان هذا المعبد شاسع المسافة، حتى إن «تحتمس الثالث» أمر بإزالة معبد قديم للإله «نون»، ووضعه في أقصى الشرق ليفسح المكان لمعبده، على أن السبب الجوهري على ما يظهر لإقامة «تحتمس الثالث» هذا المبنى العظيم شرقي معبد الكرنك، يرجع إلى أن قائمة العمد التي أقامها «تحتمس الأول» بين «بوابتيه» الرابعة والخامسة، تكون المدخل لمعبد الكرنك، وكانت وقتئذٍ أكبر قاعة في المعبد، والوحيدة التي كان يمكن عقد احتفالات للإله فيها، مثل الاحتفال الذي أُقِيم عند تولية «تحتمس» العرش على يد الإله «آمون» ووالده، غير أن هذه القاعة كانت قد أصبحت غير صالحة لإقامة الاحتفالات؛ إذ كانت «حتشبسوت» قد نصبت مسلتها فيها، وبذلك أصبحت بدون سقف، وكان فيها طائفة من العمد عددها ستة في الجهة الشمالية؛ منها أربعة كان قد صنعها «تحتمس الأول» من خشب الأرز، وهي التي جدَّدها «تحتمس الثالث» ودوَّنَ عمله هذا على أحد هذه الأعمدة إذ قال: «لقد أقامها (أي: تحتمس الثالث) أثرًا لوالده «آمون رع»، وذلك بإقامة أربعة عمد من الحجر الرملي أُقِيمت في قاعة العمد تجديدًا للتي أقامها الإله الطيب رب القربان (تحتمس الأول) من خشب الأرز، وقد أضاف جلالتي أربعة عمد زيادة على العمودين اللذين في الجانب الشمالي، ومجموعها ستة مغشاة ﺑ … ومؤسسة … والذي أحضر بسبب اسم جلالتي، وهي جزية كل البلاد التي منحني إياها والدي الإله «آمون» مصنوعة من الحجر الرملي، وارتفاع كل منها ثلاثون ذراعًا على كل جانبي «البوابة» السامية العظيمة … وكانت تضيء الكرنك … من الحجر الرملي نقش بالألوان صور والدي «آمون»، وكذلك صور جلالتي، وكذلك صور والدي الطيب «تحتمس الأول».
تأمَّلْ! لقد أقمتُ ما كان متداعيًا فيها بالحجر الرملي؛ لكي يصبح هذا المعبد مؤسسًا … مثل السماء مرتكزة على عمدها الأربعة بوصفها آثارًا ممتازة مفيدة لوالد الأبدية من الجرانيت والعاج والحجر الرملي … والفضة «لجميل الوجه» (لقب يطلق على الإله بتاح)، وإني أقسم بقدر ما يحبني الإله «رع» وبقدر ما يحبني الإله «آمون»، بأني أقمتها من جديد في الجهة الجنوبية، بالإضافة إلى ما كان قد أضافه والدي.»
وعلى ذلك نجد أن الجزء الشمالي من القاعة — وهو المكان الذي كان قد وقف فيه «تحتمس الثالث» عندما تُوِّج ملكًا على البلاد — قد أصلحه هو، ولكن الجزء الجنوبي كان لا يزال بدون عمد وسقف، وكانت قاعدة مسلة «حتشبسوت» التي أُقِيمت فيه قد شغلت مكان ثمانية أعمدة؛ أيْ ما يقرب من ثلث قاعة العمد كلها، وعلى ذلك أصبحت القاعة غير صالحة لإقامة المحافل فيها لوجود المسلة في وسطها، ممَّا عاق في الوقت نفسه وضع سقف لها، ولهذا أقام «تحتمس الثالث» بناء حول كلٍّ من المسلتين ليكسو نقوش «حتشبسوت» التي كان يكره ذكراها، هذا إلى أنه توقَّف عن عمل أي إصلاح في القاعة التي تُوِّج فيها.
ويلحظ هنا أن الجزء الأخير من هذا النقش مهشم، ولا يمكن فهم شيء منه على وجه التأكيد.
هندسة المعبد
(٥-١١) الحملة الثانية
السنة الرابعة والعشرون: قائمة بالجزية التي أُحضِرت إلى عظمة جلالته من بلاد رتنو.
- (١)
جزية بلاد آشور: قطعة عظيمة واحدة من اللازورد الحقيقي …
- (٢)
جزية بلاد رتنو: … جلود الحيوان «مخاو» لتجليد عربة صُنِعت من أحسن الأخشاب، ومائة واثنتان وتسعون عربة، وثلاثمائة وثلاث وأربعون قطعة من خشب «نحب»، وخمسون قطعة من خشب الخروب، ومائة وتسعون قطعة من خشب «مرو»، ومائتان وست قِطَع من خشب «نبي» وخشب «كانك» وأخشاب زيتون …
ومن ذلك نرجح أن هذه الحملة قد قام بها «تحتمس الثالث»؛ لتفقُّد أحوال البلاد التي فتحها من قبلُ، وما كان عليه الأمراء من الولاء له، ولإحضار مقدار عظيم من الخشب التي كانت البلاد المصرية تفتقر إليه، والظاهر أن ملك آشور لم يَفُتْه إظهارُ ولائه، فبعث لجلالته بهدايا كثيرة أخرى.
(٥-١٢) الأشجار والحيوانات التي جلبها الفرعون من بلاد سوريا
وفي السنة الخامسة والعشرين (المتن هنا مهشم)، والظاهر أن الفرعون قد حارب بعض الولايات هناك، وأنه أشعل النار في بعض مدن واستولى على أسلاب من العدو، وفي هذه الحملة أحضر الفرعون مجموعةً من الأزهار انتخبها لتُغرَس في مصر، وقد غُرِست في «طيبة» وأزهرت إزهارًا يانعًا، ونشاهد أنه لما تمَّ بناء المعبد فيما بعدُ نُقِشت أنواع هذه الأشجار على جدران إحدى حجراته، ويمكننا أن نشاهد ما تبقَّى منها إلى يومنا هذا، ونستطيع أن نعرف الأزهار العدة التي كانت تزيِّن حديقة معبد «آمون». وتحدِّثنا النقوش في السنة الخامسة والعشرين أن هذه الأزهار هي التي أحضرها جلالته في هذه السنة، والظاهر أنه كان قد أحضر مع مجموعة الأزهار هذه عدةَ طيور وحيوانات استُؤنِست في طيبة كما يظهر من المجموعة التي على جدران إحدى حجرات هذا المعبد، ويُطلَق على مجموعة الأزهار هذه جنينة النباتات، وعلى الرغم من أن الجزء الأعلى من الجدران التي رُسِمت عليها هذه الأزهر والنباتات قد زال من عالم الوجود، فإن ما تبقَّى منها يعطينا فكرةً عمَّا كانت تشتمل عليه تلك الحديقة.
ونجد عليها كلَّ النباتات التي وجدها جلالته في أرض «رتنو» (بلاد سوريا)؛ إذ يقول المتن: «إن كل النباتات التي كانت تنمو، وكل الأزهار التي في أرض الإله التي كشفها جلالته هناك، قد أحضرها عندما ذهب ليُخضِع كلَّ الممالك على حسب أوامر والده آمون، وهو الذي ألقاهم تحت موطئ نعلَيْه.»
وقد بقي على الجدران حتى الآن رسم ١٧٥ نباتًا أو أجزاء من نباتات، وقد درسها العالم الألماني «شفينفورت» فوصل إلى النتائج الآتية: ظهر أن رسم بعض النباتات كان رسمًا علميًّا صحيحًا متقنًا، وأن بعضها كان رسمًا تقريبيًّا قد اعتمد فيه على ذكريات مبهمة ممَّا رآه المفتن، كما أن بعضها كان خياليًّا محضًا، والواقع أن المفتن الذي رسمها كان يقوم برسم نباتات غريبة عنه، ولما لم يكن لديه وثائق يرجع إليها فإنه كان يعتمد على الخيال.
ولم يصلنا شيء عن حملته الرابعة، ويُحتمَل أن نقوشها قد فُقِدت، وربما كانت لتثبيت سلطانه في الممتلكات التي فتحها؛ ولذلك لا نعلم شيئًا عن حروبه في السنة السادسة والعشرين.
يا «أمنمحات» ليت ذكراك تبقى في بيتك، وتماثيلك في محاريبك، وروحك حي، وجسمك محفوظ في قبرك بالجبانة، ويبقى اسمك في فم أطفالك إلى الأبد، يا أمنمحات! إن الصخرة تمدُّ إليك ذراعَيْها، وأرض الغرب تبتهج بصلاحك وتنحني إجلالًا لك بعد تلك السنين من عمرك الطويل المحترم، وتفسح لك مكانًا بين أتباعها الذين يعيشون فيها إلى الأبد يا أمنمحات! ليتك تدخل وتخرج من الجبل الغربي كما تريد، وتسير داخل (بوابات) العالم السفلي لتعبد إله الشمس عندما يطلع من الجبال، وتنحني له عندما يغرب في الأفق، ليتك تتسلَّم القربان وتشبع بالأكلات على مائدة «أوزير» رب الأبدية! وليتك تتنزه كما ترغب على شاطئ بحيرة حديقتك! وليت قلبك ينعم بأزهار حديقتك، وليتك تروح عن نفسك تحت ظلال أشجارك! وليت ظمأك يطفأ من ماء البئر التي حفرتها أبد الآبدين! وليتك تخترق جبال الجبانة وتخرج لترى بيتك في أرض الأحياء، وتسمع صوت الغناء والموسيقى التي على الأرض، وتكون روحًا حارسًا لأولادك إلى الأبد!
ويرى القارئ من هذا النص أن المصري كان متعلِّقًا بعالم الدنيا، ولا يرغب إلا في العودة إليه ليتمتع بنعيمه ولذائذه بعد الموت، حتى إنه كان يتمنَّى أن يخترق جبال الجبانة، ويخرج إلى عالم الحياة الدنيا، ويتمتع بالغناء والموسيقى في قاعة بيته التي طالما تقلَّبَ في أعطاف النعيم فيها.
(٥-١٣) تحتمس الثالث يستولي على مواني ساحل فينيقية لتكون قاعدة لجيوشه
وتدل ظواهر الأحوال وما يُستنتَج من النقوش على أن «تحتمس الثالث»، بعد أن وطَّدَ أركان السلام في الربوع التي فتحها أخيرًا، رأى أنه لا يمكنه أن يسير في طريق الغزو شمالًا بين جبال لبنان ليقضي على مملكة قادش، دون أن يستولي على مدن فينيقيا الساحلية التي قد تصبح خطرًا يهدِّده دائمًا من خلفه؛ وكذلك رأى أنه من العسير عليه أن يهاجم بلاد النهرين (مملكة المتني) دون أن يستولي على مملكة «قادش» الواقعة على نهر العاصي، وكانت لا تزال خارجةً عن سلطانه؛ ولذلك بنى «تحتمس الثالث» أسطولًا عظيمًا وجهَّزَه بكل ما يلزم من عتاد ليتمكَّنَ بمساعدته من النزول في شمال ساحل فينيقية، وبخطته هذه يمكنه أن يتخذ الساحل قاعدةً حربيةً لمهاجمة قادش وما حولها من البلاد المعادية، حتى إذا ما استولى عليها استطاع أن يسير بجيشه من الساحل موغلًا في الداخل نحو بلاد المتني وكل إقليم بلاد النهرين، ولا نزاع في أن هذه الخطة المبتكرة تدل على نبوغٍ في الخطط الحربية لم يصل أحدٌ إليه ولم يسبقه بها، يضاف إلى ذلك أنه نفَّذَها بنشاط ومثابرة لا تعرف الملل، وعزم لا يعرف الكلل، وقد قال أحد المؤرخين المحدثين: لو كانت هذه الخطط بعينها استُخدِمت في الحرب العالمية الأولى في الحملة على الأتراك، لَانتهت الحملة في العام الأول.
(٥-١٤) الحملة الخامسة
قام «تحتمس الثالث» بجيشه زاحفًا نحو «سوريا» في حملته الخامسة؛ ليطفئ نار ثورة محلية في مكانٍ لم يُعرَف اسمه، وربما كان «وارثت» على ساحل فينيقية، فإنه يقصُّ علينا دون مقدمات أنه استولى على المدينة، ولا بد أنها كانت ذات شهرة عظيمة وثراء جم؛ إذ استولى منها على مغانم كثيرة، وقد كان فيها معبد للإله آمون بناه أحد آبائه، وبعد أن استولى على تلك المدينة المجهولة أقلع بأسطوله وسار شمالًا محاذيًا للشاطئ حتى وصل إلى مدينة «أرواد» العظيمة، فحاصرها (انظر مصور رتنو العليا)، ولم يمضِ طويل زمن حتى سلمت، وبسقوطها استولى المصريون على مقدار عظيم من ثروة فينيقية، واتفق أن الاستيلاء عليها كان في فصل الخريف، وقد كانت الحدائق والخمائل محمَّلة بالفاكهة، والخمر يجري كالغيث، وحبوبها تنحدر على جوانب الرمال أكثر من رمال الشاطئ، وقد غنم رجال الجيش مغانم عظيمة بالسلب والنهب حتى إن «تحتمس» لم يكن في مقدروه في مثل هذه الأحوال أن يحفظ النظام بين رجال جيشه. والواقع أن رجال جيشه في الأيام الأولى كانوا ثملين ومعطرين بالزيوت الزكية الرائحة، كأنهم يحتفلون بعيد في مصر.
وعلى إثر هذه الهزيمة جاء أمراء الساحل حاملين جزيتهم مقدِّمين خضوعهم، وبذلك ضمن «تحتمس» لنفسه منفذًا بل منافذ على سواحل البحر في الشمال؛ ليربط بينه وبين مصر من جهة، وبينه وبين جيوشه الموغلة في الداخل من جهة أخرى، ومن ذلك الوقت أصبحَتْ مدنُ هذا الساحل قاعدةً لأعماله الحربية في داخل هذه البلاد؛ تنفيذًا لخطته التي كان قد وضعها لمهاجمة ملك «قادش».
وبعد ذلك سار جلالته إلى مصر إلى والده «آمون رع» بقلب فَرِح.
(٥-١٥) الحملة السادسة في السنة الثلاثين
وفي السنة الثلاثين قام الفرعون بحملته السادسة، وكان غرضه على ما يظهر الاستيلاء على بلدة «قادش» (تل بني مند)، فأقلع من مصر ونزل بجيشه عند «سميرا» شمالي «أرواد»، وتقدَّمَ نحو «قادش» الواقعة على الجانب الأيمن لنهر العاصي في أقصى شمال الوادي العالي الواقع بين جبلي لبنان، وكانت المدينة وقتئذٍ محصَّنة من جميع الجهات، بنهر العاصي وفرع منه، ثم بقناة حُفِرت لتوصل بينهما، هذا إلى وجود تحصينات أخرى خلف هذه التحصينات الطبعية لتحمي المدينة؛ ولذلك كان الاستيلاء عليها يُعَدُّ من الأعمال الحربية العسيرة المنال.
حصار قادش والاستيلاء عليها
وقد حاصَرَها «تحتمس» مدة طويلة، انتهزت في خلالها بعضُ المدن الساحلية هذه الفرصةَ وشقَّ أهلها عصا الطاعة على الفرعون، من بينها مدينة «أرواد» التي قامت بثورة للتخلُّص من الجزية التي كانت تدفعها للفرعون سنويًّا، ولكن على إثر سقوط «قادش» طار «تحتمس» على جناح السرعة إلى «سميرا»، وأنزل جيشه في الأسطول الذي كان في انتظاره، وأقلع به إلى مدينة «أرواد» وأوقع بأهلها عقابًا صارمًا، وقد كان هذا العصيان من جانب «أرواد» درسًا عمليًّا «لتحتمس الثالث» ألَّا يسير في خطته لغزو بلاد «النهرين» قبل أن تدين لسلطانه كلُّ بلاد الساحل؛ ولذلك نجده قد أمضى صيف السنة الواحدة والثلاثين من حكمه وهي الحملة السابعة في القضاء على أي ثورة، وكبح جماح أي عصيان في هذه الجهات.
ونعلم من هذا النص فضلًا عن الغنائم التي استولى عليها الفرعون، أنه كان يستولي على أبناء الأمراء، ويُنشِئهم في مصر تنشئةً مصريةً، ثم يضعهم مكان آبائهم بعد موتهم كما سبق شرح ذلك.
(٥-١٦) الحملة السابعة والغرض منها
وكذلك لم يعلن محصول بلاد «رتنو»، ويحتوي على كثير من البر النقي، وعلى قمح في سنابله وشعير وبخور وزيت أخضر، ونبيذ وفاكهة وكل شيء حلو من البلاد، وستسلم للخزانة مثل محصول بلاد كوش.
وكذلك وصل إلى الفرعون من بلاد «كوش» وبلاد «واوات» الجزية السنوية التي كانت تؤدِّيها هذه البلاد لجلالة الفرعون، وهي تلك المحاصيل التي اشتهرت بها هذه الأصقاع، وهاك النص:
ويُلحَظ في محصول هذه الجهات السودانية أنها كلها كانت مواد أولية وحيوانات، هذا على عكس ما نشاهده من المنتجات الفنية العظيمة التي كانت ترد من بلاد آسيا، ممَّا يضع أمامنا الفرق بين البلدين المحتلين من حيث التقدُّم والحضارة.
(٥-١٧) الحملة الثامنة وتُعَدُّ أعظم غزواته
ظلَّ تحتمس الثالث في مصر عامين بعد حملته السابعة، ثم قام بحملته الثامنة في السنة الثانية والثلاثين، وتُعَدُّ أعظمَ غزوة قام بها في كل حروبه بعد الغزوة الأولى؛ إذ تمَّ «لتحتمس الثالث» في نهايتها كلُّ ما كانت تصبو إليه نفسه وتتطلع إليه آماله، وهو الوصول إلى نهر الفرات وإخضاع كل البلاد المجاورة له. وقد دوَّنَ لنا انتصاراته في هذه الحملة في النقوش التي على جدران معبد الكرنك، وكذلك في لوحة جبل «بركال»، وسنفصل القول أولًا في هذه الحملة، ثم نورد المتنين اللذين وصلَا إلينا، وكذلك نشير إلى ما جاء عن حملته هذه في حياة «أمنمحات» الذي كان يرافقه في كل حملاته في بلاد آسيا.
كيفية الاستيلاء على قرقميش
أما الحادث الذي تلا هذه الموقعة فهو نشوب موقعة في «قرقميش»، وقد كان الاستيلاء على هذه المدينة معناه فتح الباب لأحسن طريق ممكن لعبور نهر الفرات، وقد تمَّ للفرعون عبور هذا النهر بقوارب بناها على مقربة من «ببلوص» (جبيل) بأخشاب من غابات لبنان، ثم نُقِلت بطريق البر إلى «قرقميش» على عربات تجرها ثيران، والمفروض في هذه الحالة أن هذه القوارب كانت قد حُمِلت أجزاء منفصلة على هذه العربات، ثم رُكِّب بعضها مع بعض في «قرقميش»؛ وذلك لأنه يكاد يكون من ضروب المستحيل نقل القوارب برمتها غير مفككة الأجزاء مسافة طويلة مثل هذه برًّا، في ممرات وعرة كانت تستخدم طرقًا وقتئذٍ، وهذا أول استعمال لعربات النقل المصرية التي تسير على عجلات؛ إذ كانت قبل ذلك تنقل الأشياء على زحافات مثل الأحجار وغيرها، وهذا النوع من العربات مميَّز عن عربة الركوب التي كان يجرها الجياد، وهي العربة ذات العجلتين، وهذا التجديد في وسائل النقل مثال آخَر يضاف إلى الأمثلة الكثيرة التي تدلُّ على عبقرية «تحتمس» في الفنون الحربية. والواقع أن هذه العربات كانت جديدة على المصريين لدرجة أنهم أطلقوا عليها اسمًا جديدًا «وررت» ومعناها «العظيمة»، يضاف إلى ذلك أن موضوع نقل الجنود الغزاة في قوارب يعبرون بها النهر يُعَدُّ المثال الأول في تاريخ العالم.
أما الحرب التي حدثت بين الفريقين بعد اقتحام المصريين نهر الفرات، فلا نعرف منها إلا الشيء القليل، اللهم إلا أن الحرب انتهت كالعادة بانتصار المصريين، ولدينا فقرة مهشمة في تاريخ تحتمس تقدِّم لنا بعضَ التفاصيل: «وقد اقتفى أثرهم بمسافة نحو «إتر» (مقياس طول غير محدَّد يتراوح بين كيلومترين وعشرة كيلومترات ونصف) في النهر، ولم يفلت واحد منهم خلفهم، بل فروا مثل قطعان الصيد؛ لأن الخيل كانت تعدو (؟) …»
ومن ذلك يظهر أن الجيش المصري بعد أن عبر نهر الفرات، سار مع مجراه منحدرًا مع التيار مسافة قصيرة ليشتبك مع العدو الذي أَبَى الوقوف لمنازلة الجيش المصري.
غنائم هذه الموقعة
علاقة المتني بمصر
وعلى الرغم من أن «تحتمس الثالث» أعلن بإقامة لوحته على جزء من بلاد المتني، أن هذه البلاد كانت تُعَدُّ تحت الحماية المصرية ومن رعاياها، فإنها في الواقع بقيت محافظة على سيادتها القومية، ولم تُمَسَّ ماديًّا بأي سوء، وبقيت تُعتبَر إحدى الدول العظمى في ذلك الوقت. وبعد مضي حكم فرعونين من فراعنة مصر على هذا الحادث، نجد أن «تحتمس الرابع» قد تزوَّجَ من بنت ملك المتني الذي كان على عرش هذه البلاد في عهده، والواقع أنه لم يكن في مقدور مصر أن تسيطر على الإقليم الذي على الضفة الأخرى من نهر الفرات، ولا شك في أن «تحتمس الثالث» نفسه كان يعلم ذلك في قرارة نفسه.
نتائج الحملة
(٥-١٨) العودة إلى مصر
(٥-١٩) تحتمس الثالث يخرج لصيد الفِيَلَة
(٥-٢٠) عبقرية تحتمس الثالث في تنظيم هذه الحملة وأثرها في توطيد ملكه
وهكذا أتمَّ هذا القائد أعظم فتوحه خطرًا وأبعدها أثرًا وأعظمها شأنًا، فلم تكن حملاته المُقبِلة موجَّهةً إلا لتدبير أحوال الإمبراطورية التي كسبها بحدِّ السيف ولتوطيد الأمن فيها، ولقد أظهر «تحتمس» ثانيًا في هذه الحملة عبقريته الحربية التي كانت لا تنحصر في الوصول بنجاح باهر إلى هدفه البعيد المرمى فحسب، بل ظهرت بصورة بارزة في بنائه السفن على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، ثم نقلها بطريق البر حتى مكان الموقعة على عربات نقل، وهذا في الواقع يُعَدُّ عملًا جبَّارًا، وبخاصة عندما يعلم الإنسان أن جيشه كان يبلغ عدة آلاف من المحاربين، غير الخيل والعربات التي كان لا بد من نقلها بعد تجميعها عبر الفرات، مضافًا إلى ذلك جيش مشاته.
(٥-٢١) القائد تحتمس الثالث والقائد مونتجمري
وعندما نقرن الأشياء الصغيرة بالأمور العظيمة، نرى أن هذا العمل المبتكر الذي قام به «تحتمس الثالث» بحد السلاح والذكاء، وبما لديه من وسائل ساذجة، يذكِّرنا بما قام به القائد «مونتجمري»، عندما عبر نهر الرين على سفن عبور جيء بها برًّا من الساحل بسرعة خاطفة، ونجد أن الأول قد ابتكَرَ هذا الحل منذ ثلاثة آلاف وأربعمائة سنة تقريبًا، وعمل به الثاني في عصر الابتكار والمخترعات الفذة، ومع ذلك فلا بد من الاعتراف بأن الفضل للمتقدم.
والآن سار جلالتي إلى شمال حدود بلاد آسيا، وقد أمرت ببناء سفن نقل من خشب الأرز في «جبيل» ممَّا تنبته تلالها، وهي أرض الإله الواقعة على مقربة من «صيدا»، ثم حُمِلت على عربات ذات عجل وجُرَّت بالثيران، وقد أرسلت قبل جلالتي لتُستعمَل في عبور ذلك النهر العظيم الذي يجري في هذه الأرض الأجنبية وهي «نهرين».
التعليق على هذه المتن
فمن هذه المتون نعلم خلافًا لما ذكرناه أن الفرعون قد أرسل حملة في هذه الفترة إلى بلاد «بنت»، عادت محمَّلة بخيرات هذه البلاد المعروفة وهي البخور والذهب، هذا فضلًا عن أنه عندما عاد إلى مصر، كانت بلاد «كوش» وبلاد «واوات» قد أرسلت جزيتها السنوية المعتادة، ممَّا يدل على أنها كانت على ولائها للفرعون. ومما يُلحَظ هنا أن «تحتمس الثالث» قد عدَّ الهدايا التي قدَّمها له كلٌّ من ملك «بابل» وملك «خيتا» بمثابة جزية كالجزية التي كانت تدفعها البلاد الخاضعة لحكمه، وإنْ عدَّ ذلك مخالفًا للواقع.
أما قضية صيد الفِيَلة عند «ني» فقد جاء ذِكْرها في ترجمة الجندي «أمنمحاب»، كما جاءت كذلك في لوحة «بركال»، وقد قصَّها علينا الفرعون نفسه، وذلك أنه عندما كان الفرعون يستجمُّ في بلدة «ني»، قام بنزهة للصيد والقنص، وبخاصة صيد الفيلة في هذه الجهة، ممَّا يدل على أن هذا الحيوان كان لا يزال يوجد على شاطئ نهر الفرات في القرن الخامس عشر قبل الميلاد. ويقصُّ علينا «أمنمحاب» حادثةً مثيرةً خَطِرة وقعت للفرعون، وهي أن قطيعًا من الفِيَلة شُوِهد واقفًا على شاطئ النهر، وقد كان الصائد في استطاعته أن يكون على مقربة منه دون أن يرى إذا اختبأ خلف الصخور، غير أن أكبر هذه الفِيَلة لمح الفرعون وهاجَمَه على حين غفلة، وعلى ذلك يقول «أمنمحاب»: بينما كنتُ واقفًا في الماء بين صخرتين، ضربت يد الفيل (خرطومه) وهو حي أمام جلالته، وقد كافأني جلالته على ذلك بالذهب، وخلع عليَّ ثلاث حلل. والظاهر أن هذه الهدية كانت بدلًا من الملابس التي كانت لا بد قد مُزِّقت خلال هجومه على الفيل.
ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن بطلنا «أمنمحاب» هذا كان على ما يظهر مغرمًا بسرد القصص العريضة النسج؛ إذ قصَّ علينا كذلك مخاطرة أخرى حدثَتْ له مع ضبعٍ هاجمه في الصحراء في وقت كانت عصاه كلَّ ما يحمله من سلاح، وعندما دوَّن هذه القصة على جدران قبره أوعز إلى المفتن أن يمثِّل الضبع في حجم جواد ضخم ذي عينين متَّقدتين، مكشرًا عن أنياب حادة كأنه يريد أن يلتهم من أمامه التهامًا.
والآن أقصُّ مغامرةً أخرى هيَّأ لي الإله «رع» فيها النصرَ، فقد أظهر على يدي فيها عملًا عظيمًا من أعمال الشجاعة عند مورد ماء في بلدة «ني»، فقد هيَّأ لي أن ألتقي بقطيع من الفيلة، وحارَبَ جلالتي سربًا عدده مائة وعشرون فيلًا لم يسبقني إليه ملك منذ عهد الآلهة من الذين توجوا قبلي بالتاج الأبيض، والظاهر أن الفرعون قد نسي أن يسر «أمنمحاب» بطل هذه القصة، فيذكر لنا مخاطرته ونجدته القيِّمة لمليكه، اللهم إلا إذا كانت قصته من نفس نسيج قصة الضبع.
(٥-٢٢) الحملة التاسعة في السنة الرابعة والثلاثين والغرض منها
وفي السنة الرابعة والثلاثين قام تحتمس الثالث بحملته التاسعة المظفرة إلى بلاد زاهي، والظاهر أنه بعد عودته من إقليم الفرات لم يكن الأمن قد استتب فيه تمامًا، هذا إلى أن «لبنان» قد شقَّتْ عصا الطاعة على الفرعون في تلك الآونة؛ ولهذا اضطر إلى القيام بحملته هذه للاستيلاء على ثلاث مدن منها، وقد غنم مغانم كثيرة، وفي نفس العام نشاهد الفرعون قد وسع سلطانه في الجنوب؛ إذ أسر أولاد أمير «أرم» المجاورة لبلاد كوش، وأخذهم رهينةً عنده لعصيان والدهم.
المتن المصري
تعليق على هذا المتن
مما سبق يتضح أنه فضلًا عن الجزية التي كانت تأتي إلى مصر من جهات آسيا المختلفة، قد أخذت قبرص كذلك ترسل جزيتها، وربما كانت ضمن البلاد الخاضعة لمصر وقتئذٍ، هذا ونشاهد أن «تحتمس الثالث» قد فرض على أمراء لبنان وغيرهم أن يمدوا المواني الفينيقية بالمؤن اللازمة لحملاته، كما فرض عليهم بناء السفن نفسها، وبذلك أصبح في مقدوره أن ينزل في أي ميناء، ويسير بجيشه في داخل البلاد، ويقبض على كل ثورة في حينها، ولا نكون مبالغين إذا قلنا إن قوة «تحتمس» الحربية ونظامها كانت الأولى من نوعها في العالم المعروف وقتئذٍ، ولا أدل على ذلك من أن ملك قبرص بما له من سفن كان يخشى بأس هذا الفرعون، وأصبح خاضعًا لإرادته، هذا إلى أن الأسطول المصري جعل جزر الشمال تخشى بأس الفرعون، وأصبح سلطانه ممتدًّا على شرقي البحر الأبيض المتوسط حتى بحر إيجة، مما جعل قائده «تحوتي» يعدُّ الجزرَ التي في وسط البحر (بحر إيجة) من الممتلكات التي تحت سلطانه؛ إذ كان يُلقَّب حاكم الأقطار الشمالية.
(٥-٢٣) الحملة العاشرة
والظاهر أن أمراء بلاد «نهرين» الذين غاب عنهم «تحتمس الثالث» مدة عامين بعد حملته القاسية، أخذوا يتألبون عليه وكوَّنوا حلفًا قويًّا على رأسه أمير نعته «تحتمس الثالث» بقوله: «ذلك العدو الخاسئ صاحب نهرين»؛ ومن المحتمل أنه يقصد به ملك «المتني» أو أحد الأمراء الذين كان ضلعهم مع الهكسوس، والذين كانوا لا يزالون يأوون إلى هذه الجهات؛ ولكن «تحتمس الثالث» كان دائمًا على أهبة الاستعداد لمنازلة عدوه في آية لحظة كانت، ويرجع الفضل في ذلك لاستعداد أسطوله بكل المؤن والذخائر لنقل جيشه وسيره في محاذاته أينما حلَّ؛ ولذلك لما دعا داعي الحرب سار «تحتمس» في الحال بجيشه إلى سهول بلاد نهرين في السنة الخامسة والثلاثين على رأس حملته العاشرة المظفرة، فقابل العدو في مكانٍ يُدعَى «إرينا»، ويحتمل أنه في أسفل بلاد نهر العاصي، وانتصر عليهم جلالته وسقط الأعداء الواحد فوق الآخَر أمام جلالته، وبذلك انقصم عرى اتحاد بلاد نهرين وشتَّت شملهم جملة، واستولى على كل ما كان لهم من عدة وعتاد، حتى أصبحوا عاجزين عن أي مقاومة أخرى، بل ظلوا خاضعين تمام الخضوع لهذا الفرعون الجبَّار مدةً طويلةً.
نص المتن المصري
ومما يلحظ في أسلاب هذه الحملة والجزية التي يدفعها الأهلون أن الزيت والخمر وحصاد البلاد أخذ يتدفَّق على مصر بكثرة، كما أن الذهب كان يأتي إلى مصر في هيئة حلقات، ولا بد أنه كان يُستعمَل في الصناعة، كما نلحظ أن الزرد والدروع والأقواس كانت تأتي إلى مصر جزية أو أسلاب حرب، وأهم من ذلك كله أن «تحتمس الثالث» لم ينسَ قطُّ في أي حملة من حملاته التي ذكرناها أن يجعل المواني دائمًا على استعدادٍ تامٍّ، وذلك بفرض ضريبة خاصة لتموينها وإعدادها؛ إذ كانت في الواقع قوام المحافظة على جيشه أثناء إيغاله في الجهات النائية داخل آسيا، وكذلك نلحظ أن البلاد التي كانت ترسل ما فُرِض عليها من جزية كان لا ينقص عددها، بل ظلَّ آخِذًا في الازدياد.
(٥-٢٤) الحملتان الحادية عشرة والثانية عشرة
- جزية بلاد كوش الخاسئة: «سبعون دبنًا من الذهب وقدات وس + ١٠ عبيد وإماء سود، س + ٢ من الثيران وعجول وس بقرات مجموعها … هذا عدا السفن المحمَّلة بالأبنوس والعاج، وكل الأشياء الطريفة من هذه الأرض، يضاف إلى ذلك حصاد هذه الأرض من البر.»
- جزية واوات: «… دبنًا من الذهب، وأربعة وثلاثون من العبيد والإماء، وأربعة وتسعون من الثيران الكبيرة والعجول والفحول، هذا عد السفن المحمَّلة بكل طريف وحصاد «واوات» أيضًا.»
(٥-٢٥) الحملة الثالثة عشرة: السنة الثامنة والثلاثون
والظاهر أن تحتمس الثالث سار بجيشه إلى بلدة «يونجس» من أعمال سوريا؛ إذ على ما يظهر قد قامت ثورة بجوارها، وهذه البلدة هي إحدى المدن الثلاث الواقعة جنوبي «لبنان»، والتي أعطى كهنة «آمون» خراجها، وقد أخمدت نار الفتنة بسهولة، واستولى جيش الفرعون على خمسين أسيرًا، وكذلك استولى على أسلاب كثيرة كما سنرى في المتن.
المتن المصري
ومما هو جدير بالذكر في هذه الحملة جزية بلاد جديدة لم تُذكَر من قبلُ، وهي «إرخ» (الالاخ)، وهي إقليم في بلاد آشور؛ غير أن أميرها على ما يظهر كان فقير الحال كما تدل ضآلة الهدية التي قدَّمها إلى الفرعون، وكذلك نشاهد أن الفرعون لم يغفل عن علاقته مع البلاد المجاورة له، فأرسل حملة إلى «بلاد بنت» عادت إلى مصر محمَّلة سفنها بطرائفها المعتادة وهي البخور (عنتي).
على أن أهم شيء يلفت النظر هو ما نشاهده من زيادة الضرائب التي كانت تُجبَى للمواني التي اتخذها قاعدةً حربيةً للمحافظة على أملاكه الآسيوية، فكانت هذه الثغور محطًّا لتموين السفن الداخلة إليها والخارجة منها؛ ولذلك كان ما يُجبَى لها يُؤخَذ من بلاد «لبنان» وبلاد «زاهي» ممَّا تنتجه من حبوب وزيت وكندر وشهد. وكذلك يُلاحَظ أن ما يُجبَى من بلاد النوبة وبلاد «كوش» وبلاد «واوات» من الذهب والماشية أصبح مقداره عظيمًا جدًّا، كما تدل على ذلك الأرقام التي جاءت في القوائم، ويُحتمَل أن هذا الذهب كان يُستخرَج من «وادي علاقي» الشهير بتبره الغزير.
(٥-٢٦) الحملة الرابعة عشرة في السنة التاسعة والثلاثين والغرض منها
يظهر أن أول غرض للفرعون من هذه الحملة كان تأديب البدو الذين يقطنون الشمال الشرقي من الأقاليم الواقعة على الحدود المصرية؛ وذلك لأنهم كانوا دائمًا في حاجة إلى تذكيرهم بوجود يد قوية تكبح جماحهم، وتحدُّ من غربهم حينما يثور ثائرهم، وتطيش أطماعهم، غير أن «تحتمس» بعظمته قد مرَّ على حادث إخضاعهم مر الكرام، فلم يدوِّن لنا كاتب يومياته أيَّ تفصيل، فبعد أن ذكر لنا عرضًا أن جلالته كان في بلاد «رتنو»، وبعد أن ذهب لإخضاع البدو الخاسئين (شاسو)، أخذ يعدِّد لنا ما تدفَّقَ على البلاد المصرية من خراج البلاد التي كانت تدين بطاعته، كما سنوردها هنا.
المتن المصري
وممَّا يلفت النظر في قوائم هذه الجزية التي دُوِّنت في هذا العام، أنه لم يذكر بينها بلاد «نهرين» وبلاد آشور وغيرها من البلاد التي تقع على مقربة من نهر الفرات، ربما تكونان قد ذُكِرتا في المتنين المهشمين.
(٥-٢٧) الحملة الخامسة عشرة: السنة الأربعون
(السنة الأربعون) تأمَّلْ! ذهب جلالته إلى بلاد … في حملته المظفرة.
وأهم ما يسترعي النظر في هذه الجزية مقدارُ الذهب الذي كان ينهال على مصر من هذه الأصقاع، وبخاصة من بلاد «واوات»، هذا إلى استمرار إرسال العبيد والإماء من بلاد «كوش»، وكذلك العاج والأبنوس، والواقع أنها لا تزال المواد الرئيسة في التجارة بين مصر والسودان، اللهم إلا الرقيق، وقد بطل الاتجار فيه منذ زمن قريب.
(٥-٢٨) الحملة السادسة عشرة والأخيرة عام ٤٢ والغرض منها
تدل كل الأحوال على أن ملك «قادش» كان لا يزال مصرًّا على عناده وتمسُّكه بقوميته واستقلاله، فلم يعترف يومًا بالسيادة المصرية على بلاده؛ ولذلك كان دائمًا يتحين الفرص ليثير الأمراء المجاورين له ويحرِّضهم على العصيان، والقيام يدًا واحدة بثورة للخلاص من عبء النير المصري، وقد أفلح فعلًا في اجتذاب ملك «المتني» وإقليم «تونب» إلى جانبه، فأعلنوا العصيان على مصر، ولما علم «تحتمس» بهذا الحلف، سار بأسطوله إلى شواطئ فينيقيا، ونزل في ميناء «سميرا» وهاجَمَ ميناء «عروقات» فاستولى عليها عنوةً، ومن ثَمَّ زحف مباشَرةً على «تونب» (بعلبك؟) على مقربة من قادش ونهر العاصي، ونذكر هنا أن أميرًا من أمراء هذه البلدة كان قد دافَعَ عن بلدة «وارثت» في خلال الحملة الخامسة التي قام بها هذا الفرعون.
على أن النقوش لم تقدِّم لنا أية تفاصيل عن الاستيلاء على «تونب»، وعلى أية حال فإنه بعد سقوطها بدأ الفرعون حصار قادش، وتفاصيل حصار هذه البلدة قد يكون مجهولًا لنا لولا ما قصَّه علينا «أمنمحاب»، والظاهر أن الفرعون لم يهاجم المدينة إلا بعد فصل جني الحصاد، ولم يجد كبير عناء في الاستيلاء عليها، وذلك أن العدو كما يقصُّ علينا «أمنمحاب» تفاديًا لمحاصرة المدينة اشتبك في موقعة مع الفرعون خارجها، وفي هذه الموقعة لجأ ملك «قادش» إلى حيلة ساذجة ظنًّا منه أنه ربما استطاع بها تشتيت شمل الجيش المصري والتغلُّب عليه؛ ذلك أنه أطلق العنان لفرس أمام جياد عربة الفرعون ظنًّا منه أنها تهيج الجياد وتجعلها غير صالحة للقتال، وبذلك ينشر الذعر والارتباك في صفوف الجيش المصري، ولكن «أمنمحاب» لما رأى ذلك فطن للحيلة التي دبَّرها العدو، وقفز من عربته في الحال والسيف في يده، وانطلق خلف الفرس وشقَّ بطنها وقطع ذيلها وحمله للفرعون.
فلما رأى الأعداء أن حيلتهم قد انفضح أمرها، لاذوا بالفرار إلى داخل المدينة واحتموا وراء جدرانها، وقد أمر الفرعون بعمل نقب في سورها، وهنا نجد أن «أمنمحاب» يُظهِر شجاعته ثانيةً ويفخر بأنه هو الذي اخترق جدران هذه المدينة الحصينة، وقد سلمت بعد أن أُسِر أمراء «نهرين» الذين اشتركوا مع ملك «قادش» في هذه الحروب؛ ولذلك لم يَرَ الفرعون ضرورةً للسير شمالًا، ولا غرابة إذ قررنا هنا أن سقوط «قادش» قد سحق آخِر قوة للهكسوس الذين أحاقوا بالبلاد المصرية أكبر مصيبة، وبذلك اختفت آثارهم جملةً، وكانت لا تزال عالقة بالأذهان في البلاد المصرية؛ وقد برهنت الكشوف الحديثة على أن ما رواه كتَّاب اليونان في هذا الصدد صحيح، «وهو أن «تحتمس الثالث» هو الفرعون الذي قضى على قوة الهكسوس، الذين التجئوا إلى آسيا بعد أن طردهم أسلافه من مصر وقضوا عليهم قضاءً مبرمًا»، كما تحدَّثنا عن ذلك من قبلُ.
المتن المصري
السنة الثانية والأربعون: تأمَّلْ! كان جلالته في بلاد «زاهي» في حملته السادسة عشرة المظفرة لقمع الثورة التي كانت في أراضي «الفنخو». تأمَّلْ! كان جلالته على طريق الساحل لإخضاع بلدة «عرقت»، وكذلك البلاد الواقعة في إقليمها … ثم زحف حتى … (اسم بلد مهشم) فأخضع هذه المدينة وإقليمها.
قائمة الغنائم التي استولى عليها منها
وبعد أن انتهى «تحتمس الثالث» أو كاتبه بعبارة أخرى من تدوين حملاته على جدران معبد الكرنك، ختمها بالعبارة التالية: تأمَّلْ! لقد أمر جلالته بتدوين الانتصارات التي أحرزها منذ عام ٢٣ من حكمه حتى العام الثاني والأربعين منه، وهو نفس العام الذي دُوِّنت فيه هذه النقوش على هذا المحراب لأجل أن يمنح الحياة مخلدًا.
(٥-٢٩) حروب تحتمس الثالث ونتائجها
هذه هي الحروب التي أمر «تحتمس الثالث» بتدوينها على جدران معبد الكرنك، وهي الحروب الخاصة بفتوحه في آسيا وحدها كما يرى القارئ، ولا نعلم أنه توجَّه إلى آسيا ثانيةً بعد هذا العام، هذا ولا نعرف له حروبًا أخرى قام بها إلا حملة واحدة إلى بلاد السودان في آخِر أيام حياته كما سيأتي.
والظاهر أن الحملات التي قام بها «تحتمس الثالث» على بلاد آسيا مرة بعد أخرى والقضاء على كل مقاومة وعصيان، وقد أعطت أمراء «سوريا» وبلاد «نهرين» درسًا عمليًّا في نهاية الأمر بأنه لا طائل من العصيان وبثِّ الثورة على هذا الفرعون الجبار؛ إذ قد علموا أنه مهما كانت سرعتهم في جمع شملهم وتحالفهم على «تحتمس» فإنه كان أسرع منهم، وأن أية مساعدة كانوا ينالونها من أولئك الأقوام الذين حقدوا على مصر، وأضمروا لها العداء لا تُجدِي، فإن تحتمس كان أعظم منهم خطرًا وأشد بأسًا، وأن أبعد هذه الولايات من مقر حكمه كانت كأقربها إليه، ويمكنه أن ينقضَّ عليها في سرعة خاطفة بما اتخذه من استعداد، وما أوتيه من يقظة وانتباه، فقد جعل البحر خادمًا خاضعًا له يركبه وينقضُّ على عدوِّه من خلفه، في حين أنه كان يرقب هجومه من الأمام، وكذلك علم هؤلاء الأقوام أن «تحتمس الثالث» ذلك الجندي السريع الحركة القوي البطش لم يكن وحشًا كاسرًا محبًّا لسفك الدماء في ساحة الوغى، بل كان إنسانًا رحيمًا رقيق الطبع لم يَرُقْ في عينه — حتى في أشد المواقف — ذَبْحُ ألدِّ أعدائه إذا كان في استطاعته الخروج من هذا المأزق بأية وسيلة.
وقد كان من نتائج كلِّ ذلك أن أمضى «تحتمس» المدةَ الباقية من حياته دون أن يرى أيَّ ثورة في الأقاليم الآسيوية التي فتحها، ولم يكن أخلافه من بعده في حاجة إلى إشعال حروب مستمرة في تلك البقاع كالتي خاض غمارها «تحتمس الثالث»، بل كانت حروبهم لا تتعدى حملة أو حملتين، إذا ما دعا الأمر لتذكير أولئك الأقوام بقوة مصر الحربية وعظمتها، وقد بقي هذا الولاء، واستمر هذا الرعب من قوة مصر مدةً طويلةً؛ إذ قد عرف الولاة من حروبهم مع «تحتمس» أن مصر عدوة يُخشَى بأسها، وأن «تحتمس» في الوقت نفسه كان صديقًا يُعتمَد عليه، حتى إن أولئك الأقوام المغلوبين في آسيا قد زعموا أنهم سيجدون هذه الصفات في أخلافه، ممَّا جعلهم يطلبون يدَ المساعدة فيما بعدُ عندما تحرجت الأحوال في بلادهم، وانقضَّتِ الممالكُ المجاورة الفتِيَّة القوية على ولاياتهم، فكانوا يذكرون أيام سيادة «تحتمس» وقوة سلطانه ووفائه، وبعد انقضاء أربعة أجيال على وفاته لم يكن في مقدور أخلافه أن يحموا الأمراء التابعين لهم في بلاد نهرين من عسف الخيتا؛ ولذلك ذكر أولئك التعساء أيام بطل مصر الأكبر «تحتمس الثالث»، وما كان عليه من قوة وسلطان، فكتبوا إلى ملك مصر إذ ذاك قائلين: مَن ذا الذي كان يجسر على نهب «تونب» دون أن يفتك به «منخبريا» (لقب تحتمس الثالث باللغة الآشورية).
ولا نزاع في أن الرجل الذي استطاع أن يترك في نفوس القوم الذين فتح بلادهم منذ أربعة أجيال، مثل هذا الأثر بقوته وبأمانته الساهرة في المحافظة على وعده لهم بحمايتهم؛ لا بد أن يكون أعظم بكثيرٍ من رجل حرب وحسب، كما يصفه أحيانًا بعض مَن لم يدرس حياته درسًا دقيقًا، بل الواقع أن «تحتمس الثالث» كانت فيه كل صفات الرجولة الكاملة.
(٦) منشآت تحتمس الثالث الدينية
لم يغفل «تحتمس الثالث» أيام قيامه بالحروب الطاحنة التي شنَّها على أمراء آسيا عن إقامة المباني الضخمة لآلهته الذين منحوه النصر على أعدائه، بل على العكس كان يعتبر إقامة المباني لهم من أعظم الواجبات وأقدسها، وقد ذكرنا جانبًا منها، وبخاصة ما أقامه في معبد الكرنك للإله آمون والإله «بتاح»، وقد كان أكبر عون له على إقامة المباني الدينية، ما كانت تفيض به البلاد ممَّا كان يتدفَّق عليها من الذهب والفضة والمواد الأولية الأخرى، وبخاصة الأخشاب النادرة التي كانت تُجلَب إليها من آسيا وبلاد «الكوش»، هذا فضلًا عمَّا كان يُجلَب إليها من أوانٍ من صنع تلك الجهات.
(٦-١) مسلات تحتمس الثالث
وقد كانت إقامة المسلات الضخمة في عصر هذه الأسرة أهم ما يلفت النظر، حقًّا إنها لم تكن بدعةً محدثةً، بل كانت قد أُقِيمت في عهد ملوك الأسرة الثانية عشرة وحتى في عهد الدولة القديمة، غير أن نحت المسلات الضخمة كان قد بطل استعماله، وربما كان سبب ذلك ما صارت إليه حالة البلاد من فقرٍ وما انتابها من اضطرابات داخلية، وظلت الحال كذلك حتى جاءت الأسرة الثامنة عشرة فأحيا ملوكها تلك العادة، فقطع «تحتمس الأول» مسلتين ضخمتين أُقِيمتا في «معبد الكرنك»، ثم جاءت بعده الملكة «حتشبسوت» وأقامت أربع مسلات كما فصلنا القول في ذلك آنفًا، غير أن «تحتمس الثالث» قد ضرب الرقم القياسي في هذا المضمار، فأقام ما لا يقل عن سبع مسلات.
العيد الثلاثيني الأول
وقد كان المعتاد أن تقام هذه المسلات احتفالًا بعيد «سد»، وهو العيد الثلاثيني، أيْ في العام الثلاثين من إعلان ولي العهد ملكًا على البلاد، وقد احتفل «تحتمس الثالث» بعيده الثلاثيني ثلاث مرات، ولا بد أن أول هذه الأعياد كان في السنة الثلاثين من تنصيبه ملكًا؛ وذلك لأن إعلانه وارثًا على العرش قد وقع في نفس السنة التي تولَّى فيها عرش البلاد.
مسلة القسطنطينية
رب النصر وغال كل البلاد، والذي جعل حدوده تصل إلى قرون الأرض ومياه نهرين بقوة وظفر على رأس جيشه.
تحتمس الرابع يقيم مسلةَ جدِّه في مكانها
(أ) تاريخ هذه المسلة
وهذه المسلة تُعَدُّ مثالًا فخمًا لما أخرجته يد المفتنين والمهندسين المصريين المَهَرَة، ويبلغ وزنها حوالي ٤٥٥ طنًّا، ولها تاريخ مُخجِل؛ ففي عام ٣٣٠ بعد الميلاد نقلها «قسطنطين» الأكبر عاهل الدولة الرومانية إلى الإسكندرية؛ رغبةً منه في إرسالها إلى بيزنطة لتجميل عاصمة ملكه الجديدة، ولكن بعد ٢٧ عامًا من هذا التاريخ، نقلها ابنه «قسطنطنيوس» إلى «روما»، وأقامها في ميدان «ماكسيماس»، وفي عام ١٥٨٧ بعد الميلاد كشف عنها ملقاةً ومكسورةً ثلاث قطع، فأصلحت ونصبت في المكان الذي هي فيه الآن، وهو ميدان «اللاتيران» عام ١٥٨٨ على يد «دومنيكو فونتانا»، بأمرٍ من البابا «سكتس الخامس» الذي كان يعتقد في قرارة نفسه أن أمره برفع الصليب على قمتها مشوهًا إياها برهانٌ على انتصار المسيحية على الوثنية، ومن المضحك أن نفس هذا التشويه قد نال تسع المسلات الأخرى المنتشرة في أنحاء روما، ويبلغ ارتفاع كل واحد منها حوالي تسع وعشرين قدمًا. وربما لا نكون مبالغين في مطلبنا إذا انتظرنا من أولي الأمر في «روما» — إذا كانوا يريدون المحافظة على تلك الآثار الرفيعة التي تدلُّ على عظمة القومية المصرية، والتي اختلست من أرضهم — أن يعيدوها إلى سيرتها الأولى التي كانت عليها بقدر المستطاع، ولعمر الحق إن تعاليم المسيح السامية لا تحتاج إلى مثل هذه الرفعة الوضيعة؛ لأن البعوضة قد تتسنم أعلى قمم الجبال وأشهقها وهي مع ذلك بعوضة.
تحتمس الثالث يقيم مسلتين في معبد عين شمس وتنقلان إلى الإسكندرية
وقد أقام هذا الفرعون احتفالًا بنفس العيد الثالث الثلاثيني الذي أقام من أجله المسلة السابقة الذكر؛ مسلتين أخريين بمعبد الشمس «بهليوبوليس»، ويربي طول الواحدة منهما على سبعين قدمًا، وقد نقلهما من مكانهما الأصلي مهندس إغريقي يُدعَى «بنتيوس» إلى الإسكندرية حوالي العام الثاني عشر ق.م، وفي خلال القرن الرابع عشر من الميلاد سقطت إحداهما من فوق قاعدتها، وقد نجَتْ بأعجوبة من التهشيم الذي أصاب زميلتها في «اللاتران».
- إحداهما نُقِلت إلى «لندن»: وقد أهداها محمد علي باشا إلى الأمة الإنجليزية عام ١٨٣١، بعد أن كانت قد أُهدِيت لها مرات عدة من قبلُ، وقد بقيت بعد إهدائها ملقاةً على الأرض حتى عام ١٨٧٧، وهو العام الذي نُقِلت فيه إلى إنجلترا على يد «جون ويمان دكسون»، بالنيابة عن السير «أرزمس ولسن»، وقد أُقِيمت على شاطئ نهر التاميز. ومن العجب العجاب، أو من الجهل المخجل الفاضح أن يسمِّيها القوم هناك «مسلة كليوباترا».
- الأخرى تُنقَل إلى نيويورك: وقد أرادت الولايات المتحدة أن تجاري إنجلترا في ذلك، فنقلت المسلة الثانية إلى «نيويورك»، وسمَّاها الأمريكيون «مسلة كليوباترا» أيضًا، وهي الآن قائمة في «سنترال بارك».
«تحتمس الثالث» قد أقامها تذكارًا لوالده «حوراختي»، الذي أقام له مسلتين في عيد «سد» الثالث «العيد الثلاثيني»؛ لأنه أحَبَّ والده كثيرًا، ليت ابن الشمس تحتمس يعطي الحياة على يديك.
(٦-٢) تعليق المؤرخين المحدثين على نقل المسلات من أماكنها الأصلية
وهكذا يرى القارئ أن بعض ما أقامه أعظم فرعون في مصر من الآثار قد نصبت كالأعلام في العالم المتمدين تطلُّ على ربوع «القسطنطينية» «فروما» «فلندن»، ثم «نيويورك»، في حين أن بلاد الآلهة التي أُهدِيت إليهم هذه الأعلام الشامخة لا تملك مسلة واحدة من بينها. حقًّا إن مصر موطن المسلات الأصلية لا تملك إلى خمسة أمثلة من أعظم منشآتها المعمارية، من بينها مسلة حقيرة قُطِعت من الحجر الخشن أقامها «سيتي الثاني»، في حين أن أعظم هذه المسلات شهرةً وأكثرها جمالًا منصوبةٌ الآن في ممالك متحضرة لا يعتني أهلها بها عنايةً تليق بها، لدرجة أنهم لا يسمونها بأسماء الملوك العظام الذين أقاموها، والواقع أنه ممَّا يسجل بالعار على المدنية الحديثة أن نشاهد هذه الآثار الفخمة التي تتحدث عن مجدٍ أثيل غابر، قد أخذت تفقد من روائها وجمالها، إلى درجة أن نقوشها قد أخذت كذلك تتلاشى ويضيع رونقها.
ويقول «أنجلباخ» مهندس البناء الإنجليزي: ماذا عساه يكون شعور «تحتمس الثالث» عندما أمر بقطع هذه المسلات للإله «رع»، لو أدرك أن واحدة منها ستُنقَل إلى أرضٍ لم يكن يحلم بوجودها في العالم، وأن الثانية ستقع في يد قومٍ كانوا وقتئذٍ شعبًا يهيم على وجهه في الأحراج؟ ومع ذلك فإن هذه المسلات بعد أن تقلبت عليها غير الزمن، وخيف عليها الغرق وأخطار القنابل، لا تزال باقيةً منتصبةً في مكانها بعد أن مضى على صنعها حقبةٌ من الزمن تربي على ٣٤٠٠ عام.
وكذلك يعلِّق على ذلك المؤرخ «ويجل» بقوله الصائب: وإذا كان غرور جيلٍ مضى من الإنجليز، قد استحلَّ لنفسه إقامةَ مسلة في بلادهم قُطِعت من أفخر حجر الجرانيت الأحمر، لا يمكن أن تحفظ قيمتها وما تنطوي عليه من معانٍ إلا إذا كانت قد بقيت في التربة التي نشأت فيها، كما أن جمالها كان في حفظ لونها الرشيق الأصلي، فإن أقل ما كان يمكن أن يقوم به أهالي «لندن» في أيامنا هذه من الاحترام والتقدير لهذا الجندي القديم، الذي لا بد أنه يحتدم غيظًا وحنقًا (يعني تحتمس الثالث)، هو أن يحافظوا على نظافة أثره الذي أقامه لعيده الثلاثيني المقدَّس، فيميطوا عنه ما لحق به من أذًى، وألَّا يسموه بالاسم المفجع الخاطئ «مسلة كليوباترا».
(٧) تحتمس الثالث والسودان
(٧-١) حملته إلى بلاد السودان في السنة الخمسين
يدلُّ ما وصل إلينا من النقوش على أن آخِر حملة حربية سار على رأسها «تحتمس الثالث» كانت إلى بلاد السودان في السنة الخمسين من حكمه؛ أيْ قبل الاحتفال بعيده الثلاثيني الثالث.
والظاهر أنه مكث في هذه الحملة مدة أكثر من المعتاد في تلك الجهات، ممَّا يدلُّ على أن الأمر على ما يظهر لم يكن هيِّنًا، فقد بقي «تحتمس الثالث» قرابة ثمانية أشهر في السودان، وما لدينا من الوثائق يدلُّ على اهتمام هذا الفرعون منذ بداية حكمه بشئونه وعلاقته به، وبخاصة من الوجهة الدينية، وقد أشرنا فيما سبق إلى أعماله الدينية في هذه الجهات، ولكن لما كانت علاقة مصر بالسودان لها خطرها في كل الأزمان، فإنَّا سنتناول هنا أعمالَه منذ حكمه الأول المنفرد حتى وفاته.
(٧-٢) إصلاح معبد سمنة
وقد كان أول عمل صالح قام به هذا الفرعون بعد توليته العرش على إثر وفاة والده، هو إصلاح محراب الفرعون «سنوسرت الثالث»، الذي كان قائمًا في معبد «سمنة» الواقع عند الشلال الثاني، والواقع أننا لم نعثر على شيء من بقايا المعبد الذي أقامه «سنوسرت الثالث» هناك قطُّ، اللهم إلا إذا كانت لوحة «سمنة» الثامنة جزءًا منه، وقد ثبتها «تحتمس الثالث» في جدار المعبد الجديد الذي أقامه، هذا إلى أنه دوَّن على الجدران الجديدة القوائمَ التي كان قد نقشها «سنوسرت الثالث» بأسماء الأعياد والقرابين.
تأليه سنوسرت الثالث
السنة الثانية — الشهر الثاني — الفصل الثالث — اليوم السابع في عهد جلالة الملك «تحتمس الثالث» معطي الحياة.
الإهداء للإله «ددون» و«سنوسرت الثالث»
وكذلك يُشاهَد في داخل المعبد على الجدار الغربي قارب مقدس يحتوي على محراب فيه تمثال «سنوسرت الثالث»، ويرى خلفه «سنوسرت الثالث» والإله «ددون»، والإله يضم الملك، وهنا يخاطب الإله «ديدون» الملك «تحتمس الثالث» قائلًا: «يا بني المحبوب «منخبر رع»، ما أجمل هذا الأثر الحسن الذي أقمته لابني المحبوب ملك الوجه القبلي والوجه البحري «خع كاورع» (سنوسرت الثالث)! لقد خلدت اسمه إلى الأبد لتبقى أنت مخلدًا.»
لقد جددت ولادته مرةً ثانية في الذكريات، ولقد قدمت له موائد قربان كثيرة من الفضة والذهب والبرنز والنحاس والأبنوس، ومكافأتك على ذلك هي الحياة الراضية مثل «رع» مخلدًا.
قائمة بأسماء البلاد الجنوبية: بلاد النوبيين الذين هزمهم جلالته في مذبحة عظيمة لا يُحصَى عدد قتلاها، وقد ساق كل رعايا النوبيين أسرى أحياء إلى طيبة ليسر قلب والده «آمون رع» رب طيبة. تأمَّلْ! فإن كل الأراضي أصبحت رعايا جلالته كما أمر والده «آمون».
ومن ذلك نعلم أن «تحتمس الثالث» لا بد قد سار في حملته هذه لتأديب العصاة في السودان؛ إذ يقول إنه عاد بعد ذبح أعدائه، يضاف إلى ذلك الغنائم التي تركها على بوابات معبد الكرنك، غير أنه يحتمل أن تكون قوائم تقليدية كان الفراعنة يتوارثونها كما جرت العادة، ولكنَّا نشك كثيرًا في أن يأتي «تحتمس الثالث» مثل هذا العمل، وقد كان «نحي» حاكم السودان في عهده هو الذي قام له بإصلاحات عدة أُجرِيت في معبد «سمنة»، كما يشير إلى ذلك نقش مهشم.
(٨) الآثار التي خلفها تحتمس الثالث
(٨-١) حدود إمبراطورية تحتمس الثالث
دان العالم المتمدين لسطوة «تحتمس الثالث»، وعز سلطانه حتى صار قبل وفاته يسيطر على إمبراطورية تمتد من أعالي نهر دجلة والفرات شمالًا حتى مدينة نباتا عند الشلال الرابع جنوبًا، ولم يخف على فطنة «تحتمس» أن يحدِّد لأخلافه من بعده حدودَ إمبراطوريته، كما فعل «سنوسرت الثالث» عندما وضع لوحة الحدود الشهيرة عند «سمنة»؛ إذ إنه لما عبر نهر الفرات أقام لوحة تذكارية في الجهة الغربية من هذا النهر لتكون بمثابة آخِر نقطة وصلت إليها فتوحه في الشمال، غير أنه لم يكشف عنها حتى الآن مع الأسف، ولا نعلم ماذا دون عليها على وجه التحقيق، أما في الجنوب فقد حدَّد فتوحه كذلك بلوحة من الجرانيت أقامها عند جبل «بركال» على مقربة من مدينة «نباتا»، وهذه النقطة هي على ما يظهر آخِر ما وصل إليه الفتح المصري في كل عصور التاريخ القديم، وقد حدَّثنا فيها هذا الفرعون عن قوة سلطانه، وما أحرزه من انتصارات على الآسيويين، دون أن يشير إشارة صريحة إلى انتصاراته على بلاد «كوش»، ولا عجب إذن إذا كان «تحتمس الثالث» قد تغاضى قصدًا عن ذكر انتصاراته على السودانيين؛ تفاديًا من جرح شعورهم أو التنديد بهم في عقر دارهم، فهل يا ترى قد تغافَلَ «تحتمس الثالث» في اللوحة التي أقامها عند نهر الفرات عن ذكر انتصاراته على الآسيويين (؟)، وإذا كانت الأشياء تقاس بأشباهها فقد يكون ذلك ليس ببعيد على رجل ضرب الرقم القياسي على ما يظهر في ميدان الحرب والسياسة معًا، وبين هذين الأثرين؛ أي لوحة الفرات ولوحة جبل «بركال» تقع إمبراطورية «تحتمس الثالث» التي دانت له بحد السيف ومضاء العزيمة وحسن السياسة، وسنرى فيما يلي أن آثاره قد عمت كل جهات هذه الإمبراطورية، بدرجةٍ لم يسبق لها مثيل في عهد أي فرعون قبله؛ وسنتحدَّث عن هذه الآثار بشيء من اختصارٍ بقدر ما وصلت إليه معلوماتنا، مبتدئين من بلاد «نهرين» شمالًا حتى «نباتا» جنوبًا.
-
آثاره في آسيا: أقام تحتمس لوحةً تذكاريةً عند أقصى حدود فتوحه الشمالية على
نهر الفرات، بالقرب من مدينة «ني»٥٦ التي تقع على مسافة أربعين ميلًا في الشمال الشرقي
من «حماة»، غير أننا لا نعرف ما جاء فيها حتى الآن. أما آثاره
الأخرى في آسيا، فنعرف منها اللوحات التي تركها لنا في شبه
جزيرة سينا؛٥٧ إذ قد عُثِر له على لوحة في «سرابة الخادم»
مؤرَّخة بالسنة الخامسة والعشرين، وقد رُسِم في أعلاها منظر
يُشاهَد فيه الفرعون مقدمًا قربانًا للإلهة «حتحور»، ويلحظ أن
أحد كبار موظفيه المسمَّى «تاي» يقبض بيده على مروحة خلف
الفرعون، ويحمل الألقاب التالية: «الأمير الوراثي، والحاكم،
وحامل الخاتم، والسمير الوحيد، والمشرف على المالية — تاي»، ثم
يأتي بعد ذلك مديح للفرعون، ونص الحملة الغرض منه هو استخراج
المعادن من هذه الجهات.٥٨وكذلك وجد له لوحة في هذه الجهة مؤرَّخة بالسنة السابعة والعشرين، يرى عليها الملك ثانيةً يقدِّم قربانًا للإلهة «حتحور» ربة هذه الجهة،٥٩ وكذلك وُجِد جزء من بابٍ باسم هذا الفرعون بجوار هذه اللوحة، وفي «وادي مغارة» عُثِر له على نقوشٍ من عهده أيضًا مؤرَّخة بالسنة السادسة عشرة، وفي سرابة الخادم،٦٠ وكذلك وُجِدت قطع من أوني الفخار المطلي عليها اسم «تحتمس الثالث» أيضًا.٦١ننتقل بعد ذلك إلى التحدُّث عن آثار «تحتمس» في الدلتا، ففي بلدة كوم الحصن الحالية التي تقوم على أنقاض بلدة «آمو» القديمة، التي تقع في المقاطعة الثالثة من مقاطعات الوجه البحري، يظهر أنه قد أقام فيها معبدًا، وقد بقيت بعض آثاره على الرغم من تهدُّم المعبد تهدُّمًا شاملًا، فقد عُثِر له على آنية من أثاث المعبد اشتراها «بتري» من القاهرة، وقد نقش عليها: «محبوب»، «حتحور»، «سيدة آمو»، وهذا الإناء موحد مع أسلوب الأواني التي عُثِر عليها في أساس معبد «قفط» الذي بناه هذا الفرعون (Petrie Collection).
وفي «عين شمس» قام هذا الفرعون بأعمال عظيمة؛ فقد عثر «ليبسيوس» على لوحةٍ مستدير أعلاها، رُسِم عليها منظر يُشاهَد فيه «تحتمس الثالث» يقدِّم قربانًا للإله «حوراختي»، وأسفل هذا المنظر دُوِّن النقش التالي:
السنة السابعة والأربعون من عهد جلالة ملك الوجه القبلي والوجه البحري «منخبر رع» ابن الشمس «تحتمس الثالث» عاش مخلدًا! أمر جلالته بإحاطة هذا المعبد بجدار سميك من الحجر لأجل والده «حوراختي» الخلد، وذلك عندما نظف عين شمس (بيت رع) …٦٢ويوجد في متحف القاهرة عمود باب نُقِش عليه إهداء من «تحتمس الثالث»، وهاك نصه: «لقد صنعه تذكارًا لوالده «آمون» رب عين شمس، فأقام له «بوابة» من حجر «بينوت» تُسمَّى «طاهرة قربان منخبر رع» محبوب آلهة عين شمس.»٦٣ وفي «منف» أقام معبدًا للإله «بتاح» على حسب ما جاء في نقش في «سقارة»،٦٤ وكذلك وُجِد له في «منف» لوحة من البرنز (راجع: A. S. III. p. 141)، وفي بلدة «غراب» الواقعة عند مدخل الفيوم أقام هذا الفرعون معبدًا ومدينة حوله عند نهاية سد الفيوم.٦٥وعُثِر على «باب عتب» عليه اسمه موجود الآن في مدينة «أدليد»،٦٦ وكذلك عُثِر على أحجار أخرى،٦٧ نُقِش عليها اسم «تحتمس الثالث»، والمحو الذي على هذه الآثار يدلُّ على أن المعبد قد ظلَّ قائمًا حتى عهد «أخناتون»، أي إن اسم آمون كان يُمحَى كلما وُجِد على حجر من هذه الأحجار، والظاهر أن المعبد قد خُرب وأُزِيل من مكانه، وبُنِيت على أنقاضه المنازل، ولا شك في أن هذه المدينة قد خربت في عهد الغزو الأجنبي الذي حدث في عهد «مرنبتاح» ولم تَعُدْ تسكن بعدُ.وفي «البرشة» نُقِشت على الصخر لوحة مؤرَّخة بالسنة الثالثة والثلاثين من حكم «تحتمس الثالث»، وقد دُوِّن عليها دعاء بملايين أعياد ثلاثينية.٦٨وفي «أخميم»٦٩ نُقِش منظر على حجرة قطعت في الصخر، يُشاهَد فيه «تحتمس الثالث» يتعبَّد للإله «آمون مين»، وكذلك وُجِد له نقش في موقع المعبد القائم هناك.٧٠وفي العرابة المدفونة عُثِر على تمثال ضخم جدًّا للإله «أوزير»، نُقِش على ظهره اسم هذا الفرعون.٧١كما وُجِد له آثار معبد هناك أيضًا (راجع: Petrie, “Abydos” II. Pl. LVII)، وبوابة عليها اسمه وقربان ومواد أساس (راجع: Ibid. I, Pls. LXI, LXIV, Ibid. II. Pl. XXXII. & ibid II, Pl. XXXIV; ibid. I. Pl. LXI).راجع: (“Ancient Egypt”, 1915, p. 24; “Rec. Trav.” XXXIV, p. 52)، وفي سمهود وُجِدت له جعارين (راجع: A. S. XII. p. 82).وفي «دندرة» وُجِدت له نقوش في إحدى الحجرات السرية، تنصُّ على إصلاح الآثار على يد الفرعون رب الأرضين «منخبر رع»، وسيد التيجان «تحتمس الثالث»، على حسب ما وُجِد في الكتابات القديمة التي ترجع إلى عهد «خوفو»،٧٢ ولا تزال توجد قطعة حجر من آثار «تحتمس الثالث» في معبد «دندرة»٧٣ الحديث. وكذلك أهدى هذا الفرعون صاحات من الفيروزج طولها ١٦ أصبعًا، تُشاهَد صورتها في مباني المعبد الذي يرجع إلى عهد البطالمة.٧٤وفي وادي الحمامات وُجِد نقش عليه اسم الفرعون؛ ممَّا يدل على أنه كان يرسل الحملات لقطع الأحجار من هناك.٧٥ -
معبد قفط: أما في «قفط»٧٦ فإنه بنى معبدها كله من جديد، وهذا المعبد كما هو
معروف خاص بعبادة الإله «مين» إله هذه البلدة وإله الصحراء،
وعلى الرغم من أن هذا المعبد أُعِيد بناؤه بعد «تحتمس» مرات
عدة، فإن آثار هذا الفرعون قد بقيت إلى الآن؛ إذ عُثِر في
أساسه على نماذج آلات ومجاديف وأوانٍ من المرمر، وكمية عظيمة
من الفخار منقوش على أهمها اسم «تحتمس الثالث» محبوب «مين»
صاحب «قفط»، وقد قُطعت أحجار هذا المعبد من الحجر الرملي
المستخرج من محاجر «سلسلة»، بدلًا من الحجر الجيري الأبيض الذي
كان يُستعمَل في بناء المعابد قبل هذا العهد، أما أعمدته فقد
نُحِتت من الجرانيت الأحمر، ومثل عليها الملك يقدِّم القربان
للإله «مين»، ومن المحتمل أنها استُعمِلت ثانيةً في معابد
محدثة؛ إذ قد بقيت في متناول القوم حتى العهد المسيحي، فنقلت
خرائب المعبد واستُعمِلت لإقامة الكنيسة القبطية الموجودة في
هذه الجهة، ولم يَبْقَ منها إلا هذه الأعمدة.
وفي «طوخ» وُجِد له مبانٍ،٧٧ وفي خرائب بلدة «بنت» (بلاص) المقابلة لبلدة «قفط»، على الضفة الثانية للنيل، وُجِدت قوالب من اللبن باسم هذا الفرعون وباسم ابنه «أمنحتب الثاني»؛ ممَّا يدل على أنهما هما اللذان أقاماها؛ هذا إلى أنه وُجِد حديثًا بعض قطع من الأساس، وكذلك قائمة باب من الحجر الرملي نُقِش عليها اسم «تحتمس الثالث».٧٨
أما في الكرنك فقد أقام «تحتمس الثالث» مباني فخمة أشرنا إلى معظمها فيما سلف.
-
معبد مدينة «هابو»: وفي مدينة «هابو» أتمَّ هذا الفرعون المعبدَ الذي كان قد
بُدِئ في بنائه منذ عهد جده، وهو الذي بنى معظمه والده وزخرفه
هو و«حتشبسوت»، وهذا المعبد لم يكن في ذلك الوقت إلا مبنًى
صغيرًا، وفي نهاية الأسرة «الثامنة عشرة» أصلح من شأنه الفرعون
«حور محب»، ثم «سيتي الأول» و«رعمسيس الثاني عشر»، ثم أخيرًا
الفرعون «پينوزم» (الأسرة الواحدة والعشرون)، وذلك على حسب ما
ذكره كلٌّ منهم على الجدار الأمامي للمعبد، وبعد ذلك جاء
«طهراقا» (في الأسرة الخامسة والعشرين)، وأضاف للمعبد ردهةً
أماميةً و«بوابة» مخترقًا بذلك حدود معبد «رعمسيس الثالث». وفي
عهد الأسرة الثلاثين أُضِيفت ردهة أخرى أمام السابقة، ثم جاء
«بطليموس العاشر» وأضاف بوابة أمام هذه الردهة الأخيرة،
وأخيرًا أضاف الإمبراطور «أنطونيوس» ردهةً أمام كل ذلك.٧٩أما في معبد الدير البحري فإن «تحتمس الثالث» أتمَّ بناءه بعد موت «حتشبسوت»؛ إذ يُلاحَظ في هذا المعبد باب بأكلمه قد نُقِش باسمه؛٨٠ ممَّا يدل على أن المعبد لم يكن قد تمَّ في عهدها.وفي معبد «الأسرة الحادية عشرة» الملاصق لمعبد «حتشبسوت» أقام «تحتمس الثالث» مقصورةً صغيرةً للبقرة المقدسة، التي كانت تُعَدُّ صورةً من صور الإلهة «حتحور» الموكلة بحماية هذه الأماكن الصحراوية، وقد وضع في هذه المقصورة تمثال بقرة، وقد مثل الفرعون نفسه يرضع اللبن المقدَّس من ثديها، والمقصورة والتمثال موجودان الآن بالمتحف المصري.٨١وفي بلدة «طود» الواقعة جنوبي «طيبة» عُثِر على قطع من الحجر منحوتة، نُقِش عليها اسم هذا الفرعون،٨٢ جاء فيها: «يعيش حور … ملك الوجه القبلي والبحري «منخبر رع» المختار من «رع» عمله بمثابة أثره لوالدته «نخبت» ربة «عفخ»، وقد أقامه لها معبدًا.»
- معبد تحتمس الثالث في أرمنت: أقام تحتمس الثالث في بلدة أرمنت معبدًا ضخمًا للإله «منتو»، يُعَدُّ من أكبر الآثار التي خلفها لنا هذا الفرعون بين مبانيه كلها، وقد عُثِر على بعض بقايا هذا المعبد من النصف الأول من القرن التاسع عشر، وبخاصة ما وجده «لبسبسويس» من قطعٍ منقوشة نُحِت عليها اسم هذا الفرعون (راجع: L. D. IV. Text. p. 1)، وكذلك نقل «الكونت سنت فريول» أثناء سياحته في شتاء ١٨٤١–١٨٤٣ ميلادية عدةَ قِطَع من معبد «أرمنت»، معظمها يرجع إلى عهد هذا الفرعون، وهي الآن محفوظة بمتحف «جرينوبل».٨٣
-
الكشف عن المعبد: وقد كُشِف حديثًا٨٤ عن هذا المعبد كشفًا علميًّا في السنين الأخيرة،
وتدل قِطَع الأساس والنقوش العدة ورسم بوابته على جدران مقبرة
الكاهن «خنسو» في جبانة «شيخ عبد القرنة» رقم ٣١، وما عليها من
نقوش، على أن هذا المعبد كان من معابد الدرجة الأولى التي
أقامها هذا الفرعون، ولا غرابة في ذلك؛ فإن الإله «منتو» كان
يُعَدُّ إله الحرب الأعظم بين الآلهة المصرية في كل عصور
التاريخ، وثالوث «أرمنت» كان يتألف من الإله «منتو» والإلهة
«إيونيت» ثم الإلهة «تننيت»، أيْ من ذكر وأنثيين، على غرار
«ثالوث أسوان».
ولم يَبْقَ لنا قائمًا من جدران هذا المعبد إلا بعض جدران البوابة السفلية، وقد عُثِر على قِطَع عدة من الأحجار عليها اسم «تحتمس الثالث» أُعِيد بناؤها في المعبد البطليموسي. وعلى الرغم ممَّا أصاب المعبد من التخريب والتدمير، فإنه قد بقي لنا على جزء البوابة المحفوظة منظر من الأهمية بمكان عظيم، وهذا المنظر يمثِّل موكبًا على الواجهة الداخلية من الجناح الشرقي للبوابة في الجهة الشمالية … وهو يفسر لنا بالصور والنقوش نتيجة حملة مظفرة قام بها هذا الفرعون في بلاد النوبة، ويُحتمَل أنها نزهة للصيد والقنص قد عاد الفرعون منها بغنائم. وممَّا يلفت النظر أن الرسوم قد نُقِشت برشاقة ودقة بالغة، كما أنها رُسِمت بكل عناية ممَّا جعلها تحاكي الطبيعة، وقد اختلف علماء الآثار في العهد الذي تُنسَب إليه، غير أن كل شواهد الأحوال تدلُّ على أنها من عصر «تحتمس الثالث».
-
الموكب: وهذا الموكب يسترعي النظر في تفاصيله؛ ففي بدايته نشاهد
حيوانًا ضخمًا تدلُّ كلُّ ملامحه على أنه بلا شك خرتيت (وحيد
القرن)، غير أن تمثيل سيقانه لا يطابق الواقع. وتدل النقوش
التفسيرية الخاصة بهذا الحيوان على أن صيده كان حدثًا جللًا في
تاريخ الصيد والقنص عند المصريين القدامى، ففضلًا عن رسم هذا
الحيوان على جدران المعبد وكيفية صيده، نلاحظ أن «تحتمس»
الثالث قد أمر بنقش مقاييس أجزاء جسمه، عرفنا منها أن طول قرنه
كان نحو ذراع وشبر، وارتفاع ساقه الأمامية خمسة أذرع ونصف،
ومحيطه ثلاثة أذرع وخمسة أشبار، ومحيط قدمه الأمامي ذراعان
وشبر، ومحيط بطنه ثلاثة عشر ذراعًا وشبران، وطول ساقه الخلفية
— أي: المحيط بالقرب من العجز — خمسة أذرع وثلاثة أشبار،
ويُلاحَظ أن بعض هذه المقاييس لا ينطبق على الواقع الآن بل فيه
مبالغة، ولم يَبْقَ لنا من صور الرجال الذين كانوا يقبضون على
هذا الحيوان إلا بعض أجزاء، غير أن رسمهم يدل على أنهم كانوا
أقوياء. وبعد ذلك نشاهد في الموكب حاملي الجزية، وتشمل ريش
نعام وبيض نعام وثيرانًا، وركائز من المعادن، وفطائر وقردة،
هذا ونشاهد أسماء بعض البلاد التي استولى عليها الفرعون، وغير
ذلك من المناظر المألوفة.
وقد كُتِب في نهاية الموكب النقش التالي: «الغنيمة التي استولى عليها الفرعون في صحراء أراضي بلاد «الكوش» الخاسئين، في خلال حملته الأولى المظفرة، عندما كان وحيدًا معتمدًا على ساعده القوي، ولم يكن معه شخص آخَر.» (وإذا٨٥ كان الإنسان يقصُّ كلَّ حادث قام به هذا الفرعون على حدته، فإن ذلك يفوق المليون وعشرات الألوف، بل ويفوق رمال شاطئ البحر عددًا.)
والواقع أن هذا النقش لا يدل دلالة واضحة على شيء معين، اللهم إلا أن الفرعون قام بحملة مظفرة في بلاد النوبة لم يُحدَّد لنا تاريخها.
وقد عُثِر على بقايا تمثالي «بو الهول» بالقرب من بوابة المعبد السالفة الذكر، نُقِش على صدر كلٍّ منهما اسم الفرعون «تحتمس الثالث»، ومن المحتمل جدًّا أنهما ضمن تماثيل «بو الهول» التي كانت قد نصبت على كلا جانبي الطريق المؤدِّي إلى بوابة المعبد، كما نشاهد ذلك في معبد الدير البحري الذي أقامته «حتشبسوت».
على أن أهم أثر عُثِر عليه في هذا المعبد هو اللوحة العظيمة المنحوتة في الجرانيت الأحمر باسم هذا الفرعون، والظاهر أنها قد سقطت من مكانها الأصلي، وهو واجهة (البوابة)، وممَّا يُؤسَف له أنها قد وُجِدت مهشمة، وقد يكون ذلك عمدًا، وكان ارتفاعها الأصلي حوالي ٢٢٢ سنتيمترًا، وعرضها حوالي ١٢٤ سنتيمترًا، أما ارتفاع النقوش الباقية فهو نحو ٨٠ سنتيمترًا.
فقد فوق سهامه إلى لوحة من النحاس بعد أن تكسرت أهدافه الخشبية، وصارت كأنها يراعات هشة، وقد وضع جلالته نموذجًا منها في معبد «آمون»، وهو هدف سمكه ثلاثة أصابع، رشق فيه سهمان من سهامه، فقد جعل السهم ينفذ في الهدف مقدار ثلاثة أشبار من الجانب الآخر. وإني أتكلم على حسب ما قام به فعلًا دون مين أو كذب، وقد حدث ذلك أمام كل الجيش، وليس في ذلك كلمة مبالغ فيها.
وإذا اتفق أنه خرج للصيد في أية صحراء، فإن عدد غنائم مطاردته يكون أعظم من غنائم كل الجيش، فقد أردى بسهامه سبعةَ أسود عندما خرج للصيد في لمح البصر، وكذلك استولى على قطيع من البهم الوحشية في ساعة، حتى إنه عندما حان وقت تناول الإفطار كانت ذيولها قد جهزت ليلبسها وتجر خلفه، وقد قضى على مائة وعشرين فيلًا في جبال إقليم بلدة «ني» عندما كان عائدًا من بلاد «نهرين»، وقد عبر نهر الفرات وضرب البلاد التي على شاطئيه؛ إذ بدَّدتها النيران إلى الأبد، وأقام لوحة انتصاره على شاطئه الشرقي، وكذلك أردى خرتيتًا قتيلًا عندما كان يقوم بنزهة طراد في إقليم صحراء بلاد النوبة، عندما ذهب إلى إقليم «ميو» باحثًا عمَّن ثار عليه في هذه الأرض، وأقام لوحته هناك كما فعل على شاطئ النهر (أي: نهر الفرات)، ولم يتوانَ جلالته في الذهاب نحو بلاد «زاهي» (سوريا) ليقضي على الثائرين الذين كانوا هناك، وليوزع العطايا على مَن بقوا على الولاء له، ويشاهد أسماءهم … كل مملكة على حسب وقتها (؟)، وقد كان جلالته يعود على إثر كل حادثة بعد فلاح هجماته بالقوة والظفر، وقد جعل مصر على الحالة التي كانت عليها عندما كان «رع» ملكًا عليها (أي إن العدالة كانت تسودها).
(تاريخ (؟) السنة الثانية والعشرون، الشهر الرابع من الشتاء اليوم (؟))، الخروج من «منف» لقهر أقاليم «رتنو» الخاسئة في أول موقعة مظفرة … فعل … (مجدو) وقد شقَّ جلالته الطريق، واقتحم كلَّ ممرٍ لجيشه (أي: أمام جيشه) من الممرات التي كانت تضيق كلما جدَّ في السير، وكان هو على رأس جيشه كله، في حين أن الممالك كلها كانت مصطفة متحفزة للواقعة عند فم الوادي … وقد دبَّ الخور في رجال العدو، وولوا الأدبار إلى مدينتهم ومعهم رئيسهم الذي كان في … وهم … يرجون … ومتاعهم على ظهورهم، وقد عاد جلالته فَرِحًا، وأصبحت كل هذه البلاد الأجنبية من رعاياه … وقد حضر الآسيويون جميعًا يحملون الجزية … السنة التاسعة والعشرون، الشهر الرابع من فصل الشتاء …
-
اللوحة تلخص أعمال تحتمس الثالث: والظاهر من مضمون هذه اللوحة أن «تحتمس الثالث» بعد أن أتمَّ
حروبه، أراد أن يضع ملخصًا لها في معبد الإله «منتو» إله
الحرب، كما أنه أراد أن يضع أمام الشعب المصري ما قام به من
ضروب الشجاعة في الصيد والقنص ممَّا لم يسبقه إليه أحد، وكذلك
في فن الرماية وإصابة الهدف ممَّا لم يجارِه فيه أحدٌ من قبله،
حتى تولَّى ابنه «أمنحتب» الثاني فضرب الرقم القياسي في ذلك
المضمار كما سيجيء بعدُ، ولكن ممَّا يُؤسَف له جد الأسف أن هذه
اللوحة لم تُؤرَّخ بسنة محدَّدة، ولكن تدل ظواهر الأمور على
أنها دُوِّنت بعد حملته المظفرة التي قام بها إلى بلاد النوبة
في السنة الواحدة والخمسين؛ ويدل على ذلك إشارته إلى لوحة
«بركال» التي أقامها في السنة السابعة والأربعين إذ يقول:
«وأقام لوحته هناك كما فعل على شاطئ النهر؟» والمرجح أنه يشير
هنا إلى «نهر الفرات».
وقد أشار «تحتمس الثالث» في لوحته هذه إلى حسن سياسته في معاملة الولايات التي فتحها في «سوريا»؛ إذ تخبرنا أنه كان يذهب في حملاته إلى هذه البلاد ليقهر العصاة ويوزِّع الهدايا على مَن كان مواليًا له من الأمراء هناك.
وفي «صفون» (إسنا) في نقش من عهد الإمبراطور «كلوديوس»، نجد ذِكْرَ اسم لوحة عظيمة لهذا الفرعون،٩٠ وفي معبد الإله «سبك» بمدينة «الكاب» عُثِر على واجهة معبد نُقِش عليها اسم «تحتمس الثالث»،٩١ يضاف إلى ذلك أنه يوجد في هذه الجهة معبد صغير محاط بطائفة من العمد، مثل معبد «إلفنتين» الذي تهدَّمَ.٩٢ويوجد في معبد إدفو نصٌّ من عهد البطالمة يحدِّثنا أن تحتمس الثالث أقام معبدًا للإلهة «حتحور» في هذه البلدة.٩٣ -
آثاره في كوم أمبو وإلفنتين: وكان يوجد في «كوم أمبو» «بوابة» عظيمة أمام حرم المعبد
الكبير أقامتها الملكة «حتشبسوت»، ولكن «تحتمس الثالث» هو الذي
حفر نقوشها، ويلحظ أن البطالمة كانوا قد أصلحوا عتبة هذه البوابة،٩٤ غير أن هذه المباني قد طغى عليها النيل. ويوجد في
هذا المكان كذلك عتب باب نُقِش عليه اسم «تحتمس الثالث»، وكان
لا يزال موجودًا إلى عهد قريب.٩٥وفي إلفنتين أقام «تحتمس» معبدًا على الجزيرة للإله «خنوم»،٩٦ وكان هذا المعبد لا يزال قائمًا حتى عام ١٨٢٢؛ حيث أمر بهدمه لبناء قصر محمد علي الكبير في هذه الجهة، ولا تزال بعض قِطَع من أحجاره مبنيةً في جدار «المرسى»، غير أننا لا نعلم من أي معبد أتى بها؛ إذ كان يوجد في الجزيرة معبد آخَر، والظاهر أنها من معبدٍ أقامه «تحتمس» وأصلحه البطالمة، وقد عُثِر كذلك على قطعة حجر عليها اسم هذا الفرعون عند محطة أسوان، وقد ذكر أن مسلة من معبد «إلفنتين» موجودة في بيت «سيون» (راجع: Birch, “History”, P 102) وعليها اسم هذا الفرعون، ووُجِدت في هذه الجهة لوحةٌ يُشاهَد عليها «تحتمس الثالث» يتعبَّد إلى ثالوث أسوان، وهم الإله «خنوم» والإلهة «عنقت» والإلهة «ساتت» (Lepsius, “Letters” I. pp. 101 & 218)، ومن المحتمل أن هذا الفرعون قد أقام معبدًا على جزيرة «بجة»؛ إذ وُجِد له تمثال هناك (راجع: Wilkinson, “Topography of Thebes” p. 470).
-
آثاره في بلاد النوبة: أما في بلاد النوبة فقد بنى «تحتمس الثالث» مباني أثرية
كثيرة جدًّا تشهد بنشاطه العظيم المنقطع القرين في هذه
الأقاليم؛ إذ نجد له في كل موقع أثري يدًا خالدة هناك لإقامة
المعابد للآلهة المحلية؛ ففي «كلابشة»٩٧ عُثِر له على تمثال من الجرانيت في المعبد المقام
هناك، وكذلك وُجِدت قطعة من الحجر عليها اسمه.
وفي «كوبان»٩٨ يوجد نقش عليه اسمه، وفي معبد «دكة»٩٩ جاء ذِكْر «تحتمس الثالث»، وفي معبد «كورتي»١٠٠ عُثِر على حجر باسم «تحتمس الثالث»، كما وُجِد اسمه في قِطَع أساس المعبد الذي كان قد أُعِيد بناؤه فيما بعدُ، أما في معبد «أمادة» فقد وُجِدت بوابة فيه نُقِش على أحد جانبَيْها اسم «تحتمس الثالث»، وعلى الجانب الآخَر نُقِش اسم «أمنحتب الثاني» ابنه؛ في حين أن اسمَيْهما وُجِدَا سويًّا على العتب، وهذا النقش يدل على اشتراكهما في الحكم سويًّا؛١٠١ وكذلك نجد في نفس المعبد لوحة عظيمة نُقِشت في السنة الثالثة من عهد «أمنحتب الثاني»، وقد جاء فيها أن هذا البناء كان قد أُقِيم في نهاية حكم «تحتمس الثالث»، وأن اشتراك هذين الملكين في الحكم لم يَدُمْ طويلًا، يضاف إلى ذلك أنه يوجد في نفس المعبد منظر نشاهد فيه الإلهة «إزيس سلكت» تضمُّ إليها «تحتمس الثالث»،١٠٢ وقد جاء في إهداء هذا المعبد ما يأتي:١٠٣ «الإله الطيب رب الأرضين، ملك الوجه القبلي والوجه البحري منخبر رع ابن الشمس محبوبه تحتمس حاكم العدل، وهو الذي أنشأه بمثابة أثر لوالده «حوراختي» الإله العظيم رب السماء، فأقام له معبدًا من الحجر الصلب، ابتغاءَ أن يعطيه الحياة الأبدية.» (راجع: Urk. IV. p. 822.)وفي «إلزية»١٠٤ توجد مناظر صُوِّر فيها «تحتمس الثالث» يتعبَّد للإله «رع» وللإله «ديدون» وللملك «سنوسرت الثالث»، وكذلك نشاهد كلًّا من الإلهة «وازيت» والإلهة «موت» تضم الفرعون، كما نشاهده يقدِّم القربان للإلهة «حتحور»، والإله «حور» صاحب «بوهن» وماعم (عنيبة)، والإله «تاخنس»؛ وكذلك عُثِر له في هذا المكان على لوحة مؤرَّخة بالسنة الحادية والخمسين، الشهر الثاني من فصل الصيف، اليوم الرابع عشر من حكم جلالة الثور القوي «تحتمس»، ويأتي بعد ذلك أوصاف الملك وما قام به من ذبح الأعداء والتغلُّب عليهم بقوةِ الإله حور صاحب «ماعم» (عنيبة)، وأن جلالته قد وصل إلى قرن الأرض ليهزم الآسيويين؛ وهذا يدلُّ على أن أعمال هذا الفرعون كانت مضطردة حتى آخِر أيام حكمه.١٠٥وفي «إبريم» توجد مقصورتان في الصخر؛ واحدة منهما عليها اسم «تحتمس الثالث»، وفي داخلها نشاهد صورَ الملك يتعبَّد للإله «حور» صاحب «ماعم»، أما الأخرى فنشاهد على جدرانها نفس الفرعون يتعبد للإله «حور» صاحب «ماعم» والإلهة «ساتت»،١٠٦ وهاتان المقصورتان قد حفرهما «نحي» حاكم السودان الملقَّب «بابن الملك»، وأهداهما لهذا الفرعون.وفي «وادي حلفا» أقام «تحتمس الثالث» معبدًا من اللبن للإله «حور» صاحب «بوهن»، وقد نقش «تحتمس» على عمود فيه لوحةً مؤرَّخةً بالسنة الثالثة والعشرين من حكمه، وهذه اللوحة تشبه في كثير من عباراتها اللوحة التي نُقِشت في «إلزية» الواقعة بالقرب من «إبريم»، والظاهر أن كاتب الأخيرة قد نقل كلَّ الجمل المألوفة والاصطلاحات المتبعة في مثل هذه النقوش من لوحة وادي حلفا.١٠٧ولا غرابة في أن يكون «نحي» حاكم السودان هو الذي نقش للملك هاتين اللوحتين، فهو الذي كان مشرفًا على أعمال التعمير في قلعتي «سمنة وقمة» وإعادة معبديهما،١٠٨ وتجديد آثار «سنوسرت الثالث» كما ذكرنا من قبلُ، وقد أقام نحي هذا معبدًا في جزيرة «ساي» الواقعة على خط عرض ٢٠ / ٤٢ شمالًا، ولا تزال بقاياه موجودة هناك حتى الآن.١٠٩وفي «دوشة» نشاهد منظرًا رسم فيه «تحتمس الثالث» و«سنوسرت الثالث» معًا، وكذلك «تحتمس الثالث» يقدِّم قربانًا إلى «حور تاخنس».١١٠ويُعتبَر «تحتمس الثالث» المؤسِّس لمعبد «صولب» العظيم، وهنا كانت تقوم المؤسسة العظيمة «منوخع أم ماعت» الواقعة عند الشلال الثالث، وهذا المعبد قد زاد فيه كثيرًا الفرعون «أمنحتب الثالث».١١١
وأخيرًا نجد اللوحة العظيمة التي عُثِر عليها «ريزنر» بالقرب من جبل «بركل» عند الشلال الرابع.
وممَّا سبق نرى نشاط هذا الفرعون المنقطع النظير في كل أنحاء الإمبراطورية، وما ذكرناه ربما كان القليل ممَّا تخفيه تربة مصر في جوفها من آثار هذا الملك؛ إذ تطالعنا الكشوف كل يوم بالعجب العجاب من آثاره التي ترفع من شأنه وتُعلِي من مكانته في ميدان الحروب والسياسة والمعمار، ولا أدل على ذلك ممَّا كُشِف له حديثًا في معبد «أرمنت»، وبخاصة اللوحة العظيمة التي تحدِّثنا عن نواحٍ كثيرة من «نواحي» حياته كما أسلفنا ذلك.
-
لوحة جبل بركل١١٢: ولما كانت هذه اللوحة من الأهمية بمكان، آثرنا أن نأتي هنا
على تاريخها وترجمتها حرفيًّا: عثر الأستاذ «ريزنر» على لوحة
للفرعون «تحتمس الثالث» مصنوعة من الجرانيت الأحمر في الردهة
الأولى من ردهات معبد الإله «آمون» العظيم في جبل «بركل»، وقد
عثر عليها في داخل هذا المعبد أمام العمود الثاني، من الصف
الثاني، من الجهة الشرقية في الجزء الشمالي من هذه الردهة، ولا
بد أنها كانت بطبيعة الحال مرتكزةً على هذا العمود في خلال عهد
الاحتلال المروي الأخير لها المعبد، وتدل محتويات هذه اللوحة
على أنها كانت في الأصل قد أُقِيمت في «بركل» في غير هذا
المعبد (B. 500)، ويُفهَم من
كلِّ المعلومات التي لدينا حتى الآن أنه لا يوجد في هذا المعبد
جزءٌ يرجع عهده إلى ما قبل الجزء الأخير من الأسرة الثامنة
عشرة، يضاف إلى ذلك أنه ليس لدينا إلا معبد واحد يمكن نسبته
إلى عهد «تحتمس الثالث»، وهو (B. 300.
First)، وقد نظف الفرعون «طهراقا» خرائبه،
وبنى على أساسه معبدًا آخَر (B. 300.
Second)، فإذا كانت هذه اللوحة قد أُقِيمت
في هذا المعبد كما يعتقد الأستاذ «ريزنر»، فلا بد أن «طهراقا»
قد نصبها في معبده الجديد أو نقلها إلى الردهة الأولى في
المعبد (B. 300. Second)؛ حيث
توجد الآن لوحتان وتمثال للفرعون «يعنخي»، على أن هذا مجرد
زعم، ولكن يجوز أن «طهراقا» قد أسند هذه اللوحة على العمود
الذي وُجِدت بجواره، وبقيت في مكانها طوال القرون التي تَلَتْ
وهاك ترجمتها:
التاريخ: السنة السابعة والأربعون، الشهر الثالث من فصل الفيضان، اليوم العاشر من حكم جلالة «حور» (يأتي بعد ذلك ألقاب «تحتمس الثالث»).الإهداء: لقد عمل (هذا) بمثابة أثر لوالده «آمون رع» رب «الكرنك» في قلعة «ذبح الأجانب» (سما خاستيو)، وأقام له مأوًى للأبدية؛ لأنه (أي: آمون رع) جعل انتصارات جلالته أعظم من انتصارات أي ملك كان، وقد استوليت على قوم الجنوب بأمر حضرته، وعلى الشماليين بإرشاداته، وهو الذي جعل ابن رع «تحتمس الثالث» حاكم «طيبة» يعطي الحياة مثل «رع» مخلدًا.قوة تحتمس الثالث: الإله الطيب الذي يسيطر بسيفه، والذي يضرب الجنوبيين، ويحز رءوس الشماليين، والذي يهشم رءوس القوم الأشرار، ومَن يوقع مذبحة بين «آسيا»، ويقهر عصاة بدو بلاد النوبة، ويصل إلى نهاية الأراضي التي هاجمته، وإنه يهيج عندما يقترب منه أي إنسان في ميدان القتال، وقد وقفَتْ أمامه كل البلاد الأجنبية كتلةً واحدةً مستعدين للنزال، ولم يكن هناك مناص للفرار قط؛ وذلك لأنهم كانوا يعتمدون على جموع عظيمة من المحاربين، وعدد من الناس والجياد يخطئه الحصر، ولقد جاءوا بقلوب قوية، ولم يستولِ على لبهم أي وجل، ولكن شديد القوى قد تغلَّب عليهم؛ فهو قوي الساعد الذي يطأ أعداءه، وإنه ملك يحارب منفردًا دون وجود جموع لحمايته، وإنه أحسن من ملايين الجنود، لا يوجد مَن يضارعه إذ هو محارب متفوِّق في ساحة الوغى، لا يثبت أحد أمامه، والذي يهزم دفعة واحدة كل الأراضي الأجنبية، وهو على رأس جيشه ينقضُّ انقضاض التمساح، وكالشهاب المنقض بين قوسي السماء عندما يخترق القبة الزرقاء، وهو الذي ينزل المعمعة … قاذفًا عليه نفسه الملتهبة كأنه نار، وهو الذي يجعلهم لا حول لهم متخبطين في الدماء، وصله يهزمهم، وإلهة اللهيب تتغلَّب على أعدائه، وهو الذي هزم جيش «المتني» في ساعة، واختفوا كلهم كأنهم لم يوجدوا قطُّ بفضل لهيبه المبيد (؟) وذلك على غرار ما آتاه الإله الطيب العظيم القوة في القتال يساعده، وهو الذي يوقع المذبحة بين كل الناس، وهو قائد نفسه ملك الوجه القبلي والوجه البحري «منخبر رع» الممتاز، ملاذ قومه المهاجم كل أرض، والمبارز فيها وجهًا لوجه منجي (مصر) في ساحة القتال، الحامي الذي لا يخشى الحساد، الثور القوي القلب من حدوده الجنوبية عند الأرض، أيْ عند آخِر أقصى هذه الأرض، ومن حدوده الشمالية عند تخوم «آسيا» الشمالية، أيْ عند عمد السماء، وإنهم يأتون إليه محنيي الرءوس راجين منه نفس الحياة.حملة نهرين: (تخريب البلاد الواقعة غربي نهر الفرات): إنه ملك في شدة بأس «منتو» (إله الحرب) يستولي ولكني لا يُستولى منه على شيء، يطأ بالقدم كل البلاد الأجنبية الخارجة دون أن ينجيهم أحد من بلاد «نهرين» التي فرَّ منها سيدها فرقًا، ولقد خربت مدنه وقبائله، وأُشعِلت النار فيهم، وجعلها جلالتي كأن لم تغن بالأمس، وحملتُ كلَّ أهلهم غنائم، وقدتُهم أسرى أحياء، وقطعانهم يخطئها العد وكذلك مواشيهم، واستوليتُ منهم على المؤن (؟) وحصدتُ غلتهم، واجتثثْتُ كلَّ أشجار فاكهتهم، وأقاليمهم كانت … وقد خربها جلالتي حتى أصبحت منزرعة … الأشجار فيها.بناء سفن لعَبْر الفرات: والآن سار جلالتي نحو الحدود الشمالية من «آسيا»، وقد أمرت ببناء عدد كبير من سفن النقل من خشب الأرز على تلال أرض الإله بالقرب من «سيدة جبيل» (ببلوص)، وقد حملت على عربات (ذات عجل) تجرها ثيران، وقد سافرت قبل جلالتي لأجل أن أعبر بها ذلك النهر العظيم الذي يجري بين هذه البلاد الأجنبية و«نهرين».عَبْر الفرات وغَزْو نهرين: وإنه ملك معظم (بقوة) ساعدَيْه في الواقعة، وعابر «الفرات» مقتفيًا إثر مهاجمه على رأس جيشه، وباحثًا عن ذلك العدو التعس في أرض المتني الأجنبية (الجبال). تأمَّلْ! لقد هرب أمام جلالته خوفًا إلى أرضٍ أخرى وهي مكان بعيد، وعلى ذلك أقام جلالتي لوحةً على جبال «نهرين»، وقد نحتت في الصخرة على الضفة الغربية من نهر الفرات.انتصار تام بأمر الإله رع: ولم يَبْقَ لي عدو في الأراضي الجنوبية، وأقوام الشمال يأتون منحنين لقوتي، وإنه الإله «رع» الذي أمر بذلك، ولقد كبلت كل ما تحيط به عينه (رع)، وقد منحني الأرض طولًا وعرضًا، وضمت لي في حزمة واحدة قبائل الأقواس التسع والجزر التي في وسط المحيط وجزر اليونان، وهي الأراضي الثائرة عدوة مصر، ولقد عدت جنوبًا نحو مصر بعد أن أعملت السيف في «نهرين» الذين كان ذعرهم عظيمًا في فم البدو، فغلقت أبوابهم بسبب ذلك فلم يغادروها لخوفهم من الثور (الملك)؛ فهو ملك بطل حصن حصين لجيشه، وجدار من حديد أو من برنز لمصر (!)، يهاجم كل الأرض بسيفه دون أن يحميه أحد ملايين الناس، يصيب الهدف كل مرة يرمي فيها، وسهامه لا تخطئ الهدف، وإنه لبطل منقطع القرين، والإله «منتو» الشجاع في ساحة القتال.صيد الفيلة: والآن أُتِيحت لي فرصة للنصر أمر بها لي الإله «رع»؛ إذ هيَّأ لي عملًا عظيمًا من أعمال الشجاعة عند مورد فيلة بلدة «ني»، فقد جعلني أتصادم مع قطيع من الفيلة، فحارب جلالتي سربًا منها يتألف من ١٢٠ فيلًا، على أن هذا العمل لم يحدث مثله قط على يد ملك منذ زمن الإله من أولئك الملوك السابقين الذين تسلموا التاج الأبيض، وإني أقص هذه الأشياء دون فخار ومن غير كذب، وقد أنجزتها على حسب ما أمر لي به والدي «آمون رع» رب الكرنك الذي يرشد جلالتي إلى الطريق السوي بخططه المتفوقة، فهو الذي وحَّد لي الأرض السوداء والأرض الحمراء، وكل ما تحيط به الأرض أصبح في قبضتي.الحملة الأولى على بلاد رتنو: والآن أقصُّ عليكم أعمالًا (أخرى) فاستمعوا أنتم يا أيها الناس، لقد أمر لي (بمنحي) كل أراضي «رتنو» في الحملة الأولى، عندما أتوا لمحاربة جلالتي بملايين الرجال ومئات آلاف الناس من رؤساء كل البلاد الأجنبية، ووقفوا على عرباتهم، وكان عددهم ٣٣٠ أميرًا، كل أمير منهم على رأس جيشه.موقعة مجدو: والآن كانوا في وادي «قنا»، والواقع أنهم كانوا قد ضربوا معسكرهم في مصيدة (!)؛ ولذلك أحرزت فوزًا عظيمًا بينهم؛ إذ هاجمهم جلالتي فهربوا في الحال وتساقطوا أكوامًا من القتلى.حصار مجدو: وبعد ذلك دخلوا مجدو نفسها، فحاصرهم جلالتي سبعة أشهر دون أن يبرحوها، إلى أن خرجوا متضرعين لجلالتي قائلين: امنحنا نفسك يا سيدنا؛ لأن أهل «رتنو» لن يعودوا إلى ثورة ثانيةً.استسلام مجدو: وبعد ذلك أرسل عظيم قادش المنهزم كما بعث الرؤساء الذين كانوا بصحبته إلى جلالته كل قومهم محمَّلين بالهدايا الكثيرة من الذهب والفضة، وكذلك جيادهم وما يتبعها، وعرباتهم العظيمة المصوغة من الذهب والفضة، وكذلك الملونة منها، هذا إلى دروع مواقعهم الحربية وقسيهم ونشابهم وأسلحتهم الحربية، وهي التي كانوا قد أتوا بها من بعيد لمحاربة جلالتي، لقد جلبوها الآن هدايا لجلالتي، وقد كانوا وقتئذٍ واقفين على جدرانهم مقدمين الثناء (الخضوع) لجلالتي طالبين أن يمنحوا نفس الحياة.سفر الرؤساء: وبعد ذلك سمح لهم جلالتي أن يتخذوا سبيلهم إلى مدنهم، وقد رحلوا كلهم ممتطين ظهورَ حميرهم؛ لأني كنتُ قد استوليت على خيل عرباتهم، وأخذت أهل مدنهم غنيمةً، كما استوليتُ على ماشيتهم.الإله آمون رع أخضع كل العالم للملك: وإنه والدي (آمون رع رب الكرنك) الذي منحنيها؛ إذ إنه إله ممتاز مظفر صاحب المشاريع التي لا تخيب، وهو الذي بعث جلالتي لأستولي على كل أراضي أقوام الأجانب جميعًا، ولقد هزمتم على حسب ما أمر به بالسبل التي اعتاد العمل بها، وقد جعلني أضرب كل الأقوام الأجنبية دون أن يجسر أحد على مهاجمتي، وصولجاني هو الذي تغلَّب على البدو، وعصاي هي التي ضربت قبائل الأقواس التسع، وجلالتي أخضع كل البلاد، وأرض «رتنو» أصبحت تحت نعلي، وأهالي بلاد النوبة صاروا عبيد جلالتي.جزية البلاد الأجنبية: وإنهم يخدمونني جميعهم، مقدِّمين جزيةً من ملايين المحاصيل العدة من آخِر العالم، ويشمل ذلك ذهب بلاد «واوات» الجم بمقدارٍ يخطئه العد.ما يدفع زيادة من السفن والخشب من بلاد كوش: ويُبنَى هناك للبلاط (أي: للملك له الحياة والسعادة والعافية والصحة) كل سنة ثماني سفن (نتيو) وسفن نقل، هذا فضلًا عن البحارة، مضافًا إلى ذلك الجزية التي يأتي بها النوبيون من العاج والأبنوس، وكذلك يحضر لي خشب بناء السفن من «كوش»، ويشمل ألواحًا من خشب الدوم، وخشب «تيت» (أو أشياء من الخشب) (؟) لا حصرَ لها من هناك من خشب السنط من أرض الجنوب، وكان جيشي يقطعها من «كوش»، وكانت توجد هناك بوفرة (!) وكذلك عدد عظيم من سفن النقل من خشب «ماما»، وقد أحضرها جلالتي مظفرًا.خشب الأرز من زاهي: وقد قطع لي من «زاهي» خشب أرز حقيقي من «لبنان»، وأحضر إلى البلاط (أي: للملك له الحياة والسعادة والصحة)، وقد كان يُؤتَى لي بخشب بناء لمصر أحضر جنوبًا …خشب الأرز من بلاد ناجاو: وقدمت قِطَع من خشب الأرز الحقيقي من «ناجاو» من أحسن ما تنتجه أرض الإله كأنها المرمر السليم؛ لأجل أن تصل إلى البلاط دون أن تمضي الفصول هناك كل سنة (أي: في قطعها وإعدادها).خشب وانراثا: ثم يعود جيشي وما في حامية «وانراثا» … الذي من أبرز انتصارات جلالتي بخطط والدي «آمون رع»، الذي أمر لي بالسيطرة على كل الأقوام الأجنبية، ولم أترك أية واحدة منها (أي: من خشب الأرز) للآسيويين؛ لأنه الخشب الذي يحبه «آمون»، وأنه هو الذي صدَّ صلحاءهم … وأشرارهم ليسوا في أمان (؟).خطاب الفرعون لقوم الجبل المقدَّس: ويقول جلالتي: استمعوا إليَّ يا أهل الجنوب الذين في الجبل المقدَّس الذي كان يُسمَّى «عروس الأرضين» بين القوم (أي: المصريين) (؟) وهي لم تكن معروفةً بعدُ، لأجل أن تعرفوا قوة «آمون رع» المدهشة أمام وجه كل الأرضين.أعجوبة النجم: … وكان الحراس؟ على وشك المجيء لمقابلتي ليلًا ليقوموا بتغيير الحرس وكان يوجد حارسان جالسين وجهًا لوجه، وقد طلعت نجمة من جنوبيهما، ولم يكن قد حدث مثل ذلك، ثم اختفت في الجهة الثانية قبالتهما مباشَرةً (أي: في الجهة الشمالية)، ولم يَبْقَ إنسان واقفًا هناك (أو بينها).هزيمة عدو: (يُحتمَل أن ما جاء في التكسير تكملة للسطر السالف) … وقد سقط أكوام من القتلى والآن … على ظهورهم والنار في وجوههم، ولم يجد واحد منهم يده، ولم يمكنه أن ينظر خلفه، ولم يجدوا خيلهم التي كانت قد شتتت في …العودة إلى مصر: … لأجل أن أجعل كل الأراضي الأجنبية ترى عظمة جلالتي، ولقد حضرت جنوبًا بقلب فَرِح؛ لأني انتصرتُ لسيدي (آمون رع رب الكرنك) … وهو الذي قدَّر لي هذه الانتصارات، والذي جعل الخوف مني في … في زمني، وكذلك مكن الخوف مني في كل الأقوام الأجنبية، وقد هربوا مني بعيدًا، وكل ما يضيء عليه الإله «شو» أصبح مكبَّلًا تحت قدمي.خطاب الفرعون لرجال الحاشية: وقال جلالتي نفسه … لأني عظيم التجربة بسبب القوة والنصر اللذين أعطانيهما والدي الفاخر «آمون رع رب الكرنك»، وهو الذي جعلني سيد أقسام الأرض الخمسة، وحاكمًا على كل ما تحيط به الشمس، وإني قوي … وقد جعل الخوف مني حتى … الشماليون والذعر من جلالتي حتى … الجنوبيون، حتى إنه لا توجد طريق ضدي، وقد ختم لي كل الأرض، وليس هناك حدود لما استوليت عليه بالنصر، وفخاري أصبح في بلاد «رتنو» وخوفي في … وهم يحضرون لي محاصيلها إلى المكان الذي فيه جلالتي في كل فصل، والأرض الجليلة تحضر لي ما بها من كل شيء طريف، فهي تنشر أمامي ما أخفته عن الملوك الأول … كل حجر فاخر غالٍ، وكل النباتات العطرية الحلوة التي تنمو ببلاد «بنت»، وكل شيء طريف من أرض الجنوب، وكل ما يأتي عن طريق التجارة تحت تصرُّف جلالتي … فإنه ملكه وإني سأملأ بيته وسأجعله يعود لحمايته … في ساحة القتال، وفضلًا عن ذلك سأقدِّم قربانًا من الأشياء المدهشة من كل الأراضي … التي يهاجمها سيفه القوي، وقد قدر لي (سيفه) النصر على كل الأقوام الأجنبية.جواب رجال البلاط: فأجاب أولئك السمار (رجال البلاط) … «آمون رع» سيد الكرنك الإله العظيم الأزلي خالق الجمال، إنه أعطاك كل الأرض أحضرها قربانًا له لعلمك أنك خرجت منه، وفضلًا عن ذلك فإنه هو الواحد الذي يرشد جلالتك إلى الطريق …وصف قوة تحتمس الثالث ودخله: … وقد جعلت الخوف مني في قوم «آسيا الشمالية»؛ ولذلك لم يعق رسولي، وقطع جيشي عمد الأعلام من مرتفعات الأرز … لأجل آثارِ آبائي، وكل آلهة الوجه البحري، وأمام جلالتي سفن مخنت من الأرز … معي ساحل أرض لبنان بمثابة (؟) حصن … (؟) … أو في الحصن … وكل رؤساء لبنان كانوا يشحنون السفن الملكية لأجل أن يؤتى بها نحو الجنوب، ويحضر كل الأشياء العجيبة … إلى البلاط (أي: الملك له الحياة والسعادة والصحة)، وأمراء اﻟ … ورؤساء «رتنو» الذين كانوا يجرُّون عمد هذه الأعلام بثيران إلى الساحل، ويحضرون حاملين جزيتهم أمام جلالته إلى البلاط في … حاملين كل المحاصيل الجميلة التي أُتِي بها من الجنوب بمثابة جزية سنوية مثل كل رعايا جلالته.ما يقوله الناس: أما ما يقوله الناس (المصريون) فيما بينهم مدحًا لي فهو … الأقوام الأجانب قدروا فخارك، والزئير قد انتشر (سمع صداه) في آخِر العالم، وحضرتك الفاخرة يرتعد أمامها قلوب اﻟ … قوم.اللعنة يقولها القوم: … وكل النوبيين الذين سيعددون تصميماتك، سيعاقبهم والدك، وعندئذٍ كان جلالته (؟) …
أما عن آثاره الصغيرة كالتماثيل واللوحات والجعارين وغيرها من التحف الصغيرة الحجم، فهي لا تُعَد ولا تُحصَى، وسنورد هنا بعضها ممَّا يوجد في متاحف العالم، غير ما له من الآثار العدة التي يعجُّ بها المتحف المصري، وأهمها …
(٨-٢) التماثيل
ولم يُعثَر على بردي من عهد «تحتمس الثالث» إلا القليل؛ منها ورقة في تورين رقم ١، وتقصُّ علينا كيف أن كاتبًا يُدعَى «وسر آمون» قد خدم الملكية مدة خمسين عامًا، ولما كانت هذه الورقة مؤرَّخة في السنة الخامسة من عهد ذلك الفرعون، فلا بد أنه بدأ خدمته في منتصف حكم «تحتمس الأول».
(٨-٣) الجعارين
وكذلك نُقِش على ظهر جعران صورة فتاة سورية جالسة القرفصاء، وعلى وجه الجعران نُقِش: «تحتمس الثالث يخرب قادش.» وعلى جعران آخَر نُقِش: «الإله الطيب تحتمس يهزم قادش.» ولا نزاع في أن نقوش الجعارين الثلاثة الأخيرة تشير إلى حروب تحتمس.
ومما هو جدير بالملاحظة أننا نشاهد على جعران آخَر رسم الفرعون وهو ساجد يتعبَّد أمام مسلة، وعليه نُقِشت العبارة التالية: «تحتمس الثالث الذي أُقِيمت من أجله المسلتان في معبد آمون.» وعلى آخَر نُقِش: «تحتمس يقدِّم آثارًا في معبد آمون أو تحتمس الثالث مخلد بالآثار.»
فمن نقوش هذه الجعارين نعرف شيئًا عن نواحي حياة «تحتمس الثالث»، ونشاطه في كل الميادين الحربية والاجتماعية والدينية وميادين العمارة وغيرها.
وقد بقي اسم «منخبر رع» يُنقَش على التعاويذ والجعارين في العهود التي تلت حكمه بدرجة تفوق حدَّ الوصف، حتى إن نسبة وجود اسمه على الجعارين كانت بنسبة جعرانين لكل ثلاثة جعارين موجودة في العالم؛ ولا نزاع في أن شهرته التي استمرت على هذه الصورة تتعاقبها الأجيال، تُظهِر كيف أن فخامة عصره وسمو مكانته قد تركتَا أثرهما العميق في نفوس المصريين الذين كانوا يعتبرون عصره أزهى عصر في تاريخهم، ولا يدهشنا إذن أنَّا نجد بعض الملوك الذين أتوا بعده بقرون عدة كانوا يتشبهون به، حتى إنهم لقَّبوا أنفسهم بلقبه «منخبر رع»، ولا أدل على ذلك من أن أحد ملوك الأسرة الحادية والعشرين سمَّى نفسه «منخبر رع»، وكذلك نجد «بعنخي» الإثيوبي أعظم ملوك الأسرة الخامسة والعشرين لُقِّب بلقب هذا الفاتح العظيم تبرُّكًا وتيمُّنًا.
(٩) أسرة تحتمس الثالث
لا نزاع في أن الجزء الأول من تاريخ حياة تحتمس الثالث الزوجية لا يزال غامضًا؛ إذ نعلم أنه تولَّى العرش ولم يكن قد بلغ الحلم بعدُ، والمفروض أنه قد تزوَّج من أخته «نفرو رع» كبرى أخواته وبنت «حتشبسوت»، وقد كانت الوارثة الشرعية للملك، غير أن هذا الزواج لم يتم، وإن كان بعض المؤرخين يعتقد أنه بنى بها بعد مضي سنين عدة، ولكنا لم نجد لها حتى الآن لقبَ الزوجة الملكية على الآثار كما هو المتبع، وكل ما نعرفه أنها كانت تُلقَّب «الزوجة المقدسة» أو «زوجة الإله»، وهو لقب فخري كانت تحمله الوارثة الشرعية للعرش؛ ولذلك كانت تحمله هي ووالدتها في آنٍ واحد. وعلى أية حال لا نعرف على وجه التأكيد التاريخَ الذي تُوفيت فيه هذه الأميرة، والمرجَّح أنها ماتت في حياة «سنموت»، أيْ قبل موت والدتها «حتشبسوت»، وقد كان موتها من الأسباب التي عجلت بسقوط «سنموت» نفسه، والظاهر أنه بعد وفاتها تزوَّج «تحتمس الثالث» من أميرة تُدعَى «أح ست»، وربما كانت أخته لأبيه؛ إذ كان اسمها يُوضَع في طغراء ملكية.
وعلى الرغم من أن «مريت رع حتشبسوت» كانت تُلقَّب «الزوجة الملكية العظيمة»، أي الزوجة الشرعية، فإن «تحتمس الثالث» كانت له زوجات أخريات ثانويات، ونعرف من بينهن اثنتين، أولاهما تُدعَى «مريت آمون»، وكانت تُلقَّب «الابنة الملكية» و«الزوجة الملكية»، وهذا يعني أنها كانت بنت «تحتمس الثاني» من زوجة ثانوية، أي إنها كانت أخت «تحتمس الثالث» وزوجه في آنٍ واحد.
أما زوجه الأخرى فتُدعَى «نبتو»، وهي التي كان يدير أملاكها «نب آمون»، ولدينا بطاقة من الخشب ضمن البطاقات التي سبق ذكرها مؤرَّخة بالسنة السابعة والعشرين، ذُكِر عليها اسمها بوصفها الأميرة «نبتو» بنت ابن الملك المسمَّى «سيتوم».
أما أولاد هذا الفرعون، فلم يُذكَر في قبره إلا اسم الأميرة «نفرتاري» المرحومة، ولما لم يكن اسمها قد أُحِيط بطغراء، فيظهر إذن أنها لم تكن من دمٍ ملكيٍّ خالصٍ، بل يُحتمَل أنها كانت إحدى بنات زوجاته الثانويات، هذا وقد ذُكِرت أسماء ثلاث أميرات على ثلاث بطاقات من البطاقات الخشبية السالفة الذكر بوصفهن بنات «تحتمس الثالث».
وسيأتي الكلام عن «أمنحتب الثاني» الذي أنجبه من زوجه «مريت رع حتشبسوت» في حينه.
(١٠) وفاة تحتمس الثالث
وقد دُفِن تحتمس العظيم في مقبرة أعَدَّها لنفسه في «وادي الملوك»، وقد كُشِف عن هذه المقبرة في ربيع سنة ١٨٩٨، وتقع على مسافة قصيرة من مقبرة «رعمسيس الثالث»، وجدرانها محلَّاة بصورة آلهة ونقوش من بينها قائمة طويلة بأسماء الآلهة، كما نُقِش عليها نسخة تامة من كتاب «ما يوجد في عالم الآخرة».
ويُشاهَد على عمود من عمد الحجرة الثانية «تحتمس الثالث»، تتبعه والدته «إزيس» وأزواجه وابنته «مريت آمون»، وعندما كُشِف عن قبره وُجِد التابوت خاويًا؛ وذلك لأن موميته قد نُقِلت من قبره إلى خبيئته «الدير البحري»، والظاهر أنها كانت قد عبث بها اللصوص في مخدعها الأخير، بعد أن هشموا التابوت الخشبي الذي كان يحتويها ونهبوا ما عليها من حلي، وقد حدث من جرَّاء ذلك أن أُصِيبت المومية بأضرار جسيمة، وتدلُّ شواهد الأحوال على أن الذين وضعوها ثانيةً في مخبأ «الدير البحري» قد أصلحوا الكفن، وهو مصنوع من الكتان الجميل، وقد نُقِش عليه تعاويذ من «كتاب الموتى»، كما وُجِد معه كذلك بعض الأثاث الجنازي، أهمه إوزة من الخشب، وفهود كذلك من الخشب، وتماثيل صغيرة وخواتم من الخزف المطلي، وتعاويذ عدة، ورمَّموا المومية قبل دفنها، فوضعوا الأجزاء التي كانت قد تفكَّكَتْ من الجسم في مكانها، ولأجل أن تصبح المومية متماسكة الأجزاء، وتأخذ شكلها الأصلي، وُضِعت بين أربع قطع من الخشب، كلٌّ منها بشكل مجداف، ولُوِّنت باللون الأبيض، ثلاث منها في داخل الكفن، وواحدة خارجه تحت الأشرطة التي رُبِط بها الكفن، ولحسن الحظ لم يُصَبْ وجهه بسوء؛ إذ كان قد غُطِّي بملاط من القار وقت التحنيط، وقد بقي سليمًا لم تُصِبْه يد اللصوص.
ولا يدل مظهر وجه «تحتمس الثالث» على نموذج المثل الأعلى لفاتح عظيم مثله، ومع أن تماثيله لا تُظهِره في صورة رجل جميل الطلعة، إلا أنها مع ذلك تدلُّ على أنه كان رجلًا مهذَّبًا ذا تقاسيم تنطق عن ذكاء، وإذا قرناها بصورته الأصلية، وجدنا أن المثَّال الذي نحتها كان كريمًا معه إلى حد بعيد؛ إذ نجد في الواقع محيا «تحتمس الثالث» لا ينمُّ عن أي جمال؛ إذ كان منخفض الجبين إلى درجةٍ تفوق المعتاد، ذا عينين غائرتين في محجريهما، وفك ضخم، وشفتين غليظتين، وخد بارز العظم جدًّا، فكل ملامحه إذن تذكِّرنا بملامح والده «تحتمس الثاني»، غير أن هيئته كانت تدل على مقدار عظيم من النشاط. وفي الحق إن «تحتمس الثالث» كان فلَّاحًا من السلالات المصرية القديمة الأصلية، قصير القامة، ممتلئ الجسم، سوقيًّا في صورته وملامحه، غير أنه مع ذلك لم تنقصه قوة العزيمة، وشدة البأس.
(١١) أخلاق تحتمس الثالث ومكانته في العالم القديم
(١١-١) تحتمس الثالث رجل حرب بطبعه
لقد كانت أبرز صفة لحظناها في استعراضنا لتاريخ حياة «تحتمس الثالث» منذ نعومة أظفاره هي حبه للكفاح، والشغف بالغزو، والميل إلى ركوب متن المخاطرات بصورة لا تعرف الكلل. ولا غرابة في ذلك؛ فإنه قد نشأ في عصرٍ كله حروب وغزوات، وأجداده ملوك الأسرة الثامنة عشرة قد قضوا معظم حياتهم في ساحات القتال شمالًا وجنوبًا، يغزون آسيا مرةً ويهدئون الثورات في السودان مرةً أخرى.
هذا إلى أن البلاد من أقصاها إلى أقصاها كانت لا حديثَ لها غير الغزاة الذين استعبدوهم مدةَ قرن ونصف من الزمان، وأن بقايا هؤلاء الغزاة كانوا لا يزالون يقطنون آسيا، وأن الخوف منهم كان لا يزال عالقًا بأذهان المسنين منهم، على الرغم من امتداد فتوح الفراعنة حتى نهر الفرات.
في هذا الجو الذي كان يملؤه رنين السيوف وأهوال الحرب نشأ «تحتمس الثالث»، وقد أراد والده أن يُنشِئه تنشئةً دينيةً، فوضعه في معبد «آمون» بالكرنك، غير أنه على ما يظهر كان الكهنة أنفسهم متشبِّعين بروح إلههم الذي كان يُعَدُّ إله الحرب وناصر الفراعنة في ساحة القتال، فبثوا في نفسه ذلك الروح الحربي الذي ساد البلاد في هذا العهد، ولقنوه دروسًا في البطولة والشجاعة، وضربوا له الأمثال بأجداده ملوك الأسرة الثامنة عشرة، ومن قبلهم ملوك الأسرة الثانية عشرة، وبخاصة «سنوسرت الثالث» الذي كان يُعتبَر في نظر الشعب المصري، ونظر ملوك الأسرة الثانية عشرة بطلَ الفتوح المصرية، وموقظ روح الوطنية والبطولة في نفوس ملوكها؛ ولذلك نجد أن «تحتمس الثالث» عندما اعتلى العرش ولم يكن قد بلغ الحلم بعدُ، كان أول عمل قام به هو إعادة مباني «سنوسرت الثالث» في «سمنة وقمة»، التي أقام عندهما هذا البطل العظيم لوحته المشهورة، محذِّرًا أخلافه من الملوك وبني وطنه ألَّا يتراخوا في المحافظة على الحدود المصرية التي مدَّها حتى هذه النقطة بحد السيف.
فأعاد هذا الملك الصبي بناءَ هذه المباني الدينية، وفضلًا عن ذلك رفع «سنوسرت الثالث» إلى مرتبة الآلهة بوصفه إله حرب؛ فهل جاء ذلك عفوًا من فرعون صغير كان لا في يزال في الثانية عشرة من عمره، أم هل فعل ذلك عن قصد ونتيجة تعاليم لُقِّنها في طفولته؟ وبخاصة إذا علمنا أن الوصية على العرش وقتئذٍ كانت امرأة لا تريد الحرب، بل قضت طوال مدة حكمها بعيدة عن الحروب وأهوالها.
وفي الحق أن حياة «تحتمس الثالث» تحدِّثنا صراحةً أنه قد قام بهذا العمل عن قصدٍ وعن مبادئ قد تشبَّع بروحها، ولقد حاولَتِ الوصِيَّةُ على العرش «حتشبسوت»، والملكة «ماعت كارع» فيما بعدُ، أن تُخمِد أنفاس الروح الحربي الذي يتأجَّج في نفس «تحتمس الثالث» طوال ثلاثين حولًا، حتى إذا وجد منفذًا بعد موت الملكة انطلق من عقاله ومرق كالسهم، فلم نلبث أن وجدنا تحتمس على رأس جيش عظيم على حدود مصر يزحف إلى سهول «مجدو». والعجب العجاب في ذلك أنك ترى الخطط الحربية المنظمة المحبوكة التي تعززها البسالة والإقدام والذكاء الخارق، ممَّا لم يُسمَع به في تاريخ حروب العالم قبل ذلك.
ومَن يطَّلِع على هذا النظام وتلك الخطط البارعة التي وضعها ذلك القائد البارع، لا يشك في أن «تحتمس الثالث» كان يفكر طوال مدة إقصائه عن الحكم فيها، ويدرسها من كل نواحيها حتى يفاجئ العالم بها دفعة واحدة، ولا نزاع في أن معركة «مجدو» أولى انتصاراته، وما جاء فيها من خطط سديدة وحركات فنية كانت أول درس أُلقِي على قوَّاد العالم القديم، بل والحديث في فنون الحروب وقيادتها.
أليس هو «تحتمس الثالث» الذي كان أول مَن قسَّمَ الجيش إلى جناحين وقلب، وأنه هو الذي بجسارته وحبه للمغامرة في سبيل نيل مأربه قد اتَّخَذ أقصر الطرق مع ما فيها من مخاطر لمهاجمة العدو، وأنه هو الذي أراد أن يضرب المثل الأعلى لمجلسه الحربي الذي عقده — ولا نعلم مجلسًا حربيًّا أعلى عقد قبل ذلك في العالم — فعوَّل على أن يكون أول مُضَحٍّ بحياته إذا ما دعا داعي الوطنية والشرف؟
أليس هو «تحتمس» الذي كان يُضرَب له السرادق في أرض الأعداء يدبر فيه خططه التي كان ينفِّذها عندما ينبلج الصباح؟
أليس هو «تحتمس» الذي لم يَنْسَ مناظر الحروب وما أوتيه من نصر بمساعدة إلهه «آمون» — إله الحرب — فعاد إلى مصر وهي مرتسمة في مخيلته، ولم يُرِدْ أن تذهب عنه أو يتناساها، فأقام للإله «آمون» معبدًا هو صورة مطابقة لخيمته التي كان يشغلها في أثناء حروبه، ليُدخِل في روع شعبه أن «آمون» هو الذي آزره وناصَرَه وكتب له الفوز في هذه الحروب، فهو إله كفاح وجهاد، لا يسكن في محراب بل في سرادق حرب على استعداد دائم للأخذ بناصر ابنه «تحتمس» في ساحة الوغى، إذا ما جلَّ الخطب وعظم المكروه مع أولئك الأقوام الثائرين.
ثم نرى «تحتمس» يكشف لنا عن صفحة أخرى من مجده الحربي ومهارته وشدة ذكائه في إحكام خططها، فنشاهده يسير بأسطوله ويفتح المواني التي على شاطئ فينيقيا؛ ليتخذها قاعدةً حربيةً لتموين جيوشه التي كانت تغزو قلب «آسيا» حتى لا يُطعَن من الخلف، وحتى يمكن أن يضرب ضربته وهو مطمئن، ويكون أسطوله الرابطة بينه وبين مصر من جهة، وبينه وبين جيوشه التي كانت تسير في أرض معادية من جهة أخرى، وقد أمدَّ هذه المواني بالمواد الأولية والصناع، وكل ما يلزم لجيشه من عتادٍ ومؤن، بل لتأمين ذلك جعل لهذه الثغور جزيةً تُدفَع لها سنويًّا وخراجًا يُجبَى لها من محاصيل البلاد المجاورة، هذا إلى استخدام أساطيل البلاد الموالية له على الساحل في قضاء شئونه، وبخاصة سفن «جيبل» وبلاد الكفتيو.
كل ذلك سهَّلَ عليه إخضاع الولايات التي كانت تشقُّ عصا الطاعة على مصر، كما كانت تسهِّل عليه فتح البلاد النائية في داخل بلاد آسيا، ولا أدل على الخدمات التي قدَّمتها له هذه الثغور من تلك التي سهَّلت عليه إعادة فتح بلاد «نهرين»، ومد حدوده إلى أبعد ممَّا وصل إليه أجداده، وهنا تظهر عبقرية «تحتمس» مرة أخرى في ابتكار الخطط وإعداد العدة لنيل مأربه، ممَّا جعله على رأس الفاتحين من حيث العبقرية والذكاء، فقد فكَّرَ في بناء سفن حربية لنقل جيشه عبر نهر الفرات حتى يسهل عليه إتمام الفتح، ولكنه خشي من صنعها في أراضي العدو الذي ربما أفسد عليه خطته؛ ولذلك بنى سفنه قِطَعًا متفرِّقة في «ببلوص» التي كان لأهلها شهرة في صناعة السفن، ثم ابتكَرَ لها عربات من نوع خاص تجرُّها ثيران حتى شاطئ الفرات، حيث رُكِّبت أجزاؤها، وبذلك نُفِّذت خطته التي كانت نسيج وحدها. وها نحن أولاء نسمع في تاريخ الحروب الحديثة أن القواد العظام يأخذون دروسًا عن قائد مصر كما يقول مؤرخو الفرنج، فيقول الدكتور «ولسن» إن اللورد اللنبي سار على هدي خطط «تحتمس الثالث» في إحراز النصر على الأتراك، في اختراق ممر «عرونا» الذي سلكه فاتح مصر العظيم؛ ويحدِّثنا المؤرخ «فولكنر» أن القائد الأكبر «مونتجمري» قد نقل السفن الصغيرة من شاطئ البحر محمولة حتى نهر الراين؛ ليعبر بها هذا النهر ويباغت بها العدو، ثم هو ينتصر عليه كما انتصر «تحتمس الثالث» عندما نقل أسطوله إلى نهر الفرات وانتصر على أمير «نهرين».
وكان روحه الحربي حتى في أوقات فراغه لا يخمد ولا يهدأ نشاطه؛ إذ نراه بعد منازلة الأبطال في ساحة الوغى، يخرج إلى الوديان لمنازلة أخطر الحيوان وأشده بطشًا بالإنسان.
وتلك شنشنة نعرفها في أبطال هذه الأسرة، فقد كان ملوكها مُغرَمين بالصيد والقنص كما سنرى بعدُ، والظاهر أنهم كانوا يتعلمونها بالوراثة، فقد ذكر لنا «تحتمس الثالث» ما أحرزه من ضروب الشجاعة الفذة في الصيد والقنص؛ إذ ذكر لنا أنه قضى على قطيع من الفيلة عند بلدة «ني» عند نهر الفرات، بل يذكر أكثر من هذا ممَّا يمتاز به على فراعنة مصر، عندما شرح لنا على جدران معبد «أرمنت» كيف اصطاد وحيد القرن، وكأنه كان يشعر باستحالة ذلك، فدوَّنَ لنا أوصاف هذا الحيوان ومقاييسه، وهو يُعَدُّ أخطر أنواع الوحوش وأشدها افتراسًا، وقد ترك لنا لوحة في معبد الإله «منتو» إله الحرب، وعدَّدَ لنا ضروب شجاعته في الصيد والرماية، وما أحرزه من انتصارات.
على أن ما يلفت النظر في أخلاق هذا الجندي الباسل الذي كان لا ينفك عامًا واحدًا عن منازلة الأعداء، والضرب على يد المنشَقِّين عليه؛ أنه كان رجلًا قد امتاز بشفقته وإنسانيته بل ورحمته للمغلوبين، فقد رأيناه يتجاوز عن سيئات أمراء الحلف الذين تآمروا عليه، بعد أن وقعوا في قبضته في موقعة «مجدو»، فلم يسلبهم عرشهم، أو يحرمهم متاعهم، وحتى عدوه اللدود «أمير قادش» وكذلك «أمير تونب»، نراهما قد مُثِّلَا في قبر «مدير أعماله منخبر رع سنب»، وقد أتيَا إلى الفرعون أحرارًا لم تُوضَع في أيديهم السلاسل ولا في رقابهم الأغلال؛ ممَّا يدل على أنهما كانا بدورهما قد صُفِح عنهما، وكذلك نلحظ أن رهائن العدو قد لاقوا معاملة حسنة، وأُعِيدوا في نهاية الأمر إلى أوطانهم، ولم نسمع مرةً أن «تحتمس الثالث» قد مثل بأجسام قتلى العدو الذي هُزِم بصلبهم في مقدمة سفينته، كما فعل جده «تحتمس الأول» وابنه «أمنحتب الثاني».
ونشاهد ضمن مناظر قبر وزيره «رخمي رع» أسرى حروب آسيويين يعملون في صنع قوالب اللبن، كما تحدِّثنا عن ذلك النقوش: لأجل بناء مخزن للإله «آمون»، وكذلك تحدِّثنا النقوش أنهم كانوا يمونون بالخبز والجعة وكل نوع طيِّب من الطعام، وأن قلوبهم كانت تحب ملكهم الرحيم.
على أن ذلك وإن كان لا يعطينا صورة صادقة عن الواقع، فإنه مع ذلك يمثِّل لنا صورة نموذجية ممَّا يجب أن يُعامَل به الأسرى الذين كُتِب عليهم الوقوع في أيدي عدوهم.
ولا شك في أننا نرى في كرم معاملاته لأعدائه الآسيويين حكمةً وحسنَ سياسةٍ بعيدة المرمى، وفي الحق إن حسن سياسته قد ظهرت في فرص عدة في خلال فترة اشتراكه مع الملكة «حتشبسوت»، عندما كانت هي وعصابتها يضيقون عليه الخناق، ويسدون في وجهه كلَّ منفذ بصورة مريعة، وإلا لرأيناه لولا صبره واحتماله يقضي على حياته بيده. والواقع أن ما أوتيه من قوة إرادة وضبط نفس لَأكبر شاهد على اجتيازه محنةَ تلك السنوات التي قضاها في منفاه الذهبي طوال مدة حكم «حتشبسوت».
وتتجلَّى قوة إرادته وحسن تدبيره كذلك — أو إن شئتَ فقُلْ: حسن تدبير مَن كان حوله — في اعتلاء عرش الملك في أول أمره، على الرغم من أن أمه لم تكن إلا زوجة ثانوية «لتحتمس الثاني» والده، وأنه في صباه لم يكن إلا كاهنًا بسيطًا في معبد «آمون».
ولقد كان لسياسته ومضاء عزيمته ونظمه الموفقة الأثرُ الأكبر الذي كتب للإمبراطورية التي وطَّد أركانها البقاءَ عدة أجيال؛ إذ كان أكبر ما تصبو إليه نفسه وأهم ما جاهَدَ لتحقيقه أن يوطِّد أواصرَ الودِّ والمصافاة بينه وبين أجزاء إمبراطوريته، فكان يربِّي أمراء الولايات التابعة له مع أمراء البيت المالك، ويلقِّنهم حب مصر، ويُطلِعهم على عظمة بلاده في عقر داره، كما أنه كان يأخذ بناصر كل أمير غلب على أمره؛ ممَّا جعل اسمه مضرب الأمثال في القوة والشجاعة والنجدة، حتى إن أمراء بعض الولايات كانوا يطلبون تمثالَ هذا الفرعون إلى بلادهم، ويقيمون له المعابد، ويتضرعون إليه في السراء والضراء وحين البأس، وكان أولئك الأمراء الموالون يَفِدُون إلى مصر مقدِّمين له فروض الطاعة والخضوع، كما يُشاهَد ذلك في مقبرة وزيره العظيم «رخمي رع» الذي كان يكرِّر لهم عباراته المشهورة عن سيده «تحتمس»: «إن جلالته يعرف كلَّ شيء يحدث، ولا يوجد شيء لا يعرفه، وإنه مثل الإله «تحوت» (إله العلم والحكمة) في كل شيء، وإنه لم يَقُمْ بأي عمل إلا نفذه.»
ومع كل تلك الصفات وهذه الأخلاق العظيمة كان «تحتمس الثالث» رجلًا صادقًا متدينًا؛ إذ يقول عن نفسه: «إني لم أنطق بكلمة مبالغ فيها ابتغاءَ الفخر بما عملته، فأقول إني فعلتُ شيئًا دون أن يفعله جلالتي، ولم آتِ بعمل فيه مظنة، وقد فعلت ذلك لوالدي الإله آمون؛ لأنه يعرف ما في السماء ويعلم ما في الأرض، ويرى كل العالم في طرفة عين.»
هذا هو «تحتمس الثالث» كما نستخلصه من الآثار الصامتة، بعد استقراء وفحص، وقد نكون قد شططنا في إعطائه حقَّه، أو أغفلنا بعض مناقبه، ولكن تفاديًا لذلك سنترك الشاعر المصري يصف لنا أعماله ومكانته في العالم الذي كان يعيش فيه، بتدوين تلك القصيدة الخالدة التي تتغنى بانتصارات «تحتمس الثالث»، وما أتاه من أعمال خارقة للحد المألوف. ولا بد أن «تحتمس الثالث» قد أمر بإقامة اللوحة التي كُتِبت عليها تلك القصيدة في معبد الكرنك بعد انتهائه من حروبه في آسيا، وبعد أن أغدق على الإله «آمون» الخيرات، وأوقف عليه البلاد والضياع؛ ولذلك نجد أن الشاعر المصري قد جعل هذه القصيدة التي كانت فيما بعدُ نموذجًا لعظماء الفراعنة أمثال «سيتي الأول» و«رعمسيس الثاني» الذين نقلوها ونسبوها لأنفسهم، تتكلم على لسان الإله «آمون» الذي حباه «تحتمس الثالث» بكل هذه الخيرات مقابل تلك الانتصارات التي منحه إياها في ساحة الوغى، فاستمع للإله «آمون» يخاطب ابنه «تحتمس الثالث» الذي كان في اسمه سحر كعصا موسى يهزم جيوش الأعداء في كل المواقع.
يقول «آمون رع» رب الكرنك
ولا شك في أن القارئ قد وجد في هذه القصيدة مبالغات خارجة عن حد المألوف، كما هي العادة في المدائح التي نقرؤها في أشعار المدائح في الشرق عامةً، وهي تُعتبَر من الشعر الرسمي الذي ينقصه التنويع في التعبير والخيال السامي؛ ولذلك فهي لا تُعَدُّ في نظرنا من الأدب الراقي، غير أنها كانت في نظر المصري من الشعر النموذجي، وإلا لما نسبها بعض الملوك لأنفسهم كما ذكرنا (راجع كتاب الأدب المصري القديم جزء ٢ ص١٨٦).
(١٢) الموظفون وحياتهم الاجتماعية في عهد تحتمس الثالث
(١٢-١) الوزير «وسر آمون» أو «وسر»
يُعَدُّ الوزير «وسر» من أوائل عظماء الدولة الذين نصبهم «تحتمس الثالث» على إثر انفراده بالحكم، وذلك قبل بداية السنة الواحدة والعشرين، وهو العام الذي اختفت فيه «حتشبسوت».
(١) الأمير الوراثي، (٢) فم «نخن»، (٣) كاهن «ماعت» (العدالة)، (٤) رئيس العدالة، (٥) مدير أسرار بيت الفرعون، (٦) المشرف على بيتي الذهب وبيتي الفضة (أي: رئيس الخزانة)، (٧) المشرف على مخازن غلال «آمون»، (٨) وخازن كل الأشياء الثمينة في «الكرنك»، (٩) وعمدة المدينة والوزير، (١٠) والمشرف على القصور الستة، (١١) والمشرف على قاعات العدل الست العظيمة، (١٢) حامل خاتم ملك الوجه البحري، (١٣) السمير الوحيد، الأمير أمام العامة (أهل الوجه البحري)، كاتب كل الأحجار الثمينة الغالية، والمطهر، ومساعد كاهن الإله «مين» والقاضي، والمشرف على الكتاب.
الوزير «وسر» يحل محل والده عامثو
(أ) وصف تنصيبه وزيرًا
وقد أُجِيب الوزير المسن إلى ملتمسه، والمنظر الذي نتحدث عنه هو في الواقع يمثِّل الاحتفال بتنصيب الوزير «وسر»، فنشاهد «تحتمس الثالث» جالسًا تحت عرش منمق الحواشي، وقد وقف أمامه رئيس التشريفات، واثنان من سمار الفرعون و«وسر» نفسه، وقد كان حتى هذه اللحظة لا يحمل إلا لقب «كاتب خزانة» الإله في معبد «آمون»، وقد قرَّرَ المجلس الاستشاري تعيينه وزيرًا للدولة، ويُشاهَد على الجدار نقشٌ طويلٌ يقصُّ علينا الإجراءات التي كانت تتبع في مثل هذا الاحتفال، ولكن لسوء الحظ قد هشم هذا المتن الفذ أحد أهالي قرية «شيخ عبد القرنة» الذي اتخذ مقبرة الوزير مسكنًا له، ومع ذلك فإن ما أفلت من يده نستطيع به أن نكوِّن فكرةً لا بأس بها عن سير الاحتفال وخطواته، فنشاهد السمار يخاطبون الملك راجين إياه أن يلحظ أن قوى الوزير المسن (عامثو) قد انحطت، وأن جسمه قد ذبل؛ إذ قد قوس الدهر قناته، وأن واجباته العادية قد أثقلت كاهله، حتى إن المدينة قد أصبحت ضالة معلنة «أنه من الخير لبلادك أن تهتم بتعيين وكيل (عصا الشيخوخة)، وعلى ذلك طلب إليهم الفرعون أن يبحثوا عن رجل له شخصية بارزة، وكان رجال البلاط بطبيعة الحال قد وقع اختيارهم فيما بينهم من قبلُ على مَن يخلف «عامثو» هذا، غير أن واجب الأدب كان يحتم عليهم أن يلقوا أمام الفرعون خطابًا كله ملق، وأنه هو الذي وضع القوانين مدة «ملايين» السنين»، قبل أن يصلوا إلى الغرض الأصلي، وفي النهاية يقولون: «تأمَّلْ! إن ابنه الذي يُسمَّى «وسر»، وهو كاتب الخزانة للإله في معبد «آمون» (كما كان) في عهد والده «تحتمس الثاني»، وإنه من الخير أن يرقى إلى وظيفة «نائب وزير».»
أما بقية المنظر فيمثِّل لنا المهرجان الذي أُقِيم للوزير الجديد عند ذهابه إلى المعبد ليثبت تعيينه أمام الإله «آمون»، ومن هنا نجد بداية تأثير تمثال العبادة الذي كان يقام في المعبد للإله «آمون»، وهو ذلك التأثير الذي بُولِغ فيه لدرجة عظيمة منذ نهاية الأسرة العشرين، حتى إن الفرعون قد أصبح لا يستطيع أن يفصل في أمرٍ من أمور الدولة دون موافقة ورضاء الكهنة، الذين كانوا يسيطرون على آثار هذا الإله.
(ب) أهمية نقوش مقابر الوزراء في التاريخ
والواقع أن مقابر الوزراء كما ذكرنا من قبلُ تتحفنا على جانب عظيم من الأهمية في نواحي الحياة العامة، كما أننا نصل إلى معرفة بعض الشيء عن الحياة في مصر القديمة من قبور العظماء، التي بقيت لنا حتى الآن بألوانها وبهائها، غير أن هذه المقابر لا تفسح لنا المجال في هذا الصدد إلا في حدود نطاق ضيق، ومثلها في ذلك كمثل إنسان ينظر إلى صورة كبيرة في حجرة مظلمة تضاء فقط بنور خاطف، فحيث يقع شعاع النور نرى كلَّ شيء جميلًا واضحًا مميزًا، أما في الدائرة الخارجة عن هذا الشعاع فلا نشاهد إلا أشباحًا مبهمة تتضاءل صورها حتى تختفي في ظلام حالك، وهذا هو نفس ما ينطبق على مناظر المقابر، فنرى الشريف وهو جالس إلى وليمته يخدمه العبيد والإماء، ولكن لا نعلم شيئًا البتة عن حالة هؤلاء العبيد الاجتماعية حتى نرى الرجال مع نسائهم في انسجام ملؤه الحب، وليس لدينا أية فكرة عن عادات الزواج أو قوانينه بصورة واضحة.
ومن جهة أخرى نرى أن الاحتفالات الجنازية تُكرَّر أمامنا بدرجة تمجها النفس وتسأمها العين، ولا غرابة في ذلك؛ فإنها الأساس الذي بُنِي من أجله القبر، وعلى أية حال فإننا على الرغم من أننا مدينون لمناظر قبور «طيبة» بكل ما نعرفه عن الحياة الخاصة والنظام المدني في مصر، فإن المؤرخ يتألَّم من صموتها أو إشارتها إشارات عابرة إلى نواحٍ خاصة من الحياة القومية، مثل حالة المرأة وأعمالها، والدور الذي كان يلعبه المعبد، والمحاكم، والأسواق، والخدمة، والملاهي في حياة أبناء الشعب، ومقدار الحرية التي كان يتمتع بها الفلاح والصانع والتاجر، ومقدار التأثير الذي أحدثه دخول العبيد الأجانب في السكان، ووضع القوانين وغير ذلك؛ كل هذه المرافق لا نعرف عنها شيئًا إلا استنباطًا واستقراءً لما لدينا من نصوص ومناظر.
وكان المصري عندما يعود إلى الأرض في صورة ملاك كما يزعم، كان يرغب في رؤية بيته ومعبد مدينته، ويسمع خوار أبقاره، ويرى نمو نباتاته، فلم يكن يهمُّه كثيرًا موضوع جمع الضرائب وما يترتب عليها، أو الحروب الناشبة، أو السياسة وشئونها؛ وذلك لأنه لم يكن له عليها سلطان، بل يعلم أن كل هذه الأشياء كانت أعداء ألداء له مثل الطاعون والجوع؛ وحتى الموظف لم يكن يهتم إلا بشئون إدارية، من حيث إنها كانت مورد رزقه وإسعاده في الحياة. وإذا قسنا الملوك بما لهم من آثار، فإنهم لم يكونوا أحسن حالًا؛ إذ كان كل ما يشغل أفكارهم في الحياة الدنيا هو الفخار والاحتفالات الدينية، ثم التأليه بعد الموت، وقد كان الكاهن الأكبر في الواقع ملكًا دون أن يكون له أمل أن يُؤلَّه بعد الموت مثل الفرعون، وعلى الرغم من أنه لم يكن يشغل نفسه أكثر من أي فرد غيره بالأمور الدينية، فإنه كان من كبار المقتصدين، مثله في ذلك كمثل الأب الديني الحالي؛ إذ قد ترك لنا صورًا حية مفيدة جدًّا عن الضياع العظيمة والمصانع التي كانت في حيازته.
(ﺟ) الإخلاص في خدمة مصر كان الهدف الأول للوزير
أما الوزير فكان يضع كل مصر وأرزاقها في قبضه يده، وإذا حكمنا بما لدينا من الأمثلة الباقية ظهر أمامنا أنه كان يدَّخِر بين جنبيه لخير مصر كلَّ ما كانت تطمح إليه الأخلاق الإنسانية من مشاريع مثالية، وأعني بذلك تكوين حكومة وطنية سعيدة، فقد كان هو الفرد الوحيد الذي سما بنفسه عن الأثرة والطوائف، وأظهر لنا إحساسًا يوحي بأن الأمة يجب أن ترتكز على الأخلاق والقانون والخدمات المتبادلة؛ ولذلك كان يتصوَّر عودته في صورة ملاك إلى عالم الأرض ليتسلم ثانيةً عبء التفكير لمساعدة قومه بكل ما يسعدهم، ويصلح حالتهم، كما كان يفعل في حياته الدنيا؛ وإنَّا لنقف على سر ذلك من وصف «رخ مي رع» ابن أخيه الذي تولَّى بعده الوزارة مباشَرةً عندما يقول: «تأمَّلْ! إن منصب الوزير ليس بالحلو أبدًا، إنه مر كما يدل على ذلك اسمه (كلمة وزير معناها الرجل أو مَن يقوم بدور الرجل)، وإنه لجدار من نحاس يحافظ على ذهب بيت سيده، وليس يوجد رجل آخر يرغب في أن يعمل هذا لغيره، وإن الريح والماء يبلغان كل شيء بعمله، وإن الذي يجب عليه أن ينفذ العدالة في وجه كل إنسان هو الوزير، فليتك أيها الوزير تتبع القانون الذي سُلم إليك. تأمَّلْ! إن هذا هو طريق السعادة.»
هذا هو قبر الوزير «وسر آمون» الذي قد بدأ كما قلنا وزارته بالاشتراك مع والده «عامثو»، وتدل المعلومات التي جُمِعت عنه أنه مكث في الوزارة نحو عشرة أعوام، وترك خلفه ستة ذكور وسبع إناث، وقد توفي وهو يأمل أن يروح ويغدو في الجبانة بمثابة إنسان عمل بولاء وإخلاص مع بيت إله الشمس، ويتسلم طعامًا منه في كل الأبدية، وقد خلفه على كرسي الوزارة على حسب رأي بعض المؤرخين «رخ مي رع» أعظم الوزراء المصريين كما سنرى بعدُ.
(١٢-٢) أمنمحات بن تحتمس مدير بيت الوزير «وسر»
ذكرنا فيما سبق أن الوزير كان أعظم رجل في الدولة، وأن نفوذه في إدارة البلاد لا يُدانَى، وتدل كل ما لدينا من نقوش على صدق ذلك، وبخاصة إذا علمنا أن مدير بيته الخاص «أمنمحات بن تحتمس» كان يُعَدُّ من أغنياء القوم، وهو الذي كان يُعَدُّ ساعده الأيمن على ما يظهر، وكانت وظيفته الرسمية تنحصر بوجه عام في الإشراف على أملاك سيده ودخله، وحساب العبيد والحقول والغلال والمعادن الثمينة، وقد كان كذلك مُكلَّفًا بالإشراف على بعض الحياة الخاصة بالوزير والفرعون كما سلف ذكر ذلك؛ وقد ترك لنا في قبره «بجبانة شيخ عبد القرنة» لوحةً مؤرَّخةً بالسنة الثامنة والعشرين من حكم «تحتمس الثالث».
وألقابه كما وجدناها على مقبرته كالآتي: «الكاتب، وكاتب الوزير، والكاتب حاسب الحبوب، ومدير بيت الوزير، ومدير بيت الوزير للمدينة الجنوبية (طيبة)، والذي يراقب كل أملاكه، ومدير البيت الذي يحسب كل ما يوجد، ومدير البيت الذي يحصي الناس، ومدير البيت محصي الحبوب، ومدير البيت الذي يحصي حبوب الإله «آمون»، ومدير البيت الذي يحصي الحقول المنزرعة، والكاتب محصي الغلال في مخازن قربان «آمون» المقدسة، والكاتب الذي يحسب حبوب «آمون»، ورئيس عبيد «آمون»، ورئيس العبيد، والمشرف على الأراضي المحروثة، والمشرف على احتفالات بيت «آمون» «أمنمحات».»
ومناظر هذا القبر على الرغم من أنها ليست من الطراز الممتاز من حيث الفن والدقة، إلا أنها تحتوي على صور شائقة وهامة من الوجهة الدينية، مما ورث عن الدولة الوسطى، مثل منظر الحج إلى «العرابة المدفونة»، التي كانت تُعَدُّ كعبة الصالحين (راجع ج٣)، وكذلك الشعائر المختلفة الخاصة باحتفال فتح الفم. على أن أهم منظر يُشاهَد في القبر هو منظر الوليمة التي أعَدَّها أمنمحات احتفاءً بالمهندس والمفتنين الذين شيَّدوا له مقبرته، والنقوش الخاصة بهذا المنظر تحدِّثنا قائلةً: «شكرًا للصناع، وإقامة الوليمة لهم بالقربان المقدسة، ومكافأتهم بكل أنواع الأشياء الطيبة … فوضعت الأكاليل على رءوسهم، وقد صفها مدير البيت، محصي رجال «آمون … أمنمحات» المرحوم … إلخ.»
(١٢-٣) أمنمحات كاتب الملك
(١٢-٤) أمنمسو مدير بيت الفرعون في طيبة
(١٢-٥) أمنمس رئيس الرماة
الفرعون يرسله لتفقُّد أحوال ولايات آسيا
(١٢-٦) منخبر رع سنب الكاهن الأكبر للإله آمون
تدل المعلومات التي لدينا على أن والد «منخبر رع سنب» لم يكن صاحب مكانة ممتازة بين رجال عصره؛ إذ لا نعرف له أيَّ لقب، بل قد ذُكِر باسم «أمنمحات» وحسب، أما والدته فكانت مرضعة الفرعون، ويُحتمل جدًّا أنه الملك «تحتمس الثالث»، وتُسمَّى «تايونت»، وكانت في الواقع بنت امرأة تُدعَى «نبتا»، وهي أخت الفرعون من الرضاعة، ومن ذلك نعلم أن والدتها كانت كذلك مرضعة ملكية.
ألقابه
ومما يجدر ذكره في هذا القبر أنه لا يحتوي في معظمه إلا على مناظر تقليدية خاصة بالروح (كا) وما يهيئ لها متاعها، أما القبر الثاني وهو رقم ٨٦ فيحتوي على مناظر لها علاقة بنشاط «منخبر رع سنب» في نواحي الحياة الحكومية والاجتماعية والسياسية؛ ولذلك فإنه لا يشمل إلا مناظر قليلة جنازية، وهذا من الأمور التي تسترعي النظر في قبر رجل يشرف على الأمور الدينية في كلا القطرين، فضلًا عن أنه كان يُعَدُّ القائد الروحي في أكبر معبد لأكبر إله، وهو «آمون» ملك الآلهة وسيد «الكرنك».
الوظائف العليا والكهنة
ولكن ممَّا يلحظ هنا أن كل هذه البلاد لم تكن خاضعةً للحكم المصري في هذه الآونة، والواقع أن الفرعون وكاهنه الأكبر كانَا يريدان أن يُظهِرَا مقدار امتداد نفوذ مصر وسلطانها في هذا العهد؛ ولذلك نجد منقوشًا فوق الآسيويين الذين كان يسيطر عليهم فعلًا المتن التالي: «ما أعظم سلطانك! … وإن الأراضي ترتعد منها حتى «حايونبوت» (أهالي الشمال وجزر البحر الأبيض)، وإن الخوف منك يحيط بالدائرة العظمى، والفزع في كل الأراضي، وإنك قد خربت أرض «المتني» وقد محوت مدنهم، ورؤساؤهم آووا إلى الكهوف.»
وممَّا يلفت النظر أنواعُ الجزية التي قد أحضروها، فقد كان معظمها يشمل أواني وآلات مصنوعة مما تنتجه هذه البلاد، وكذلك الخيل التي كانت تحتاج إليها مصر في هذه الآونة بسبب الحروب التي كانت تشنها.
منخبر رع سنب يتسلَّم جزية بلاد النوبة
وفي منظر آخَر نشاهد «منخبر رع سنب» يتسلَّم ذهب صحراء «قفط» وذهب بلاد النوبة الخاسئة جزيةً سنويةً، والمنظر يمثِّل لنا الذهب في صور مختلفة بعضه حلقات، وبعضه تبر، وجزء منه سبائك وُضِعت كلها في حقائب مختومة استعرضت على حصير، وبجانب هذا كاتب يدوِّن الوزنَ، وهنا نشاهد رئيس المازوي (شرطة الحدود والصحراء) ورئيس مناجم الذهب يقبِّلان الأرض بين يدَيْه، وخلفهما رؤساء الصيادين، وقد أحضروا معهم في حملتهم هذه نعامًا وريش نعام، وبيض نعام، ووعولًا وأرانب ممَّا اقتنصوه في الصحراء في أثناء اجتيازهم لها.
منخبر رع سنب يفتش مصانع آمون
وفي هذا القبر منظر آخَر نشاهد فيه «منخبر رع سنب» يفتِّش مصانع معابد «آمون»، ويُشرِف على العمال الذين كانوا يقومون ببعض الأعمال التي قد طلبها الفرعون شخصيًّا، وممَّا يلحظ هنا أن نظام العمل في هذه المصانع كان ممتازًا؛ إذ نشاهد عمَّال المعبد يتسلَّمون المواد الغفل ويوزِّعونها، كلٌّ على حسب حاجته، في حين أنه كان يوجد كَتَبَة يدوِّنون ما كانت تتسلَّمه كل جماعة من العمال، ونرى في هذه المصانع صناعة العربات، وصناعة القسي والسهام، كما يُشاهَد الحدَّادون يصبون بابًا من نحاس، وآخَرون يصنعون أواني دقيقة وقاعدة مصباح من الذهب.
منظر الحصاد وتوزيعه
(١٢-٧) أمنمحاب المسمى معحو
لقد مرَّ بنا ذكر «أمنمحاب» في مناسبات عدة في حروب «تحتمس الثالث»، وسيأتي ذكره كذلك عند الكلام على «أمنحتب الثاني».
غير أننا سنورد تاريخ حياته بنوع من التفصيل، وبخاصة في ملازمته «تحتمس الثالث» في حروبه الكثيرة؛ لأنها من التراجم القليلة التي تحدِّثنا عن حروب هذا الفرعون، وقبل أن نوردها هنا سنضع أمام القارئ النعوت والوظائف التي منحه إياها الفرعونان «تحتمس الثالث» وابنه «أمنحتب الثاني»: الأمير الوراثي، حامل خاتم ملك الوجه البحري، والسمير العظيم الحب والمقرَّب جدًّا من رب الأرضين، والممدوح من الإله الطيب، والذي يتبع سيده في صيد الطيور، والذي على رأس سماره وعلى رأس أتباعه، والضابط ونائب الجيش، والسمير الوحيد، وفم ملك الوجه القبلي، وأذنا ملك الوجه البحري، والذي في قلب «حور» (الملك) في بيته، والذي يتبع الملك في حملاته على الماء والأرض في كل البلاد الأجنبية، وفي كل مكان يسير فيه جلالته، رفيق الرضاعة، وأول حارس يتعب خطوات رب الأرضين، وحارس خطواته على الماء وعلى الأرض في كل البلاد الأجنبية، وعينا الملك «حور» وتابع الملك، والعظيم في وظيفته، والنبيل المفضَّل على كل عظماء الملك، رئيس الرماة، والنائب، وغير ذلك من النعوت والألقاب، غير أن أعظم لقب ناله في أخريات حياته هو لقب «نائب جيش الفرعون».
وترجمة حياة «أمنمحاب» قد تركها لنا منقوشة على جدران قبره في «جبانة شيخ عبد القرنة» (رقم ٨٥)، وهو يحتوي على مناظر عدة تُلقِي بعض الضوء على حياته أيضًا وسنذكرها بعدُ.
قائمة بذلك: … حلقتان من الفضة، وقد رأيت ثانيةً شجاعته عندما كنتُ مع أتباعه، فقد استولى على مدينة «قادش»، ولم أكن غائبًا عن المكان الذي كان فيه، وقد أحضرت اثنين من الأشراف (مرينا) أسرى أحياء، وقد وضعتهما أمام ملك الوجه القبلي رب الأرضين «تحتمس الثالث» عاش مخلدًا، وقد منحني ذهبًا بسبب شجاعتي أمام كل الناس.
قائمة بذلك: سبع وقلادتان من أحسن الذهب، وكذلك ذبابتان، وأربعة أساور معصم، ولقد شاهدت سيدي في … في كل صورة في بلاد أخرى، وفي نهايات الأرض … وبعد ذلك رقيت لأكون … في سير الجيش جميعًا، ولقد شاهدت ثانيةً انتصاراته في بلاد «تخسي» الخاسئة في بلدة «مريو» … وقد حاربتُ يدًا ليد أمام جلالة ملك الوجه القبلي، وقد أحضرتُ ثلاثةً من الآسيويين أسرى أحياء، وقد منحني على ذلك سيدي ذهبَ الثناء.
وقد أرسل جلالته كل شجاع في جيشه لنقب الجدار لأول مرة، وهو الذي أقامته «قادش»، وكنت أنا الذي نقبته لأول مرة، وبذلك كنت أول كل الشجعان، ولم يفعل ذلك آخر قبلي، ولقد برزت وأحضرت اثنين من «المرينا» (أي: الأشراف) أسرى أحياء، وقد كافأني سيدي ثانيةً على ذلك بكل شيء جميل يسر القلب، وقد قمتُ بهذا الاستيلاء وأنا لا أزال ضابطًا في السفينة «وسرحات»، وكنت أنا الذي أدير أمراس سفينة «آمون المسماة وسرحات»، وكنت على رأس نواتيها عند سياحة «آمون» في عيد «آمون» الجميل المسمى «إبت» (الأقصر)، عندما تكون كل الأرضين في ابتهاج. تأمَّلْ! لقد أتمَّ الملك عمره في سنين عدة طيبة، وكان شجاعًا قويًّا ومنتصرًا من أول سنة حتى العام الرابع والخمسين، الشهر الثالث من فصل الزرع، آخِر يوم في الشهر من عهد ملك الوجه القبلي والوجه البحري «منخبر رع» المرحوم، وعندئذٍ رفع إلى السماء وانضمَّ إلى «آتون» وامتزجت أعضاؤه مع خالقه، وعندما أضاء الصباح وطلعت الشمس وأشرقت السماء، مكن ملك الوجه القبلي والوجه البحري ابن الشمس «أمنحتب» على عرش والده وتسلَّم ألقابه الملكية، وامتزجت كلها وضم … وقطع رءوس أمراء الأرض الحمراء، وتوج بوصفه «حور بن إزيس»، واستولى على … وكل الأرض تنحني لقوته، وجزيتهم على ظهورهم لأجل أن يمنحهم نفس الحياة.
وقد لحظ جلالته أني أجدف تجديفًا مدهشًا معه في سفينته المسماة: «أمنحتب يتوج بالعدل»، وكنت أجدف بكلتا يدي في العيد الجميل (الأقصر) مثل جمال الأفق حتى وصل إلى الشاطئ، وقد أمرت أن أصعد داخل القصر، وأمرت أن أقف أمام ابن «آمون»، وإنه «أمنحتب» العظيم البطش، وقد انحنيت في الحال أمام جلالته، وقال لي: إني أعرف أخلاقك منذ أن كنت في المهد، وعندما كنت تتبع والدي، وإني أمنحك وظيفة نائب الجيش كما قلتُ، فأشرف على نخبة جنود الفرعون، وقد نفذ نائب الجيش «معحو» كلَّ ما قاله سيده.
ومن المناظر الغريبة التي نصادفها في مقبرة هذا القائد العظيم منظر الضبع التي قابلها، وقد تكلمنا عنه فيما سبق، غير أن «ديفز» يفسِّره بأنه منظر الفيل الذي قُطِع خرطومه، وأن الرسم هنا غير دقيق؛ لأنه قد رسم من المخيلة؛ إذ لم يكن هذا الحيوان مألوفًا عند المصريين.
زوج أمنمحاب تلعب دورًا في حياته الحكومية
الخروج إلى المدينة، ورؤية «آمون» والتمتُّع بالضوء الذي يمنحه قرصها (أي: الشمس)، وتسلية القلب في بطاح الغرب، والغدو والرواح في بحيرتها، وترويح القلب تحت ظلال جميزتها، وزرعها بأزهارها وشرب الماء اللذيذ من بركتها، وشم السوسن، وقطف الأزهار بواسطة الأمير الوراثي، المقرب من رب الأرضين، والممدوح من الإله الطيب «نائب الجيش» «أمنمحاب».
وهكذا كان ينعم المقربون من الفرعون بملاذ الحياة الدنيا، كما كانت تتوفر لهم أسباب الرفاهية للتمتُّع بألوان النعيم المقيم في آخرتهم، وقد خلدوه على جدران مقابرهم، أما الشعب فكان نصيب أفراده على ما يظهر واحدًا في كلتا الحالتين، إذا صدَّقنا ما يقومون به من أعمال شاقة، وما يحتلونه من وظائف وضيعة في ظلِّ هؤلاء المحظوظين، على الرغم مما قاموا به من حروب طاحنة لمساواتهم بأولئك العظماء والملوك في عالم الآخرة.
(١٢-٨) أنتف الحاجب
ترجمة حياة أنتف لنفسه تنمُّ عن روح العصر الخلقية
وقد ترك لنا «أنتف» هذا على لوحته الشهيرة، فضلًا عن الأعمال التي كان يقوم بها لراحة الفرعون وصفًا رائعًا يدل على ما كان له من مكانة ممتازة، مما يقرب إلينا صور أمثال هذا الرجل العظيم، وما كان يجب أن يتصفوا به من الصفات العالية من الوجهة الخلقية بالنسبة لعلاقتهم بالشعب، كما كشف لنا النقاب عمَّا كان ينتظره من خلفه لإحياء ذكره ومد روحه بالقربان، والواقع أن ما كان ينقشه أمثال هؤلاء الرجال الممتازين، على الرغم مما فيه من مبالغات وخيال خصب، يمكن المؤرخ من أن يستخلص منه حقائق عظيمة عن حياة القوم من نواحٍ عدة، ولسنا نميل كل الميل مع هؤلاء المؤرخين الذين يقولون إن كل هذه الوثائق التي تتحدث عن جميل أخلاق أصحابها وفضائلهم ليست إلا تقليدًا أجوف نقله الخلف عن السلف؛ إذ إن مجرد تكريرها يؤكِّد لنا أن القوم كانوا يعلمون أنها هي التي يجب أن يتخذها الرجل المستقيم نبراسًا ومثلًا يسير على هديه؛ ليصل إلى حسن الأحدوثة في عالم الدنيا والخلود والنعيم المقيم في عالم الآخرة.
ومن أجل ذلك سنورد هنا الجزء الأعظم مما جاء على لوحته هذه، فاستمع إليه وهو يقول مخاطبًا الأحياء: «أنتم يا مَن تعيشون على وجه الأرض، ويا أيها المواطنون وكل كاهن مطهر، وكل كاتب وكل كاهن مرتل سيدخل هذا القبر في الجبانة، إذا كنتم تحبون الحياة الدنيا ولا تفكرون في الموت، وأن يحبكم آلهة مدنكم (الآلهة المحلية)، وألا تذوقوا رهبة أرض أخرى، وأن تدفنوا في مقابركم وتخلفوا وظائفكم لأولادكم، وجب على كل فرد منكم يقرأ هذه الكلمات على هذه اللوحة أو يسمعها أن يقول: قربانًا يقدِّمه الملك «لآمون» رب تيجان الأرضين ليعطي ألفًا من الخبز، وألفًا من الجعة، وألفًا من البقر، وألفًا من الإوز، وألفًا من آنية المرمر، وألفًا من قطع النسيج (وألفًا من الشعل وألفًا من الزيت)، من أجل روح الأمير الوراثي وحامل خاتم ملك الوجه البحري والسمير الوحيد، والمقرب من الفرعون، بوصفه مدير جيشه، والذي يعين موظفي الجيش، ويقترع جنوده، والذي يعدُّ السمار، والذي يقود الأشراف، والذي يجعل خلصاء الفرعون يصلون إلى أماكنهم، قائد القواد، ومرشد ملايين الرجال، والرئيس صاحب الوظائف الرفيعة، صاحب المكانة المتقدمة والممتاز في الحضرة، والذي يرفع كلمات المواطنين (للفرعون)، والذي يضع التقارير عن شئون الأرضين، والذي يتحدَّث عن الشئون في المكان السري، ومَن يدخل محملًا بالأشياء الطيبة، ويخرج بالحمد، ومَن ينصب كل إنسان في مكانة والده، ومَن يسر القلب، ومَن يثني على أهل الثناء، ومَن يقف عند كلامه العظماء، ومَن يضع الأنظمة في القصر، ومَن يجعل كل فرد يعرف واجباته، ومَن يضع الحدود في القصر (للإدارة)، ومَن يخلق الرهبة في المكان العظيم، ومَن يسكت الأصوات، ويوجد المكانات العالية، ومَن يحفظ القوم في مكان الصمت، ومَن يعدل ميزان الإله الطيب، ومَن يرشد القوم لما يفعلونه، ومَن يقول فليعمل، وعلى ذلك ينفذ (ما أراد) كما تخرج من فم الإله، ومَن يضع الأوامر للقوم على حسب أعمالهم للملك، ومَن يحدِّد حساب كل بلد أجنبية، ومَن يقدم جزية أمرائهم، والعظيم في شئون حساب الأعداد، اليقظ … عمل، ومَن يعرف ما في قلب الملك له الحياة والفلاح والصحة، واللسان الذي يتكلم لمَن في القصر، وعينا الملك، ولب رب القصر وتعليم كل الأرض، ومَن يغل العاصي، ومَن يهدئ الثائر … من العاصي، قوي الساعد مع اللصوص، ومَن يستعمل العنف مع مَن يستعملون العنف، قوي القلب مع أقوياء القلوب، ومَن يخضع بساعده مَن كان عالي الظهر (أي: قويًّا)، ومَن ينهى ساعة قاسي القلب، ومَن يجعل المذنب يعمل على حسب قواعد القانون، على الرغم من أن قلبه غير راضٍ، والعظيم الفزع بين المجرمين، ورب الخوف بين ثائري القلوب، ومَن يغل القرن، ويصد الشرس، وإنه أمان القصر، ومؤسس قوانينه، ومَن يهدئ الدهماء لسيدهم، الحاجب الأول لقاعة المحاكمة، حاكم «طيبة» ورئيس كل بلاد الواحات، والكاتب الممتاز الذي يحلُّ الكتابة «أنتف» المنتصر.
مكانة أنتف
ومن هذا النقش الذي جمع كل أعمال هذا الرجل العظيم، وما كانت تتطلبه وظيفة الحاجب الأول للفرعون، نلحظ أولًا ثقل أعباء هذه الوظيفة، إذا كان حقًّا كل ما نسبه إليها من مهام، يضاف إلى ذلك ما وصف به نفسه من صفات وأخلاق تضعه في المرتبة الأولى بين الموظفين الذين نقرأ عنهم الأقاصيص الخيالية؛ إذ في الواقع نجد أنه قد صور لنا الرجل العظيم لا الموظف العظيم، ولا غرابة إذن إذا كان «تحتمس الثالث» كان قد انتخبه ليكون في ركابه وحملاته، ووكَّل إليه أشقَّ مهمة، وهي الإشراف على شخصه والمحافظة عليه في البلاد النائية عن الوطن.
(١٢-٩) أمو نزح حاجب الفرعون
ألقاب أمو نزح
الأهمية التاريخية لمناظر قبره
(١٢-١٠) مين نخت
والظاهر أن «مين نخت» بعدما عدَّد ألقابه شعر بأنه قد بالَغَ فيها، فقال في نهايتها: «إنه لم يَقُلْ كذبًا ولم يفعل ضرًّا.»
مناظر قبره
(١٢-١١) «سن نفر»
رحلة «سن نفر» إلى بلاد لبنان
(١٢-١٢) «آمون مس» كاتب بيت المال
(١٢-١٣) أمنمحاب مدير بيت الفرعون
(١٢-١٤) «آمون أرى نفر» المشرف على المخازن
(١٢-١٥) «أمنمحات» وكيل آمون
(١٢-١٦) «أمنمحات» حاكم بيت تحتمس الأول
(١٢-١٧) «أنتف» كاتب المجندين
(١٢-١٨) «بري» الكاتب
أهمية محتويات قبره
ولا نزاع في أن محتويات هذا القبر تضع أمامنا صورةً ناطقة عن الثراء والغنى والبذخ الذي كانت تنعم فيه البلاد في هذا العصر، وبخاصة إذا علمنا أن هذه الأشياء قد وُجِدت في مقبرة موظف صغير يحمل لقب كاتب وحسب.
(١٢-١٩) «باثا» المشرف على الماشية
(١٢-٢٠) «بتاحمس» الوزير
وقد عُثِر على لوحة في معبد «تحتمس الثالث» الجنازي المسمى «المعطي الحياة»، وقد كُتِب عليه اسم هذا الفرعون، ولما كان الوزراء الطيبون الذين في عهده معروفين لنا، فإنه من المحتمل جدًّا أن «بتاحمس» هذا كان وزير الوجه البحري، وقد عُثِر له على جعارين تحمل لقب «والد الإله» والوزير.
(١٢-٢١) «بتاحمس» حامل الخاتم
(١٢-٢٢) «مني»
(١٢-٢٣) «معي» المشرف على الكهنة
(١٢-٢٤) «منتو إيوي» ساقي الفرعون
(١٢-٢٥) «نفرحبو» طحان آمون
(١٢-٢٦) «نفربرت» ساقي الفرعون
(١٢-٢٧) «نفر-رنبت» المسمى كذلك «قفي»
(؟) هذا الموظف له قبر في «ذراع أبو النجا»، وكان يُلقَّب صائغًا وحفار تماثيل.
(١٢-٢٨) «نب وعي» مدير بيت الإله أوزير
(١٢-٢٩) «نخت» مدير الغلال
(١٢-٣٠) «حبي»
(١٢-٣١) «خارو» حامل العلم
(١٢-٣٢) «ساموت»
(١٢-٣٣) «سني مس» مربي الأمير «وزمس»
(١٢-٣٤) «كام حر إبسن»
(١٢-٣٥) «دديا» المشرف على كتاب مباني آمون
(١٢-٣٦) «ددي» رئيس الشرطة
(١٢-٣٧) «تحتمس» ساقي الملك
(١٢-٣٨) «تاي» المشرف على الخزانة
(١٢-٣٩) الوزير «رخ-مي-رع»
قبره يمثِّل مدينة الأسرة الثامنة عشرة
تدل شواهد الأحوال كلها على أن الوزير «رخ مي رع» الذي عاصَرَ الفرعون «تحتمس الثالث»، وتقلَّد في عهده شئون وزارة الصعيد حتى وفاة ذلك العاهل، ثم استمرَّ في وظيفته مدة قصيرة في عهد «أمنحتب الثاني»، على أنه كان أعظم الوزراء الذين تربَّعوا على عرش هذا المنصب طوال عهد الأسرة الثامنة عشرة، ولا أدل على ذلك ممَّا تركه لنا من نقوش على جدران قبره الذي يُعَدُّ أفخم مقابر هذا العهد وأضخمها حجمًا؛ إذ لا نزاع في أنه يُعَدُّ سجلًّا سياسيًّا وأدبيًّا ودينيًّا وصناعيًّا واجتماعيًّا لهذا العهد الحافل بجسام الحوادث الخارجية والداخلية، وإنه ليكفي أن نقول هنا إن ما جاء على هذا القبر يضع أمامنا صورةً ناطقةً لا تحتاج إلى شرح أو بيان عن مدنية مصر في أزهى عصورها، من كل ناحية يريد بحثها المؤرخ، وهذه الصورة تمتاز بما تمثله أمامنا معنًى وحسًّا، فلا تترك للمؤرخ أن يحيد عن جادة الحق؛ إذ تمثِّل له كل صورة يتخيَّلها، وتمده بالنقوش التي توضحها، من أجل ذلك آثرنا أن نضع أمام القارئ ملخصًا مفصلًا بعض الشيء عمَّا جاء في نقوش هذا القبر معبِّرًا عن حياة «رخ مي رع» وحضارة العصر الذي عاش فيه.
ألقاب «رخ مي رع»
(أ) ألقابه الفخرية التقليدية
الأمير الوراثي، والحاكم المحلي، وحامل خاتم الوجه البحري، والسمير العظيم الحب، والسمير الذي يستطيع الاقتراب من شخص الفرعون، وأنبل السمار، ورئيس السمار، والمشرف على أعلى الوظائف، والوجيه (ساب)، والقاضي الأعظم، والنائب عن بلدة «نخن» (فم نخن)، والمشرف على الملابس الرسمية، وخادم «حور»، وتابع ملك الوجه البحري.
(ب) ألقابه الإدارية
(ﺟ) ألقابه في إدارة أملاك آمون
مدير أعمال «آمون» كلها في «الكرنك»، والمشرف على الأعمال، والمشرف العام على صناعات «آمون»، والمشرف على الصناعات، والمشرف على مصانع «آمون»، ومدير بيت «آمون»، والكاتب الأول لقربان معبد «آمون».
(د) ألقابه الدينية
نعوت «رخ مي رع»
موضع ثقة «حور» سيد مصر، مَن يُؤتمَن ويتحدث إليه سرًّا، وثقة الملك؛ وثقة الفرعون في البلاد كلها، والثقة العظمى عند الملك، ومَن يرفع الصدق لمَن في القصر يوميًّا، والممدوح من الملك، والممدوح من القصر، والممدوح من الملك في القصر، ومَن يفعل ما يمدحه أصدقاء القصر، والممدوح في كل ساعة، وعينا الملك، وقلب الملك (له الحياة والفلاح والصحة)، وأذنا الملك، ومَن يرضي رب الأرضين بمشاريعه، ومَن يقضي بالعدل في القصر، وصاحب المكانة الممتازة في الحجرة الخاصة، وأخو ملك الوجه القبلي من الرضاعة، ومَن يكفل له سيد مصر معاشه، ومَن جعله ملك الوجه القبلي عظيمًا، ومَن شرفه ملك الوجه البحري، ومَن رفع مقامه ملك الأرضين، والمتقدِّم في منزلته، والمماثل للملك، وضارب مَن يضرب، والثور المنتقم، والضارب المتكلم عنه بسوء (أي: عن الملك)، والأول في الأرضين، ورئيس الأرضين قاطبة، عظيم العظماء، وأعظم مَن في الأرض، والمنصب على رأس القوم، والأول في نظر الشعب، والمراقب على الشئون الاجتماعية، والإداري اليَقِظ، ومَن رأسه غاية في اليقظة، ومَن يملأ المخازن، ومَن يملأ مخازن الغلال، والمحامي الذي يجلب الرضا للأرض قاطبة، ومَن يضع السنن لكل القضاة، والمتصرف في شئون العدالة لرب الأرضين يوميًّا، والقاضي المحايد، والقاضي بالعدل بين الفقير والغني، ومَن لا يبكي منه متظلم، ومَن يجعل المتخاصمَيْن ينصرفان راضيَيْن، ومَن يجعل الشاكين ينصرفون مطمئنين، والحازم في الفصل في الأحكام.
والمعلم الفعلي للحرف، ومرشد أصحاب الصناعات، ومَن يرشد الصانع في خطواته (؟)، ومَن يجعل كل إنسان يعرف واجبه، ومَن يجعل كل إنسان يعرف عمله المعتاد، ومَن يعلم كل إنسان الخطوات التي يجب أن يتخذها (في عمله)، ومَن يضع القواعد للمشرفين، والمدرب في أمور طوائف العمل، ومَن يعمل للهدف، ومَن يبني للأجيال المقبلة، ومَن يضع الوظائف في ترتيبها الصحيح، ومَن يطلب في كل لحظة لقيمته، والحاكم الذي ينشرح له القلب، ومَن يهب المحتاج، والممتاز لنفعه لمَن أحسن إليه، وصانع الجميل لمَن يصنع له، ومَن يدخل المحراب (أي: مثل الملك)، ومَن لا يخفي عنه الإله شيئًا، والعالم بكل شيء في السماء والأرض وفي كل مكان خفي في العالم السفلي، ومَن لا يكلُّ، والممتلئ كفاية، والماهر في عقد كل أنواع العصائب، والمنزَّه عن كل ضعف روحي، والمحبوب كثيرًا، ورب اللطف، والساحر برقته، والسامي في شهرته، والعالي في مكانته، والعظيم الاحترام، والكبير المنزلة، والثابت الخطوة، والمتمكِّن في الحب، والممدوح من الإله «نبري» (رب الحبوب)، والممدوح من «إنوتت» (ربة الحصاد)، والممدوح من «سخات حور» (حامية البقرات)، والممدوح من «أنوبيس»، والممدوح من «آمون»، وحبيب إلهة البطاح، وحليف إلهة صيد السمك، ومَن هو رابع مَن يفصل بين التوءمين (أي: الإله «تحوت» إله العلم والحساب والزمن والقضاء).
وهذه الوظائف والنعوت التي كان يشغلها أو يتحلَّى بها «رخ مي رع»؛ إذا صحَّ أنه كان يتولَّى القيام بأعبائها ويتصف بها حقيقةً، تدل على أنه كان يمتاز بنشاط يفوق نشاط البشر، وبعدالة وذكاء وحُسْن تدبير قلَّمَا نجد مثلها في تاريخ العالم، اللهم إلا الأنبياء والمرسلين الذين اصطفاهم الله من بين عباده، والواقع أن المصري في كل عصور تاريخه كان يميل إلى الإغراق في الثناء على نفسه والتمدُّح بمميزاته، ولكن مع ذلك كله كان «رخ مي رع» رجلًا فذًّا في ذكائه وحُسْن تصريفه للأمور، وإلا لما اختاره أعظم الفراعنة وزيرًا له جل مدة حكمه، والظاهر أنه قد ورث هذه المقدرة عن أسرته الذين تربَّعَ عدد عظيم منهم على كرسي الوزارة؛ ولذلك سنتكلم أولًا عن تاريخ أسرته وما لها من ماضٍ عريق في المجد، كما صوَّرها لنا «رخ مي رع» نفسه على جدران قبره.
مقبرة «رخ مي رع» وزخرفها
يدلُّ ما وقفنا عليه من معلومات على أن «نفر-وبن» والد «رخ مي رع»، كان في أول أمره على ما يظهر كاهنًا متواضعًا من بين كهنة الإله «آمون» العديدين، وذلك على الرغم من أنه كان ابن الوزير «عامثو» (أحمس)، وهو الذي خلفه على كرسي الوزارة ابنه «آمون وسر» الذي يُسمَّى أحيانًا «وسر» فقط، والظاهر أن «نفر-وبن» كان يشغل وظيفة كاهن عندما انفتحت عينا ابنه الصغير «رخ مي رع» على عالم الوجود. وقد شاءت الصدف والأقدار معًا أنه عندما وقع بصره على مولوده الجديد، وهو في مهده، أن يناديه باسم «رخ مي رع» (= أي: العارف كالإله «رع»). ويشاء الحظ بإرادة الله أن يحقِّق المستقبل هذه التسمية في شخص هذا الطفل إلى حدٍّ ما؛ إذ إن «رخ مي رع» عندما وصل في منهاج حياته السياسية إلى قمة مجده، وهو في خدمة مليكه «تحتمس الثالث» نحت لنفسه مقبرة فاخرة في جبانة «شيخ عبد القرنة»، وقد كان من بين النعوت التي وصف نفسه بها في نقوش هذه المقبرة النعت التالي: «إنه محيط بكل شيء في السماء والأرض، وفي كهوف العالم السلفي.» وبذلك تحقَّقت نبوءة والده عندما سمَّاه «رخ مي رع»، أو العارف كالإله «رع».
وهذا القبر العظيم الذي حفظ لنا على جدرانه من النقوش أثر أعظم الوزراء المصريين، يحمل الآن رقم ١٠٠ في جبانة «شيخ عبد القرنة» ﺑ «طيبة الغربية». ولا نزاع في أن عظم حجمه واتساع رقعته وجمال صنعه ودقة فنِّه تبعث في النفوس حتى الآن، مع ما أصابه من تهديم وتخريب الهيبة والروعة.
(أ) موقع قبر «رخ مي رع» وهندسته
نحت الوزير «رخ مي رع» قبره في منحدر الطريق الجبلي لتل «شيخ عبد القرنة»، وقد كان يرمي من نحته في هذه البقعة إلى الاستفادة من خلوها من المقابر؛ ولذلك زاد في رقعته بدرجة عظيمة جدًّا فاقت حد المعتاد في مثل هذه القبور التي كان ينحتها عظماء القوم في هذه الجبانة، ومن الغريب أن واجهته على الرغم من كبرها واتساعها وارتفاعها، لم تكن من الضخامة بمكانة تلفت النظر، وقاعته المحورية تمتد في داخل صخور التل إلى مسافة تربي على مائة قدم، وخارجة هذه القاعدة ضيقة بالنسبة لما هو مألوف، وتمتاز بسقف يرتفع عن رقعتها بحدة كلما امتدت في جوف الجبل؛ إذ يبلغ ارتفاعه أكثر من ثمانية أمتار عند نهايتها التي تتألَّف من كوَّة تبلغ أبعادها ستة أقدام طولًا في مثلها عمقًا.
أما مساحة هذه المقبرة فرحبة؛ إذ يبلغ عرضها نحو تسعة عشر مترًا، ورقعتها مسطحة منبسطة.
(ب) مناظر المقبرة
وتحتوي هذه المقبرة على حجرتين، إحداهما تمتد إلى أعماق التل كما ذكرنا، والثانية نُحِتت محاذيةً لواجهة المقبرة في الصخر من الشمال والجنوب، وجدران هاتين الحجرتين قد زُيِّنتا بمناظر ومتون هائلة، ويبلغ مسطح جدرانها حوالي أكثر من مائة وأربعين مترًا مربعًا، وقد غُطِي هذا السطح العظيم كما قلنا بمناظر بعضها مألوف معروف لنا، وبعضها فريد في بابه شيق مبتكر في موضوعاته، ولا يكاد يماثلها في صورة مصغرة إلا مقبرة الوزير «وسر» (أو «آمون وسر») الذي تحدَّثنا عنه آنفًا، وقد نظمت هذه المناظر على طريقة طريفة في هذه الجدران، فالجدران النهائية للحجرة الخارجية قد خُصِّصت للموضوعات الشخصية، فنشاهد على الجزء الجنوبي منها مثلًا أسماء الوظائف التي كان يقوم الوزير بأعبائها، كما نقرأ على الجزء الشمالي كذلك مشاهد من أعمال الوزير، هذا بالإضافة إلى أخرى توضِّح إشرافه على ضياع «آمون»، ومناظر تمثِّله في الصيد والقنص في الصحراء. أما النصف الخارجي من جدران الممر المحوري الطويل للحجرة الكبرى فقد حلي بالمناظر الدنيوية، فنشاهد على الجدران الجنوبية مناظر تمثِّل «رخ مي رع»، وهو يدير أملاك معبد «آمون»، وعلى الجدران الشمالية نشاهد مناظر تحدِّثنا عن مفاخر الوزير الرسمية، ويعقبها مباشَرةً منظر يمثِّل الحفل باعتلاء «أمنحتب الثاني» عرش الملك، وفي هذا يظهر للمؤرخ المحقق جليًّا تقلُّبات الحياة ومفاجآتها المنطوية على الغدر، وما في الصدور من علة وضغينة؛ إذ نرى على حين غفلة مناظر هذا القبر تأتي إلى نهاية مباغتة توحي إلينا بأن هذا الوزير العظيم، الذي طالما قاد سفينةَ البلاد إلى بر النجاة والفلاح، قد انقضت حياته الحكومية بنهاية مفجعة قاتمة.
أما الموضوعات الدينية والجنازية فكانت تحتل الأجزاء المرتفعة من رقعة جدران هذه الحجرة عند نهايتها، وتشمل طائفة عظيمة من المناظر التمثيلية الخاصة بشعائر الدفن، وما يتبعها من طقوس لإحياء المومية أو التمثال الذي يحل محلها (شعيرة فتح الفم).
ومما يسترعي النظر هنا أن اسم «رخ مي رع» قد أُزِيل جملةً من نقوش مقبرته، اللهم إلا ما كان بعيدًا عن متناول الذين كُلِّفوا بهذا العمل المشين، أما الحملة التي قام بها شيعة «أتون»، فكانت شاملة كاملة في ناحيتها، وقد كان عملهم منحصرًا في محو اسم «آمون» واسم الآلهة الآخرين، ثم اسم معبد «الكرنك»، ومحو رسم جلد الفهد الذي كان يرتديه الكاهن «سم»، وهو الذي كان يقوم بالدور الأعظم في تمثيل شعيرة «فتح الفم»، يضاف إلى ذلك ما حاق بالمقبرة من تخريب على أيدي الذين اتخذوها مسكنًا دنيويًّا لهم ولماشيتهم في عصرنا الحاضر حتى زمن قريب جدًّا.
تاريخ أسرة «رخ مي رع»
ونشاهد على الجدار منظرين مُثِّل فيهما «رخ مي رع» وزوجه جالسين إلى مائدة قربان، كان يباركها أحد أبنائه الذي كان يقوم بدور الكاهن لوالده، وقد ارتدى جلد الفهد الدال على ذلك، غير أن هذين المنظرين قد مُحِيَا، وتدل النقوش المفسِّرة لهما على أن الابن الذي قام بهذا الدور في الصورة العليا كان يُسمَّى «منخبر رع سنب»، أما الذي في الصورة السفلى فكان يُدعَى «أمنحتب»، وكان الأول يشغل وظيفة كاتب جزية معبد الإله «آمون»، والثاني يتقلَّد وظيفة كاتب خزانة الإله «آمون».
أما أفراد الأسرة الذين مُثِّلوا في هذه الصورة فينقسمون أربع مجاميع وهي:
(١) أسرة «أحمس» (الذي كان يُسمَّى «عامثو» أيضًا)، وهو الذي كان متربِّعًا على كرسي الوزارة في باكورة حكم «تحتمس الثالث». (٢) أسرة ابنه الوزير وسر (وكان يُسمَّى آمون وسر أيضًا). (٣) أسرة ابن آخَر يُدعَى «نفر-وبن». (٤) ثم أسرة «رخ مي رع» وهو ابن «نفر-وبن».
ففي هذه الوثائق الثلاث لا نجد اللقب المتواضع الذي أعطاه «رخ مي رع» لوالده «نفر-وبن»، ونقرأ مكانه الألقاب التالية التي تدل على أنه كان وزيرًا: العمدة والوزير وغير ذلك من الألقاب التي كان يحملها ابنه «رخ مي رع». وإنه لمن البعيد جدًّا ألَّا يكون «نفر-وبن» هذا ابن «أحمس عامثو» ووالد «رخ مي رع»، وتدل شواهد الأحوال على أن لقب الوزير الذي كان يحمله «نفر-وبن» قد حُذِف بداهةً من مقبرة «رخ مي رع»؛ وذلك لأن تنصيبه في هذه الوظيفة كان على يد «حتشبسوت»، وقد ناهَضَ «تحتمس الثالث» اغتصابها السلطة الملكية؛ ولذلك كان يعدُّ كلَّ مَن تربَّعَ على كرسي الوزارة في عهدها كأن لم يكن، وقد حدث ذلك فعلًا مع الكاهن الأكبر «حبو سنب»، فإنه قد حرم عليه أن يذكر في نقوش قبره أنه كان وزيرًا في عهد «حتشبسوت»، ولم يكشف لنا حقيقة عن تولِّيه هذه الوظيفة إلا تمثال واحد، ومن المحتمل أن «نفر-وبن» قد عرف أن تماثيل معبده كان سيحافظ عليها كهنته الذين تعاقَدَ معهم على تأدية القربان لها، وأظن أن «عامثو» كان وزيرًا في عهد «حتشبسوت» ولكنها عزلته، وربما كان ذلك لمعارضته لها في ادعاءاتها العريضة المتطرفة، ونصبت بدلًا منه ابنه «نفر-وبن»، وقد أعاده «تحتمس الثالث» وهو في شيخوخته إلى وظيفته في الوزارة، ثم تولاها «آمون وسر» وهو ابن أخ آخَر بمثابة مساعد وخلف، وبدهي أن وراثة الوزارة في هذه الأسرة كانت منيعة الجانب متسلسلة فيهم.
(أ) أولاد «رخ مي رع»
ومما يُؤسَف له أن أسماء أولاد «رخ مي رع» قد مُحِيت، غير أنه قد بقي لنا من أسماء السيدات ما يمكننا من أن نحقق شخصياتهن بأنهن بنات «رخ مي رع»، ويدل ما لدينا على أن أسماء بناته على ما يظهر كانت كما يأتي: «تاخعت» و«موت نفرت» و«حنت تاوي»؛ غير أنه ليس من المستطاع أن نستخلص مما بقي لدينا من النقوش أسماءَ أولاده الذكور على وجه التأكيد غير الاثنين اللذين ذكرناهما فيما سبق، ويقومان بدور الكاهن لوالديهما إلا ما يأتي: «مري» المشرف على مصانع آمون، و«سنوسرت» الكاتب، ثم «قن آمون».
(ب) أفراد آخرون من الأسرة
ويُشاهَد في هذه الصورة فرد يُدعَى «بقي» ويُلقَّب: تابع الفرعون في كل الأراضي الأجنبية بموافقة الإله الطيب، والمشرف على بقرات «آمون»، وزوجه «آت»، وقد جلسا إلى جانب من الوليمة، ويحتمل جدًّا أنهما والِدَا السيدة «بت» أم الوزير «رخ مي رع».
حياة «رخ مي رع» كما دوَّنها عن نفسه
تنصيب «رخ مي رع» وزيرًا للصعيد
-
الملك يستقبل «رخ مي رع»: يُشاهَد على النصف الجنوبي من الجدار الغربي من القاعة صورة
الفرعون «تحتمس الثالث» وهو جالس على عرشه، وقد نقش معه الخطاب
الطويل الذي وجَّهه لوزيره «رخ مي رع» عندما نصبه وزيرًا، وقد
استعرض في هذا الخطاب السلطة التي خلعها عليه، وكذلك توكيله
لاستقبال سفراء الدول الذين يحملون الهدايا إليه، ومن المحتمل
أن هذا الحادث قد وقع عند الحفل بعيد «سد» في السنة الثالثة
والثلاثين من حكم هذا الفرعون. وقد قلنا في الجزء الثالث من
هذا الكتاب إن هذا الخطاب الذي كان يوجِّهه الفرعون إلى وزيره
يرجع عهده إلى الأسرة الثانية عشرة، وقد أدلينا بالبراهين التي
استندنا إليها في هذا الزعم (راجع ج٣).
وفي المنظر الذي أمامنا في هذه المقبرة نشاهد مكانَ صورة «رخ مي رع» التي مُحِيت بيد أعدائه فيما بعدُ، وكان واقفًا أمام الفرعون، والظاهر أن وقفته في هذا المنظر كانت تشبه وقفه عمه «عامثو». وعلى أية حال فقد بقي لنا متن يلخِّص لنا الموقفَ والمنظر معًا (راجع: Pl. XIV)، وهو: التعاليم الرشيدة التي فرضت على الوزير «رخ مي رع» واجتماع المجلس في حضرة الفرعون له الثناء، وطلب الوزير المنصب حديثًا ليمثل أمام الفرعون.مهام الوزير التي وضعها الملك: «قال له جلالته: انظر إلى قاعة الوزير، وكُنْ يَقِظًا للقيام بكل الإجراءات فيها. تأمَّلْ، إن ذلك يعني توطيد حالة البلاد قاطبةً. تأمَّلْ، إن منصب الوزير ليس حلوًا قط بل إنه مر المذاق كالصبر. تأمَّل، إنه البرنز الذي يحيط بنضار بيت سيده. تأمَّلْ، إن القصد منه ألَّا يجعل لنفسه ولا لموظفي إدارته اعتبارًا ما، وألا يتخذ من الشعب عبيدًا. تأمَّلْ! إن كل ما يعمله الإنسان في بيت سيده هو أن يتحدَّث بما يرضى …»حب الشعب له: «تأمَّلْ، إذا حضرك شاك من الوجه القبلي أو الوجه البحري، أي: من البلاد قاطبةً، مستعدًّا للمحاكمة … لأجل سماع قضيته، فواجبك أن ترى كلَّ إجراء لازم لذلك قد اتخذ على حسب القانون، وأن يكون كل تصرُّف يتفق مع العرف الجاري … تأمَّلْ! عندما يكلف حاكم بسماع قضايا، عليك أن تجعلها علنيةً، وبذلك تجعل الماء والهواء ينقلان كلَّ ما عساه أن يفعل. تأمَّلْ، فإنه بذلك لن يبقى سلوكه خافيًا، وعلى ذلك إذا أتى أي أمر (غير مُرْضٍ) يُلام عليه، فيجب ألا ينصب ثانيةً بأمر من رئيسه، بل يجب أن يعلم الناس فعلته التي فعلها بواسطة القاضي الذي حاكمه، وعلى القاضي أن يشترك مع رئيسه في النطق بالحكم بالصيغة التالية: إنها ليست قضيةً لأصدر حكمي فيها، وإني أرسل الخصم ليتحاكم أمام الوزير أو أمام أيِّ موظف كبير، وبذلك لن يخفى على الناس ما فعله.»تمسُّكه بالقانون: «تأمَّلْ! إن التمسُّك بالمبادئ الأولى القانونية، فيه أمان للحاكم في تنفيذ التعليمات الجارية، وعلى ذلك فإن المدَّعِي الذي يحاكم يستطيع أن يقول: «ليس هناك عقبة لنيلي حقي.» تأمَّلْ! تأمَّلْ! إنها تعاليم ثابتة مثل قوانين «منف» ومثل النطق الملكي، ومثل صرامة الوزير، ومثل إصدار المرسومات؟ …»تحذير مُقتبَس من التاريخ: «تجنَّبْ ما نُسِب للوزير «خيتي»، فإنه قد ظلم في حكمه رجلًا من عترته لمصلحة آخَرين، وذلك خوفَ الاعتراض عليه ورَمْيه بالتحيُّز، وهو بفعلته هذه قد حابى الظالم؛ ولذلك لما قدَّمَ أحد الناس احتجاجًا على دعوى قد دبَّرها على أحد أقارب الوزير، سارت الدعوى في مجراها، ونجح في كسبها بسبب إجحاف الوزير، وهذا كان مبالغةً منه (أي: الوزير) في تنفيذ العدالة … فالمحاباة بغيضة عند الله، وهذا تعليم يجب أن تسير على سننه.»إرشادات في المعاملات: «يجب أن تراعي مَن تعرفه كما تراعي مَن لا تعرفه، وكذلك الفرد الذي يلتجئ إليك كالفرد البعيد عنك … فإذا سار حاكم على حسب هذه الطريقة فإنه سيصيب النجاح في هذه الإدارة، ولا تتخطَّ مدَّعيًا قبل أن تسمع شكايته، وإذا كان هناك خصم يريد أن يشكو إليك فلا … فالذي يقوله بكلمة، وإذا رفضت شكايته فعليك أن تجعله يسمع السبب الذي من أجله رفضتَ شكايته. تأمَّلْ! فإنه يقال إن المدَّعي يفضِّل سماعَ أقواله عن أن يفصل في القضية التي حضر من أجلها.»سلوك الوزير الشخصي: «لا تغضبن على رجال ظلمًا، بل اغضب على مَن يستحق الغضب عليه، ابعث الرهبة في نفسك حتى يخشاك الناس؛ لأن ذلكم الموظف الذي تخشاه الناس هو الموظف الحقيقي. تأمَّلْ! إن شهرة الموظف تنحصر في أن يفعل ما هو حق. تأمَّلْ! إن الرجل إذا بعث الخوف منه مرات عدة أكثر ممَّا يجب فقد يدعو ذلك إلى اتهام الناس له بعدم الاستقامة، ولن يقولوا عنه: «إنه رجل!» تأمَّلْ! إنه لكذب أن تقول: إن الموظف الذي يحرِّف الكَلِم عن مواضعه سيفلح على حسب ما أصاب من شهرة. تأمَّلْ! إنك ستصل إلى حيث يكون القيام بوظيفتك، وعملك ما هو حق سيان عندك. تأمَّلْ! إن المثل الأعلى هو أن تكون المعاملة الحقة هي الدعامة في نجاح الوزير. تأمَّلْ! إن عمله ينحصر في القيام بأداء الإشراف الدقيق؛ لأنه كاتب «ماعت» (إلهة العدل) وهكذا يقال عنه.»الوزير يعمل على حسب نظام: «والآن إن القاعة التي تسمع فيها القضايا تحتوي حجرة فسيحة الأرجاء، وفيها وثائق عن كل الأحكام القضائية، والرجل الذي سيقضي بالحق على رءوس الأشهاد كلهم هو الوزير. تأمَّلْ! إن الرجل حينما يكون قائمًا بمهام وظيفته يجب عليه أن يعمل على حسب التعليمات التي أعطيها، والرجل الذي يعمل طبقًا لما أمر به لا حرج عليه، فلا تتبعن هواك في أمور قد عرفت مبادئها القويمة. تأمَّلْ! إنه لمن سوء طالع الرجل المتهوِّر أن يفضِّل الرجل الرزين على الرجل المتهوِّر، فعليك إذن أن تعمل على حسب القوانين التي أعطيتها. تأمَّلْ! إن من واجبك بوصفك شريكًا في العمل أن توجِّه اهتمامك للأرض الزراعية، وذلك بوضع نظام محكم، فإذا اعترضتك صعاب عندما تقوم بتحقيق، فعليك أن تكلِّف المشرفين على الأراضي والمشرفين على «شنتو» وموظفي الأقاليم بدرس المسألة، وإذا كان الشخص الذي سيفحص المسألة موظفًا كبيرًا، فعليك أن تسأله ما الذي فعلته في الموضوع الذي أُسنِد إليك؟»وبعد ذلك الخطاب الرائع نشاهد الوزير خارجًا في موكب رسمي بعد هذه الجلسة من بين يدي الفرعون حاملًا عصًا طويلة، ويتقدَّمه حرس الشرف الذي كان يشمل ستة رجال، وقد كُتِب على هذا المنظر ما يأتي: «مغادرة عمدة المدينة والوزير «رخ مي رع» البلاط — له الثناء — حيث قد نال تقدير سيد القصر، كما وكل إليه أمر سياسة مصر وإدارة شئونها، وذلك على غرار ما عمل والده عمدة المدينة والوزير «عامثو».» يضاف إلى ذلك أن المتن الذي نُقِش فوق صورة ستة العظماء يفسِّر لنا أنهم كانوا يُفسِحون الطريق لرئيسهم الوزير عند مغادرته قاعة العرش، كما نفهم منه أيضًا أن ذلك هو نهاية منظر تنصيب الوزير، فاستمع إلى ما جاء فيه (Pl. XVI. 1–16) سمار الفرعون — له الحياة والسعادة والصحة — يخرجون أمام الوزير، والمديح يندفق منهم، ويغنون ابتهاجًا بالكلمات التالية: «يا أيها الحاكم صاحب الآثار الجميلة، يا «منخبر رع» يا مَن يثبت كل وظيفة ويمد المعابد بالقوانين والمبادئ الرشيدة من كل نوع وهو آمن على عرشه، يا مَن ينصب الأشراف في أماكن آبائهم، ليته يكرِّر الاحتفال بعيد «سد»، وليته يكون قائد القوم عائشًا مخلدًا.» وقد كان كل واحد من هؤلاء السمار يحمل غصنًا أخضر يانعًا إشارةً إلى الفرح والسرور.
-
رخ مي رع يستقبل جزية البلاد الأجنبية: وتدل النقوش على أن الوزير قد عقد جلسةً لاستقبال ممثِّلي
البلاد الأجنبية، ويُحتمل أنها كانت رمزًا لتقلُّده كرسي رياسة
الوزارة؛ إذ نشاهد «رخ مي رع» تتقدَّمه طائفة من الكَتَبة
والخدم، ويفسِّر لنا جزء من المتن التابع لهذا المنظر أن
الوزير كان يتسلَّم جزيةَ البلاد الجنوبية (راجع:
Pl. XVI, 1–8) الخاضعة
لمصر، هذا بالإضافة إلى جزية بلاد «بنت»، وبلاد «رتنو» (آسيا)،
وكذلك هدايا بلاد الكفتيو (كريت)، هذا غير أسرى البلاد
المختلفة الذين استولى عليهم الوزير لفخامة جلالة ملك مصر
«منخبر رع» العائش مخلدًا.
ونعلم من قائمة الإنعامات والوظائف أن الفرعون قد نصبه على رأس أتباعه وصيًّا على الأرض قاطبةً؛ لأنه أدَّى للمليك خدمات جليلة، على أن هؤلاء الوفود الأجانب قد لمسوا المنزلة السامية التي يتمتع بها «رخ مي رع» عند سيده.
ولا نزاع في أن هذا المنظر الذي يقدِّم فيه أولئك الأقوام الأجانب خضوعهم لمصر واعترافهم بسيادتها يُعَدُّ من المناظر الهامة جدًّا، وعلى الرغم من أن هذا المنظر قد جمع بين أقوام الشمال والجنوب (أي: آسيا وبلاد السودان) في صورة واحدة، فإن ما حواه من أشكال ومعلومات جعلته يحتل مكانةً هامةً جدًّا، وبخاصة إذا علمنا أن أمثال هذه المشاهد كانت غريبةً نسبيًّا عن أعين المصريين في إبَّان الفتوح الأولى، وبخاصة قبل أن يختلط المصريون بهؤلاء الأقوام اختلاطًا تامًّا، كما حدث في الأزمان التي تلت العهد الذي نحن بصدده الآن.
- العلاقات الخارجية: ونرى أمامنا في هذا المنظر من هؤلاء الأقوام اثنين يمثِّلان أهالي بلاد «بنت»، ثم يأتي بعدهما طراز من الناس يمثِّل ثقافة شمالي البحر الأبيض المتوسط، أي: بلاد كريت، وهذان الإقليمان بعيدان عن متناول الجيوش المصرية، ومع ذلك فإنهما كانا مدينين لمصر بما كان بينهما وبينها من تجارة رابحة رائجة، هذا فضلًا عن أشياء أخرى كثيرة غير ذلك، ومن ثَمَّ نعلم أن سكان هذين البلدين كانوا يعدون طبقة تختلف عن البلاد التي فتحتها مصر بحد السيف، وهما بلاد السودان والأقطار الآسيوية، وكان يجلب منهما الأسرى، ومن ذلك نعلم أن بلاد «بنت» وبلاد «كريت» كان يربطهما بمصر رابطة التجارة على وجه خاص، أما بلاد السودان والأقطار الآسيوية فكانت بلادًا تابعة لمصر، وخضعت لها بحد السيف، وكان لزامًا على أهلها أن يقدِّموا الجزيةَ طوعًا أو كرهًا.
- بلاد بنت: لقد ذكرتُ في الجزء الثاني من هذا المؤلَّف كلَّ ما نعرفه عن بلاد «بنت»، وهو شيء ضئيل؛ إذ الواقع أن ما وصل إلينا عن ثقافتها يكاد يكون في حكم العدم، وذلك على الرغم من أن مصر كانت متصلةً بها منذ عهد الأسرة الخامسة، ولا بد أنها بلاد قد حمتها الطبيعة؛ إذ لا نجد ما يدل على ميل الأهالي للحروب، يضاف إلى ذلك أن البلدين كانا يشعران بقرابة بعيدة تصل بينهما، ممَّا جعل بلاد «بنت» مهيَّأة للتأثُّر بالنفوذ المصري، ولولا ما كان بين البلدين من بُعْد الشقة ووعورة المسالك لَأصبحت الروابط بينهما عظيمة جدًّا. وليس لدينا معلومات صريحة تحدِّثنا عن أن أهل «بنت» كانت لهم طرق تجارية بحرية، وإن كان ذلك من المحتمل؛ إذ نعلم من نقوش قبر رقم ١٤٣ في طيبة الغربية، أن بلاد «بنت» كانت لها سفن تجارة غريبة الشكل، ومن المحتمل أن هذه السفن الخشنة الصنع كانت ميزتها تنحصر في أنها تستطيع السير في الشواطئ المرجانية (Davies. M. M. A. XXX. (1935) Nov. II. p. 40–49).
-
هدايا بلاد بنت: ومن المعلوم أن أهم محصولات بلاد «بنت» الخاصة التي أغرت
المصريين بالرحلات الخطرة إلى هذه الجهات؛ الصمغ الذكي الرائحة
(عنتو)، وهو ما يمكن أن نطلق عليه اسم بلسم، دون أن نتعرف لاسم
النبات الذي كان يُستخرَج منه، وقد كان أمل الملكة «حتشبسوت»
أن تنقل هذا النبات الذي كان يُستخرَج منه هذا الصمغ إلى طيبة،
وقد نقل فعلًا منه عدة شجرات.
والظاهر أن مشروع توطينه في مصر لم يفلح تمامًا، غير أنه مع ذلك لم يهمل كليةً؛ إذ نجد نباتًا من هذه الفصيلة في قبر «رخ مي رع» (راجع: Paintrgs Pl. I.)، وقد كان يُجلَب هذا الصمغ إلى مصر في سلات، ويُكدَّس في أكوام أمام الكَتَبة، أو كان يُقدَّم في هيئة هرم أو مسلة تعظيمًا لمصر؛ وذلك لأن حبيباته الحمراء القاتمة تشبه إلى درجة كبيرة الجرانيت الأحمر. وكذلك من محصولات هذه البلاد الذهب، فنشاهد سلتين من هذا المعدن في هيئة حلقات، وفي سلة أخرى خواتم مطبوعة، ويوجد كذلك سلة مملوءة بمادة حمراء كُتِب عليه «حجر أسود» اسمه «كم كا»، وأخرى تحتوي على مادة بيضاء من المرجان (؟)، هذا إلى ثلاث سلات تحتوي وسطاها على مادة حمراء تُدعَى (خنت)، أما الأخريان فيضمان على ما يظهر بخورًا.أما المنتجات الأخرى فهي: الأبنوس، والعاج، وجلد الفهد، وزجاجة من الجلد، وريش نعام، وبيض نعام، وذيول زراف، وقلائد، وسيف من الخشب وهو السلاح القومي، هذا إلى حيوانات حية منها القردة والنسانيس والوعل وفهد (شيته) (راجع: Pl. XVII.)، أما الرجال الذي مثلوا في هذه الصورة من أهل «بنت»، فينقسمون قسمين، الأقلية منهم لهم لحًى طويلة حقيقية وشعور مرسلة بطولها الطبيعي، وقد لُفَّتْ بأشرطة بيضاء، وهذا الجنس هو نفس الجنس الذي نشاهده في رسوم حملة بلاد «بنت» التي رُسِمت على جدران معبد الدير البحري، أما القسم الثاني فيمثِّل الجنس الزنجي تقريبًا، وهو ذو شعر قصير مجعَّد، ويُحتمَل أن القسمين كانَا من الجنس الحامي الذي اختلط بالساميين، كما نشاهد الآن في بلاد الحبشة. وكلا الجنسين يلبس القميص القصير الذي يستر الوسط، وهو لباس يرتديه أقوام كثيرون، وذلك يرجع إلى بساطته على وجه عام، والمتن الذي نُقِش فوق هذا المنظر جميعه هو:
وصول رؤساء «بنت» في سلام مطأطئين رءوسهم إلى مكان جلالته ملك الوجه القبلي والوجه البحري «منخبر رع»، ليته — يعيش مخلدًا — محضرين جزيتهم، وهي هدايا منوَّعة حسنة من بلادهم، وهي بلاد لم تطأها قدم أحد آخَر — وذلك بسبب عظيم قوته في كل بلادهم؛ لأن كل أرض خاضعة لجلالته. وقد كان «رخ مي رع» الأمير الوراثي هو الذي تسلَّمَ الجزية المختلفة الأنواع التي أُحضِرت لجلالته من كلِّ الأقطار بسبب انتصاراته، وكل قطر كان خاضعًا لجلالته.
وأمثال هذا المتن يجعل القارئ يفهم أن بلادًا «كبنت» لم يفتحها الفرعون بحد السيف، ضمن المستعمرات التي أخضعها الفرعون مثل بلاد «سوريا» وأقاليم السودان، والواقع أنها ليست من هذا النوع.
-
الكفتيو: أما النقوش التي دُوِّنت فوق قوم «الكفتيو» فهي:
وصول رؤساء «الكفتيو» في سلام، وكذلك رؤساء الجزر التي في البحر الأخضر العظيم مطأطئين رءوسهم لعظمة جلالة ملك الوجهين القبلي والبحري منخبر رع — معطي الحياة مخلدًا — وهو الذي بانتصاراته في كل الأراضي … حاملين جزيتهم على ظهورهم، أملًا منهم في أن يمنحوا نفس الحياة لولائهم لجلالته، وليسمح لهم بالاحتماء بقوته. وقد كان الوزير «رخ مي رع» ثقة الفرعون وحاكم المدينة، وهو الذي تسلَّمَ جزيةَ كل الأراضي التي أحضرت لما لجلالته من قوة.
- هدايا الكفتيو: أما أنواع المحاصيل التي أهدتها هذه الأصقاع فتُشاهَد مكدَّسة أمام كَتَبة، وتشمل ما يأتي: (١) ركائز من فضة. (٢) سلة مملوءة باللازود. (٣) حلقات فضة. (٤) ركائز فضة. (٥) إناء من الذهب له مقبض متحرك. (٦) إناء من اللازورد مثبت فيه أشرطة ومقابض مذهبة. (٧) إناء من الذهب له مقبضان في صورة فهدين. (٨) طبق من الذهب. (٩) قدح مزخرف من الذهب. (١٠) إناء «حس» أزرق اللون. (١١) إناء من الفضة ذو مقبضين. (١٢) رأس لبؤة من الذهب. (١٣) طبق من الذهب. (١٤) آنية دقيقة الصنع من الفضة مرصعة بالذهب. (١٥) كأس للشرب من الذهب له فوهة على هيئة رأس وعل. (١٦) أربع ركائز من الفضة. (١٧) رأس كلب من الذهب الأصفر الباهت (؟). (١٨) رأس طائر له عرف من الذهب. (١٩) رأس أسد من الذهب. (٢٠) إناء من الذهب له مقبضان. (٢١) رأس ثور من الذهب. (٢٢) ثلاث ركائز من النحاس. (٢٣) آنية من الفضة ذات قنوات لها رأس وعل من الذهب بمثابة غطاء، ومقبضان من الذهب مثبتان بأشرطة من الذهب. (٢٤) إناء كبير من الفضة له مقبضان. أما الهدايا التي نشاهدها محمولة على أيدي رجالٍ ففيها (Plates XVIII XX & “Paintings,” III–V): (٢٥) طاس مزخرف لونه أصفر. (٢٦) خنجر في قراب لونه أزرق. (٢٧) طاس مزخرف من الفضة له شريط ورأس وعل وزهرات من الذهب. (٢٨) كأس مدبَّبة من الذهب وجزؤها الأسفل مزركش. (٢٩) كتل من الأحجار الثمينة (؟). (٣٠) خنجر في قراب أزرق. (٣١) إناء ذو فوهة لونه أبيض. (٣٢) طاس من الذهب مزخرف. (٣٣) خنجر في قراب أحمر اللون. (٣٤) ركيزة من النحاس. (٣٥) كأس مزركش أسفله مدبَّب من الذهب. (٣٦) إناء ذو مقبضين من الفضة. (٣٧) سيف لونه أصفر. (٣٨) طاس مزركش من الذهب بزهور زرقاء ونقط. (٣٩) إناء من الذهب (؟). (٤٠) ركيزة من النحاس. (٤١) إناء من الفضة ذو فوهة. (٤٢) إناء من الذهب ذو مقبضين. (٤٣) قلادة من الخرز الأزرق. (٤٤) إناء من الفضة ذو مقبضين. (٤٥) زجاجة مصنوعة من الجلد لونها أحمر قاتم. (٤٦) طاس من الذهب مزخرف. (٤٧) قلادة خرز. (٤٨) طاس ذهب مزخرف. (٤٩) كأس من الذهب مزركش. (٥٠) ركيزة نحاس. (٥١) إناء من ذهب. (٥٢) طاس من الذهب مزخرف. (٥٣) سمط من الخرز الموشى بالذهب وملوَّن بالأحمر والأزرق على التوالي. (٥٤) إناء من الذهب ذو مقبضين. (٥٥) زجاجة مصنوعة من الجلد الأحمر القاتم. (٥٦) سن فيل. (٥٧) إناء من الذهب ذو فوهة.
-
تحقيق موقع بلاد «كفتيو»: كانت العبارة «بلاد كفتيو والجزر التي في داخل البحر الأخضر
العظيم» موضعَ حدس وتخمين كثير، للوصول إلى معرفة ما إذا كانت
بلاد «كفتيو» والجزر التي في داخل البحر الأخضر العظيم (أي:
البحر الأبيض المتوسط) تدل على جهتين منفصلتين، أو أن الثانية
هي عين الأولى، وأن كلمة كفتيو قد ذُكِرت في الأول لأهميتها،
أو أنها اسم أُطلِق على كلِّ جزر البحر الأبيض جميعًا. والواقع
أن العبارة لا تدل على هذا ولا ذاك صراحةً، وذلك أن المنظر
الذي رُسِم أمامنا يدل كلُّ صفٍّ فيه على نوعٍ من الناس له
جنسيته المميزة له وثقافته الخاصة به، فنرى على الرغم ممَّا
يوجد من اختلافات طفيفة مثلًا أن كلًّا من كلمة «كفتيو»
و«إينتو-ستي» و«رتنو»، تدل على صنف خاص من الأقوام التي نبحث
فيهم الآن، وقد أتوا حاملين الجزية والهدايا للفرعون؛ على أنه
مع ذلك قد يتفق أحيانًا أن يضاف لاسم هذا الصنف من الناس اسمُ
بعض السكان المجاورين بمثابة شرح وتفصيل؛ ففي الحالة التي نحن
بصددها الآن قد أُضِيفت عبارة سكان «جزر الأخضر العظيم»
للدلالة على أنهم من جنس أهل «الكفتيو»؛ لأنهم من سلالة واحدة
ولهم ثقافة مشتركة، ومثل ذلك كمثل سكان «خنتي حن نفر»، فإنهم
لا يختلفون اختلافًا ظاهرًا على ما نعلم عن السكان الذين
يُدعَون «إينتو ستي»، وهم الذين يقطنون على الشاطئ الأيمن
للنيل جنوبي الشلال الأول (راجع: Gauthier,
Dic. Geog. IV. p. 182)، وكمثل سكان
«رتنو» (سوريا)، فإن لهم فروعًا وصلات ثقافية تمتد شمالًا من
بلاد «رتنو» الأصلية.
والواقع أن كلًّا من هؤلاء الأقوام الثلاثة له ثقافته الخاصة به، وعلى ذلك فإن الكاتب المصري عندما ذكر «الكفتيو» والجزر التي في داخل البحر الأخضر العظيم، كان يريد بلدًا واحدًا، كما يقال الآن مصر وملحقاتها؛ على أنه يوجد الآن رأي يميل إلى ربط الثقافة المنوية (أي: ثقافة كريت) «بقبرص» والجزر الهيلانية وبلاد الإغريق نفسها الواقعة على جانبي بحر «إيجة»، ويرتكز هذا الرأي على براهين قوية، وعلى ذلك يمكن القول هنا إن «كفتيو» لم تُعرَف هنا بوصفها جزيرة «كريت»، بل أعطيت الأولوية لتدل على ثقافة جزائرية عامة، وقد حاول الأثري «وينريت» (J. E. A. Vol. XVII. p. 26 f) أن يثبت عبثًا أن كلمة «كفتيو» تدل على البلاد الواقعة غربي جبال «آمانوس» في آسيا الصغرى، وأنها كانت تُدعَى عند المصريين الجزرَ التي في داخل البحر الأخضر العظيم. ويمتاز جنس «الكفتيو» في رسوم مقبرة «رخ مي رع» بمميزات خاصة (Plates XVIII–XX. & “Paintings” III–V)، أهمها أن لون بشرتهم يميل إلى السواد، وشعورهم طويلة ذات تجاعيد مقوسة على قمة الرأس، وكذلك يُلاحَظ أن كلًّا منهم يحتذي نعلًا له لفافة للساق مزركشة gaiters، ويرتدي قميصًا مزركشًا منسقًا قصيرًا.ونجد في حالتين أن الرجل منهم كان يرتدي لباسًا مصنوعًا من جلد حيوان من فصيلة القط شعره غزير، أو كان يرتدي جلدين مربوطين إلى بعضهما وقرابًا لعضو التذكير ملونًا في كل الحالات، وقد دلَّ الفحص على أن هذا هو الزي المنواني (راجع: Davies, Rekh-mi-Re. p. 23–25).
-
النوبيون: أما المتن الخاص بوفود بلاد النوبة فهو كما يأتي: «وصول
رؤساء البلاد الجنوبية في سلام، وهم أهل «إتنتو ستي» و«خنتي حن
نفر»، مطأطئين رءوسهم ومقبِّلين الأرض وحاملين جزيتهم … لملك
الوجهين القبلي والبحري «منخبر
رع» — ليته يمنح الحياة
مخلدًا — آملين أن يمنحوا نفس الحياة، وقد كان «رخ مي رع»
الحاكم الوراثي وحامل خاتم الوجه البحري، والسمير الوحيد،
وعمدة المدينة والوزير، وهو الذي تسلَّمَ جزية البلاد المختلفة
التي أُحضِرت لفخامة جلالته لما له من قوة وسلطان ونفوذ في كل
الأراضي.»
والواقع أن ما نشاهده من ثقافة في بلاد النوبة يتضاءل عندما نقرنه بالثقافة «المنوية» التي لعبت دورها في الحضارة الغربية، هذا فضلًا عن أن ما نشاهده في رسوم مقبرة «رخ مي رع» لا يحدِّثنا عن ثقافة خاصة ببلاد النوبة في العهد الفرعوني؛ وذلك لأن مصر كانت قد غذت النوبة بثقافتها، غير أن نفوذها كان قد تضاءل جدًّا من هذه الناحية في عهد الهكسوس؛ ولذلك كانت حضارة البلاد الأصلية قد راجت في تلك الفترة، على أن ما نشاهده في مقبرة «حوي» من رسوم يدل على الثقافة المصرية في هذه البلاد وانتعاشها من جديد بسرعة مدهشة (راجع: Stemdorff, “Aniba”, I. p. 10 ff. & 23)، ولا بد من عمل حفائر لمعرفة ثقافة القوم الأصلية؛ لأن ما نشاهده هنا ينحصر في أن أهل النوبة كانوا يمدون مصر بما لا تنتجه وحسب.
- أهالي النوبة: (راجع: Plates II, XVIII–XX. & “Paintings”, VI, VII) الواقع أن الباحثين من رجال الآثار لا يعرفون إلا النزر اليسير عن الحدود الفاصلة بين القبائل التي كانت تتألف منها بلاد النوبة قديمًا، كما كانوا لا يعرفون الكثيرَ عن مدى امتدادها جنوبًا، وإذا فحصنا الصورة التي مثل فيها أهل الجنوب، نجد أن الشخصين الأولين يختلفان عن الباقين من حيث الشعر والملبس، غير أن الهدايا التي يحملونها تجعلنا نعتقد أنهما من الأغلبية السائدة في هذه الأصقاع، ويدل الشريطان المتدليان من شعرهما على أن هذا الشعر ربما كان مستعارًا، ويُفهَم من هيئتهما أنهما الرئيسان اللذان كانا على رءوس الوفود.
- هدايا بلاد النوبة: (Plates, II, XVIII-XX. & “Paintings”, VI–VIII) أما الهدايا التي تُشاهَد مكدَّسة أكوامًا في الصورة، فتشمل المحاصيل العادية التي تنتجها بلاد النوبة، وتتألف من ريش نعام وبيض نعام وقِطَع من الأبانوس، وقضبان وحلقات من الذهب، وثلاث سلات مملوءة من السام، وقرد أخضر اللون جالس على كرسيه الخاص، وست جرات من عطور «ستي»، وخمسة جلود فهود، وست أسنان فيلة، وسلة من حجر «حماجت» الأحمر، وأخرى من حجر «شسمت» الأخضر، ومعظم هذه المواد التي سردناها نشاهدها ثانيةً محمولةً على أيدي رجال الوفود، هذا بالإضافة إلى ذيول زرافات وجلود، واحد منها لحيوان ملوَّن بالأحمر والأبيض ومخالبه مقطوعة؛ وآخَر يشبه الثعلب وهو الذي يُستعمَل رأسه عادةً في أطراف الحلة الملكية، وفي أطراف القضيب السحري (راجع Pl. XXXVII. row 2)، أما الحيوانات التي جاء بها هذا الوفد حيةً، فتشمل فهدًا ونسناسًا وزرافة، وكذلك طائفة من كلاب الصيد أبدع المفتن في إخراجها، هذا إلى أبقار من نتاج البلاد نفسها رُسِمت برءوس نحيلة وقرون كذلك ركبت في هيئة غريبة خارجة عن حد المألوف.
-
أهل الرتنو: والمتن الذي نُقِش على وفود «رتنو» هو ما يأتي
(Fig. 5):
وصول رؤساء «رتنو» في سلام ومعهم كل بلاد آسيا الشمالية، مطأطئين رءوسهم وجزيتهم على ظهورهم، أملًا منهم في أن يُمنَحوا نفس الحياة بسبب ولائهم لجلالته؛ لأنهم رأوا انتصاراته العظيمة جدًّا. حقًّا إن بطشه قد قهر قلوبهم، والآن يتسلَّم منهم جزيةَ البلاد كلها السيد محبوب الآلهة وموضوع ثقته العظيمة في كل الأرضين، وعمدة المدينة الوزير «رخ مي رع».
- وصف أهل رتنو: (راجع: Plates II, XXI–XXIII, “Paintings”, X–XII) يُلاحَظ أن رؤساء بلاد «رتنو» قد مُيِّزوا بأشرطة وُضِعت أفقية على صدورهم، كما هو موضح في صورة الشخصين الأول والثالث، ويُشاهَد أن كل أفراد البعثة من جنس واحد بيض الوجوه، ويلبسون كلهم زيًّا واحدًا، غير أنهم قد رجلوا شعورهم بطرق مختلفة، ومما يسترعي النظر في هذا المنظر أن معظمهم محلقون رءوسهم، أو أنها مقصوصة قصًّا قصيرًا جدًّا، على أنه يوجد بينهم ثلاثة قد أرخوا شعورهم على أكتافهم وربطوها بأشرطة.
- الهدايا التي أحضروها: (راجع: Plates II, XXI–XXIII, “Paintings” IX-XII) ومما يلفت النظر هنا أن الهدايا التي أحضرها وفود «رتنو» لا تدل على مدنية عظيمة جدًّا وثراء ضخم؛ إذ لا نجد إلا ثلاثة من رؤساء هذه البلاد قد أحضروا معهم أواني من المعدن الثمين، كما لا يوجد إلا ثلاث أوانٍ ذات أحجام عظيمة في الكومة المعروضة في الصورة، غير أننا نشاهد مع ذلك إبريقين في الصف الثاني يظهر أنهما من الزجاج، يشعر صنعهما بأنهما قطعتان فنيتان (“Paintings” IX). وبالاختصار دلَّتِ البحوث الحديثة على أن الأطباق المصنوعة من الذهب والفضة، وهي التي كنَّا نظن أنها من إنتاج بلاد «رتنو»، كان يحملها أفراد من أهالي «كريت»، ومن ذلك نستطيع أن نستخلص بحق أن كل المنتجات الراقية، والقِطَع الفنية النادرة التي كانت تَرِد إلى مصر من الشمال في هذه الآونة، لم تكن تُصنع في سوريا، بل كانت تتداولها أيدي تجار سوريين، ومن المحتمل جدًّا أن سقوط «كريت» وانتعاش سوريا السريع بعد خلاصها من أيدي الهكسوس قد عكس الوضع، وجعلها هي صاحبة الإنتاج الفني العظيم بعد مضي عشرات السنين القليلة التي أعقبت هذا الخلاص، على أننا من جهة أخرى لا نعرف أصل صناعة الأطباق ذوات الحافة المزينة على وجه التحقيق؛ إذ من المحتمل أن الفكرة كانت في أصلها مصرية، ولكن ما تحتويه من أشكال خيالية عدة راقية تجعلنا نظن أن هذا الطراز من الأواني هو من إنتاج «كريت» مما كان يصدر إلى مصر، أما سائر الكومة فتحتوي على طبقين صغيرين من الفضة، وسلة من حلقات الذهب، وسلة من حلقات فضة، وألواح من خشب «مرو»، وحِزَم من يراع «قنن»، وسلات من أحسن خشب الأرز (صمغ) … وحجر «مسن» وفيروزج ولازورد، وطبقين من القصدير لهما مقابض، وقرص من اللون الأبيض (؟)، وأكياس «زنب»، وكتل من خشب «تي شبس» (؟)، وأربع ركائز من النحاس، وثلاثة أباريق … وثلاثة أباريق من زيت الزيتون، وستة أباريق من البخور، وأربعة أباريق من مرهم لبنان. هذه هي الهدايا التي كانت مكدَّسة أمام الوزير، أما التي كان يحملها الوفود على أيديهم فهي: ثلاث ركائز من النحاس، وأربع أواني نبيذ، وثلاث أوانٍ من الفخار، وحقان من العاج للعطور، وسنا فيلين، وعربة، وجوادان لجرِّها (Pl. II, & “Paintings” Pl. XI)، وأربع قسي، وكنانة، وخنجر، وحزمتان من عصي «عونت»، وأخيرًا نشاهد دبًّا وفيلًا، وقد أبرز الرسام صورة الفيل بإتقان لا بأس به.
-
الأسرى: وقد كان ضمن الجزية السنوية بعض الأسرى، والظاهر أنهم كانوا
رهائن لضمان حُسْن سير القبائل في البلاد المقهورة، والنص
التالي قد كُتِب فوقهم هكذا: «إحضار أولاد أمراء الأقاليم
الجنوبية، وأولاد أمراء الأقاليم الشمالية، وهم الذين سيقوا
غنيمةً لجلالة ملك الوجه القبلي والوجه البحري «منخبر رع» —
ليته يُعطى الحياة — من كل الأراضي الأجنبية لأجل أن يملأ بهم
المصانع، وليكونوا عبيدًا في ضياع معبد والدة آمون رب تيجان
الأرضين؛ لأن كل الأقاليم قد منحت إياه (الملك) وأخذ بناصيتها
جميعًا في يده، ورؤساؤها قد سجدوا تحت نعلَيْه. وكان الأمير
الوراثي ثقة الفرعون في قصره وعمدة المدينة الوزير «رخ مي رع»
هو الذي تسلَّمَ الغنيمة من الأراضي المختلفة، وهي التي جيء
بها من انتصارات جلالته.»
ومن هذا المتن نعلم أن البلاد التي فُتِحت بحد السيف، وهي بلاد النوبة والأقطار السورية، يمكن معرفة مركزها بالنسبة للبلاد الأخرى في نظر الفرعون، فإنها كانت في الواقع مُجبَرة على توريد العبيد والإماء والأطفال جزيةً تُدفَع سنويًّا، أو كلما اقتضت الأمور، وتدل الأحوال على أن هؤلاء الأسرى كانوا يُنتخَبون من علية القوم في البلاد المقهورة، بمثابة رهائن أو عقاب لإرغام أنوف الأُسَر الحاكمة في تلك الأقطار النائية، وجعلهم يدينون بالطاعة للفرعون.
ويُلاحَظ أن الأطفال الصغار كانوا يُجلَبون مثل السلع الأخرى التي كانت تُقدَّم جزيةً من أيدي الرؤساء المقهورين، ومما يسترعي النظر بوجه خاص أن الأطفال كانوا لا يزالون في عناية نساء يَقُمْنَ على تربيتهم، وهذا ما نشاهده ممثَّلًا في مقابر أخرى من هذا النوع.
- الأسرى النوبيون: والأسرى في رسوم مقبرة «رخ مي رع» ينقسمون مجموعتين، يقود كلًّا منهم جنود مسلَّحون بقضب وعصي رماية، فالمجموعة الأولى تحتوي نوبيين، والثانية تُؤلَّف من سوريين، ويتألَّف الأسرى النوبيون من طائفةٍ قوامها سبعة أفراد، تتبعهم سبع نسوة يلبسن حللًا كاملة ذوات حافات حمراء قانية تدلى من أطرافها أصداف، والظاهر أن هؤلاء النسوة قد رُتِّبن على حسب خصبهن؛ لأن الأولى كان معها أربعة أطفال، الاثنان الصغيران من بينهم قد حُمِلَا في سلة على الظهر، والثانية كان معها ثلاثة أطفال (؟)، والثالثة والرابعة كان مع كلتيهما اثنان، هذا إلى ثلاث نسوة أُخَر شعرهن أطول من شعور السابقات، والظاهر أنهن كنَّا عذارى، ثم يأتي بعد ذلك خمس نسوة يتميزن بما يلبسن من قلادات ضخمة وأردية لا تستر إلا عورتهن، والظاهر أن واحدة منهن كانت تحمل طفلًا، ويدل شعرهن الطويل على أنهن نوبيات لا زنجيات.
- الأسرى السوريون: يبلغ عدد الأسرى السوريين أربعة عشر، وقد قُسِّموا طائفتين، ويُلحَظ أن كلَّ واحد منهم كان يقبض بيده على عباءة طويلة ذات أهداب وقد لُفَّ بها، وفي القسم الأول من هؤلاء نجد أنهم قد لبسوا العباءة على جلباب له كمَّان طويلان؛ أما أفراد القسم الثاني فكانوا يرتدون العباءة على قميص صغير. وكانت النسوة يرتدين جلابيب بيضاء لها هدابات ملونة، والظاهر أن هذه الجلابيب كانت مُجهَّزة من قبلُ، ويُلاحَظ أن الجزء الأعلى من جلباب السيدات كان يشبه (الحرملة) الحالية، وترى إحداهن حاملة طفلًا في سلة مربوطة بنسع على كتفها (وهذا يختلف عن الطريقة النوبية) يلف حول جبهتها؛ ومما يسترعي النظر هنا أن الأمهات كانت لهن الأفضلية، ولكن يُشاهَد هنا أن لا مجال للغيرة أو التنافس؛ لأن كل امرأة كان معها طفلان، وبعضهن كان لهن شعر قصير، في حين أن البعض الآخَر كانت شعورهن طويلة مرسلة على ظهورهن.
أعمال الوزير
(أ) إدارة الوزير
- القواعد الخاصة برسميات المحكمة: وقد كانت الرسميات المتبعة عند عقد الجلسة أن يجلس الوزير على كرسي له ظهر يستند عليه، وأن يفرش حصير على رقعة القاعة، وأن يعلق حول عنقه قلادة الوظيفة (ولا بد أنه يقصد هنا القلادة التي كان يُعلَّق فيها صورة آلهة عدل، ويلبسها الوزير حول رقبته عند الفصل في القضايا، فكان عند النطق بالحكم بهذه الصورة ويشير بها نحو مَن في جانبه الحق) (A. S. Vol. XL. p. 185 ff)، وكذلك كان يضع وراء ظهره جلدًا وآخَر تحت قدمَيْه (راجع: Pl. XXVI. Col. I)، وكانت قد وضعت القواعد لتحديد أمكنة الموظفين الذين كانوا يشتركون في محكمة الوزير، فكان يجلس معه رؤساء عشرة الجنوب في الممرين اللذين على اليسار وعلى اليمين، أما المستشار الأول فكان يجلس على يمينه، ويجلس الحاجب الذي يقدم المتخاصمين على يساره، وبالقرب منه كان يجلس الكتَّاب الذين يحتاج إليهم (راجع: Pl. XXVI. Col. 2)، ولكن نشاهد عشرة رجال على كلٍّ من جانبي الطريق الأوسط، وعددًا آخَر يماثلهم من الكَتَبة، وبذلك بلغ مجموع كلِّ مَن كان في حضرة الوزير عند الفصل في قضايا الناس أربعين موظفًا.
- عصي الحكام: وممَّا يلفت النظر أربعة الحصر المفروشة أمام الوزير مباشَرةً وعلى كلٍّ منها عشر عصي، وتمثِّل في مجموعها الأربعين «شسم» المبسوطة أمامه بهذا الاسم، وقد كان المفهوم حتى الآن أنها تمثِّل أربعين إضمامة من الجلد، نُقِش عليها مواد القانون الذي يقضي على هداه الوزير في قضايا الشعب، غير أن شكلها كما يقول الأثري «ديفز» لا يدل على ذلك؛ إذ كان المنتظر أن تكون أكثف سُمْكًا وأقصر ممَّا نشاهده، كما كان يجب أن تكون محزومة بخيط مثل إضمامات البردي العادية، هذا فضلًا عن أنه لم يُشِرْ إليها في النقوش قط. وقد يكون من الصواب أن تشير الأربعون عصًا إلى الأربعين موظفًا الذين كانوا في حضرة الوزير، أو أنها تمثِّل الأربعين مقاطعةً التقليدية التي تتألف منها البلاد وتدفع الجزية للفرعون، غير أن الاعتراض الوحيد على هذا الرأي الأخير أن «رخ مي رع» لم يكن يدير شئون البلاد كلها، بل كانت إدارته قاصرةً على الوجه القبلي، فإذا تجاوزنا عن هذا الاعتراض، فإن هذه العصي تكون عصي سلطة وُضِعت في أيدي موظفي الأقاليم بمثابة تفويض لتنفيذ القانون، وقد شُوهِدت مستعملةً للعقاب في يد الحجاب.
- صغار موظفي المحكمة: وممَّا يُشاهَد في طرقات قاعة المحكمة وخارجها حجَّاب يتحدَّثون إلى أفراد يريدون استئناف قضاياهم، أو يتناقشون مع أفراد لم يدفعوا ما عليهم من ضرائب؛ ومما يستلفت النظر أن الفريق الأول كانوا يُعامَلون من الحجاب معاملةً حسنةً، أما الفريق الآخَر فكانوا يُساقون بعنف إلى حيث يمثلون أمام الوزير. أما في خارج القاعة فيُشاهَد منظر غير مألوف؛ إذ نجد رسولين قد وصلَا على جناح السرعة، يحمل أحدهما غصن زيتون وسهمًا، وقد استقبل كلًّا منهما رجلٌ آخَر يحمل سهمًا وحسب، فالرجلان الأولان هما شرطيان يقومان بعمل رجلَيْ بريد، أما الثالث فيُحتمَل أنه حاجب المحكمة. والظاهر أن غصون الأشجار كانت تُستعمَل رمزًا للسلام منذ القدم، أما المقمعة أو السهم الطويل فيمكن أن نعدَّه رمزًا للسرعة؛ غير أنه في يد الموظف يدل على القوة، اللهم إلا إذا كان يحمله فقط على أنه موصل الرسالة للوزير.
وقد خلف لنا الوزير «رخ مي رع» متنًا طويلًا عدَّدَ فيه مهامَّ الوزير؛ وقد نظمت سطوره على جدران قاعة الوزير بطريقة تُشعِر بأنه من وحي مكان العدالة؛ إذ قد وُضِعت الجمل الافتتاحية الخاصة بجلسة الوزير قريبةً جدًّا من الصورة. وقد عُثِر على نُسَخ ثلاث من هذا المتن الهام في قبور ثلاثة وزراء غير «رخ مي رع»، وهي (مقبرة أمنمحات رقم ٢٩، ومقبرة «باسر» رقم ١٠٦، ومقبرة آمون وسر رقم ١٣١)، وأحد هذه المتون قبل عهد «رخ مي رع»، والاثنان الآخَران بعده.
(ب) واجبات الوزير
- النظام الموضوع لجلسة الوزير: «ينحصر الإجراء المحكم الذي كان يسير الوزير على نهجه عندما يعقد جلسة في قاعة الوزارة؛ في أن يلتزم الجلوس على كرسي ذي ظهر، وأن يُفرَش على رقعة القاعة حصير من القصب، وأن يكون لابسًا قلادة الوظيفة (أي: القلادة التي كان يعلِّقها القاضي حول عنقه وفيها تمثال العدالة «ماعت»)، ويكون بجانبه عصًا وأربعون قضيبًا من الجلد تُوضَع أمامه أيضًا، ثم يجلس أمامه رؤساء عشرة الوجه القبلي على جانبَيْه، ورئيس التشريفات على يمينه، والمراقب على الدخول (الحاجب) على يساره، ثم كَتَبة الوزير على مقربة منه.»
- ترتيبات حفظ النظام: «وإذا حدث أن احتدم النقاش بين متقاضيين متكافئين، فالواجب أن تسمع أقوال كلٍّ منهما على الترتيب، كل في دوره، وإذا حدث أن أحدًا ممَّن في المقدمة قال: لن يسمع أحدٌ بالقرب مني قبلي، فعلى الحاجب أن يقبض عليه.»
- المحافظة على المؤسسات: «يجب أن يُقدَّم للوزير تقريرٌ عن إغلاق المخازن في الوقت المحدد وعن فتحها في مواعيدها المقررة، وكذلك يجب أن تُوضَع له تقارير عن حالة المعاقل الجنوبية والشمالية، وعن خروج كلِّ مَن يغادر البيت الملكي (ديوان إدارة البلاد)، كما تُقدَّم له تقارير عن كلِّ دخل يَرِد للحكومة، وكذا يُوضَع له تقريرٌ عن جميع مَن وفد أو خرج من أرض الحكومة بأنهم دخلوا أو خرجوا، وأنهم سيدخلون وسيخرجون بمعرفة حاجبه، وعلى المشرفين على ضباط التحصيل ومأموري الضرائب والمشرفين على ملاك الأراضي أن يقدِّموا تقريرًا عن أعمالهم له.»
- المنهاج الذي يسير عليه الوزير يوميًّا: «وكان لزامًا على الوزير أن يمثل أمام الفرعون ليحييه يوميًّا — له الحياة والسعادة والصحة — وأن يقدم له تقريرًا عن حالة البلاد يوميًّا في قصره، وكذلك عليه أن يدخل «البيت العظيم» على إثر اتخاذ رئيس الخزانة الأعلى مقعده عند العمود الشمالي، وقد كان على رئيس الخزانة الأعلى عندما يتحرك ركاب الوزير، ويظهر عند مدخل (البوابتين) العظيمتين، أن يأتي لينضم إليه ثم يقدِّم تقريرًا للوزير يقول فيه: إن كل أعمالك في أمان وسليمة، وكل موظف قائم بعمله قد قدَّمَ إليَّ تقريرًا قال فيه: إن كل الأعمال في أمان وسليمة، وإن كل موظف قائم بعمله قد قدَّمَ لي تقريرًا جاء فيه: إن كل شئونك آمنة سليمة، وإن مقر الحكومة آمن سليم، وقد كان على الوزير بدوره أن يبلغ رئيس الخزانة الأعلى: إن كل أشغالك آمنة وسليمة، وكل إدارة من إدارات المقر الملكي (الحكومة) آمنة سليمة. وقد وضع لي تقرير: إن كل المخازن قد أُغلِقت في الوقت المحدَّد وفُتِحت أبوابها في الوقت المحدَّد، وذلك بمعرفة كل موظف قائم بالعمل، وبعد أن يبلغ كلٌّ من رئيس الخزانة الأعلى والوزير تقريره لزميله، كان على الوزير أن يرسل رسلًا لفتح أبواب الحكومة الملكية، ويسمح بالدخول لكلِّ مَن يريد الدخول، وكذلك بالخروج لكلِّ مَن يريد الخروج، وقد كان على الحاجب أن يقوم بهذا العمل كتابة.»
- تحديد سلطان صغار الموظفين: «ولا يجوز لموظف أن ينتحل لنفسه سلطة الفصل في قضايا قاعة الوزير، وإذا اتهم أحد الموظفين التابعين لقاعة الوزير، فعليه (أي: الوزير) أن يجيء به أمام المحكمة، وعلى الوزير أن يعاقبه على قدر جريمته، ويجب ألَّا يكون في يد أي موظف السلطة لضرب أي فرد في قاعة الوزير، كما يجب أن يقدم له تقرير عن أي قضية خاصة بقاعته حتى يتصرف فيها هو بنفسه.»
- عمل حاجب الوزير: «وإذا أرسل الوزير أي حاجبًا في مأمورية إلى أي موظف، سواء كان من الذين يشغلون أعلى الوظائف أم أحطها، فعليه ألا يُظهِر له الصداقة، كما لا يجوز للموظف نفسه أن يدعو الحاجب إلى مجلسه، بل على الحاجب أن يبلغ رسالة الوزير وهو واقف في حضرة الموظف، وأن يبلغه الرسالة شخصيًّا ثم يخرج إلى قاعة الانتظار (؟)، وقد كان حاجب الوزير هو الذي يحضر حكام المقاطعات ورؤساء المراكز إلى قاعة المحكمة، وكذلك كان على حاجبه أن يضع القواعد الأساسية (؟) … وإذا حدث أن أرسل حاجب في مأمورية وقدم شكاية قائلًا فيها: وعندما أرسلت برسالة إلى فلان الموظف فإنه طلبني وأثقل جيدي بشيء ذي قيمة (بمثابة رشوة)، ثم رفعت دعوى على الموظف من الحاجب، فلا بد من معاقبة الموظف على قيمة ما تخاصمَا من أجله بمعرفة الوزير في قاعته، على أن يوقع عليه أية عقوبة عدا بتر عضو من أعضائه.»١٥٤
- ما يُتَّخَذ من إجراءات في قضية غامضة: «أما عن الإجراءات العامة التي كان ينتهجها الوزير عند سماع قضية في قاعته عن أي موظف لم يكن كفئًا في أداء عمله، فعليه (أي: الوزير) أن يسمع حججه في هذا الموضوع، فإذا لم يكن في مقدوره أن يمحو عنه خطيئته عند سماع ظروف القضية، فعليه إذن أن يقيدها في سجل المجرمين المحفوظ في السجن الرئيسي، ويتخذ مثل هذا الإجراء إذا لم يكن في مقدوره أن يبرئ حاجبه من التهمة، فإذا وقع منهما مثل ذلك كرة أخرى، فلا بد من تقديم تقرير عن ذلك، كما يبلغ عنهما أنهما مقيَّدان في سجل المجرمين، وعن السبب الذي من أجله قُيِّدَا في هذا السجل بالنسبة لجرمهما.»
- الاحتياطات الخاصة بالوثائق القانونية: «وإذا أرسل الوزير في طلب وثائق خاصة بالمحكمة، وكانت هذه الوثائق غير سرية، فيجب أن تحمل إليه ومعها وثائق المسجل الخاصة بها، وتكون مختومة بأختام الحكام والكتاب الذين في خدمتهم (أي: الحكام)، وهم المختصون بهذه الوثائق، وعلى الوزير بعد فضها وفحصها أن يعيدها إلى إدارتها ثانيةً مختومة بختم الوزير نفسه، أما إذا كانت الوثائق المطلوبة سرية، فيجب على المسجلين المختصين ألَّا يسمحوا له بنقلها (من مكانها)، ومع ذلك إذا أرسل الوزير حاجبًا لمصلحة المدَّعِي، فينبغي على المسجل أن يسمح بحملها إلى الوزير.»
-
أنظمة خاصة بالحقوق المتعلِّقة بالأرض والمعادن: «وإذا تظلَّمَ شخص من غين أو حيف وقع عليه بسبب نزاع على
الأرض، فعلى الوزير أن يقوم بنفسه للقضاء في أمره، فضلًا
عن سماع قضيته على يد المشرف على الأراضي ومجلس المراكز،
على أن يسمح له بمهلة مقدارها شهران بخصوص أرضه إذا كان
موقعها في الوجه البحري، أما إذا كانت أراضيه قريبة من
المدينة الجنوبية (طيبة) أو مقر الملك، فلا يُسمَح له إلا
بتأجيلٍ قدره ثلاثة أيام كما نصَّ على ذلك القانون. وعلى
الوزير أن يستمع لقضية أي متظلم على حسب هذا القانون الذي
في يده، وعليه أن يعقد مجلس المقاطعة، وهو الذي يفضهم بعد
تقديم تقريرهم عن حالة مقاطعتهم؛ ويجب أن يُؤتَى إليه بكل
وصية؛ لأنه هو الذي يجب أن يوقع عليها بخاتمه، وهو الذي
يقدِّم المِنَح الصغيرة من الأراضي (شدو)، أما إذا قرَّرَ
أيُّ متظلِّم قائلًا: «إن حدودنا قد زحزحت.» فيجب أن
تُؤخَذ العناية بأن يكون ذلك التعدِّي على حسب إمضاء موظف،
وإذا كان ذلك قد حدث فعلًا، فعلى الوزير أن ينزع مساحات
الأراضي الصغيرة (شدو) من المجلس الذي كان قد زحزح
الحدود.
يضاف إلى ذلك أن أي محجر أو كنز وُجِد على الأرض، فإن أي تدخُّل بعد معرفة محتوياته وبعد تقديم الشاكي قضيته كتابةً، يصبح محظورًا عليه أن يقدِّم تظلُّمًا لحاكمٍ ما، وإذا جاء لحاكم المقاطعة أيُّ تظلُّم بعد أن رفع قضيته وقيَّدها كتابةً، فيجب أن يحال إلى الوزير.»
- المراسلات والتعيينات العالية: «والوزير هو الذي يرسل كل حاجب للحكومة كما يرسل إلى المقاطعات ورؤساء المراكز، وهو الذي يرسل بريد جميع المأموريات الخاصة بالحكومة، وهو الذي يعين أي موظف من موظفي الإدارة مثل المشرف على الوجه القبلي أو الوجه البحري، وجبهة الجنوب أو الإقليم العظيم (مديرية العرابة)، وعليهم أن يبلغوه كلَّ ما يحدث في منطقة نفوذهم في بداية كل فصل مدته أربعة أشهر، وعليهم أن يحضروا له الكتَّاب الرسميين التابعين لهم، وكذلك عليهم أن يفدوا مع مجلسهم.»
- المؤن اللازمة لتنقُّلات البلاط: ومن واجب الوزير الإشراف على حشد الجنود، والسير في ركاب الفرعون عندما ينحدر في النهر شمالًا أو يصعد جنوبًا، وأن يعين في هذا المناصب الخالية، سواء أكان ذلك في المدينة الجنوبية أم في مقر الملك (أي: الحكومة)؛ وذلك تنفيذًا لقرارٍ صدر من الحكومة الملكية. ولا بد أن يحضر أمامه طائفة موردي الأغذية للحاكم (الملك) حتى يمدوا قاعته والمجلس العسكري بالطعام، ولأجل أن تسلم إليهم أنظمة الجيش (الخاصة بالطعام)، ويجب كذلك أن يعقد جلسة من أصحاب الرتب العالية، ومعهم أصحاب الوظائف الصغيرة في قاعة الوزير، حتى يتبادل كلٌّ منهم التحيات مع زميله.١٥٥
- إدارة الحكومة الملكية: ومن واجبات الوزير أن يرسل عمَّالًا لقطع شجر الجميز على حسب أوامر الحكومة، وأن يبعث مستشاري المقاطعة لحفر ترع للري في البلاد قاطبةً، وأن يرسل العمد ورؤساء المراكز للزراعة الصيفية، وكذلك عليه أن يعيِّن المشرفين على عمَّال الضرائب في قاعة الحكومة الملكية، وينصب مَن سيسمع قضية العمد ورؤساء المراكز، ومَن سيقوم بجولة تفتيشية باسم الوزير في الوجه القبلي والوجه البحري، وكان من الضروري أن يُقدَّم له تقريرٌ عن كلِّ القضايا القانونية.
- السلب والمخاصمات العامة والخاصة: ويجب أن يُقدَّم للوزير تقريرٌ عن حالة المعقل الجنوبي، وعن أي فرد يحاول القيام بغارة … ومن واجب الوزير أن يقوم باتخاذ الإجراءات ضد أي ناهب من أي مقاطعة، وأن يكون هو محاكمه، وكذلك من واجبه إرسال الجنود والكَتَبة المحليين لوضع الترتيبات للفرعون، وكذلك يجب أن تكون سجلات المقاطعة في قاعته، ليمكنه أن يُدلِي بحكمٍ في أي مسألة خاصة بالأرض المنزرعة، ومن واجبه كذلك أن يقرِّر تخوم أية مقاطعة، أو أي بطاح إضافية، أو أملاك معبد، أو امتلاك عقار جديد، وهو الذي يؤدِّي كل (شدود) (؟) ويستمع لكل شكوى، وهو الذي يستمع لقضية رجل ذهب للقضاء مع جاره، وعليه أن يعين كل شخص يجب أن يعين في المحكمة، ولا بد أن يحضر أمامه كل رسالة من الحكومة الملكية، وهو الذي يسمع القضايا الناجمة عن أي إذاعة حكومية (لم تُتَّبَع).
- المالية والتموين: ومن واجبات الوزير أن يفصل في أية قضية خاصة بأي عجز في إتاوة المعبد، وأن يفرض أية ضريبة عينية على أي إنسان يجب عليه دفعها له (؟)، وإنه هو الذي يعمل … في المدينة الجنوبية أو في الحكومة الملكية، وعليه أن يوقع عليها بخاتمه، كما يجب عليه أن يفصل في كل القضايا القانونية، وهو الذي يقرِّر إجراء التحقيقات الخاصة بالضرائب على محال الصناعة (؟)، كما يجب على المجلس العظيم أن يضع له تقريرًا عن تقديراته للضرائب، وأن يساعده في ذلك جباة الضرائب، وعليه أن يستمع إلى قضية العمال (؟) … ودخل المحكمة وكل منحة منحتها، ومن واجبه كذلك الفصل في القضايا الخاصة بها، وأنه هو الذي يفتح بيت الذهب بصحبة رئيس الخزانة الأعلى، كما أنه من واجباته فحص ببلوص (؟) … والمدير العظيم للبيت والمجلس الأعظم، وعليه أن يقوم بإحصاءات لكل الثيران التي يجب أن يعمل لها إحصاء، وأن يفحص محصول المياه (؟) في أول يوم من فترةٍ مقدارها عشرة أيام والمئونة …
-
النظام العام ورفاهية الشعب: أما قضايا المحكمة سواء أكانت متعلِّقة بحاكم المقاطعة
ورؤساء المركز، أم بأي أشخاص عاميين، فإن كل دخلهم الذي
يقدم له لا بد أن يبلغ إليه بكل مشرف على الأرض الزراعية،
وبكل موظف «شنتو»، وعليهم أن يبلغوه عن أي اضطراب يحدث
ليلًا أو نهارًا (؟) … وعليهم أن يبلغوه الحاجبات الشهرية
مع الدخل … وإليه يُقدَّم تقريرٌ عن ظهور نجم الشعرى وعن
تأخير الفيضان، كما يُقدَّم له تقريرٌ عن الأمطار (؟) …
للمشرف على الأرض الزراعية وللموظف (شتو) أو إلى … الحكومة
الملكية.
وإن الوزير هو الذي يجهز السفن كما يجهزها أي فرد خاص بذلك، وهو الذي يرسل أي رسول من رجال الحكومة الملكية لأجل أن … عندما يكون الفرعون في رحلة … ويجب أن يُقدَّم له تقريرٌ من كل مجلس … وأنه هو مقدمة الأسطول ومؤخرته (؟)، وأنه هو الذي يختم كل المراسيم الخاصة ﺑ … وحاجب الوزير مثله مثل كلب حارس الكلاب عندما يرسل في بعوث حكومية، ويجب أن يُقدَّم له تقريرٌ بما يجب أن يبلغ عنه … ورئيس المحكمة هو الذي يبلغ عنه وعن كل ما يفعله، وعن سماع القضايا في قاعة الوزير …
وإخال القارئ يشعر تمامًا بعد قراءة هذه الوثيقة الفذة بما كان ملقًى على عاتق الوزير من مهام جسام، ينوء بحملها رجال عديدون، غير أنها في بعض الأحيان كانت مهام اسمية، وعلى ذلك لا ندهش عندما يحذره الفرعون بقوله: «إن الوزارة ليست أمرًا هينًا، بل هي مرة كالصبر.» هذا ولا نريد أن نعلق على ما في الوثيقة من مبادئ سامية وقوانين عادلة ودروس واعظة في الأخلاق الكريمة، وقواعد صارمة يجري على مقتضاها الموظف الكبير والصغير، لا فرق بينهما، هذا إلى ما جاء فيها من العدالة المطلقة التي كانت أكبر عامل في تسيير أمور الدولة والوصول بها إلى بر النجاة، وكل ذلك كان ملقًى على عاتق الوزير الأكبر الذي كان يمثِّل الحكومة الرشيدة.
- جمع الضرائب: (راجع: Pl. XXIX–XXXV, XLI) لا نزاع في أن العثور على مثل هذه الوثيقة الفذة في بابها في مقبرة خاصة، يبعث في النفس الدهشة الممزوجة بالسرور والغبطة، غير أن سرورنا وفرحنا يزدادان عندما نعلم أنها قد شُفعت بصورة معزَّزة بإحصاءات وفيرة، تضع أمامنا استعراضًا خطير الشأن عن كيفية سير الإدارة المالية في البلاد، غير أنه ممَّا يُؤسَف له جد الأسف أن هذا العرض لا يشمل كل البلاد المصرية من أقصاها إلى أقصاها؛ إذ يقتصر البحث فيه على مالية الوجه القبلي، ويحدُّ شمالًا «ببجة» قرب أسوان حتى مدينة أسيوط الواقعة في وسط مصر، ويشمل ذلك الإقليم الذي كان يُطلَق عليه «رأس مصر العليا»، وكان قد قسم هذا الإقليم قسمين، وهما الأراضي الواقعة جنوبي طيبة وقد جُزِّئت إلى أربعين وحدة، والأراضي التي في شمالها كذلك جُزِّئت إلى أربعين وحدة أخرى؛ وقد مثل هذه الوحدات ثمانون موظفًا يُشاهَد كلُّ واحد منهم يقدِّم دفعةً ممَّا هو مفروض على إقليمه من الحيوانات والمحاصيل الزراعية، يضاف إلى ذلك ما يقدِّمه كلٌّ منهم من حلقات ذهب أو أسماط من حبات الذهب والفضة أيضًا، ويُلاحَظ في الصورة التي تمثِّل هذا المنظر أنه قد نُقِش فوق كل موظف عنوانه، فيذكر لنا أحيانًا لقبه واسم المركز الذي أتى منه، وكذلك كمية من الذهب أو الفضة حُسِبت بالدبن أو نصف الدبن، وفضلًا عن ذلك وجدنا في تسع حالات أن ضرائب الوحدة كانت تشمل قلادة من الذهب أو الفضة، وفي حالة واحدة وجدنا أن الجزية كانت تُدفَع نسيجًا، وقد كان هذا المقدار المكتوب يُحذَف أحيانًا، وفي تلك الحالة لا تجد الدفع قد رُسِم في سورة ركائز، بل كان يورد بدلًا منه مقدار عظيم من المواد الغفل.
-
النقوش الموضحة: ومتن التقدمة للأجزاء الجنوبية هو: (راجع
Pl. XXIX. Row I):
«الوزير «رخ مي رع» يفحص مراجعة حسابات قاعة وزير المدينة
الجنوبية (طيبة)، وهذه المراجعة لما جاء به العمد ورؤساء
المراكز والمستشارون الريفيون ومأمورو ضرائب المقاطعات
وكتَّابهم وكتَّاب السجلات الذين في إقليم «رأس مصر
العليا»، وهو الذي يبتدئ عند «إلفنتين» وقلعة «بجة»، وقد
نفذت هذه المراجعة على حسب الكتابات القديمة، وكذلك نجد
مثل هذا الإيضاح لإقليم الشمال (راجع: Pl.
XLI)، وقد جاء فيه الوزير «رخ مي رع»
يفحص حسابات قاعة وزير المدينة الجنوبية، مراجعًا «حسابات»
العمد ورؤساء المراكز والمستشارين الريفيين ومأموري
المقاطعات وكتَّابهم وكتَّاب سجلات الأراضي، وهو الإقليم
الذي يبتدئ عند «قفط» وينتهي عند «أسيوط».»
ومن ذلك نعلم أن الصعيد كان له وزير خاص يقوم بشئونه، وأن الأراضي التي كانت تحت سلطانه تشمل الإقليم الذي ما بين «أسوان» حتى مدينة «أسيوط»، وهذا الإقليم بدوره كان ينقسم قسمين إداريين: الأول من «أسون» حتى «قفط»، والثاني من «قفط» حتى «أسيوط»، وكذلك كان كلٌّ من هذين الإقليمين بدوره ينقسم أربعين وحدة لكل حاكم خاص، وعلى هذا التقسيم كانت تُجبَى الضرائب بوساطة موظفين خُصُّوا بهذا العمل.
- طرق دفع الضرائب في ذلك العهد: لا يزال موضوع قيمة النقد في مصر القديمة من الموضوعات العويصة (راجع مصر ج٢)، على الرغم ممَّا وصلنا من معلومات متفرِّقة عنه، وما نعرفه على وجه التأكيد أن الدفع في الأزمان القديمة كان بوساطة حلقات من المعدن لها قيمة معينة (ومن المحتمل أن كل اثنتي عشرة حلقة صغيرة أو ست حلقات كبيرة كانت تعادل «دبنًا»)، ولكنا نعلم فيما بعدُ أن الدفع كان يُقدَّر بوزن الدبن، سواء أكان من الذهب أم الفضة أم النحاس، ويُقدَّر وزن الدبن الذي كان يحتوي عشرة «كدات» مصرية بنحو واحد وتسعين جرامًا، ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن الذهب كان في الأزمان القديمة أقل قيمةً من الفضة، ولكن مقدار إنتاج الفضة أخذ يزداد في البلاد منذ الفتح السوري، لدرجة أنه في عهد «رخ مي رع» كانت قيمة الفضة تعادل بالنسبة للذهب أو ، وقد كان النحاس يُستعمَل كثيرًا في المعاملات الصغيرة؛ إذ كانت قيمته تُقدَّر بنحو ١٥٠ أو ٢٠٠٪ من قيمة الذهب، وقد يكون من باب التقريب لفهم قيمة الذهب أن نعلم أن ثمن ثور واحد كان يُقدَّر بما يقرب من دبن واحد من الذهب؛ والطريقة التي كانت متَّبَعة لدفع أي حساب مقدَّر بالدبنات من الذهب والفضة، أن يدفع الفرد ما لديه من هذين المعدنين نقدًا، ثم يدفع الباقي سلعًا، وبذلك نفهم الصورة التي تمثِّل أمامنا موظفًا يحمل حلقات من الذهب والفضة (وكان الدفع بالذهب هو السائد)، وكذلك يقدم في الوقت نفسه الأشياء الأخرى التي كان سيدفعها سلعًا، ويجب في هذه الحالة أن يكون المبلغ المدوَّن مضافًا إليه المواد الغفل يساوي الضرائب المفروضة.
- توزيع الضرائب: ومما هو جدير بالملاحظة هنا أن الضرائب لم تكن تدفعها المراكز بهذه الكيفية، بل كان يكلف جبايتها موظفون يُحتمل أن كل بلد يخصه منهم عدد عظيم، ويُحتمل أن ذلك يرجع إلى أن كل موظف كان له نوع معين من الضرائب، أو كان موكلًا بمساحة معينة في الريف يجمع ضرائبها، وهؤلاء الموظفون هم العمد ورؤساء المراكز (حقاحت)، أما في المدن التي فيها حاميات فكان يُكلَّف جبايةَ خراجِها قائدُ الحامية؛ ومن ذلك نعلم أنه كان يقوم بجمع الضرائب في «إلفنتين» قائدُ حاميتها ومأمورُ ضرائبها وكاتبُه والمستشارُ الريفي وكتابُه؛ أي إن خمسة موظفين كانوا مسئولين عن جمع ضرائب المراكز أو المدينة التي كانوا مسئولين عن خراجها.
-
الضرائب المحصلة: (راجع: Pl. XXIX, 2, XXX, fig.
7) ويُلاحَظ في نفس قبر «رخ مي رع» أن
ترتيب منظر الضرائب المحصلة قد رُسِم على غرار مناظر
الجزية الأجنبية التي سبق الكلام عنها، وذلك أن محصلي
الضرائب والكَتَبة والتابعين لهم كانوا يقفون على يمين
الوزير، ويُشاهد كومة من الطرائف النفيسة مكدَّسة بينهم
وبين دافعي الضرائب، وفي الصف الرابع من هذا المنظر نشاهد
الموازين التي كان يحتاج إليها لمعرفة مقدار المعدن
المقدَّم جزيةً.
ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن الضرائب التي نشاهدها في الصورة لم تكن لجهة معيَّنة، بل في الواقع كانت نماذج من كل الضرائب التي كانت تقدم عينًا، ومن الجائز أنها كانت تشمل هدايا، وهي أشياء مختلفة لا نجدها ممثَّلة في جهات أخرى، ويظهر أنها قد أُتِي بها من أقاصي الجنوب؛ إذ نشاهد أفرادًا منها ممثلين واقفين بجانب الكومة التي في الصورة، وهكذا نجد في الصف الأول (Pl. XXIX, 2) قردة، وجلودًا في سلة، وحزمتين من سهام … إلخ. وفي الصف الخامس (Pl. XXXI. Row. 3) نشاهد بالقرب من موظفين من إدفو حقائب وحصيرًا من اليراع، وأخرى من الكلأ، وحبالًا، وعشرة أحجار «وجم» (؟).
-
أنواع المواد التي كانت تُحصَى: ومن قائمة المواد التي كانت تُقدَّم جزيةً (راجع:
Pl. 104–106) نعلم أن
سلع المبادلة لم تكن كثيرةَ الأنواع؛ إذ كان يبلغ عددها
اثنين وعشرين نوعًا، ولكن ممَّا يسترعي النظر إهمال ذِكْر
أشياء يجب أن نذكرها هنا، فمثلًا يظهر أن الشعير لم
يُذكَر، وكذلك لم يأتِ ذِكْر الخنازير أو الماعز في هذه
القوائم، ولم يُذكَر من أنواع الطيور هنا إلا الحمام؛ إذ
كان يُعَدُّ ضروريًّا للمزرعة. والظاهر أن الماعز كان
رخيصًا؛ فكلُّ خمس منها تُعتبَر وحدةً في المعاملة، وممَّا
يُؤسَف له أن هذا المنظر قد شُوِّهت معالمه بالفجوات التي
أُحدِثت فيه، هذا بالإضافة إلى صعوبة فهم ما تبقَّى منه،
وفضلًا عن كل ذلك فإن هذا الإقليم من الصعيد، وهو الذي
ينحصر بين «طيبة» و«أسوان»، كان فقيرًا نسبيًّا في
محصولاته، ولا أدل على ذلك من أن الموظف في الشمال كان لا
يدفع إلا ما يزيد متوسطه بقليلٍ عن نصف ما يدفعه من المعدن
زميلُه في الجنوب، فقد كان يجلب غلالًا وماعزًا أكثر، ولكن
ما كان يجلبه من النسيج أقل.
وكان الشهد والبردي من محاصيل الشمال الهامة؛ ولذلك نلحظ أن «أرمنت» لم تكن تورد في ضرائبها إلا جرة واحدة من الشهد، وكانت الفضة من المعادن التي يوردها أهل الشمال بمثابة جزية؛ وذلك طبيعي لأنها كانت تورد للبلاد المصرية من هذه الجهة، في حين أن الذهب كان يتدفَّق من بلاد النوبة بوجه خاص، أما ما كانت تدفعه «طيبة» ضريبةً، فليس لدينا أية معلومات عنه، ولا بد أن ضرائبها كانت ضخمة جدًّا، ويُحتمَل أنه قد خصص لها قائمة خاصة.
وقد ترك لنا «رخ مي رع» على جدران قبره قوائمَ توضِّح لنا الضرائب التي كان يدفعها أهالي الصعيد في عهده، وذكر لنا اسم الجهة وما تدفعه بالنقد (دبن)، وما تدفعه من المواد الغفل والحيوان والنسيج وغير ذلك، ويبلغ عدد هذه الجهات ثمانين جهة، أربعون منها في الإقليم الواقع ين «أسوان» و«طيبة»، وأربعون ما بين «طيبة» حتى «أسيوط» (راجع: “The Tomb of Rekh-mi-Re at Thebes” p. 104–106).
«رخ مي رع» وعلاقته بمصانع آمون وضياعه
- تماثيل القبر الملكي: (Pl, XXXVI, XXXVII) فمن هذه الآثار الجنازية الملكية أربعةُ تماثيل قد وُجِد مثلها في المقابر الملكية فعلًا، مصنوعة من الخشب ومغطَّاة بطبقة من القار، كما نشاهد في مقبرة «توت عنخ آمون»، هذا إلى تماثيل أخرى تُرَى في هذه اللوحة رُسِمت بأوضاع مختلفة أهمها تمثالَا «بو الهول»، فقد لُوِّنَا باللون الذي يمثل الجرانيت الأحمر، وكل هذه التماثيل تصور لنا «تحتمس الثالث» وهو على عرش الملك وحده، أو معه زوجه «مريت رع حتشبسوت» بنت الملكة «حتشبسوت».
- منتجات أخرى للصناع: (Pl. XXXVII) وقد أنتج صناع معبد آمون نفائسَ عدة أخرى، منها: (١) ثلاث قلادات من الخرز عليها أقفالها في صورة زهرة البشنين، وهذا الخرز كان مختلفًا ألوانه بين الأحمر والأزرق، كما كان بعضه حبوبًا من الذهب. (٢) أربع كنانات. (٣) تسع سكاكين من النحاس أو الظران. (٤) حزام من الخرز الأحمر والأزرق. (٥) قلادة من الخرز الأزرق. (٦) أربعة خواتم شعر مشطورة من الذهب. (٧) ثلاث أوانٍ من الذهب ومثلها من الفضة. (٨) إناء طويل من الذهب. (٩) ست عشرة (بلطة) أسلحتها من البرنز الأصفر. (١٠) ملاقيط (للنار). (١١) تسع دروع. (١٢) ثلاث حِزَم من الحراب. (١٣) حزام من الخرز الأحمر والأزرق. (١٤) قلادتان من حبات من الخرز الأحمر والذهب على التوالي. (١٥) سبع أوانٍ، خمس منها فضة واثنتان من الذهب. (١٦) أربع مباخر صفراء اللون. (١٧) خمسة أطباق صفراء. (١٨) سوط أصفر فيه عقدة بيضاء. (١٩) عشر خوذات صفراء. (٢٠) أعنة وملاقيط. (٢١) مرهم أصفر في طبق من الفضة. (٢٢) مرهم أبيض في جرة بيضاء. (٢٣) عصوان على هيئة ثعبان (لونهما أصفر). (٢٤) سرير من الأبنوس بأشرطة من ذهب. (٢٥) سلالم مذهَّبة للسرير. (٢٦) ثلاثة مضارب سحرية ينتهي طرفُ كلٍّ منها برأس فهد، وفي الطرف الآخَر رأس فنك (ضرب من الثعالب). (٢٧) أربع أوانٍ وطبق للمرهم صُنِعت من الزجاج والبرشيا والمرمر أو تقليدًا لها. (٢٨) أربع جرات من نفس النوع السابق. (٢٩) ثلاث جرات مرهم من الخزف الأزرق والأخضر والمرمر.
- مخابز المعبد: وقد كان للمعبد مخابز خاصة لإطعام موظفيها (راجع: Pls. XXXVIII, XLI)، والمتن الذي فوق هذا المنظر يحدِّثنا عن المكان الذي كانت ترسل إليه هذه الأطعمة، وهاك نصه: «المشرف على مصانع آمون ومدير موائد القربان في الكرنك والعمدة والوزير «رخ مي رع» يحضر قربان الإله لمعبد آمون … وهي التي تُقدَّم له يوميًّا، وهي ما أراد هذا الإله الفخم … لأجل أن ترضى قريته (كا) بطعامه، ولأجل أن يستعطف بما يرغب فيه ويكافئ الملك الذي قدَّمها له، ملك الوجه القبلي والوجه البحري «منخبر رع» — العائش أبديًّا.» وفي هذا المنظر يُشاهَد نماذج من الفطائر والمشروبات كانت تُقدَّم لابن «رخ مي رع» المسمى «منخبر رع سنب» كاتب خراج معبد «آمون»، كما يُشاهَد في جزء آخَر من نفس المنظر صفان من حاملي القربان يحملون أطباقًا عليها أرغفة مفرطحة، وفي مقدمتهم رجل يحرق البخور، وقد كان الموظف المسئول مباشَرةً عن ذلك هو «مري» أحد أبناء «رخ مي رع»، وقد كان يُلقَّب (المشرف على مصانع «آمون»)، ويُشاهَد أيضًا رجل يحمل عبئًا يظهر أنه كان يحتوي عينات الشحم والدقيق والحب؛ لتكون ضمانًا على أنها هي المواد التي صُنِعت منها الفطائر والرغفان.
-
الخبَّازون وصانعو الجعة: (راجع: Pl. XXXVIII. Row.
2) وفي هذا المنظر نرى تحضيرَ العجين،
كما نشاهد الخبز قائمًا على قدم وساق، فنشاهد عمَّالًا
يملئون قوالب مخروطية الشكل، ثم تُوضَع في الفرن، والناظر
المدقِّق لما يجري في هذه الصورة يجد كلَّ الخطوات التي
تُتبع في استحضار الخبز والفطائر بأشكال مزخرفة ودقة
متناهية، ممَّا يدل على التفنُّن حتى في صناعة بسيطة
كصناعة الخبز، وبخاصة إذا علمنا أن اسم كل نوع منها كان
يُكتَب فوقه باللون الأزرق أو الأحمر.
وكذلك نشاهد في نفس هذا المنظر عملية َتحضير الجعة.
- حقول «آمون»: ونشاهد «رخ مي رع» في منظر يفحص الأراضي المحروثة (راجع: Plates XXXIX, XLI)، وعنوان هذا المنظر المفسر له هو: ««رخ مي رع» الذي يثني عليه «نبري» (إله الحبوب)، والممدوح من الإلهة «رنوتت» (إلهة الحصاد)، والممدوح من الإلهة «سخات حور» (حامية الأبقار)، والأمير الوراثي، ومَن يملأ المخازن، ومَن يجعل مخازن الغلال غنيةً، ومَن يعطي مَن هو في حاجة، ومَن لا يبكِ منه شاكٍ، وموزِّع العدالة بين الفقير والغني، ومَن يجعل المتخاصمين يغادرانه وهما راضيان والعمدة والوزير، ورئيس محاكم العدل الست الذي وضعته السيدة «بت» وأنجبه الكاهن المطهر للإله «آمون» «نفرو بن» ابن العمدة والوزير «عامثو»، يتمتع نظره برؤية الأبقار، ويتسلى في أعمال الحقول، ويفحص أعمال الصيف والشتاء.» وممَّا يُؤسَف له جد الأسف أن هذا المنظر مهشم، غير أن عنوانه وما تبقى منه يدل على فحص الثيران، وعلى أن نتاجها كان عظيمًا في هذا العام، وكذلك يدل بعض بقايا هذا المنظر على عملية كيل الحبوب، وعلى درس القمح وغير ذلك مما يلزم لإعداد القمح بعد حصاده.
-
حصد القمح والكتان: (راجع: Plates XXXIX. Row. 1,
2) يُشاهَد في منظر حصد القمح والكتان
رجال يقدِّمون طيورًا صيدت من القمح قبل ضمه، ثم يقدِّمون
حِزَمًا من القمح وخبزًا أبيض بمثابة باكورة الحصاد، وخلف
هؤلاء نجد حصادين يحضرون السنبل المقطوع من سيقانه في سلات
مكدَّسة أمام الوزير، أمام سيقان القمح فقد تُرِكت واقفةً
لأجل أن تُجتَثَّ بجذورها فيما بعدُ، وتنمُّ الكلمات التي
كان يفوه بها العمال أمام الوزير عن أدبٍ جمٍّ، غير أن
معظمها قد مُحِي ولم يَبْقَ منها إلا ما يأتي: «لأجل زوجك
المطهرة لأجل روحك؟ يا أيها العمدة.» وكذلك نقرأ: «يا أيها
العمدة الذي يحبه «نيري» (؟).»
وكذلك نشاهد عمَّالًا يحضرون ماعزًا (؟) وثورًا وغزالة، أما باقي العمال فكانوا منهمكين في حصد حقول الشعير والقمح والكتان بمناجلهم، أو في اجتثاث سيقان القمح والكتان، وممَّا يُلاحَظ أنهم كانوا يعملون جماعات تتألف كلٌّ منها من خمسة رجال، ولم يَبْقَ من المتن المفسر لهذا المنظر إلا الكلمات التالية: «الحصد بوساطة عمَّال أوقافه الجنازية في حقول لأجله في الأراضي الزارعية الخاصة بالمدينة الجنوبية، ويقول العمَّال: إن الحقل في حالةٍ جيدةٍ جدًّا.»
- حرث الأرض: (Pl. XXXIX row 3) يُشاهَد في هذا المنظر خمسة أزواج من البقرات تحرث الأرض، وقد فسر المنظر بالمتن التالي: «تقبَّلِ المحصولَ الطيب وكُلْ يا أيها العمدة والوزير «رخ مي رع» الشعيرَ (؟) … ثم يقول حراث: «بداية سعيدة، ويوم سعيد، وسنة سعيدة خالية من كل شر …» ويقول حراث ثانٍ مناديًا زميلًا له: «تقدَّمْ يا مَن تسد الطريق حتى نستطيع أن نكون أحرارًا في الروح والغدو»، وينادي ثالثهم بصوت مرتفع: «دَعْنا نسير، إنَّا نكد للسيد».»
- استعمال الأراضي البور واستغلالها: (Pl. XL, 1-2 & XLII–XLVII, I) كان من أعز المتع وأحبها إلى نفس المصري، الترويحُ عن نفسه بالخروج في أوقات فراغه للصيد والقنص، وقلما نجد شريفًا من عظماء القوم منذ الدولة القديمة إلا صوَّرَ لنا ما كان يقوم به في هذا الميدان المحبَّب إلى نفسه، فيصوره لنا على جدران قبره أملًا منه في أن يتمتع به في حياته الآخرة، كما كان ينعم به في الحياة الدنيا. وقد ترك لنا «رخ مي رع» بدوره مناظر تحدِّثنا عمَّا أصابه في هذا المضمار من براعة، وما هُيِّئ له فيه من نجاح؛ غير أنه ممَّا يُؤسَف له جد الأسف زوال الجزء الأكبر الخاص بهذه الناحية من المشاهد التي رُسِمت على جدران قبره، ومع ذلك فإن ما بقي يقدِّم لنا صورةً ممتعةً تحتوي على شيء كثير من التجديد وحسن الإخراج ودقة الفن.
- صيد السمك والطيور: (راجع: Plates XLI, 1-2; XLII) يُشاهَد مما تبقَّى من هذا المنظر جزء من غيضة بردي؛ ولا بد أن «رخ مي رع» كان يريد أن يضرب بخطافه السمك وهو في قاربه كما توحي بذلك «الصورة»، وفي جهة أخرى من نفس المنظر نفهم أنه كان يقوم بصيد الطيور، وفي جهة ثالثة نشاهده يحاول صيد حيوانات، وما بقي لنا من هذا المنظر المهشم لا يوحي بشيء جديد، بل كان منظرًا تقليديًّا، غير أنه مع ذلك يحتوي على تفاصيل عدة تجذب النظر اجتذابًا؛ لما فيه من حركات صادقة تتفق مع ما نشاهده في الطبيعة، وربما تهم هواة الصيد في أيامنا؛ فغابة البردي التي تظهر جامدة لا حراك في سيقانها أثناء الجو الحار، صالحة لأن تكون مأوًى أمينًا لجمٍّ غفيرٍ من الحيوانات، وبذلك فإن الصيَّاد الماهر الذي كان يتسلَّل في مثل هذه الأجمة، عندما كان يقترب خلف ستار ثلاثة الطيور التي أمسك بها في يده مرفرفة بأجنحتها، يتسنى له أن يصطاد الطيور التي كانت تترك مكمنها عند هذه اللحظة، وإذا اتفق أنها طارت فعلًا من أماكنها بالقدرة الإلهية، فإن عصا الصياد كانت تصيب هدفها الدقيق، والمتن الذي يصف لنا هذا المنظر هو (Plates XLI): ««رخ مي رع» محبوب إلهة البطاح، وحليف سيدة الصيد، مخترقًا البرك ومتسلِّلًا في مستنقعات البط، ومسليًا نفسه بصيد السمك في الأحواض.» وعن صيد الحيوان يقول:١٥٦ ««رخ مي رع» (ألقابه) حليف إلهة البطاح متمتع بمنظر الصيد الجميل، مشترك في نشاط «إلهة البطاح».» وفي نقش ثالث نقرأ: ««رخ مي رع» يخترق وديان الصحراء وسكان التلال، ويجد الرياضة في صيد حيوان الصحراء.»
- وصف منظر الصيد والقنص: (راجع: Pl. XLIII) يُشاهَد بين منظرَيْ صيد الطيور وصيد حيوان الصحراء تابعون في ركاب الوزير «رخ مي رع» يحملون طيورًا ومعهم كلبة صيد وفضل من القسي والسهام، ويُشاهَد الصياد يفوق سهمه على عدد من حيوان الصيد المحصورة في حظيرة من الشباك، ويُلاحَظ هنا أن اختلاط الحيوان بعضه ببعض في داخل هذه الحظيرة قد أُخرِج بطريقة تجلَّتْ فيها حرية الرسام، أكثر مما نشاهد في المناظر الأخرى التي من هذا النوع، فسطح الجدار الذي صور عليه هذا المنظر قد لُوِّن باللون الوردي الخفيف، وقد بُعثِر عليه حصًى ملوَّن، وترى الحيوانات تنهب الأرض نهبًا في رقعة هذه الصحراء، وأشكال الحيوان هنا لا تختلف كثيرًا عن النماذج التقليدية، غير أن ما بقي من الرسم أحيانًا لا يعطينا صورةً صادقةً عن الحيوان وحركاته، كما هي الحال في النعام، أو في الضبع التي نشاهدها تعضُّ بحنق وغيظ السهمَ الذي نفذ في صدرها، ويُلاحَظ أن السهام التي إصابات الحيوانات غليظة مما جعل الدم يتدفق منها، وجعل كل حيوان يرخي لساقيه العنان؛ ومما يسترعي النظر كذلك أن تأليف هذه اللوحة يمثِّل اختلاط الحابل بالنابل، كما يمثِّل الارتباك الذي يسود أرجاء الشبكة، وهذا لا يتفق مع القواعد التقليدية، وقد أظهر الفنان مهارته في حفظ مجاميع الحيوانات منفصلة بعضها عن بعض، كما أفلح في تنويعها، فالجزء القريب من الميدان لعين الناظر يظهر مملوءًا بحيوانات تعدو بسرعة خاطفة في حنق ورعب، ثم يأخذ بعد ذلك منظر حركات الحيوانات في الهدوء عندما تقع فريسة للسهام، وتشاهد الكلاب تنقضُّ عليها في الحال إثر إصابتها.
-
منتجات الصحراء: (راجع: Pls. XLIV, XLV)
يظهر أن المصري كان عظيم الاهتمام بإظهار ثمرة مجهوده
بوصفه صيادًا، وكذلك ما كان يبديه من نشاط في جني الكروم
وعصيرها، وعرض محاصيل الصحراء؛ إذ نشاهد الوزير «رخ مي رع»
قد خصَّصَ جزءًا كبيرًا لهذه الأشياء، فقد رُسِمت أمامه
هذه المناظر وهو جالس على كرسي عظيم يباشر القيام
بأعبائها، وقد كُتِب فوق صورته متنٌ يفسِّر لنا ذلك، وهو:
««رخ مي رع» الذي أنجبه الكاهن المطهر للإله «آمون» «نفرو
بن»، ووضعته سيدة البيت «نب»، يشرف على محصول ناجح
ويتسلَّم جزية «طرق حور» … من ثيران ذوات قرون طويلة،
وأخرى ذوات قرون قصيرة، وسمك وطيور وفاكهة وزهر بشنين
وأعشاب … من الدلتا وكذلك جزية «طرق حور».» وكذلك نقرأ
(راجع: Pls. XLIV, XLV):
«إحضار ما حصل عليه من صيد الصحراء تيتل وغزال ووعل، وكل
الطرائف الطيبة من لحم وخضر بمثابة قربان «طريق حور»، وهي
أزهار بشنين، وأعشاب وبراعم بشنين، وسمك وطيور لا حصرَ
لها، وثيران ذوات قرون طويلة، وأخرى ذوات قرون قصيرة ونبيذ
وفاكهة، محققًا بذلك كلَّ ما تصبو إليه النفس لأجل روح «رخ
مي رع».»
ولا نزاع في أن وفرة هذه الأشياء التي أُحصِيت في هذا المتن توحي إلينا بأنه يوجد في مثل هذه الحالة فاصل بين التاريخ والخيال، فقد يكون من باب المجازفة استنباط أن «رخ مي رع» كان له ضياع خاصة في الدلتا، وبخاصة في النهاية الشرقية منها، أي: المكان المعروف باسم «طريق حور» (الملك)، أو أنه كان يتمتع بالصيد فقط هناك؛ إذ إنه ليس من المحتمل أن يكون لدى «رخ مي رع» من الوقت، بعد أن عددنا المهام التي كانت ملقاةً على عاتقه؛ ما يسمح له بترك «طيبة» والقيام بسياحة طويلة إلى الدلتا، بل إن ذلك كان مجرد تحقيق أحلامٍ ادَّعاها هنا وجعلها حقيقةً، ليلقي في روع الناس والآلهة أنه فرد جدير بالتمتُّع بكل ملاهي الدولة وخيراتها، وبخاصة إذا علمنا أن حدود نفوذه كانت تنحصر في صعيد مصر وحسب.
-
المناظر: (راجع: Pls. XLIV, XLVI,
1) وسواء أكان ذلك أضغاث أحلام أم
حقيقة، فإنَّا نجد أمامنا في الصورة الصيدَ المقتولَ
مكدَّسًا في كومة تحتوي كل أنواع الحيوان عدا الضبع، وقد
كان يدوِّنها كاتب، كما نشاهد أنه بجانب كل حيوان مقتول
آخَر حي قد جيء به ليسمن في الحظيرة الخاصة بذلك، ونجد من
بين الحيوانات الحية الضبع، غير أنها تُرَى محمولة على
قضيب، والسبب في ذلك أن الضبع حيوان صعب المراس، وصورته
هذه منقولة عن التقاليد القديمة منذ الدولة
القديمة.
ومن جهة أخرى نشاهد الكروم تجمع وتعصر كما كانت الحال في «طرق حور» (الملك)، وهذا الإقليم الواقع على حدود مصر الشرقية كما ذكرنا كان عظيم الخصب مشهورًا بنبيذه، وقد حافظ على هذه الشهرة العتيقة حتى عهد القرون الوسطى الحديثة. وصورة قطف الكروم وعصرها عادية في ذاتها، غير أنه قد أسبغ عليها بهجة ورواء تلك الأغنية التي كان يتغنَّى بها عصار وبنت الكرم أثناء عملهم، فينشدون: يا «أرنوتت يا سيدتي، أغدقي علينا الخير العميم!» وقد كان ما تنتجه هذه الجهات من فاكهة هو الرمان والعنب؛ هذا بالإضافة إلى الأزهار والثيران.
-
غنيمة صيد الطيور: وفي جزء آخَر من هذا المنظر نجد غنيمة صيد الطيور التي
عاد بها الوزير، وقد قام على نتف ريشها وتكتيفها ووضعها في
القدور عمَّالٌ مختصون بذلك، وكذلك يُشاهَد السمك يُنظَّف
ويُجفَّف في الشمس، وقد كانت ألسنة أولئك الذين كانوا
يحضرون هذا السمك لتنظيفه لا تنفك عن الكلام، فيقول واحد
منهم لصاحبه وهو يحاوره: «أسرع في فتح جوف السمكة. تأمَّلْ
… إنها تظهر عندما ينخفض النيل. ويقول آخَر: يا أيها الخدم
أحضروا السمك لفتحه. تأمَّلوا … إن إلهة البطاح تأتي وهي
حسنة الإدارة.»
وفي منظر آخَر (Pl. XLVI, 1-2) نلحظ أن السمك كان يُصاد بوساطة شبكة تُجَرُّ ثم تُحمَل إلى الشاطئ، وكان العمال لا يزالون يتكلمون في أثناء ذلك، غير أنه لم يصلنا شيء من حديثهم لتهشيم المنظر؛ أما ما تبقى من هذا المنظر فلا يمكننا أن نستنبط منه إلا ما نجده من رجال يحملون كل أنواع المحاصيل، منها طيور منتوفة وغير منتوفة، وسلات بيض، وأطباق من الشهد، وأباريق مختومة، وبردي ونسيج ملفوف.
- المناظر الدنيوية: لم يَفُتِ الوزير «رخ مي رع» أن يفرد جزءًا من مناظر قبره لشئون الحياة الخاصة بالتموين وكل ما يتعلَّق به؛ ولذلك نجده قد استعرض لنا عدة مشاهد صوَّرَ فيها كلَّ أنواع المأكولات والمحاصيل، سواء أكانت من إنتاج البلاد المصرية نفسها أم من المحصولات الخارجية، وبخاصةٍ ما كان متعلِّق بإمداد خزائن الإله «آمون» أعظم الآلهة المصرية.
-
الحبوب المقدَّمة للإله آمون: (راجع: Pl. L, &
LI) دوَّنَ لنا «رخ مي رع» متنًا فوق
صورته يقول فيه إنه يتسلم الفول (؟) والشهد لخزانة معبد
«آمون»، ويحافظ على كل الطرف بمثابة قربان لمعبد «آمون»،
وذلك على حسب ما تفرضه وظيفته بوصفه المراقب السري.
والواقع أن الصورة التي على الجدران تتفق مع هذا النص؛ إذ نشاهد حقائب فول يقدِّمها فلاحون بخضوع، كما نشاهد عمَّالًا يكدسون كومة من هذه الحبوب ويكيلونها، ثم يدون مقدارها، ويدل ما نشاهده في هذه الصورة على أننا لسنا أمام كومة قمح، بل حبوب أخرى حمراء قاتمة، يغلب على الظن أنها نوع من الفول.
وتحدِّثنا النقوش عن ذلك فتقول: «تسليم فول «وعح» لخزانة المعبد.» والظاهر من الإجراءات التي كانت تُتَّخَذ بخصوص هذه المادة أنها كانت تُستعمَل غذاءً؛ إذ نشاهد عاملين يهرسان هذا «الفول» في هاون مصنوع من جذع شجرة، وقد كُتِب عليه الشرح التالي: دق الفول في خزانة «آمون» رب تيجان الأرضين، لأجل عمل القرابين التي قرَّرها جلالته. والظاهر أن هذا الفول كان يُهرَس فقط، كما يدل على ذلك قشوره الخشنة حتى بعد الهرس؛ ولذلك كان من الضروري فصلها، فكان يُنخل الدقيق المتخلف من الهرس عدة مرات بوساطة «خدام إدارة البلح». وأحيانًا نشاهد الدقيق يُغربَل بوساطة مذراة مصنوعة من خوص، ونسمع أحد أولئك الذين كانوا يقومون بهذه العملية ينادي قائلًا: «فَلْيُسرِع كل طحان منكم. تأمَّلْ إننا ننفذ أوامره (؟).»
- فطائر مصنوعة من الفول (الطعمية): (Pl. XLIX, & L)، ومما يلفت النظر ما نشاهده من صنع أربع فطائر من هذا الفول، وقد مُزِجت عجينتها بالماء في حوض، وقد جاء المتن التالي شرحًا لهذا المنظر: «خبز رغفان يوميًّا لأجل الإله «آمون»، ولأجل تاسوع الآلهة التابعين له.» ويُلاحَظ هنا أن العجينة قد أُخِذت من الحوض، وقُطعت أجزاء على هيئة أقماع، وذلك بدحرجتها على لوح ثم إعطائها الشكل النهائي باليد، ولا بد أن هذه الفطائر كانت تُسوَّى على النار، غير أن الدليل الوحيد لدينا على ذلك هو وجود فرن لم يُوقَد بعدُ، ويُحتمل جدًّا أن هذه الأرغفة هي «الطعمية» التي تُعمَل من الفول في أيامنا.
- نوع من الفطائر الحلوة: وكذلك يشاهد في هذا المنظر (Pl. XLIV. row 1) صناعة فطائر أُضِيف إليها أدم وشهد وبلح، وكانت تُسوَّى على النار، أما الشهد والبلح فكانَا يُضافان إليها في أثناء تسويتها على النار، وذلك بإذابة الأدم في قدر خاص، وقد فسر لنا المتن هذه العملية بالعبارة التالية: «إضافة الأدم وطهي خبز شعت.» وكانت هذه الفطائر تُخبَز على لوحة بعد تشكيلها في هيئة مثلثات مسطحة بيضية، ثم تُدهَن كلها بعجينة فيها أدم، وكانت الفطائر المثلثة الشكل لونها أحمر، وحافتها صفراء، وقد نُقِش فوقها: «فطائر بالشهد والبلح (؟).»
- لف الفطائر في حِزَم لأجل القربان: ونجد مكتوبًا على أحد صناع الفطائر العبارة التالي: «عمل رغفان «سخنو» لأجل القربان المستحقة للمعبد.» ولذلك نشاهد في هذا المنظر عاملًا قد أعَدَّ حزمتين حملهما بوساطة نير، وهما يتألفان من الفطائر المثلثة والبيضية الشكل، وكلٌّ منهما ملوَّن باللون الأحمر، غير أن حافته قد لُوِّنت باللون الأصفر، والظاهر أنها محمولة في أقفاص من الخوص.
-
تربية النحل:
(Pis. XLVIII. &
XLIX) تدلُّ كل ظواهر الأمور على أن
الشهد والبلح كانَا المادتين الرئيسيتين اللتين استعملهما
المصري القديم لصنع الحلوى، وقد أراد الفنان المصري عند
التدليل على وجود الشهد ضمن المحاصيل الوطنية التي كانت
تُجبَى لمعبد آمون في عهد الأسرة الثامنة عشرة، أن يرجع في
تصويرها لنا إلى الماضي البعيد، أي إلى عهد الدولة
القديمة؛ إذ قد وضع أمامنا صورة لتوضيح تربية النحل التي
كانت تُعَدُّ بلا نزاع من الصناعات المصرية القديمة
الهامة، والصورة الوحيدة التي بقيت لنا من ذلك العهد
السحيق، يرجع تاريخها إلى عهد الأسرة الخامسة، وقد كشف
عنها في رسوم معبد الملك «نو سر رع»، ولا يبعد أن يكون
مفتن الأسرة الثامنة عشرة قد لجأ لتقليدها، ولدينا صورة
تشبه التي وُجِدت في عهد «نو سر رع»، يرجع عهدها إلى
الأسرة السادسة والعشرين، وُجِدت في مقبرة فردٍ يُدعَى
«بابس» (مقبرة رقم ٢٧٩)، وقد كشفتها بعثة «مترو بوليتان»
في عام ١٩١٨-١٩١٩ (راجع: Lansing, M. M. A.
XV. (1920) July Part II. Pp. 21 ff)،
ورسم هذه الصورة رديء جدًّا، لدرجة أن البحاث لا يعرف أنها
منظر تربية نحل إلا من الإيضاح الذي كُتِب عليها، أما في
منظر مقبرة «رخ مي رع» فواضح بعض الشيء، فنشاهد الخلايا
نفسها وهي مصنوعة من الطين الأحمر الرمادي، ولا تختلف في
شكلها عن الأسطوانات المصنوعة من الفخار التي تُستعمَل حتى
الآن في مصر الحديثة لهذا الغرض بعينه، وقد ثبتت في
مواضعها أفقيًّا على مصطبة من الطين.
أما الطريقة التي كانت تُستعمَل لجَنْي الشهد فهي طريقة التدخين؛ وذلك أن يُطلَق الدخان في أصل الخلية إلى أن يهجرها النحل، وكانت عملية التدخين تعمل بوساطة مصباح مركب فيه ثلاث فتائل، وقد أشعرنا المثال المصري بنجاح هذه العملية بأن صوَّرَ لنا أن كل النحل قد ترك الخلية ولم يَبْقَ فيها إلا نحلة واحدة، وكذلك نشاهد في الصورة أن النحال قد أخرج قرصًا بيضي الشكل، غير أنه لم يصوِّر لنا الكيفيةَ التي صنع بها النحل هذا القرص بشكله هذا.
- تحضير الشهد: أما تحضير الشهد فكان يصفى القرص أولًا، ونستطيع أن نفهم ذلك من إناء مملوء بأقراص بيضاء، كما نشاهد عمَّالًا يختمون جرات كبيرة بأختام من طين أُخِذت من كومة أُعِدَّتْ لذلك الغرض، ومما يسترعي النظر أننا نشاهد العامل الذي يقوم بعملية ختم الأواني، وقد لُطِّخت يداه بالطين، وكان يمتاز الإناء الخاص بالشهد بأنه من الفخار الأحمر، وفوقه آخَر مقلوب بمثابة غطاء، وقد كان يفصل بين الإناء وغطائه خيط أبيض، كما استعمل لحبكها حبكًا متقنًا مادة الشمع كما يُشاهَد في الصورة.
-
خزن الجرار والمحاصيل الأخرى أمام الوزير:
(Pl. XLIX, L. & “Paintings from
the Tomb of Rekh-mi-Re at Thebes”, Pl.
XV) وقد كان المصري يريد أن يحافظ على
هذه الجرار بعيدة عن العبث بها، ولا غرابة في ذلك، فإن
تاريخ الخيانة يرجع إلى عهد آدم وجنة عدن؛ ولذلك نجد أن
الموظفين المنوط بهم ختم الأشياء الثمينة كانوا من أصحاب
المكانات الهامة.
وقد كان ضمن هذه الطوائف التي تجب المحافظة عليها على ما يظهر؛ الشهد والزيت والنبيذ، والواقع أن تخزين هذه المواد في مخازن خاصة في المعبد يُعتبَر من أهم المناظر التي وُجِّه لها عناية خاصة. ولما كان الزيت والنبيذ من المحاصيل التي اختصت بها الدلتا، فإنا نجد بحَّارة سفن النقل احتلوا مكانةً بارزةً في هذا المنظر، وكان يقوم بإدارة نقل الجرار المختومة ضابط سفينة قربان معبد «آمون» (راجع: Pl. L. row. 3)، وقد كتب فوق هذا المنظر الشرح التالي: «حمل النبيذ إلى مخازن المعبد، وهي التي يتسلَّمها الوزير «رخ مي رع».» وقد كان رئيس العمال يحضُّ عماله على المثابرة على العمل، في حين كان العمال يشتغلون في صمت. ويلفت النظر في هذه الصورة شاب نوبي يحاول أن يرفع إلى كتفه جرة ضخمة، وقد انقضَّ عليه رئيس العمل في أثناء ذلك بعصاه قائلًا: «قُمْ لا تتخاذل.»
ونشاهد كذلك هنا عمال الواحات الذين مثلوا بهيئة قذرة، وقد طلب إليهم رؤساؤهم أن يهموا بإنجاز العمل قائلين: «أسرعوا حتى يُتقبَّل منكم هذا العمل، وحتى تغادروا هنا بالثناء «مكافأةً لكم (؟)».» ومعظم هؤلاء العمال كانوا يرتدون لباسًا يستر عورتهم فقط مصنوعًا من الجلد.
وعند انتهاء العمل انحنى رؤساء العمال أمام الوزير بخضوع وخشوع بالغين، ثم نطقوا بكلمة كلها ولاء وهي: «والآن يبتهج قلبك يا أيها الشريف، وَلْتسعد أحوالك، إن الخزائن تقبض بجزية كل البلاد الأجنبية، وبزيت وبخور ونبيذ الدلتا، ومختلف محصول بلاد بنت وهداياها، وحقائب وأكياس محتوية سلعًا ذات قيمة، لدرجة أن عددها أصبح يُحصَى بمئات آلاف الملايين، (وكل ذلك) لملك الوجهين القبلي والبحري «منخبر رع» معطي الحياة، وهو الذي منه نتقبل الثناء يوميًّا.»
- محاصيل أخرى من الدلتا: (Pl. XLIX) ولدينا منظر آخر في مقبرة «رخ مي رع» اجتمع فيه بعض محاصيل بلاد الدلتا، فنشاهد فيه حِزَمًا من البردي واليراع، وقد يجوز أنها مجرد نماذج ممَّا كان يورد بكميات عظيمة، كما نشاهد سلات مصنوعة من الخشب، غير أنه ليس في استطاعتنا معرفة ما كان فيها، وعلى مقربة من هذه السلات نشاهد كومتين يُحتمَل أن واحدة منهما تشتمل على صمغ «تي شبس»، كان يتسلَّمه كاتب الخزانة (Pl. XLIX, row. 2)، وكذلك نرى مساعدَ كاتبٍ يتسلَّم جزية الواحات الجنوبية (الخارجة) مع جزية الدلتا، في حضرة الوزير «رخ مي رع». أما المخزن الذي كان يحتوي هذه السلع، فبناء مقبب أُقِيم من اللبن، وليس فيه إلا إطار بابه من الحجر، كما يُشاهَد ممَّا يماثل ذلك قباب حتى الآن في المخزن الذي كشف عنه بجوار «الرمسيوم»، وممَّا يُؤسَف له أن اسم هذا المبنى قد فُقِد، ويُحتمَل أنه كان يُسمَّى «مخزن معابد «آمون» والآلهة التابعين له».
-
محاصيل الواحات:
(Pl, XLIX & “Paintings” Pl.
XIII) يظهر أن كلًّا من خزائن الذهب
والفضة التابعة لمعبد «آمون»، ومخزن المعبد الذي على
يسارها، قد أخذت الواحد مكان الآخر؛ وذلك لأن الأشياء
الموضوعة على يمين الأول (Pl. XLIX, 2,
& “Paintings” XIII) لا تشتمل
إلا محاصيل بسيطة لواحة أو إقليم فقير؛ ويرجع السبب في ذلك
إلى خطأ ارتكبه المفتن، ويمكننا أن نتعرَّف عن محصول
الواحات من العنب والنعال التي نشاهدها مصوَّرة في المنظر،
وكذلك نرى سلات بسيطة الصنع، وقيمتها تنحصر في محتوياتها،
غير أن بعضها قد صُنِعت على هيئة جرار وخلايا نحل، وقد
أتقن الصانع حبكها، هذا فضلًا عن أن ما على إحداها من صورة
آدمية مصوَّرة بصورة هندسية بارعة، لَدليل على تقدُّم الفن
في هذه الجهات.
ويُحتمَل أن هذه الأواني كانت مملوءة بالنبيذ، وقد وضع فوق هذه الأواني مادة يجوز أنها لوف أخضر، أما الحزم التي نشاهدها بجوارها فيُحتمَل أن يكون نسيجًا حُفِظ بلونه الطبعي، فقد كانت كلها ملوَّنة باللون الأصفر، وكذلك الحقائب الطويلة التي تشاهد في هذا المنظر بلون أرجواني، ومختومة كل منها من إحدى طرفيها، تُعَدُّ من مميزات الواحات أو بلاد «بنت»، ويُحتمَل أنها كانت تشمل فاكهة أو بندقًا.
- حاصلات بلاد النوبة: (راجع: Pl. XLVIII. & “Paintings” XIV) وبجانب محاصيل الواحات نشاهد كومة ثانية تشمل بداهة حاصلات بلاد السودان؛ إذ تشتمل ريش نعام وحِزَمًا من سيقان نبات «ثنو»، وأربعة دروع من الجلد قمعية الشكل بها قرع أبيض، وكتلًا من الأبنوس، وأسنان فِيَلة، وجلدَ فهدٍ، وأكياسًا مملوءة دومًا خشنة الصنع، وعددًا من القردة تحاول أكل ثمار الدوم الموجودة في الأكياس؛ لأن ثمار الفاكهة هو الطعام المستحب عند القردة (راجع: “Paintings”. XIV)، وأسفل هذا تشاهد قسي صفراء وكتل من الفضة وسبائك وخواتم من ذهب، وأكياس مملوءة بالتبر، وكراسي ربما كانت لجلوس القردة عليها (راجع: Pl. XVIII).
- محاصيل أجنبية: (راجع: Pl. XLVIII) وفي نفس هذا المنظر نشاهد مبنًى كبيرًا أكثر متانةً من السابق، يظهر بداهة أنه أُقِيم من الحجر، وأُطلِق عليه الخزانة المزدوجة للذهب والفضة (أي: الخزانة)، والداخل فيها يشاهد سلات مملوءة بالفيروزج الأخضر المائل للزرقة، والكرتلين الأحمر (حجر الدم)، واللازورد الأزرق، وقطعًا من الفضة، ولفائف من الكتان، وحِزَمًا من النسيج أيضًا، وجرارًا مملوءة بصمغ البخور، وعطور «سفث»، وأكوامًا من البلسم، ويراعات (قنن)، وقضبانًا «تي شبس»، وحلقات من الفضة، وركائز من ذهب الجنوب، وزيتًا في جرار مختومة، وركائز نحاس، وكل هذه المواد قد وردت إلى مصر من الخارج.
- عبيد معبد آمون وعملهم: «رخ مي رع» يفحص أحوال عبيد معبد آمون: (Plates LVI, LVII, LXXIII, 3. “Paintings”. XXIII) لما اتسعت أملاك مصر في الخارج ونمت صناعاتها في الداخل، أراد الفراعنة أن ينتفعوا بالأسرى الذين كانوا يستولون عليهم من هذه الأقطار المفتوحة، على أن تكون فائدتهم منهم مزدوجة، فقد كانوا يجلبون هؤلاء الأسرى إلى مصر ليعملوا في المصانع الوطنية، وبخاصة مصانع الإله «آمون» ومعابده، وكذلك كانوا ينتخبونهم من الأسر العريقة حتى يكونوا ضمانًا للفرعون على عدم قيام ثورات في القبائل التي أخذوا منها. والواقع أن الغنائم البشرية كانت دائمًا ذات قيمة عظيمة في نظر كل الشعوب، وإن كان جلبهم إلى بلد الغانمين يحمل في طياته العقاب المحتم، وهو ما ينتج دائمًا من اختلاط جنسين مختلفين من الناس، وبخاصة في الأنظمة والمعاملة التي كان يتبعها القاهر مع المقهور، هذا فضلًا عن الاختلاط الجنسي الذي كان لا بد منه، وما كان ينجم عنه من تغييرات في الأخلاق والعادات؛ وهذه الملكية الجديدة وما تنطوي عليه من نُظُم في المعاملة قد مثلت أمامنا في صورة رائعة في مقبرة «رخ مي رع»، حيث نجده قد جلس وخلفه حاشيته، وعلى الرغم من أن المتن المفسر لهذا المنظر قد هشم بعض الشيء غير أنه يقدِّم لنا صورةً لا بأس بها عن مغزاه؛ إذ يقول: «إن «رخ مي رع» يقوم بفحص (أحوال) عبيد أملاك معبد «آمون»، وكذلك مصنع أملاك المعبد — وهؤلاء العبيد هم الذين جاء بهم الفرعون أسرى أحياء، وفرض على أهلهم أن يكون أولادهم جزيةً — لإعطائهم نسيجَ كتان وعطورًا وملابس على أنها ذخيرتهم السنوية …» وفي متن آخَر يقول: «إن «رخ مي رع» يقوم بفحص المصانع في «الكرنك»، والعبيد الذين أتى بهم جلالته من انتصاراته على الأرضي الجنوبية والأراضي الشمالية بمثابة أنهم نخبة غنيمته، وإنه (الملك) الإله الطيب سيد مصر «منخبر رع» — له الحياة والسعادة والصحة — لأجل صناعة كتان الفرعون والكتان النقي والكتان الجميل … والكتان المنسوج نسجًا دقيقًا؛ وهم العبيد الذين يقدمون الآن نسيجهم «لآمون» في كل أعياده على حسب عددهم، لمدة ملايين سني الفرعون …» ويُلاحَظ أن عدد العبيد كان عظيمًا، وكذلك كان مسك دفاترهم؛ ولذلك نجد رجال السكرتارية جالسين في راحة مزاولين عملهم الطويل.
-
الإماء: ويدل المنظر على أن هؤلاء العبيد كانوا موزَّعين على
إدارتين رئيستين، وهما إدارة الغزل والنسيج وإدارة
المراعي، ففي الأولى كان الاعتماد على النساء أكثر من
الرجال، غير أنه كان لا بد من إعطاء الجوائز الخاصة لحث
النساء على العمل والقيام به خير قيام، على أن المنظر الذي
نشاهد فيه النساء ممسكات بأيدي أولادهن لأجل فحصهن ثم
تسجيل أسمائهن (Pl. LVII. row.
1) يُشعِر بوحشية وقسوة؛ وذلك لأن
القائمين بهذا العمل كانوا لا يُظهِرون أيَّ اهتمام؛ لأنهم
كانوا يعدُّونهم في نظرهم كالأنعام بل هم أضل سبيلًا، وعلى
الرغم من ذلك ليس لدينا من البراهين ما يوحي بأن هؤلاء
الصغار كانوا يُباعون، وإن كانت خدماتهم فيما بعدُ يمكن
بيعها، وغالبًا ما كان يؤدِّي هذا العمل إلى أسوأ استعمال
وأشنع نتائج. (راجع: Davies, M. M. A.
XXIII. (1928) Sec. II. p. 40. & the light on
slave dealing, Ibid XXX. (1935). Sec. II.
p. 54).
ومع ذلك فليس لدينا من الأدلة ما يجعلنا نفرض عدم الإنسانية أو القسوة في معاملة هؤلاء الأسرى؛ إذ نجد أن الجيل الثاني من هؤلاء العبيد لم يكن أهله بأتعس حالًا من المصريين أنفسهم، وتدل ظواهر الأمور على أن الإماء من هؤلاء العبيد كنَّ أحسن حالًا من زميلاتهن من المصريات الصميمات أحيانًا؛ إذ قد نلن حظًّا من السعادة ورغد العيش في وطنهن الجديد، وقد برهن على أنهن جديرات بأخذ حقوقهن؛ فقد كان المصريون الذين يعاشرونهن يعلمون علم اليقين أنه ليس من صالحهم أن يثيروا غضبهن أو يعملوا على قهرهن.
- مرتبات الإماء: وقد كانت النساء يتسلمن مرتباتهن من نسيج الكتان الذي كان يُوزَّع عليهن، وقد كان هذا النسيج مزركش الحواشي يُقدَّم في هيئة مقاطع ضخمة، وقد أمكن أن نعرف من إحدى الحالات نسبة طول الكتان المنسوج؛ إذ نشاهد في الصورة قطعةً منه مبسوطة أمامنا لتقسم اثنتين (Pl. LVI. row. 1). وكذلك كان يصرف لهن الدهن، ويُحتمَل أنه كان عطورًا كما يُحتمَل أنه كان شحمًا للمصابيح، والظاهر أنه كان على نوعين؛ إذ نجد أنه في حالة يصبُّ من جرة كبيرة كالزيت، وفي حالة أخرى كان يكدس كالعجين في طبق، وتدل ملامح هاتيك النسوة على أنهن كن من «الخيتا» ذوات الشعور الطويلة، ومن «النوبيات» اللائي يحملن أولادهن في سلات، ومن «السوريات» اللائي يمتزن بحللهن المزركشة، ويُلاحَظ أن الأطفال كانوا يلبسون تعاويذ، ومن هذه نشاهد صورة شمس ساطعة على فتاة سورية وهلالًا يتحلى به الطفل الذي تحمله (Pl. LVII. row. 1).
- الرجال العبيد: ومما يلفت النظر أن الرجال الأجانب الذين كانوا يوردون الكتان (Pl. LVI, LVII) والمصريين الذين يتسلمونه منهم، لا يمكن تمييز بعضهم من بعض، فقد كانوا يلبسون زيًّا واحدًا وملامحهم واحدة، والنسيج الذي كانوا يقدِّمونه كان إما مطويًّا بعناية ليكون صالحًا للمبادلة، وإما منشورًا للاستعمال العاجل. ونشاهد هنا ثانيةً الأكياسَ والحِزَم والنسيج المزركش الأطراف، وأحيانًا نجد نسيجًا له حواشٍ يستعمله السوريون (راجع: Pl. XXII. row. 2)، وليس لدينا فيما تبقى من هذا المنظر إلا رأس واحد تدل تقاطيعه على أنه رأس أجنبي، وإن كانت ملابسه لا تدل على ذلك؛ ويُحتمَل أن الماشية التي نشاهدها في المنظر كان يرعاها أولئك العبيد الذين لم يَبْقَ لنا منهم إلا رأس واحد، وهم من الأجانب (راجع: Pl. LXXIII, 3).
- صناع الإله آمون: رخ مي رع يُشرِف على الصناع: (Pls. LII, LV & “Paintings”. XXIII) كان الوزير «رخ مي رع» يعلم تمام العلم ما للصناعة والحِرَف من شأن عظيم لقضاء مآرب الفرعون الدنيوية والأخروية، وكذلك بوجه خاص ما للصناع من مكانة عظيمة في إنجاز كل ما يحتاج إليه معبد الإله «آمون»، من قِطَع فنية وأدوات العبادة المختلفة الأشكال والألوان، ومن أجل ذلك خصص لها جزءًا عظيمًا من جدران مقبرته، صوَّر لنا فيه نشاط أصحاب الحِرَف والصناعات بصورة لا تحتاج إلى إيضاحٍ أكثر من النظر إليه بالعين المجردة، ومع ذلك فإنه شفع كل حرفة وكل صناعة بما يوضِّح لنا ما يكون قد غلق علينا فهمه منها؛ ولذلك تُعتبَر مناظر قبر هذا الوزير الصناعية مفصلة أكثر من أية مناظر أخرى وصلتنا من هذا العهد، يُضاف إلى ذلك أن الزمن قد حبانا بما نتطلب منه، فلم يعبث بهذه المناظر الفذة بدرجة مشينة تشوِّهها كما حدث في المقابر الأخرى التي أخنى عليها كر الغداة ومر العشي، وزاد في طمس معالمها يد الإنسان وما تُحدِثه من تخريب وعبث؛ فنشاهد في مقبرة هذا الوزير الصناع وقد اصطفوا أمام الوزير على اختلاف مهنهم وحِرَفهم، من صنَّاع مجوهرات إلى عمال قطع أحجار ودباغي جلود ونجارين ومعدنين، فيضع كل المشتغلين بهذه المِهَن منتجات أيديهم وعقولهم عند قدمي الوزير العظيم.
- «رخ مي رع» يقدِّم التعاليم للصناع: فيُشاهَد هذا الوزير واقفًا وبصحبته أربعون من أتباعه يفحص كلٌّ منهم أعمال صناع معبد «آمون»، ويعطي التعاليم لكلِّ عامل عن واجباته في كل منهاج من أنواع الإنتاج، وقد كان «رخ مي رع» يُوصَف هنا بأنه الأمير الوراثي وعمدة المدينة والوزير ورئيس المحاكم الست العظيمة، غير أنه كان من الواجب أن يُنعَت هنا كذلك بأنه الوزير الذي يضع القوانين للكهنة، ويقود الكهنة المطهرين عند أداء واجبهم، وإنْ كان من الصعب تمثيله هكذا في هذا المنظر. والواقع أن وظائفه الخاصة بالكهانة لم تكن مجرد ألقاب شرف وحسب، وحتى إذا كانت منحصرةً في الملاحظة النهائية كما ذكرنا، فإنها كانت مع ذلك عبئًا ثقيلًا آخَر أُضِيف إلى الأثقال التي كانت تنوء بها وظيفة الوزير، وسنذكر هنا كلَّ هذه الصناعات بنوعٍ من الاختصار.
- صنَّاع الخرز: (Pl. LIV) يُشاهَد في هذا المنظر (Pl. LIV. row. 1) صياغ منكَبُّون على أعمالهم، فنجد أولًا ثلاث كميات من الخرز الأخضر لعمل قلائد «منات»، كما نجد جرارًا بعضها مصنوعة من المرمر والبعض الآخَر من مادة مطلية، وأسماطًا منظومة بحبات من الخرز الصغير والكبير، وفوق هذه الأشياء يُرَى صانع يثقب خرزًا من الحجر، وبجانب هذا الصانع نشاهد صناعًا آخرين ينظمون الخرز أو ينظفون الثقوب التي عُمِلت، وبجانبهم سلات تحتوي بداهة على أكوام من الخرز الأزرق المائل للخضرة، ولا بد أن هذه السلات كانت لوضع القلادات التي فُرِغ من صنعها.
- تفريغ الأواني المصنوعة من الحجر: (Pl. LIV) تدل شواهد الأحوال على أن صورة صنَّاع أواني المرمر قد انحدرت إلينا من عهد قديم جدًّا (Pl. LIV, left)، وفي هذه الصورة نشاهد الخطوات التي كان يتبعها الصانع حتى ينتهي من تفريغ آنيته، وقد كان ذلك يحتاج إلى صبر وأناة، ومما يلفت النظر هنا أن الصانع عندما كان يُكلَّف تفريغ إناء ضخم، لم يكن لديه من الآلات ما يساعده على القيام بذلك دون كسر الحجر، وبخاصة إذا كان الإناء واسعًا في جزئه الأسفل وضيِّق الرقبة؛ ولذلك كان يصنعه من قطعتين يفرغ كلًّا منهما على حدة، ثم يلحم بعضهما ببعض عند أوسع نقطة في جسم الإناء.
- العمال وصناعة الجلود: (راجع: Pl. LII, LIV) إن أهم ما يلفت النظر هنا صناعة النعال البيضاء، وهذه النعال كانت على نوعين عرضتا هنا في وضعين، أحدهما عادي والآخَر عُمِل بأشكال غريبة؛ والواقع أنها نعال ذات أشكال خيالية صُنِعت أربطتها على صورة سمكة، ويُشاهَد هنا كذلك مجاميع من لفافات الجلد ممَّا يدل على أن الجلد الأبيض كان يُستعمَل مادةً كالبردي للكتابة عليه، غير أنه تُشاهَد كومة أخرى من الجلود ذات لون أحمر ورقعة بيضاء بَيْدَ أنها رقيقة تُستعمَل للكتابة عليها، وترى كذلك خادمًا يحضر كمية جلود، وهذه بلا شك أدوات السراجة والمعدات اللازمة للعربة، ويمكن للإنسان أن يرى في هذا المنظر الخطوات التي كانت تُتَّخَذ لتحضير الجلود لعمل النعال.
- دَبْغ الجلود وصناعة النعال: (Pls. LII, LIII) يُشاهَد هنا عملية تليين الجلود في وعاء كبير لتصبح صالحةً لصناعة الدروع كما ذكرنا من قبلُ، والواقع أن الدرع كانت تحتاج إلى معظم جلد حيوان صغير، وكان الجلد بعد تليينه يعطاه صانع آخَر (Pl. LIII, row. 1)، فتُؤخَذ القطعة المربعة منه ليُصنَع منها نعال للأحذية، وهنا نشاهد كلَّ الخطوات التي كانت تُتَّبَع لإتمام الحذاء، كما نشاهد كلَّ الآلات التي كانت تُستعمَل في ذلك، وكذلك كيفية العمل (راجع: Pl. LIII, row. 1).
- الحبال المصنوعة من سيور الجلد: (راجع: Pl. LIII, row. 1) وفي أقصى المنظر السابق نشاهد عاملًا ماهرًا ذا تجارب قد أمسك بقطعة كبيرة من جلد حيوان، وأخذ يقطع منها سيورًا طويلة بوساطة سكين لتصنع حبالًا مفتولة من ثلاث سيور كل منها، وطريقة فتل هذه الحبال موضَّحة في الرسم، وهي نفس الطريقة التي تُستعمَل في فتل الحبال المصنوعة من الكتان (راجع: Pl, LII).
-
النجارة وآلاتها: (راجع: Pls. LII, LIII,
LV) عُرِض في هذا المنظر بعض قطع أثاث
مصنوعة من الخشب (راجع: Pl,
LV)، منه مقبض مروحة ووسادة وصندوق
مطعَّم، وتمثال واقف مصنوع من خشب الأبانوس أو الخشب
المطلي باللون الأسود، وهو ذو حواف مذهَّبة، هذا ويُرَى
محراب ليُحفَظ فيه التمثال السالف الذكر.
ويُشاهَد في هذه الصورة عاملان يضعان طبقة من الجص على صندوق، وقد وُضِعت على سطح مغري لأجل تذهيبه، وذلك لما نشاهده من إذابة الغراء في إناء موضوع على النار، أما الجص فكان يُطحَن بحجر رملي أحمر، هذا ويوجد كذلك نجار مفتن مجهَّز بآلات١٥٧ دقيقة لإنجاز أعماله.
-
صناعة المحاريب: (راجع: Pls. LII, LIII)
في هذا المنظر نشاهد صنع محراب من الخشب الأصفر المزخرف
بالأبنوس، وُكِلَ بصناعته أربعة عمال، وفوق هذا المحراب
مصراعَا باب، ويُشاهَد في ترصيع هذا المحراب صور تعاويذ
وحليات ذوات قيمة فنية عظيمة، والمتن المفسر لذلك يقول
(راجع: Pl. LIII, 3): «إن
هذا الشريف هو الذي يضع القواعد، ويرشد أيدي الصناع الذين
يصنعون أثاثًا من العاج والأبنوس، وخشب «سسترم»، وخشب
«مرو»، وخشب الأرز الحر المجلوب من قمة منحدرات جبال
«لبنان».»
ومن هذا المتن يظهر جليًّا أن الوزير «رخ مي رع» أراد أن يبرز أمامنا صراحةً ما له من باعٍ طويل وعلم غزير في الحِرَف، لدرجة أنه كان يتدخل في هذه الصناعات الدقيقة ليرشد الصناع بخبرته ودرايته فيها، ولا غرابة في ذلك؛ فقد كان سيده الفرعون «تحتمس الثالث» يضع التصميمات لبعض القطع الفنية، ثم يعطيها الصناع لتنفيذها، وفي هذا المنظر نرى كذلك كيفيةَ سير العمل وتدرُّجه حتى النهاية.
-
وزن المعادن الثمينة: (راجع: Pl. LV) وقد كان
من أهم ما يُعتنَى به عند القائمين بوضع تصميمات القطع
المعدنية الفنية؛ أن يزنوا للصياغ المقدارَ اللازم لكلِّ
قطعة، على أن يتسلَّموها ثانيةً بعد صناعتها تامة غير
منقوصة؛ ولذلك نشاهد في هذه الصورة الميزانَ الذي كانت
تُوزَن به هذه المعادن (Pl. LV. row.
2). وفي المنظر الذي أمامنا نشاهد خمس
حلقات من الذهب وُضِعت في إحدى كفَّتَيِ الميزان، وفي
الكفة الأخرى وزن مقبب الشكل والآخَر على هيئة رأس ثور،
كما نشاهد وحدات موازين أخرى بالقرب من الميزان لاستعمالها
عند الحاجة، ويُلاحَظ من بينها وحدة في صورة فرس بحر، كما
نشاهد ثلاث حلقات من الفضة وأربعًا من الذهب وُضِعت في سلة
لتوزن، ومن المحتمل أن الرأس الذي يتوَّج به عمود الميزان
هو رأس الإلهة «ماعت» إلهة العدل والحق، أي إنها وُضِعت في
مكانها هنا لتنبه القائم على الوزن أن يزن بالقسطاس
المستقيم.
ونشاهد كذلك في هذا المنظر معظم قِطَع الأثاث التي كانت تُستعمَل في المعبد، وبخاصة الأواني والأقداح والقواعد التي كانت تُوضَع عليها، وكلها قد صُنِعت من الذهب والفضة على التوالي، والمتن المفسر لهذا المنظر هو: «إعداد صياغ الإله آمون والمشرفين على صياغ آمون لإنجاز كل عمل لمقر الملك على حسب عملهم اليومي، وكانوا يحصون بملايين الآلاف في حضرة العمدة والوزير رئيس المحاكم الست العظيمة «رخ مي رع».»
-
طرق المعادن ولحم الأواني: ولدينا مناظر في مقبرة «رخ مي رع» توضِّح أمامنا عمليات
طَرْق المعادن ولَحْم الأواني، فعملية الطَّرْق كانت بسيطة
ساذجة، وذلك بأن تُطرَق بوساطة مدقَّة حتى تصير لوحات
رفيعة (راجع: Pl. LV)،
وهذا المعدن كان يُستعمَل بعد طَرْقه في صنع الأواني،
والمتن المفسر هو: «صنع أوانٍ مختلفة لأجل أن يستعملها
الإله لشخصه، وصنع عدد عظيم من الأواني الذهبية والفضة،
وكلها منتجات خالدة.»
وقد كان لا بد من لَحْم بعض أجزاء الأواني، فكان المصري يستعمل في الوصول إلى ذلك طريقةً خاصة يستعمل فيها معدنًا خاصًّا يُذاب، والطريقة مشروحة كلها في الصورة (راجع: Pl. LII, LIII row. 3).
- صَهْر المعادن: (راجع: Pl. LII. row. 2) وكذلك نشاهد في الصورة طريقةَ صهر المعادن وصبها في قوالب، ولما كانت المعادن المصهورة التي يحتاج إليها كثيرةً؛ فلذلك نشاهد أنه كان يقوم بهذه العملية عدة فِرَق كما يُشاهَد في المنظر.
-
صَبُّ المعادن: وكذلك لم يَفُتِ المفتن أن يرسم لنا كيفيةَ صبِّ المعادن
في القوالب والأشكال المطلوبة (Pl. LII,
LIII)، ونشاهد في المنظر الخاص بذلك
صبَّ مصراعِ بابٍ لا بد أنه كان من النحاس
(Pl. LII. row. 2)؛
ولذلك نشاهد قالبًا من الطين المحروق يوجد به ما لا يقل عن
سبعة عشر ثقبًا يصبُّ في أحدها المعدن المصهور، غير أن هذه
الصورة صعبة الفهم؛ لأننا لم نَرَ بابًا من النحاس قد
صُبَّ دفعة واحدة بهذه الكيفية، كما أنه ليس لدينا ممَّا
وصلنا من الأزمان القديمة ما يثبت ذلك، ومهما تكن العملية
التي نشاهدها هنا، فإنها تدل على مشروع ضخم؛ ولذلك لم
تُترَك لفرد واحد للقيام بها، فنشاهد العمال يمشون كأنهم
جنود تحت الطلب حاملين آلاتهم وكأنها أسلحة قتال، ليساعدوا
القائم بالعمل إذا اقتضَتِ الحال.
وقد نُقِش متن مع هذا المنظر يُحتمَل أنه كان أغنية يتغنَّى بها الحدادون وهم سائرون (راجع: Pl. LIII, row 3) ترويحًا للنفس، وهي: «مرحبًا يا «منخبر رع» يا ملك الآثار الجميلة، يا مَن أعطي الحياة مخلدًا! إنه موجود كما هي موجودة (الآثار) أبديًّا! وإن «آمون» يعطيه ما يساويها من الحياة والسعادة؛ لأنه يقدم المرة تلو المرة العطايا إلى بيت والده المقدس.»ويُشاهَد على يمين هذا القالب حقيبةً مملوءةً فحمًا، ثم ثلاثة رجال (Pl. LIII, 3) يحضرون ركيزة من النحاس وسلتين مملوءتين من نفس المعدن، وهؤلاء العمال يصفهم المتن: «بأنهم أحضروا نحاسًا آسيويًّا، وهو الذي جلبه جلالته من انتصاراته في بلاد «رتنو»؛ لأجل صبِّ بابَيْ معبد «آمون» بالكرنك، وهما اللذان قد غُشي سطحهما بالذهب الذي يسطع في أفق السماء، وقد كان العمدة والوزير «رخ مي رع» هو الذي يدير الأعمال لإنجازها.»
-
المباني والتماثيل: الأعمال الضخمة: (راجع: Plates, LIII,
LXIII, “Paintings” XXIII) لقد كان
ضمن الأعمال الإدارية التي اختصَّ بها الوزير «رخ مي رع»
المباني العظيمة التي أقامها الفرعون في «الكرنك»، وممَّا
يُؤسَف له جد الأسف أن الصورة التي مثل فيها وهو يشرف على
هذه الأعمال قد هشمت، ولم يَبْقَ لنا من الموظفين الذين
مثلوا معه فيها إلا عدد قليل.
ولكن لحسن الحظ قد أبقت يد المخربين على المتن الذي يصف لنا هذا المنظر، وهو: «إن «رخ مي رع»، وهو الشريف الذي يضع القواعد لمعابد الوجه القبلي والوجه البحري والقاضي الأعلى صاحب المكانة الممتازة، يقوم بفحص كل أعمال مؤسسة «آمون» في الكرنك، جاعلًا كل إنسان يعرف عمله المعتاد؛ وذلك لأن «رخ مي رع» هو الموظف المشرف على الأعمال.» وقد استعرض في هذا المنظر أمام الوزير أعمالًا كثيرة لم يَبْقَ منها إلا ما يشير إلى إنجاز مبنًى ضخم للإله «آمون»، بعضه باللبن وبعضه بالأحجار، ثم صناعة تماثيل، ونقل كتل من الأحجار يحتاج إليها بطريقي النيل واليابسة، وكذلك نشاهد تنظيمَ طوائف العمال الذين كانوا يساعدون على إنجاز هذه الأعمال العظيمة.
-
العبيد وصناعة اللبنات: (راجع: Plates LIII, LIX, “Paintings”
XVI, XVII) كانت صناعة اللبنات من أهم
الحِرَف السائدة في طول البلاد وعرضها، وبخاصة إذا علمنا
أن بيوت الفقراء والأغنياء على السواء كانت تقام من هذه
المادة في كل أزمان التاريخ المصري القديم، وذلك لاعتبارات
صحية ودينية معًا؛ إذ كانوا يعتقدون أن المباني الدنيوية
عرض زائل، كما كانوا لا يريدون أن يقيدوا مَن يجيء بعدهم
بمبانيهم التي ربما لا تتفق مع ذوقهم أو ذوق العصر الذي
يعيشون فيه، هذا فضلًا عن أن المباني التي باللبن تجعل
المنازل رطبةً في أيام القيظ الشديد في مصر التي يمتاز
جوها بالحر الشديد خلال أشهر الصيف.
ونشاهد في المنظر الذي خلفه لنا «رخ مي رع» صناعة اللبنات ونقلها، ويدل العرض الذي أمامنا على حيوية ومهارة عجيبة، فقد رسمت أمامنا البركة التي تُؤخَذ منها المياه كأنها لوحة مزخرفة بأزهار البشنين، وكذلك نبت على شواطئها المنحدرة الكلأ المتماوج (“Paintings” Pl. XVI)، والواقع أن المفتن الذي رسمها قد قدَّمَ لنا بركة نموذجية زين سطحها بالأزرق المموج، والعمال فيها قد انحنوا في الماء ليملئوا جرارهم ملونين بالألوان الجميلة، ممَّا أضفى على المنظر بهجةً ورواء، بدلًا من أن يرسمها مجرد حفرة فيها ماء، والمنظر يُعتبَر بمثابة ضوء لامع قد أُرسِلت أشعته على مكان قاتم مظلم، أما اللبنات التي كانت تُصنَع فتُرَى مصفوفة، يزداد عددها كلما ازداد إنتاج العمال بالقوالب التي في أيديهم، وعلى مقربة من العاملين اللذين يقومان بضرب الطوب، تُرَى أكوام من التراب الذي كان يصبُّ عليه الماءَ رجالٌ قد لُطِّخت أيديهم وأرجلهم بالأوساخ، والمدقق في سحنة هؤلاء العمال يلحظ أنهم غرباء، كما يدلُّ على ذلك ما كتب أعلى هذا المنظر إذ يقول المتن: «الأسرى الذين أحضرهم جلالته لأعمال المعبد.» والواقع أننا نجد بينهم سوريين ذوي بشرات بيضاء وأعين زرقاء، كما يوجد بينهم نوبيون يمتازون بجلودهم الحمراء وشعرهم المصبوغ باللون الأحمر، هذا فضلًا عن وجود آخرين لا يكاد الإنسان يميزهم من المصريين، ومما يلفت النظر هنا أن السوريين كانوا كلهم متقدمين في السن كما يُفهَم من شعورهم البيضاء (Plate XVII)، على أن ذلك قد يكون مجرد لون يدل على بياض البشرة.
- أحجار المباني: (راجع: Plates LVIII–LXV; “Paintings” Pl. XVII) من المدهش أن العمل الذي يقوم به الصناع في هذا المنظر قيل عنه في المتن المفسر له: «إنهم يصنعون لبنات لبناء مصانع جديدة للإله «آمون» في الكرنك.» غير أن ما نشاهده في الصورة يختلف عن ذلك؛ إذ نجد أمامنا «سوريًّا» يضرب «ببلطته» في كومةٍ من قطع الأحجار، هذا إلى أن هذه الأحجار لا تدل على أنها آجر محروق؛ لأن هذه المادة كان لا يستعملها المصري في تلك الفترة من تاريخ البلاد، يضاف إلى ذلك أنه كتب فوق صورة عامل يحمل قطعة واحدة بيضاء من الحجر المتن التالي: «إن المشرف يقول للبناء إن قطع الحجر جميلة في يديه.» ونشاهد في منظر آخر مبنًى يقام في معبد الكرنك، وقد صنع له منزلق كالذي نراه حتى الآن في الكرنك، مبني باللبن والطين واليراع وأغصان الأشجار وغير ذلك (راجع: Pl. LX)، كما نشاهد لذلك منظرًا يصوِّر لنا جرَّ الأثقال وبخاصة الأحجار الثقيلة (راجع: Pl. LVIII)، وفي ثالثٍ يُشاهَد تسوية الأحجار (راجع: Pl. LXII) والآلات المستعملة لذلك، ثم نرى كذلك كيفية وضع الألوان والزخرفة (راجع: Pl. LXXIII, 2).
-
تماثيل معبد «آمون» ونحتها: (راجع: Plate. LX) وقد
كان من الضروري بعد إتمام بناء المعبد من القيام بعمل ما
يلزمه من قطع فنية كان لا بد منها، وبخاصة تماثيل الإله،
وقد أسعدنا الحظ بأن حُفِظت لنا صورة فخمة نشاهد فيها نحت
التماثيل الضخمة التي لا تزال حتى الآن موضع إعجاب العالم
بأسره؛ ففي الصورة نرى تمثالين نُحِتَا ضعفي الحجم
الطبيعي، وقد وقف نحاتون على حمالات يعمل كلٌّ فيما كُلِّف
بإنجازه، والظاهر أن هذين التمثالين قد نُحِتَا من
الجرانيت الأحمر.
وكذلك نرى تمثالَيْ «بو الهول» ومائدة قربان عظيمة من الحجر الجيري الأبيض، وهناك تمثال ضخم جالس يمثِّل «تحتمس الثالث»، يعمل في إنجازه ثلاثة نحَّاتين كلٌّ منهم يقوم بالعمل الخاص به، فصانع يهذِّب القطع الزائدة وآخَر يصقل سطح التمثال بحجر صلب، أما الأخير فكان يصنع التفاصيل الأخيرة التي يُعَدُّ بعدها التمثال قد تمَّ نهائيًّا.
وقد كان المفتن يقوم بإنجاز الخطوات التي يجب أن تتخذ الواحدة تلو الأخرى، غير أنه على ما يظهر جعلها كلها تُنجَز في آنٍ واحد؛ ففي حين نرى صانعًا يعمل بمدقته، كان هناك آخَر يقوم بعملية التلوين أو مداواة القطع التي أصابها عطب بالجص.
أما مائدة القربان التي كانت لا تحتاج إلا للنقش، فقد كان يعمل فيها صانع بمدقته وحسب.
ومما هو جدير بالملاحظة هنا من الوجهة الفنية أن المفتن قد حاوَلَ أن يصوِّر لنا أحدَ الصناع وهو يعمل في وضعٍ كان يجب فيه أن يكون جسمه ملتويًا، وهذا يذكِّرنا بالمحاولة الجريئة التي حاوَلَها المفتن في تصوير خادمة في وليمة في مكان آخَر من هذه المقبرة بعينها، وهي في وضعٍ يُظهِر لنا ثلاثة أرباع جسمها، أما التمثال الذي يُشاهَد واقفًا في الصورة، فيلحظ أن نقَّاشًا يقوم بنقش متنه باللون الأخضر. وهذه الصورة على الرغم من أنها تساعدنا على فهم سير العمل، فإنها تتركنا في دهشة عظيمة إلى حدٍّ بعيد جدًّا؛ وذلك أن النحَّات المصري القديم قد أبرَزَ لنا إشارات هيروغليفية متقنة في أصلب الأحجار بآلات خشنة على حسب ما نشاهد في الصورة، وقد وضح هذا المنظر بالمتن التالي: «طائفة منتخبة من جماعات الصناع الذين يعملون في هذا البناء الذي أقامه جلالته بإرادة الوزير «رخ مي رع»؛ لأجل أن يبقى على عرشه في معبد آمون والآلهة الذين في ركابه «في الكرنك».»
-
وليمة أسرية: إن منظر الوليمة التي كان يُدعَى إليها كلُّ أهل صاحب
المقبرة عامة، يُنظَر إليها في العادة بأنها كانت تقام في
عالم الآخرة بعد الموت، ولكن الواقع أنها كانت لا بد تقام
كذلك في مدة حياته، وفي الحق أن التمييز عند المصري بين
الحياة الدنيا والحياة الآخرة يكاد يكون لا وجود له؛ وذلك
لأن روح المتوفى (كا) يمكنه أن يكرر ما كان يعمله وهو
إنسان حي يُرزَق، وسنرى فيما بعدُ أن هذا العمل المزدوج قد
أتاح للمصري أفقًا واسعًا، على شرط أن تكون الأعمال التي
يأتيها وهو في عالم الآخرة من التي تأتيها في الحياة
الدنيا. وعلى أية حال فلدينا منظر الوليمة التي أقامها «رخ
مي رع» للموظفين، وهي بلا نزاع لا تمتُّ بصلة لمناظر
الآخرة (راجع: Pls. CXI, CXII; “Paintings”
XXV)، وقد شغلت الوليمة التي أقامها
«رخ مي رع» لعشيرته الأقربين حيزًا كبيرًا
(Pls. IV, LXIII–LXVII, LXIX, 2,
& “Paintings” Pl. XXVI).
ويُلاحَظ على وجه الضيفان الفرح والسرور، في حين أن محيَّا صاحب الوليمة لا يمكن قراءته على وجه التأكيد، وذلك على الرغم من أن تقديم الصاجات له كان من الأشياء المحبَّبة إلى نفسه، فإن تقديمها يُعتبَر في غالب الأحيان احتفالًا دينيًّا للمتوفى.
وينقسم رسم هذه الوليمة العظيمة التي مثلت أمامنا إلى منظرين علوي وسفلي؛ أولهما وهو العلوي خاص بوليمة النسوة (Pls. IV., LXIII–LXVII)، والمنظر الثاني وهو السفلي خاص بوليمة الرجال (راجع: Pls. LXVI-LXVII, LXIX, 2)، فيُشاهَد «رخ مي رع» وزوجه مريت يشتركان في المنظرين وهما يتقبلان البركات الإلهية من أبنائهما وبناتهما، ويُلاحَظ أن كلًّا من المنظرين قد فُسِّر بمتن خاص يكشف لنا عن الغرض الذي من أجله أُقِيمت هذه الوليمة الشاملة، وهاك المتنين (راجع: Pls. LXIII, LXIX, 2).الأول يصف المناظر التي يلمس فيها «رخ مي رع» الصاجات وعقود منات التي تقدِّمها له امرأتان وفتاتان، وجميعهن بلا شك من بناته وهو: «التمتُّع برؤية الطعام الطيب والموسيقى والرقص والغناء والتدليك بزيت البلسم، والتدهين بزيت الزيتون، وشم البشنين، والخبز والجعة ونبيذ البلح، وكل ما لذَّ وطاب ممَّا يُقدَّم لروح (كا) الحاكم الوراثي وعمدة المدينة والوزير «رخ مي رع»، وكانت زوجته حبيبة قلبه ربة البيت مريت في صحبته.» وكتب فوق النسوة المتن التالي عندما كنَّ يقدِّمن تحياتهن لعمدة العاصمة فيقلن: «ليت بنت «رع» تحبوك وتكرمك! وليتها تحيطك بحمايتها يوميًّا عندما تضم شخصك! المس جلالتها عندما تلف ذراعَيْها حول كتفيك حتى تتمتع بحياة مديدة سعيدة على الأرض، وتضمك الحياة والسعادة والصحة.»
وفي المنظر السفلي (Plate, LXIX, 2) يُشاهَد «أمنحتب» بن «رخ مي رع»، ويُحتمَل أنه كان يقدِّم أزهارًا مزيَّنة، والمتن الموضح للمنظر لا توجد فيه النعومة النسوية التي لاحظناها في المتن السابق، وهو: «التمتع بالابتهاج السار، وبمشاطرة الطعام الطيب، بشم بشنين الصيف، وبزيت البلسم الذي يعطِّر قمة الرأس، لأجل روح الأمير الوراثي وعمدة المدينة والوزير «رخ مي رع» وزوجه «مريت».» أما المتن الذي نُقِش فوق الذين يقدِّمون أزهارًا فهو: «أما ما قيل فهو: خُذْ زهر البشنين الذي قُطِف من حديقتك المروية؛ لأنك لن تحرمها، وليتها تغدق عليك كلَّ أنواع الفاكهة الطيبة والطرائف التي تنمو فيها حتى تستطيع أن تتمتع بلذائذها وتنعم بخراجها، وأن يكون لقلبك نصيب في أشجارها النضرة، وأن تنعش بظل أشجارها، وتعمل فيها كل ما يصبو إليه قلبك أبد الآبدين.» - أغاني الموسيقيين: (راجع: Plate LXIV, LXVI) كان يوجد في كلتا الوليمتين موسيقيون يغني كلٌّ منهم على الطريقة المصرية المعروفة عند الضرب على آلات الطرب والتصفيق على الأيدي بطريقة منظمة، وقد نظمت مقطوعة للنساء ليشعر الإنسان في ألفاظها بنغمة غنائية، أما أغنية الرجال ففيها طول وليس فيها ما يبعث على المرح والسرور، وهاك المقطوعة التي كانت على ما يرجح تتغنى بها النساء: «ضَعِ المرهم العطري على غدائر «ماعت»؛ لأن الصحة والحياة معها … يا «آمون» إن السماء قد رفعت لك، وإن الإله «بتاح» يقيم بيديه لك محرابًا ليكون بمثابة مكان راحة لقلبك، تعال يا أيها النسيم، لقد بصرت بك عندما كنتَ على البرج (؟).»
- أما أغنية الرجال مخاطبين «رخ مي رع» فهي: «ليت نسيم الصبا الحلو يكون في أنفك والنفس لخيشومك! استولَ على القربات الملكية التي رفعت إلى موائد قرابين رب الكل حتى تنعم روحك، أنت يا أيها العمدة الممدوح من آمون يا «رخ مي رع»، وليت السنين التي كتب الله لك أن تقضيها تكون مقرونة بالفلاح العظيم، وليتك تعيشها مشمولًا بالعطف وبصحة وفرح، وما تقوله معتمد منذ كنت إلهًا، وأعداؤك مقهورون في بيتك الذي اقترن بالأبدية، ووصل بالخلود، وليت الحياة المشمولة بالحظوة تكون من نصيبك، وليت لك يوم عيد أي يوم عيد حقيقي من أعياد الجنة، وكذلك يمضي تمثالك يوم العيد يا أيها العمدة؛ لأن جمالك قد خلد في بيت «آمون».»
- النساء يرجلن شعورهن بأساليب رشيقة: قد يطول بنا الحديث إذا تكلمنا بإسهاب عن كل من الطائفتين على حدتها، بل سنقصر الكلام على ما يلفت النظر في كلٍّ؛ وأبرز ما يسترعي النظر في زي السيدات أنهن كن يرغبن في أن يقوم على خدمتهن فتيات رشيقات في ميعة الصبا وشرخ الشباب، ولا يبعد أن هاتيك الفتيات العذارى كن بنات هؤلاء السيدات؛ وعلى أية حال نلحظ أنهن كن يقمن أحيانًا بمساعدة هاتيك العذارى في أثناء الوليمة، والظاهر أن النساء جميعًا في هذا الحفل كانت شعورهن طبعية؛ إذ كانت تُرى مسبلةً في غدائر طويلة، ويُلحظ أن الفتيات الخادمات كانت شعورهن مرجلة بأساليب صبيانية تُشعِر بالدلال والصبا والأنوثة الناعمة، فمعظم شعرهن قد بَدَا قصيرًا، اللهم إلا غدائر طويلات أُسبِلت على صفحات وجوههن أو على قمة الرأس، وهذه الغدائر تُرَى مصفوفةً بعناية ودقة ورشاقة، وكأنَّ المفتن قد أراد أن يتخذ من شعورهن خمارًا أسود يستر به بشرة الوجه الناعمة، فتكون محجوبة عن أعين الناس مما يزيد في الإغراء، ولكن هذا الخمار الشفيف المغري كان يُبدِي ما يستر تحته جليًّا، عندما كانت العذراء تنثني يمنة أو يسرة، وسرعان ما تقف منتصبة ثانيةً حتى ترى خصل الشعر قد تجمَّعت كرة أخرى فسترت وجهها الصبيح. أما الغديرة التي كانت في قمة الرأس، فتسدل على ظهر الفتاة، اللهم إلا ضفيرة صغيرة منها كانت تسبلها الفتاة على جبينها مصفوفة بأناقة ورقَّة يعرفها المصريون قديمهم وحديثهم، وعلى أية حال قد يكون من الصعب علينا أن نفرِّق بين المرأة المسنة والعذراء الفتية، عندما يكون كل الشعر مسبلًا على الكتف (انظر لوحة ١١)، وقد أظهر المفتن براعته في تصوير شعور الفتيات في اللحظات التي يكنَّ فيها جذَّابات خلَّابات لعين المصري القديم والحديث طبعًا.
-
ملابس الفتيات وواجباتهن: ومما يستلفت النظر في ملابس السيدات هنا أن الفتيات
صاحبات الأجسام الغضة الجذابة، واللاتي كنَّ يأخذن بمجامع
القلوب في ملابس السهرة المتهتكة، هن اللاتي قد ارتدين
الملابس التي تُشعِر بالوقار والتعفُّف، فقد ظهرن بملابسهن
المحبوكة التي تستر كل محاسنهن. والظاهر أن المفتن كان
يشعر في قرارة نفسه أن المحاسن المخفية عن الأنظار هي التي
تكون أكثر إغراءً للنفس وشحذًا للخيال ومدعاةً لحب
الاستطلاع، غير أن المفتن مع ذلك لم يكن في مقدوره أن
يُظهِر حليةَ الفتاة كما كانت على حقيقتها.
أما الدور الذي كانت تقوم به أولئك العذارى الحسان فلم يكن فيه كبير مشقة أو عناء؛ إذ كان كل عملهن منحصرًا في تدليك معاصم السيدات المدعوات، وتطويق جيدهن بقلائد الأفراح، ويصببن لهن النبيذ أو الجعة في كئوسهن، ومرحبات بهن قائلات لكلٍّ: «من أجل حضرتك! أتمنى لك أن تقضي يومًا سعيدًا.»
وقد برزت بين أولئك السيدات سيدة تلقفتها الأعين وتحوَّلت إليها الأنظار، وبخاصة لما كان أمامها من طعام غزير، وكرسيها الوثير الذي كانت تجلس عليه، وهو من نوع الأثاث الذي سنراه شائع الاستعمال فيما بعدُ، وهذه السيدة هي وصيفة الملكة والأم المحبوبة «بت» والدة الوزير «رخ مي رع»، ونشاهد فتاة خادمة تصب لها الجعة مرحبة بها قائلة: «لحضرتك، أقضي يومًا سعيدًا وأنت على الأرض؛ لأن إلهك «آمون» الذي يعطف عليك ويحبك قد كفل لك ذلك.»
على أن هناك تفاصيل طريفة في وليمة السيدات تستحق الذكر، منها ما نلاحظه من أن المصري الذي كان يحتاج إلى تصفية الجعة بمصفاة (Pl. LXI. row, 1)، مما يوحي بأنه لم يصل إلى طريقة مهذبة لعمل الشراب.وكذلك نشاهد في الصف الأول من هذا المنظر ثلاث نسوة يوقعن بأيديهن للضارب على العود، ويقدم لهن الشراب والعطور (Pl. LXIV. row 2)، وتدل ظواهر الأحوال على أنهن كنَّ يَفُهْنَ بنكات لا بغناء، يدل على ذلك النقش الذي كُتِب فوقهن وهو: «هل من الجائز أن الإلهة «ماعت» (إلهة العدل) هي التي يظهر على محياها الرغبة في أن تسكر سكرًا عميقًا.»والآلة الموسيقية التي تُشاهَد خلفهن على الأرض أشبه بالربابة، ويُحتمَل أنها نوع مختلف عن العود المعتاد، تمتاز بثقلها عنه، وكان يُضرَب بها، وهي موضوعة على الأرض.
-
نقد المنظر: ولا نزاع في أن هذا المنظر في نظرنا له مساوئ كما أن له
محاسن، فتصوير الفتاة الخادمة ملتفتة لفتة تُظهِر ثلاثة
أرباع جسمها (انظر الصورة ١١) كانت
تُعَدُّ بلا شك خطوةً جرئيةً من جانب الرسام، وهي من
الأمثلة القليلة جدًّا التي حاوَلَ فيها المفتن المصري أن
يخرج على التقاليد القديمة في رسم الصور الآدمية، التي
كانت دائمًا جانبية (راجع: Davies. M. M.
A. XXIII. (1928). Feb. Sec. II. p. 63. and Tomb.
95).
ولا يبعد أن زملاءه قد أُعجبوا به لقوة ملاحظته ومهارته في رسم الصور على حقيقتها، والواقع أن هذه الصورة كانت اتجاهًا جديدًا في رسم الأشكال الآدمية، غير أن المفتن قد ارتكب بعض الأخطاء في هذه المحاولة؛ إذ قد ترك القدمين دون أن يضعهما في الوضع الذي يلائم صورته.
تولِّي أمنحتب الثاني عرش الملك وموقفه من الوزير «رخ مي رع»
(أ) المتن الموضح لهذه الرحلة
-
استقباله بين عشيرته: (راجع: Plates LXX,
LXXI) لقد كان طبعيًّا أن يكون أول مَن
يستقبل الوزير «رخ مي رع» عند عودته إلى طيبة بعد مقابلة
الفرعون هم عشيرته الأقربون، والواقع أنهم قد استقبلوه
استقبالًا حارًّا، وقدَّموا له طاقة أزهار معبِّرين عن
فرحهم؛ إذ قد علموا الآن أنه قد وطد في وظيفته الرفيعة،
ولا سيما أن أقدار عشيرته وحظوظهم كانت تعلو وتنخفض على
حسب ما يصيبه من نجاح أو خيبة في منصبه، وهنا نشاهد ابنه
«منخبر رع سنب» الكاهن الثاني للإله «آمون»، يقدِّم لوالده
طاقةً من الأزهار قائلًا: «لحضرتك رائحة الأزهار البرية
التي قدمت أمام رب الآلهة «آمون» إله مصر القديم.»
وفضلًا عن ذلك نشاهد ستة من أولاده الذكور، ويجوز أنهم من أقاربه فقط، يحملون أزهارًا قد نسقت في أشكال متنوعة، وأسماؤهم قد مُحِيت، ويُحتمَل أن الأخير منهم هو أحد أحفاده ويُدعَى «قن آمون»؛ وكان أولهم هو المتكلم عنهم إذ يقول: «تقبَّلْ أزهار البطاح اليانعة؛ لأنه (أي: الإله) يحبوك ويحبك.» أما المستقبلون له من السيدات قريباته، فقد كان عددهن لا يقل عن الإحدى عشرة ابنة أو حفيدة، وقد كانت كلٌّ منهن تقوم بدور مغنية للإله «آمون»، وتحمل صاجة وعقد «منات»، أو صاجتين من الذهب الباهت أو الفضة، وقد كنَّ يحيين «رخ مي رع» بالكلمات التالية: «إنك تأتي في سلام إلى المدينة الفاخرة؛ لأنك تسلَّمت منح رب القصر.» أما عن «طيبة» فقد احتشدت في بهجة وسرور؛ لأن أهلها قد رأوا «ماعت» خلفك (أي: تحميك)، وكلمة «ماعت» هنا لها معنًى عميق، وذلك أننا عندما نعلم أن هذه الإلهة التي تتمثَّل فيها الاستقامة والعدالة كانت غالبًا خلف الفرعون في الصور الرسمية، وأن «رخ مي رع» كان يمثِّل الفرعون في هذه الأيام الحرجة، فلا نستغرب إذن أن يستقبله الشعب في «طيبة» بحفاوة تقرب من حفاوته بالملك نفسه، وقد كان ذلك أمرًا طبعيًّا على الرغم من أنه لم يكن من الحكمة في شيء؛ إذ كان الفرعون بعد أن تأكَّدَ من ولاء أهل الصعيد له قد ولَّى وجهه شطر الشمال ثانيةً من بلدة «هو»، التي قابَلَه فيها «رخ مي رع»، وأن وزيره قد قُوبِل بالترحاب والابتهاج في «طيبة» بوصفه ممثله المفوض.
- السفينة التي قام «رخ مي رع» بالرحلة فيها: (Plates LXVIII, LXIX, I) لم يَفُتْ «رخ مي رع» أن يصوِّر لنا الأبهة والعظمة والجلال التي كانت تحيط به في سفرته الرسمية لمقابلة الفرعون الجديد، وإعلانه له بأنه قد أصبح فرعون مصر الجديد، فرسم لنا صورتين عظيمتين للسفينة التي ركبها في سياحته لمقابلة الفرعون، ففي الأولى تظهر السفينة، وقد أُعِدَّتْ بأحسن المعدات مسرعة في سيرها نحو «طيبة»، وكل نواتيها يجدفون وشرعها منشورة، أما الصورة الثانية فتمثِّل أمامنا نجاح الرحلة؛ إذ نشاهد نفس السفينة واقفة في مرساها وشرعها مطوية وأنزل علمها، وقد غادرها كلُّ مَن كان على ظهرها لمقابلة الفرعون، ويُلاحَظ أن هذه السفينة قد رُسِمت بحجم كبير لتتناسب مع المهمة التي قامت من أجلها، والشخصية العظيمة التي كانت على ظهرها، والظاهر أنها لم تكن سفينة حربية١٥٨ كما يظهر من إعدادها، وبخاصة أن صورة الإله «منتو» إله الحرب لم تكن مصوَّرة عليها (Davies, “Tomb of Ken Amon”. Pl. 1, XLII, LXVIII).
-
منظر وليمة رسمية: (راجع: Plates CXI, CXII, 1-2 &
“Paintings” XXV) ليس لدينا ما يفسر
لنا موضوع هذا المنظر على وجه التحقيق، وبخاصة أنه ليس له
نظائر في قبور عظماء القوم، والآن يتساءل الإنسان هل هذا
المنظر من المناظر التي كانت تحدث عادة في حياة الوزير
عندما كانت تحتم عليه الأحوال دعوة موظفيه ليستشيرهم أو
يلقي عليهم تعليمات، أو هل كان هذا الاجتماع قد عُقِد بسبب
موت الفرعون؟ وممَّا يُؤسَف له أن المتن الخاص ليس صريحًا
(Paintings Pl. XXV)
فاستمع إليه: «الحاكم الوراثي وعمدة المدينة والوزير «رخ
مي رع» جالس في القاعة العظمى، بعد أن عاد من معبد «آمون»
بالكرنك، وقد أدَّى الشعائر هناك لجلالته هذا الإله،
واستعلم عن أحوال هذه الأرض.» ويُلاحَظ أن النعوت التي
يُوصَف بها الوزير في هذا المنظر لها علاقة تميط اللثام
بعض الشيء عن الغرض من هذا الاجتماع، وبخاصة وصفه بأنه هو
الذي يسيطر على المرافق العامة ويضع المنهاج للقضاة، على
أنه لدينا متن آخَر على يمين هذا المنظر (راجع:
Pl. CXII, 1) يصف لنا
المنظر بعض الشيء وهو: «موظفو المجلس والمشرفون … وافدين
ومقدِّمين أنفسهم أمام الوزير ليتناولوا وجبةً في حضرة …
«رخ مي رع»، عندما حضر من معبد «آمون» بالكرنك، بعد أن
أدَّى الشعائر هناك لروح الفرعون الراحل وعين … ووضع
الأنظمة الخاصة بواجباتهم اليومية (؟) …»
والواقع أننا نجد صدًى لما جاء في المتن الأخير، وبخاصة «وضع الأنظمة للواجبات اليومية»؛ إذ نشاهد في المنظر طائفةً من الكَتَبة، كلٌّ منهم يواجه زميله، فالذين على اليسار (راجع: Pl, CXII. 1) كَتَبة في خدمة الوزير، أما من على اليمين فهم كَتَبة المجلس الذين يدوِّنون الأوامر الجديدة، وكذلك كان يوجد بينهم حاجب لمراعاة القواعد المتَّبَعة في مثل هذا الاجتماع، وممَّا يُؤسَف له أن المتن الذي كان لا بد أن يُلقِي ضوءًا على هذا الاجتماع لم يَبْقَ منه إلا نتف صغيرة لا تشفي غلة، غير أن ما تبقَّى مع ذلك يُشعِر بأن قاعة الوزير كانت مزدحمة، ويكشف عمَّا أظهره من كرم وسخاء لضيفانه.والمنظر كما هو يحتوي على فجوةٍ يُحتمَل أنه كان فيها ضيفان يجلسون، وممَّا يلفت النظر في هذه الصورة أن الوزير كان يتناول طعامه محجوبًا عن الضيفان بستار متحرك (راجع: Pl. CXI) كأنه ملك، وقد يعزِّز هذا الرأي ما نراه من أشخاص يقبِّلون الأرض بين يدَيْه، والظاهر أن الخدم كانوا يحضرون الطعام أمام الوزير وهو في خلوته، ثم يخرجون به ليُقدَّم للضيفان، ولا نزاع في أن السُّجُف التي أُقِيمت بين الوزير وضيفانه كانت تحجبه عنهم تمامًا، ولا أدل على ذلك من أننا نشاهد بعضهم وقد جلس موليًا ظهره شطر الوزير. هذا ويفهم من المنظر أن الخدم كانوا في حركة مستمرة، يقدِّمون الطعام والشراب إلى الضيفان بكل نشاط وهمة.
- الصمت المطلق عند ذكر موت الفرعون كان عاديًّا عند المصريين: وليس لدينا أية إشارة تدلُّ على علاقته بموت فرعون واعتلاء آخَر مكانه، اللهم إلا إذا اعتبرنا إقامة الشعائر الدينية التي أدَّاها الوزير لتمثال الفرعون المتوفى في هذا المعبد قبل حضور هذا الاجتماع، كان السبب المباشر لعقد هذا المجلس من الموظفين؛ إذ ليس من المعقول أن موت فرعون عظيم مثل «تحتمس الثالث» الذي حكم البلاد عهدًا طويلًا، يمر دون أن يحزن له الشعب أو يُظهِروا شعورهم نحوه في مظاهرات قومية أو إقامة حفل ديني، غير أنه قد جَرَتِ العادة في معظم الأحيان أن يصمت الشعب صمتًا تامًّا عند وفاة الفرعون، وربما يُعزَى ذلك إلى أن إعلان موت الفرعون يُعَدُّ موضوع خزي وخجل؛ إذ إن الفرعون كان يُعتبَر إلهًا، والإله لا يموت بل يبقى حيًّا مخلدًا؛ ولذلك لا يعبر عنه أنه قضي بل يقال عنه إن حور (أي: الملك) قد طار إلى السماء، وإن حور آخَر من ظهره قد حلَّ محله على الأرض، وكان الملك الجديد يعلن ألقابه وحسب، وعلى ذلك كان حور لا يزال يحكم البلاد، ولكنه سمي «عا خبرو رع» بدلًا من «منخبر رع»، فالملك إذن في الواقع لم يَمُتْ، وفضلًا عن ذلك بقي «رخ مي رع» وزيرًا.
-
منظر المتظلمين المساكين: (راجع: Pl. LXXII) لسنا
نعرف السببَ الأكيد الذي حدا بالوزير «رخ مي رع» على أن
يضم هذا المنظر إلى المناظر التي تركها لنا على جدران
قبره، اللهم إلا إذا كان الغرض منه رغبته في أن ينال شهرةَ
الحاكم الشفيق الذي لا يحيد عن الحق، كما أظهر نفسه بهذا
المنظر في مناسبات سابقة (راجع: Pls. XXIV,
XXV)، والمتن المفسر لهذا المنظر
الغريب هو ما يأتي: «إن الوزير «رخ مي رع» يخرج إلى عالم
الدنيا عند مطلع الفجر ليؤدي شعائره اليومية، وليستمع إلى
تظلمات الأهلين وشكاوى الوجه القبلي والوجه البحري، دون أن
يصدَّ صغيرًا أو كبيرًا، ومغيثًا البائس ومخفِّفًا عبء مَن
أثقل كاهله، ومجازيًا مقترف الشر.»
على أن ما يتركه هذا المتن في نفس القارئ من أثر حسن في إقامة العدالة، لا يتفق تمامًا مع ما نشاهد من حوادث تقع في الصورة التي أمامنا؛ إذ نشاهد جمًّا غفيرًا من الكَتَبة والحجَّاب لا يتناسب مع المقام، هذا فضلًا عن المعاملة السيئة التي كان يُعامَل بها المذنبون، والمحاولات الكثيرة التي كان يحاولها المتظلمون لإغراء صغار الموظفين بالرشوة لقضاء حاجاتهم، على أن كل ذلك لا يعني أنه لا يتفق مع ما يجب أن تُظهِره الحكومة من غيرة مشكورة، ونجاح حقيقي في القيام بالواجب الثقيل الملقى على عاتق حكومة منظمة عادلة، بل الواقع أن الصورة تدل على أمانة ساذجة في التعبير؛ ولذلك يمكن أن تُفسَّر على وجه حسن بالنسبة للحكومة، وهذا فضلًا عمَّا فيها من صور تعبِّر عن الواقع بشكل رائع، كالمرأة التي تشاهد وقد لُفَّ ذراعها بالأربطة، وقد رفعت يدها متظلمة ممَّن اعتدى عليها بكسرها، وبهذه المناسبة نذكر هنا أن أحد الباحثين قد جاء في تقرير وضعه: إنه قد لاحظ في القبور المصرية نسبة كبيرة بين النساء اللائي قد أُصِيبت معاصمهن بأذًى أو كسر.
وممَّا يلفت النظر هنا كذلك أن ذهاب الوزير لأداء فروضه الدينية قبل أن يبدأ القيام بعمله الرسمي، يجعلنا نعتقد أن الصلاة في المعابد لم تكن مجرد تأدية فرض وحسب، بل كانت رادعًا خلقيًّا يظهر أثره عند الفصل في المظالم والشكاوي بالعدل. ولا نزاع في أن وزيرنا المؤمن بربه قد ذهب صباحًا ليؤدي فريضة الصلاة، داعيًا إلى الله أن يلهمه الصواب في المسائل التي سيجلس للفصل فيها بعد مغادرته المعبد؛ وهكذا كان ينظر المصري إلى الصلاة بأنها وسيلة تلهمه الصواب في الحياة الدنيا؛ لينال بها الجزاء الأوفى في الآخرة التي هي خير وأبقى عند الله.
ولا نزاع في أن هذا المنظر (على الرغم من كل ما فيه ممَّا يدل على حدوثه في عالم الدنيا) كان خاصًّا بالحياة الآخرة، ولا غرابة في ذلك، فإن المتوفى كان يصرف يومه في عالم الآخرة، كما كان يصرفه في عالم الحياة الدنيا، وقد كان يسجل أعماله اليومية على جدران المقبرة كما نسجلها الآن في يومياتنا عند المساء، وعلى ذلك فليس من الأهمية بمكان أن نعرف إذا كانت هذه الأحداث قد وقعت بعد الموت أو قبله، أو أنها وضعت هنا على حسب ما جاء عن الحياة الدنيا أو عن الحياة الآخرة، وذلك أن الحياة الآخرة والحياة الدنيا تؤلِّف وحدة في نظر المصري، وعلى ذلك فإن عبارة «كما كان على الأرض» تدل على أن المتوفى كان لا يزال مستمرًّا يعمل على حسب ما كان يعمل في الحياة الدنيا فقط؛ ولذلك نرى هنا كما جاء في المتن أن الوزير «رخ مي رع» كان ذاهبًا إلى عمله اليومي، ولكن المتن يقول في الحالة التي نحن بصددها إنه كان آتيًا من القبر ليقوم بأعبائه. والغريب هنا أنه كان لا يؤديها في قاعته الرسمية وأمامه المتظلمون، بل كان يسير في الطرقات ومعه ضباطه، ويقول الأثري «ديفز»: «إن هذا التواضع وهذا الصمت المنذر بالشر الذي يحدِّثنا عنه الفراغ الذي نشاهده على الجدار، وهو الذي يلي هذا المنظر، قد يوحي إلينا أن هذا المنظر لم يدوِّنه الوزير الذي كان يشعر بدنوِّ سقوطه من عليائه إلا لينتزع عطف الناس ورضاهم عن أعماله. على أية حال فلا يهمنا أن نعلم إذا كان «رخ مي رع» قبل أن تحل به الكارثة كان لديه من الوقت ما يسمح بتسجيل هذا الاجتماع الرمزي، معبِّرًا فيه عن أن الموت لن يكون نهايةً لذوده المتواصل عن شعبه، أو أن بعض أهله وأصدقائه قد قاموا له بهذا العمل النبيل، ومع كل ذلك قد يكون الأمر على خلاف ما نظن، وأن المنظر قد وُضِع هنا ليملأ مكانًا خاليًا على جدران القبر، وعلى أية حال فإنه كان عملًا صالحًا لم يسبق له مثيل.»
الشعائر الدينية
والواقع أن لدينا عدة مناظر يُحتمَل أن الكثير منها كان يمثل عند الدفن على أنه وقع حوادث وقعت.
- الآلهة التي تقام لهم الشعائر: (Fig. 8) يدل ما لدينا من نقوش هنا على أن الآلهة الذين كانت تقام لهم الشعائر في مقبرة «رخ مي رع» أربعة، وهم: (١) إله الصقر صاحب الجبانة (راجع: LXXVI). (٢) الإله «أوزير» إله العالم السفلي (راجع: LXXVIII). (٣) الإله «أنوبيس» إله الدفن (راجع: Pl. LXXXVI). (٤) إلهة الجبانة الغربية (راجع: Fig. 9). ومما يُلاحَظ هنا أن الشعائر التي خُصِّصت لكلٍّ من هؤلاء الآلهة لا تدل على أنها تنطبق عليه تمامًا.
-
الروايات المختلفة: ولا نزاع في أن هذه الشعائر نجدها تقام في معظم مقابر
«طيبة»، وقد استمرت تُدوَّن فيها حتى قرب نهاية عهد
الفرعون «أمنحتب الثالث»، غير أن هذه المناظر لم توجد قط
تامة ومحفوظة كما وُجِدت في مقبرة «رخ مي رع»، وقد يكون من
المتعذر علينا أن نتكلم هنا بشيء من الإسهاب عن هذه
الشعائر؛ إذ إن ذلك يحتاج للرجوع إلى الماضي البعيد، وتتبع
خطواته حتى العصر الذي نحن بصدده.
وقد شرح هذه الاحتفالات الأثري «ديفز» في كتابه عن «رخ مي رع»، فَلْيرجع إليها مَن يبغي الازدياد.
-
المشتركون في إقامة الشعائر: وممَّا يلفت النظر هنا أن موكبًا من الخدم والحشم الذكور
يبلغ عددهم نحو ستة عشر، كلهم من الموظفين، كانوا يسيرون
في ركاب المتوفى مقدِّمين له الخدمات كلما احتاج الأمر،
ولا يبعد أنهم كانوا قائمين على خدمته في أثناء حياته، وقد
اتخذوا الآن صبغة جنازية، هذا إلى أنه كان في استطاعة
المتوفى أن يطلب مساعدةَ سكان المدن المقدَّسة إذا اقتضت
الضرورة، وتتوقف معظم الظواهر الغريبة التي تصادف المتوفى
بعد الموت على العقائد المختلفة التي كان يعتقدها الفرد عن
مصيره في عالم الآخرة، وبخاصة الأقطار العلوية والسفلية
التي كان لا بد له أن يخترقها، وما فيها من مخلوقات شريرة،
كان لا بد له من التغلُّب عليها قبل أن يستقر به المقام في
جنة الخلد، وقد كان مصير المتوفى يشبه مصير الفراعنة
أنفسهم، وهم الذين أصبحوا على حسب التقاليد آلهة.
وتاريخ الدفن الذي نشاهده في هذه المناظر يرجع إلى عهود قديمة جدًّا، عندما كان الإنسان يقدِّم أخاه الإنسان ضحيةً على مذبح الآلهة، يضاف إلى ذلك أن نقل المتوفى عبر النهر أو على متنه، وكذلك جعل مكان المحيطات والبحيرات والأنهار ذوات الأسماء المعروفة في السماء أو في العالم السفلي، كل ذلك يفسِّر لنا السبب الذي من أجله يقع كثير من الحوادث الخاصة بالمتوفى على الماء أو في السفن، كما يفسر لنا التعبير عن الوفاة برسو السفينة في الميناء، وغير ذلك من الرموز التي تحدِّثنا عن بعض الأمور البارزة في عالم الآخرة.
-
الشعائر الجنازية الخاصة بغذاء المتوفى: (راجع: Plates V, 2; XCV–CX. &
“Paintings” XXV) على الجدار الشمالي
من الحجرة الكبرى لمقبرة «رخ مي رع» نشاهده جالسًا يتناول
وجباته الأربعة، ويُلاحَظ أن المنظر قد كُرِّر أربع مرات
في أربعة صفوف بعضها فوق بعض، والأخير منها قد أُخرِج
بإتقان وعناية. وقد فُسِّر كلٌّ منها بمتن، وقد ضُمَّ إلى
متون الصفين المتوسطين من صفوف الوجبة المقدسة هذه، ثلاثة
صفوف تمثِّل حوادث تحدِّثنا عن الشعائر المختلفة التي بها
ينتعش التمثال بعد موت صاحبه أو المومية بعد مفارقة الروح
لها، وبذلك يكون في قدرة التمثال أو المومية أن يعود
للحياة، ويتمتع بحياة أرغد حالًا وأكثر تنوُّعًا عمَّا كان
في الحياة الدنيا.
فنشاهد «بت» والدة «رخ مي رع» تظهر مرتين معه عند تناول طعامه، أما الذين كانوا يقومون بأداء هذه الشعائر للمتوفى فهم أولاده «أمنحتب» و«سنوسرت» و«منخبر رع سنب»، ويُحتمَل كذلك «مري».
-
التعاويذ المفسرة لهذا المنظر: (راجع: Pl. CIV. CVIII)
أما التعاويذ التي كانت تتبع شعيرة، فهي تعويذة لإحضار
إنسان منعم متوفى وجعله يشبع بالخبز، وتعويذة لتطهير موائد
القرابين، ولأجل البخور، وتعويذة للدخول لنقل الطعام
(Pl. XCVI,
CIV).
وهاك المتن الذي كان يتلوه الكاهن على أسفل صفٍّ من الصفوف السابق ذكرها (راجع Pl. CVIII):
إنك تعيش هناك إلهًا مجهزًا بالخبز والجعة، وكذلك بالماء البارد، وقد منحت أفخاذًا من اللحم تُقدَّم لك وأجزاءً منتخبة تحضر إليك، وكذلك فإن أحسن ما على مائدة القربان يكون … لأجل «أوزير» عمدة البلد والوزير «رخ مي رع»، وبقدر ما عليه الملك من الطهر فلتصر كل القرابين التي تعمل لروحك طاهرة، وبقدر ما يرضى إله بقربانه فَلْيجعل «أوزير» راضيًا بقربانه، مرحبًا يا خادم «أوزير» بوصفك روحًا بين الأرواح، وقوة في قبره الذي منحه إياه التاسوع الأعظم الذين يأوون في البيت العظيم ملك أمير «هليوبوليس». اعمد إليَّ وابْقَ بجواري ولا تبتعدن عني، وإن قبرك هو مأواك، وإني أطمئنك على نفسك.
تأمَّلْ، لقد أعطيتك عين (حور) وقد منحتك إياها، وليت عين حور التي معك تكون نافعةً لك، وإنك تخرج بها في صحبة «إزيس»، وتظهر في الفجر في سفينة الصباح، وتكون صاحب قوة على السياحة، وتخطو قدماك، وإنك ولدت لحور ووضعت «لست»،١٥٩ والماء نقي لك في مضايق النهر، وإنك تتسلم نصيبًا في مدينة «هليوبوليس» مع والدك أوزير ومع الإله «أتوم»، وإنك سترفعه وتضمه بين ذراعيك … يا «أوزير» العمدة والوزير محبوب «أنوبيس» «رخ مي رع».
- تاريخ شعيرة فتح الفم: لا نزاع في أن بعض الاحتفالات الدينية والتعاويذ السحرية يرجع عهد استعمالها إلى عهود غاية في القدم، غير أنه ليس لدينا براهين على أنها كانت تنظم وترتب في صورة تمثيلية، كما نشاهد في مناظر تمثيلية فتح الفم المرسومة على جدران مقبرة «رخ مي رع»، اللهم إلا إذا استثنينا ما جاء في «متون الأهرام» عن هذه الشعيرة؛ إذ إنها في الواقع كانت تُتلَى في صورة تدل على أنها تُمثَّل (Sethe Pyr. Text. 9 b, 40)، غير أن أول محاولة جديدة لجمع كل أجزاء هذه الشعيرة في سلسلة واحدة متصلة الحلقات منطقية الترتيب، هي التي نقرؤها في المتون والصور التي تركها لنا «رخ مي رع» على جدران مقبرته، ونستطيع أن نصل إلى تاريخ إقامة هذه الشعيرة من الفقرات التي نقرؤها في المتن، مشيرة إلى العهود القديمة التي كان يكتفى فيها بدفن الهياكل العظيمة، أي عندما كان أهل المتوفى يرجون أن تُضَمَّ أعضاؤه بعضها إلى بعض، وألا يُفصَل الرأس من الجسم كما جاء ذكر ذلك مرارًا وتكرارًا في متون الأهرام. والواقع أن إحياء الجسم أو المومية كما يقال عنها يرجع أصله إلى قصة «أوزير» إله الموتى وإحيائه، بعد أن مزق «ست» أخوه أشلاءه، ثم جمعتها أخته «إزيس» ثانيةً، ولا تختلف الرواية هنا عن الرواية القديمة إلا في أن «حور» الابن الأكبر لأوزير هو الذي يلعب دور إحياء المتوفى لا «إزيس»؛ وذلك لأنه عندما كانت ألاعيبُ «ست» الشيطانية التي كان يكيد بها لأخيه «أوزير» سائرةً في طريقها، نجد أن «حور بن أوزير» قد ضحَّى بإحدى عينَيْه لنجاة والده، ومن ثَمَّ أصبحت تلك العين التي ضحيت تُدعَى العين المقدسة، كما أصبحت رمزًا للتضحية، كما يُعتبَر الصليب الآن عند المسيحيين رمزًا للفداء، مع الفارق أن عين حور كانت تُعتبَر رمزًا لكل شيء مادي يفيد المتوفى مهما كان نوعه.
- تمثيلية البعث: (راجع: Plates V, 2; CV–CVII) وتنقسم شعيرة فتح الفم في ظاهرها قسمين، وإن كانت في الحقيقة شعيرة واحدة، وتبتدئ بتمثيلية صغيرة لخلاص المتوفى، فكان يُنحَت تمثال من الحجر أو من الخشب على هيئة المتوفى، وهذا التمثال كان لا يراه أهل الراحل الذين أخذ منهم الحزن كل مأخذ؛ لأنه فاقد الحياة ولا حراك به، ولكن الكهنة كانوا أولًا يؤدون له شعائر مختلفة خاصة بتطهيره، ثم بعد ذلك يفهمون ابن صاحب التمثال الذي تغلب عليه اليأس والقنوط أن الحياة ستعود إلى والده في هيئة تمثاله، وعلى ذلك يتعرف الابن الحزين على والده في هذا التمثال، ثم يجعل نفسه هو الحامي له، وبعد ذلك يحضر رمز التضحية (وهي العين المقدسة) لأجل أن يضمن القضاء على عدوه، وبذلك يخلص والده من كل الأمراض التي كانت قد نزلت به.
- صورة تمثيلية لإحياء تمثال المتوفى: دلَّتْ كل الأحوال عند فحص الديانة المصرية القديمة، وبخاصة ديانة الشعب على أن القوم كانوا لا يرغبون في الاعتقاد في الأشياء المعنوية، بل كانوا يتمسكون بأهداب المحسات التي تراها العين وتلمسها اليد، وهذا هو السر في تمثيل المصري معبوداته في صور مادية، سواء أكانت حيوانات حية أو تماثيل جامدة؛ ولهذا نجد في موضوعنا هنا أن القوم كانوا يرغبون في وجوب عودة التمثال إلى أحواله، أو بعبارة أخرى أحوال مَن يمثِّله عندما كان في الحياة الدنيا، فترجع إليه كل حواسه، وهذا هو ما نشاهده هنا من الحوادث التي تؤدي إلى هذه النتيجة، وتنحصر في استعمال آلات سحرية وتلاوة تعاويذ تأتي بنتائج مدهشة، وقد أرضى الكهنة عامة الشعب بذلك؛ إذ جمعوا بين عمليات آلية يمكن فهمها، وبين أخرى سحرية لا يمكن تصوُّر كنهها، وكانت هذه العمليات يتلو بعضها بعضًا دون أن يكون لها نتيجة إيجابية.
-
حديقة لمسرات المتوفى:
(Pls. CIX, CX, CXII,
3-4) ومن المناظر السارة التي خلفها
لنا «رخ مي رع» على جدران قبره حديقة غناء، غير أنه ممَّا
يُؤسَف له جد الأسف أن ما يحيط بها من مناظر لم يَبْقَ منه
إلا القليل جدًّا، وكذلك أصبح من العسير علينا فهم الغرض
منه تمامًا، ولكن لحسن الحظ حفظت لنا بعض النقوش التي كانت
على المنظر الذي محي معظمه (Pl. CXIII,
3)، والظاهر أن المنظر كان يمثل «رخ
مي رع» و«مريت» زوجه جالسين إلى اليسار، وأمامهما صفان من
النقوش، وكذلك نجد صفين من الضيفان الذكور أسفل هذا المنظر
والحديقة على اليمين، أما الصف الأعلى فكان يحتوي خدمًا
محضرين طعامًا لأكلة خفيفة ومقدارًا عظيمًا من الأزهار،
والمتن المفسر لذلك هو: «خذ أزهار البركة العطرة التي
أحضرتها لك من خيرة النباتات التي في هذه الحدائق.
تأمَّلْ! إن الخدم يحملون منتجات وأغصانًا وسيقانًا ذكية
الرائحة من كل نوع، لأجل أن تتمتع بملاذها وتغمر بقربانها،
ولأجل أن يشاطر قلبك في نباتها النضر، ولأجل أن تعمل فيها
ما تصبو إليه روحك أبد الآبدين.»
ولا نزاع في أن ذِكْر الأزهار وتقديمها هنا لم يكن عبثًا؛ لأن هذه الوجبة الخفيفة لم تكن تكرارًا للوجبة اليومية التي كان يتناولها المتوفى على مائدته، بل الواقع أنها كانت لاحتفال خاص يحتمل أنه الاحتفال المعروف (عيد الوادي الجميل)؛ وهو العيد الذي كان يحمل فيه تمثال «رخ مي رع» من مقبرته، ثم يُوضَع في قارب يجر حول البركة التي في وسط الحديقة (راجع: Pl. CX, “Paintings” XX)، وبذلك كان في استطاعته أن يشرف كرة أخرى على كل شيء، ويتمتع بالنسيم العليل والروائح الذكية التي كانت تضوع من أزهار الحديقة، ويجلس في ظلال أشجارها الوارفة.
كل هذا كان يجري في أثناء شعيرة «فتح الفم»، غير أن هذا القناع الشفيف من الفرح الظاهر يتلاشى ويذهب جفاءً، عندما يرى الإنسان النساء يلطمن الخدود ويُظهِرن جزعهن على الراحل الكريم، مظهرات أن الموت مع كل ذلك قد نال النصر في النهاية، على الرغم من الاحتفالات العدة التي كانت تُقام لفتح الفم، وهذا المنظر الذي كانت تُظهِر فيه النساء جزعهن وحزنهن لم يكن من المستطاع حذفه من تلك الصورة. وعلى الرغم من أن المثال أو بعبارة أخرى رجال الدين قد حاولوا أن يمثلوه في أصغر حيِّز ممكن بالنسبة لمنظر شعيرة فتح الفم، ولكنه مع ذلك كان يحتوي على كل شيء، فنشاهد فيه إلهتَيِ الحزن «إيزيس، ونفتيس»، وكذلك النسوة اللائي كن يضعن بعض القربان أو يروين القبر، يضاف إلى ذلك أولئك النسوة ذوات الشعور المرسلة، وزوجة الراحل التي كانت تحثو التراب على رأسها.
وبهذا سنحت الفرصة لمفتن مقبرة «رخ مي رع» أن يصور له حديقة خلابة نموذجية، على أننا لا نعلم إذا كانت هي حديقة قصر «رخ مي رع»، أو هي التي كان مفروضًا على وجه عام أن تكون من لوازم القبر المثالي، فإذا كانت حديقة القصر فلا بد إذن أن يكون المبنى الذي على يسارها هو القصر، أما إذا كانت حديقة المقبرة، فإن هذا المبنى يكون جوسقًا أو مزارًا خاصًّا للعبادة.
وإلى هنا نستودع هذا الوزير العظيم يتمتع براحة أبدية هو جدير بها، بعد أن ترسم خطاه حقد أعدائه إلى نهاية المطاف، في حين كان أصدقاؤه يخدمونه بولاء وإخلاص في إقامة شعائره التي أعدَّ من أجلها هذا المثوى الفاخر.
خاتمة
لا ريب في أن مَن يلقي نظرة خاصة على الاستعراض البارع الذي خلده لنا «رخ مي رع»، في المناظر والنقوش التي خلفها على جدران قبره الضخم عن الحياة المصرية؛ يجد أنه لم يغادر صغيرة ولا كبيرة في كل نواحي الحياة ومرافقها، خاصة كانت أو عامة، وداخلية كانت أم خارجية، إلا أحصاها وأوضحها إيضاحًا كاملًا شاملًا، ولعمر الحق كانت هذه الصور وما تنطوي عليه من تفاصيل دقيقة عن حالة الشعب الاجتماعية والخلقية والسياسية والدينية، هي نسيج وحدها في كل ما وصل إلينا من صور التاريخ المصري في أي عصر من عصوره القديمة والحديثة، من حيث الكمال والدقة والتفصيل، هذا فضلًا عن أنها تصوِّر لنا الحياة المصرية في أزهر عصورها وأمجدها، وهذه الصورة التي تصف الحياة الدنيا قد شفعت بأخرى تصف لنا الشعائر المصرية القديمة الدينية، وما كانت تصبو إليه نفس المصري في الوصول إلى دار النعيم المقيم، في جنةٍ عرضها السماوات والأرض أُعِدَّتْ للمتقين، من أجل ذلك نجد أن «رخ مي رع» جمع في استعراضه الرائع نصيبه من الدنيا بما فيه من سعادة وشقاء، وما كان ينتظره في عالم الآخرة من ثواب وعقاب، وكلٌّ على حسب ما أتى من الأعمال، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، وكلٌّ ميسَّر لما خُلِق له.
ولا نزاع في أن سيرة «رخ مي رع» لا تترك مجالًا للشك في أنه كان ميسرًا للخير والمجد، وقد سار في طريقه حتى تسنم قمته، ونهج سبيل العدالة حتى أصبحت علمًا عليه، ولا غرابة في ذلك؛ فقد كان وزيرًا لأعظم فراعنة مصر قدرةً وذكاءً وطولَ باعٍ في الحروب المظفرة، ولن نكون حائدين عن جادة الحق والإنصاف إذا قرَّرنا هنا أن «رخ مي رع» كان العامل الأكبر في تمهيد السبل للفرعون «تحتمس الثالث»، للظفر بأعدائه في داخل البلاد وخارجها، فقد هيَّأ له كل ما تحتاج إليه حملاته المظفرة وفتوحه الشاسعة في آسيا وأفريقيا؛ فقد كان «تحتمس الثالث» قائد مصر الفذ يسير كل عام على رأس جيوشه للفتح والغزو وهو مطمئن البال هادئ النفس من ناحية داخلية بلاده، التي كان يدير شئونها وينظم أحوالها رأس وزيره «رخ مي رع» العظيم، فكان الفرعون يفتح الأمصار ويجبي الضرائب ويجمع الغنائم، ثم يعود إلى مصر سنويًّا، في حين كان وزيره في تلك الفترة يقوم بالتعمير والإنشاء والإصلاح في كل مرافق الحياة المصرية، ويعدُّ للفرعون ما عساه أن يحتاج إليه من عدة وعتاد للغزوة المُقبِلة، ثم كان في الوقت نفسه يسهر على راحة رعية مليكه، ناشرًا لواء العدل في أنحاء البلاد، ومتفقِّدًا تنفيذه بنفسه، ومنمِّيًا ثروةَ البلاد الطبيعية بكل ما أُوتِي من قوة عزيمة وأصالة رأي، ولا غرابة إذن في أن ينعته الفرعون بأنه مثيله وصنوه في إدارة البلاد، ولا فرق بينهما إلا أن الفرعون كان يُنسَب إلى نسل الإله الأعظم «رع»، أما «رخ مي رع» فكان من نسل أسرة عريقة في المجد والشرف والجاه والمحتد الأثيل، غير أنه على الرغم من هذا الفارق الأسمى كانت تجمعهما رابطة أقوى وأعظم أثرًا في نفس الفرعون، فقد كان «رخ مي رع» أخاه من الرضاعة، وتلك صلة ما بعدها صلة، ورابطة وثيقة مجَّدتها الأديان الحديثة، وجعلت أخوتها كاملةً؛ فهذان البطلان اللذان أرضعتهما «بت» (والدة رخ مي رع) بلبانها قد أتيَا بالعجب العجاب معًا، في خلق مصر جديدة سيطرت على العالم أكثر من أربعة قرون.
ولقد وفينا تحتمس حقه في غير هذا المكان، أما «رخ مي رع» فإننا إذا نظرنا نظرة إجمالية إلى مواهبه وحسن بلائه في إدارة سكان البلاد كما جاء في النقوش التي خلفها لنا على جدران قبره الضخم، لحكمنا بأنه قد أوتي من العلم والنشاط وطول الباع في تصريف شئون الدولة، ما لم يستطع أن يأتيه أحد من السابقين أو اللاحقين من أبناء جلدته، والواقع أنه كان مشرفًا على كل نواحي الإدارة، فكانت في يده أعظم سلطة قضائية، وكان هو المحرك لكل أصحاب الحرف والصناعات، وكان هو روح التجارة الداخلية والخارجية، وواضع نظم الضرائب وجبايتها والري وحفر الترع وشئون الزراعة، والمشرف على المباني والمدبِّر لأحوال الكهنة.
وخلاصة القول أنه لم يترك صغيرة ولا كبيرة من مرافق الحياة إلا أشرف عليها بنفسه من قريب أو بعيد، بل بالَغَ في ذلك؛ إذ كان أحيانًا يوجِّه الصنَّاع وأصحاب الحِرَف في مصانعهم، حتى في أحقر الحِرَف وأدقها؛ ممَّا يدل على علم غزير وتجارب واسعة النطاق، ممَّا جعله في أعين الشعب الوزيرَ المثاليَّ في كل عصور التاريخ، كما كان أخوه «تحتمس الثالث» الملك المنقطع القرين في التاريخ المصري القديم.