المتنصِّتة
في عصرِ يومٍ لطيف مشمس قربَ نهاية شهر مايو، ذلك الوقت الذي تلتحمُ فيه نهاية الربيع بمطلع الصيف، جلس السيد توماس بيدلي (الذي يُناديه أصدقاؤه توم بيدلي، أو توم فحَسْب في الغالب) على كرسيٍّ للرسم دون ظَهر، أمام حاملٍ من خشب البامبو فاتحِ اللون، ثُبِّت عليه لوحٌ رأسي أبعاده ثماني عشرة بوصة في اثنتي عشرة بوصة. كان مظهره وثيابه البسيطةُ المتقَنة الصنعِ وسَلاسته المتأنية في استخدام الفرشاة، والصورةُ التي بدأت معالمها تتكون على لوح الرسم، للعين الخبيرة، جميعُهم يُوحون بأنه رسامٌ مُحنَّك في فنِّ التصوير الطبيعي.
وقد كان توم بيدلي بالفعل كذلك. فمنذ صِباه المبكر الذي ولَّى عليه بضعٌ وأربعون عامًا، كان الرسمُ والتلوين شغفَه المسيطر، وهو شغفٌ اقترن بحبِّ الريف الذي هو سِمةُ رسَّامي الطبيعة الموهوبين بالفطرة. كان الريف، الذي لم تكن المدنيَّةُ قد طمسَت معالمه بعدُ في أيام صباه، بالنسبة له، نبعًا لا ينضب من البهجة ومحلَّ دراسة وتأمُّلٍ لا نهائيَّين. كانت كل نزهة من نزهاته اليومية عبرَ المرعى أو الغابة، أو بجوار الحقول أو القُرى الصغيرة الهادئة؛ بمنزلةِ رحلةِ استكشاف تحمل له اكتشافاتٍ جديدة، وحقائقَ جديدة ذاتَ أشكال مميزة وألوانٍ خفية غيرِ متوقعة، يُضيفها إلى جَعْبة معرفته التي لا تنفكُّ تزداد بتلك الجوانب الأقلِّ وضوحًا من الطبيعة، والتي يَضطلع رسامو التصوير الطبيعي بكشفِها. ومرت الأعوام، وطمَسَت يدُ وسائل النقل الميكانيكية المدمرةِ ملامحَ الريف، فصارت تلك المعارفُ أثمنَ وأغلى. والآن، بات عليه البحث عن بقاياه المتضائلة، وإيجادُها بحُسن تقدير ممحَّص، ثم استكمالُ عناصرها الشحيحة بتفاصيلَ يستدعيها من مخازن ذكريات الماضي.
كانت الصورة التي بدأت تتكوَّن على لوح الرسم مثالًا للتطبيق العملي لتلك المعارف التي اكتسبها بطريق الخبرة. سيظنُّ الناظر الذي يراها على جدار أحد المعارض الفنية أنها تُصور براحًا مفتوحًا في غابة شاسِعة. لكن في الواقع، لم يكن المكان إلا أجَمة صغيرة توقفَت عن النمو، آخر واحة ناجيةٍ في الصحراء الزرية لأحد الأحياء «الناشئة». من «مخبئه» الكامن في أجمة من الشجيرات، كان توم يسمع أصواتًا بعيدة واهِنة لأبواق السيارات الحادة، وهديرِ الحافلات، وقرقعة الشاحنات؛ وكان الطريق الذي جاء منه لا يَبعُد سوى مائةِ ياردة فحَسْب، وهو مسار مُخَدَّد يربط بين شارعٍ غير مُكتمِل الإنشاء وفِناءِ مزرعة متهدِّم.
لكن باستثناء هذا الصخب المروري، كان المكان يبعث على السكينة والهدوء على نحوٍ غريب، وعزَّز سكونَه أصواتُ الطبيعة التي تخلَّلته. ففي مكانٍ ما وسط الأشجار الوارفة الأوراق القريبة للغاية، كان ثَمة طائرُ دج يُغرد بابتهاج، وعلى غصن فوق رأسه مباشرة وقف شرشور يُردد مرارًا وتَكرارًا تغريدته القصيرة العذبة المطَّرِدةَ النَّغم. كانت العُزلة مثالية كما السكون. فقد بدا أنَّ قدمًا بشرية لم تطَأ ذلك المسار الوعر؛ إذ على مدار الساعتَين اللتين قضاهما توم منهمكًا في عمله، لم يَمرَّ به أي إنسان.
أخيرًا، عندما توقف كي يملأ غليونه ويتأمَّل بإمعان في الصورة التي رسمها، تهادى إلى سمعه أصواتٌ بشرية تلاها ظهورُ رجلَين يمشيان على مهلٍ عبر الدرب، ويتحادثان بنبرة جدِّية لكنها خافتة. لم يسمع توم ما يقولانه، غير أن الانطباع الذي تكوَّن لديه هو أن أسلوبهما كان بعيدًا كلَّ البعد عن أن يكون وديًّا. لكنه في الواقع لم يُعِرهما الكثير من الاهتمام، عَدا ملاحظة تأثير هيئتَيهما الداكنتَين المُحددتَين على الخلفية اللامتناهية، وحتى ذلك لم يُثِر اهتمامه كثيرًا؛ إذ كان موضوع لوحتِه لا يتطلَّب وجود أشخاص أصلًا، فما بالك برجل يرتدي قبعة سوداء مستديرة؟! لذا تابع ملء غليونه وتقييمَ عمله الذي أنجزه خلال فترةِ ما بعد الظهيرة، فيما مرَّ الرجلان من أمامه دون أن يُلاحظاه — فهو يكاد لا يُرى فعليًّا من الدرب — وعندما اختفَيا عن بصره، أخرج علبة ثقابه وفيما كان يهمُّ بإشعال واحد، ظهرت هيئةٌ ثالثة لامرأة تسير في الاتجاه نفسِه الذي سلكه الرجلان الآخران.
في تلك المرة، أثار الأمر انتباه توم قطعًا، فجلس ساكنًا بلا حَراك، ممسكًا في يده عودَ الثقاب الذي لم يُشعلْه، ويسترقُ النظر عبر الفجوات بين الشُّجَيرات التي كانت تحجبه. كان سلوك السيدة غريبًا للغاية. كانت تتقدَّم بوتيرةٍ أسرعَ من الرجلَين نوعًا ما، لكن بخطوات ساكنة مختلَسة، وبدا من حركاتها أنها تسترق السمع وتُحاول إبقاء الرجلَين في مرمى بصرها، لكن دون أن يرَيَاها.
راقَبَها توم باستنكار. كان يكره شتَّى أنواع المتطفِّلين، بخاصة المتطفلين المُتنصِّتين. لكن الأمر لم يكن يعنيه، وعندما غابت عن بصره، أشعل غليونه والتقط فرشاته، ونسي أمرها تمامًا.
لكنه على كل حال لم يكن قد انتهى من أمرها بعد. فلم تمرَّ سوى بضع دقائق على متابعته الرسم حتى عاودت الظهور، وحينها كان سلوكها أكثر غرابة. كانت تعود أدراجَها بوتيرة أسرع، وبالحركات المختلَسة ذاتها، تَسترِق السمع وتتلفَّت خلفها بشيء من الانزعاج. فجأة، حين صارت قبالة مخبأ توم تقريبًا، انسلَّت عبر فتحة بين الشجيرات وتوارت عن بصرِه.
كان ذلك غريبًا للغاية حقًّا. مرةً أخرى، نقل فرشاته إلى اليد التي تحمل لوحة ألوانه، وأصغى بإمعان، فيما تحسَّس جيبه بحثًا عن علبة الثقاب؛ إذ كان غليونه بالطبع قد انطفأ كعادة غلايين الرسَّامين دائمًا. وسرعان ما التقطت أذنه صوت وقْعِ خطوات؛ كانت خطوات خفيفة سريعة تقترب من جهة فِناء المزرعة. ثم ظهر رجل يسير بخطوات سريعة لكنها تكاد تكون خفيفة ومتسللة، متلفِّتًا حوله أثناء سيره في حذر.
مِن مَكْمنه وراء الشجيرات، جلس توم دون حَراك يُتابع ببصرِه الرجلَ العائد أدراجَه بعينٍ متسائلة، وأدرك أنه الأقصر بين الرجلَين اللذَين كان يسيران عبر الدَّرب، وراح يَتساءل عما ألمَّ بالآخر. ثم اختفى الرجل في اتجاه الشارع، بينما ظل توم جالسًا كالصنم ينتظر ليرى ما إذا كانت ثَمة أيُّ تطوُّرات أخرى ستجدُّ.
لم يَطُل انتظاره. فلم يكد صوت خطوات الرجل يخفُت، حتى خرجَت المرأة من مخبئها خُفْية، ووقفَت لبضع ثوانٍ تُصغي بإمعان وتَسترقُ النظر في الاتجاه الذي سلكه الرجلُ من الدرب. بعد ذلك بدأت تتبعُه ببطء وحذر، ثم ما لبِثَت أن غابت هي أيضًا عن الأنظار بين الأشجار.
أشعل توم غليونه وهو يُفكِّر بإمعان. كان ذلك أمرًا غريبًا. ماذا وراء كل ذلك؟ كان واضحًا أن المرأة كانت تتجسَّس على الرجلين؛ ويبدو أنها كانت تتنصَّت على حديثهما، وكانت حريصة بشدة على التواري عن نظرَيهما. كان هذا كل ما يَعنيه في الأمر؛ ولأن الأمر لا يعنيه في شيء على الإطلاق، قرَّر أنها كانت مجردَ واقعة غريبة ونفَضَها عن ذهنه.
غير أنه لم ينجح في ذلك. فتلك الواقعة قطعت تسلسل أفكارِه، ووجد صعوبة في أن يبدأ من جديد. لبضع دقائق، جاهد كي يُتابع من حيث توقف، مضيفًا لمسةً هنا ولمسة هناك، ومرة أخرى، اتكأ للخلف ونظر إلى لوحته، ثم أخيرًا نهض من كرسيِّه وتراجع بضع خطوات كي يَتسنَّى له رؤيتُها بالكامل على نحوٍ أوضح. أحد أهم الأمور التي يتعلَّمها الرسامون بالخبرة هي متى يتوقَّفون؛ وبعد أن تأمَّل توم لوحته بنظرة تحليلية مُتمعِّنة، قرر أن الوقت قد حان لذلك. ظل يرسم ساعتَين متواصلتين، وكان رسامًا سريعًا رغم أسلوبه المتأنِّي؛ كان سريعًا لأنه يعلم ما يُريد فِعلَه بالضبط، ولا يَرتكب سوى أخطاء قليلة، ويرسم بأسلوب مباشر للغاية دون إهدارٍ للجهد.
بعد أنْ قرر توم أنَّ اللوحة قد اكتملت، وربما لم يعد ينقصها سوى بعض اللمسات يُضيفها إليها في مرسمه «لربط عناصرها»، بدأ في الحال يحزم أغراضه، فأغلق لوحة الألوان القابلةَ للطي ووضعها داخل صندوق الألوان الخشبي الخفيف، وثبَّت اللوحة داخل حامل لوح الرسم، ولف الفُرَش المستخدمة في خِرقة التلوين. بعد أن وضع تلك الأغراض بنظام في حقيبته الكتفية، طوى الحاملَ والكرسي، وثبتهما في حزام الحمل، ثم وضع الحقيبة على كتفِه، وبعد أن ألقى نظرةً أخيرة على موضوع لوحته، شقَّ طريقه إلى الدرب عبر الشجيرات التحتية القصيرة.
عندما وصل إلى الدَّرب المُخدَّد، وقفَ بِضعَ ثوانٍ ينظر إليه في الاتجاهَين بينما يُعيد ملء غليونه. لم يكن رجلًا فضوليًّا، لكنَّ شيئًا من الفضول انتابَه تجاه ما حدث للرجل الذي ذهب ولم يَعُد. أعطَته استكشافاته السابقة انطباعًا بأن ذلك الدَّرب، أو ممرَّ العربات، يصل إلى نهاية مسدودة حيث تتلاشى الغابة تدريجيًّا ويبدأُ الخراب الجديد للعمار. يبدو أنه كان مُخطئًا؛ إذ لا بد أن ثمة تكملةً ما للدرب، ربما تُخبِّئ فرصًا جديدة لرسام الطبيعة.
بعد أن أشعل غليونه، سار على مهَل عبر الدرب لبضعٍ وثلاثمائة ياردة حتى خرج من ظلِّ الغابة إلى ضوء النهار المباشر. وحينها، حُسِمت الإجابة عن سؤالَيه. فالدرب، أو على الأقل آثار عجلات العربات، كانت ظاهرة، وتمرُّ عبر بقايا بوابة، ثم تتعرَّج خلال فِناء المزرعة المتهدِّم متجهةً إلى حيث تُنذر أكوامٌ من القرميد المرصوص ومن مواد البناء المتنوِّعة بارتفاعِ مجموعة جديدة من المنازل مُشابهةٍ لتلك التي تستقرُّ وراءها. بالقرب منه من جهة اليمين، كان ثمة كومةُ قش قديمة أكَلَتها الفئران، وعلى مسافةِ بضع ياردات منها، سقيفة عربات متهدمة، تآكلَ سطحها المسقوف بالقش، كاشفًا عن روافدها الخشبية الناخِرة. نظر توم بأسًى إلى تلك الأنقاض الباعثة على الحزن للمزرعة التي لم يَعُد لها أثر، ثم التفتَ وعاد أدراجَه عبر الدرب.
لم يكد يَمشي متثاقلًا نحو مائتَي ياردة حتى التقطت أذناه أصواتَ سَنابكِ فرَس وهدير عجلات، يبدو أنها آتيةٌ من جهة الشارع؛ وعندما وصَل تقريبًا إلى الجهة المقابلة «لمخبئه»، ظهرت من وراء أحد المُنعطَفات عربةٌ ذات عجَلتَين. وقف ينظر إليها ويُلاحظ التأثير المثير للاهتمام للعربة ذات الشكل الريفي على الدرب المُتعرِّج، التي تَبرز بوضوح في صورة ظلِّية داكنة على خلفية من أوراق النباتات التي يَنعكِس عليها ضوءُ الشمس. عندما اقتربت منه، تراجع إلى الغابة كي يُفسح لها الطريق وتبادَلَ التحيةَ مع الرجل الذي يُمسك بزِمام الفرس؛ وبعد أن مرت من أمامه، التفتَ ليَنظر إليها ويُسجل ملاحظة ذهنية لمظهرها الذي تغيَّر بتغيُّر ظروف الإضاءة، حتى اختفَت وراء أحد منحنيات الدرب، وحينها تابع مسيره تجاه البلدة بخطوات سريعة وقد بدأ يشعر باهتمامٍ متزايد بالوجبة التي تنتظره في نهاية رحلته. في نهاية الطريق، حيث ينتهي إلى الشارع غير المكتمِل، توقف لبضع لحظات يتطلَّع بغَضاضةٍ إلى المنظر القبيح، الذي كان منذ سنة واحدة فحسب لا يزال جزءًا من الريف، وبعد أن تبادل بضع كلمات مع بَنَّاءٍ عجوز بدا أنه يحرس كومة من القرميد، تابع سيره إلى الطريق الرئيسي كي يتَّخذ موضعه في محطة الحافلات.
كان وقتُ الانتظار طويلًا، قضاه يَذْرع المكان جَيئةً وذهابًا، وينظر بترقُّب في كل الْتِفاتة إلى الاتجاه الذي ستأتي منه الحافلة. من شرطيٍّ شاب مرَّ بجواره، عرَف موعد وصولها بعبارة غير واضحة، أضاف إليها معلومة مُثبطة تُفيد بأن الحافلة السابقة مرت منذ خمس دقائق. لذا تابع توماس تذرعه وهو يُقلب في ذهنه مرة أخرى تلك الواقعةَ الغريبة التي صادفها في الغابة؛ ولم يَزل يُمعن في التفكير بها حتى جاءت الحافلة لتضع حدًّا لترقُّبه.
لم تكن رحلةً طويلة في ظل وجود وسائل المواصلات الحديثة، وخلال وقت قصير، حلَّت البلدة القائمة محلَّ الموقع الزري حيث كان يقف البنَّاء المتأمِّل. كان طريق هامبستيد هو محطتَه المُعتادة، لكنه اختار أن يترجَّل عند كنيسة ماريلبون ويقصدَ وجهته عبر شارع أوزنابورج وسوق كمبرلاند، الذي ما لبث أنْ خرج منه إلى شارعٍ هادئ زري به منازلُ قديمة عالية مُتهالكة، لكنها رَحْبة، حتى وصل إلى بوابة خشبية مطليَّة باللون الأخضر تحمل الرقم «٣٨ إيه» وعلى إحدى دعامتَيها الجانبيتَين عُلِّقت لوحة نُحاسية صغيرة مكتوب عليها «تي بيدلي» يعلوها مقبض جرس نُحاسي كبير.
أدخل توماس مِفتاح البوابة الخارجية في ثَقبِه وفتحها، ليكشف عن سمةٍ مميزة شائعة في العديد من المنازل المُجاورة؛ وهي ممر ضيق يُؤدي إلى باحة مُمهَّدة. فقد كان شارع جيكوب يتميز بوجود الكثير من المراسم. فيما مضى، كان شارعًا راقيًا، يقطنه مشاهيرُ الرسامين والنحَّاتين. أما الآن، فقد ذهب الفنانون المشهورون، ولكن بقيت مراسمهم؛ بعضُها يَستأجِره فنانون أقلُّ شأنًا، لكن معظمها تحوُّل إلى ورش. في كلتا الحالتين، كان شارع جيكوب مكانًا لائقًا للغاية لمحدودي الدخل الذين يَنشُدون مستقَرًّا رحبًا؛ إذ لم تكن المراسم مطلوبةً كثيرًا تلك الأيام، كما أنها لا تصلح للأغراض السكنية؛ لذا كانت إيجاراتها زهيدة للغاية، مع أن مساحاتها مُمتازة بين أمثالها.
كان المرسم الذي دلف إليه توم بعد أنْ عبَر الباحة مُهيَّأً للسكن على نحوٍ أفضلَ من بعض المراسم الأخرى؛ إذ كان ارتفاعه متوسِّطًا، وقد جعله مناسبًا أكثرَ بأن شيَّد فاصلًا خشبيًّا في أحد أركانه يُحيط بحجرة كبيرة كان يستخدمها غرفةً للنوم. وبواسطة ذلك الفاصل، وحاجزٍ قابل للطي يستخدمه لتحويط المدفأة في الشتاء، أو لحجب الحوض وموقد الطهيِ حين يأتيه زوار، حوَّل توم المرسم الضخم المفتوح إلى شقَّة سكنية ملائمة ومريحة نوعًا ما.
بعد أن نظَّف لوحة ألوانه، وغسل فُرَش الرسم، واغتسل في وعاء كبير في الحوض، فتَح صندوقًا حراريًّا مبطنًا بالقش (يعلوه غِطاء مُنجَّد كي يبدوَ مثل مسندٍ قدم ويُؤدي وظيفته) وأخرج منه طاجنَين وضعهما بنظام على مائدة الطعام المعدَّة، ثم فتح زجاجة من الجِعَة، وأفرغ محتواها في إبريق من الفخار الأبيض الممتاز، ثم سحب كرسيًّا وجلس مطلقًا تنهيدةَ رضًا، ورفع غِطاءَي الطاجنَين اللذَين كان بداخل أحدهما بطاطس (مطهوة بقشرها) والآخر يخنة لا ملامح لها، معدَّةٌ من دجاجة مقسمة إلى أجزاء.
كانت المائدة وما وُضِع عليها يَعرِضان ملخَّصًا لطابَعِ توم بيدلي وشخصيته. كانت عبارته «ثروة الإنسان يُمكن تقديرها بالنظر إلى ما يقدر على الاستغناء عنه» تُلخِّص فلسفته البسيطة في الحياة. وقد كانت الأشياء التي يقدر توم على الاستغناء عنها هي الرفاهيات والكماليات التي تستنفدُ المال. فهو لا يقصد أيَّ أماكنَ ترفيهية، عدا المتاحف والمعارض الفنية العامة. ولم يَستقلَّ سيارةَ أجرة خاصةً من قبل تقريبًا، أو يُدخِّن السيجارَ قط، ولا يملك سوى زجاجة ويسكي واحدة احتفظ بها مغلقةً لبضع سنوات. كان يَحيا حياةً بسيطة، ولا يُنفق إلا القليل، ولا يُهدر أيَّ شيء، ويعتني بما يملك.
وبتنظيم حياته على ذلك النحو المُقتصِد، استطاع أن يُمتِّع نفسه بالأشياء التي تَعنيه حقًّا. فإناء الجِعَة ذاك كان قطعةً أثرية، وكذلك كأسُ الجعةِ الفاخرةُ المنقوشةُ بنقشٍ زخرفي رائع لنبات الجنجل والشعير. وكانت قطعة الجُبن الفَرنسيِّ الصغيرةُ تستقرُّ في طبق مغطًّى من فخار مووركروفت، وكومة التفاح في إناء جميل من البرونز المطروق، ورغيف الخبز البنِّي على طبق خشبي محفور بدقة. كانت جميع الأغراض المرصوصة على المائدة، بما فيها الطاجنان، جميلةً تَسُر العينَ مع أنها ليست ثمينةً بالضرورة، وكانت موضعَ اختيار مدروسٍ بدقة. فقد كان توم فنانًا من رأسه حتى أخمص قدمَيه. لم يكن الفن بالنسبة له مجردَ طقس روتيني. كان يحبُّ أن يكون مُحاطًا بالأشياء الجميلة، لا لمجرَّد النظر إليها، بل للعيش معها، وكان بوُسعه تحمُّل تكاليف الانغماس في ولَعِه هذا؛ إذ كان يقوم بالأعمال المنزلية بنفسِه، وكان يعلم أن كنوزه آمنةٌ من بطش مِنفَضَة خادمة أو عاملة تنظيف.
هكذا جلس توم في كرسيِّه الجميل الذي يَنتمي إلى طراز «شيبنديل ويندسور» أمام المائدة البديعة القابلة للطي، يتناول عشاءَه بهدوء واستمتاع، ويُسلِّي نفسه كعادة الرجال الوحيدين بسلسلةٍ من التأمُّلات. تركزَت أفكاره في المقام الأول حول الواقعة الغريبة التي حدثت في الغابة، التي يبدو أنها كانت تَشغلُه لدرجةٍ غير معقولة تمامًا. فلم تكن سوى حدَثٍ تافه، ولم يَكترِث لها كثيرًا. ومع ذلك ظلَّت ذاكرتُه تستحضر الواقعة وتُكمل التفاصيل التي لم يُدركها حينها، حتى استطاع أن يُكوِّن في ذهنه صورة مُكتملة على نحو غير عادي للمشهد والأحداث. ثم تولَّى خياله الخصب زِمامَ الأمور ونسج قصةً قصيرة أبطالها أولئك الأشخاص الثلاثة، وأثار ذلك اهتمامَه كثيرًا؛ حتى إنه خطر له بعد قليل أنها ستكون لوحةً نوعية بسيطة جيدة للغاية، وقرَّر أن يُجرِّب تحويلها إلى رسمٍ أوَّلي ويرى ما بإمكانه أن يصنع منه.
عندما فرَغ من عَشائه، شرع يغسل الصحون وهو لا يزال يُقلب ذلك المشروع في عقله. لم يَستغرِق غسلُ الصحون وقتًا طويلًا؛ إذ تعلم أن يقتصد في استعمال الصحون والأطباق. في الواقع، لم يكن يوجد سوى صحنٍ واحد وسكينٍ وشوكة، وبعد أن انتهى من غسلهم ورصِّهم بعنايةٍ مع الطاجنين داخل خِزانة فرنسية كبيرة، صار جاهزًا للبدء. أخرج لوحته الجديدة من حقيبة حملِ الألواح، ووضعها على حامل، واختار لوح رسمٍ احتياطيًّا أصغرَ حجمًا، ووضعه على حامل آخر بجوار الأول، وجهَّز لوحة ألوانه، ثم بدأ في العمل، فرسَم جزءًا من الخلفية بغير دقة، نقلَه من لوحته الأولى، ثم بدأ يرسم ملامح الأشخاص.
كان عُنوان اللوحة المزمَعِ رسمُها هو «المتنصِّتة»، وكان هذا يَستدعي أن تكون المرأةُ هي العنصرَ الأساسي، وأن تكون قريبةً قدر الإمكان من صدر اللوحة، وأن تُرسَم بشيءٍ من التفصيل على مقياسٍ يفي بذلك. وهكذا بدأ بها، فحدَّد أولًا صورة ظلِّية رمادية دون تفاصيلَ تُصور هيئتها ووقفتها، ثم بدأ يُلوِّنها ويُضيف لها التفاصيل. وفيما كان يعمل، فاجَأه كمُّ التفاصيل التي يذكرها، وكيف أنه لم يحتَجْ إلى الابتكار سِوى قليلًا. تذكَّر بوضوح كيف كان وهجُ ضوء الشمس يسقط على المرأة وهي تتراجعُ فيُضيء شعرها، جاعلًا إياه كالذهب المصقول، ويُبرز رقعًا ساطعة على ثيابها، وبعد أن أضاف بضع لمسات حيوية من لون زاهٍ كي يصنعَ ذلك التأثير، بدا أنه لم يتبقَّ الكثير للقيام به. ففور أن تكونت هيئتها، ذكَّره بمظهر المرأة بالضبط كما رآها.
وكذلك كانت هيئتا الرجلَين، غير أنهما كانا أبعدَ فكان بوُسعه رسمُهما بتفاصيلَ أقل. لم يكن مظهرهما بالزيِّ الحضَري ملائمًا للرسم؛ لكن لأن ذلك كان مجردَ رسمٍ أوَّلي، قرَّر توم الاحتفاظ بالحقائق الفعلية. ومجددًا، فاجأه كمُّ ما لاحظَه خلال تلك النظرات الخاطفة العارضة دون إمعانِ ملاحظة. في الواقع، عندما رسم هيئتَي الرجلين من الذاكرة، لم يُصوِّر فحسبُ وضعيتَهما وحركتهما على النحو الذي يُبرز ما كان يدور بينهما من شِجار بامتياز، بل أضاف أيضًا تفاصيلَ مميزة أكثرَ مما يتطلبُه بُعدهما عن صدر اللوحة.
ظلَّ يعمل باستمتاعٍ جمٍّ لما يزيد عن الساعة، حتى اكتمل الرسمُ البسيط بقدرِ حاجته من الكمال. حينها توقف عن العمل، ونظف لوحة ألوانه، وغسل فرشه، وبعد أن ألقى نظرةً سريعة على الساعة «البندولية» الطويلة القديمة على الجدار، شرع يتأنَّق لأجل زيارة غير رسمية لصديقه الأعزب الدكتور أولدفيلد، الذي يسكن بالجوار في شارع أوزنابورج، والذي اعتاد أن يقضيَ برفقته من حينٍ لآخر أمسيةً يتبادلان فيها أحاديثَ لطيفة ممتعة، وربما يلعبان مباراةَ شِطْرنج. لكنهما غالبًا كانا لا يقتصران على تلك التسلية وحدها؛ فقد كان الطبيبُ فنانًا نوعًا ما، وكان لديهما موضوعاتٌ كافية لحوارات مثيرة للاهتمام ومتوافِقة الرأي.
بعد أن أعاد توم مَلْء كيس التبغ من علبة من القصدير، ونظف قبعته بالفرشاة، وقف لبُرهة أمامَ حامل اللوحة يتأمل الرسم الذي أنهاه لتوِّه بعينٍ ناقدة. كان العمل عليه ممتعًا بما يكفي، لكنه الآن وقد اكتمل، وجده مُخيبًا للآمال بعضَ الشيء. فباعتبارها لوحةً نوعية، كانت عناصرها مبهَمة وغيرَ كافية؛ بإيجاز، كانت لا تَرْقى لأنْ تكون لوحة تنتمي إلى الفنِّ النوعي على الإطلاق، بل كانت مجردَ منظرٍ طبيعي يتضمَّن أشخاصًا. لكن، كان يُمكن إعادة النظر فيها وربما تطويرها إنْ بدا له أن الأمر يستحق؛ وبعد أن استقرَّ توم على ذلك الرأي، التقطَ قُفازَيه وعصاه، وانطلق نحو شارع أوزنابورج.