السيد بينفيلد يحرك الأمور
مرَّت بنا جميعًا مقولة تمخَّض الجبلُ فأنجب فأرًا؛ لكن لم يسمع أيٌّ منا قط، ولا أنا بالتأكيد، عن فأرٍ تمخَّض فأنجب جبلًا. لكن لأننا نتعامل مع مستحيلات، أجد هذه الاستعارة لا تَقل روعةً عن سابقتها. لكني لا أنوي الخوضَ في تلك المسألة. فقد خطرَت ببالي تلك الاستعارةُ الأخيرة فقط كنايةً عن حقيقة أن أفعالًا تافهةً تبدر من أشخاص قليلي الشأن ربما تُثمر عن نتائجَ ضخمة لا تتناسب مع مصدرها؛ وتلك فكرةٌ واضحة بما يكفي لفَهمها دون الحاجة إلى أي استعارات تمامًا. وأما عن علاقتها بالقصة المأساوية والغريبة التي أنا بصدد روايتها، فربما كان من الأفضل أن أتركها تتضح في الوقت المناسب، مكتفيًا فقط بالإشارة إلى أن اسم ذلك الفأر الوَلود هو ناثانيل بولتون، الذي تصادف أنه مساعدنا المختبَري، وتابع الدكتور ثورندايك الأمين.
بدأت علاقتنا المباشرة بتلك القضية بمحض المصادفة. كان ذلك في سياق زيارة تلقَّيناها من صديق قديم، هو السيد جوزيف بينفيلد القاطنُ بمساكن جورج يارد بشارع لومبارد، في مسكننا بالمبنى رقم فايف إيه بشارع كينجز بينش ووك. كان الغرضُ من الزيارة في ظاهرها هو الاستشارةَ المِهْنية، لكن ثورندايك أجراها بأسلوبه غيرِ المتكلَّف المعهود؛ وهو أسلوب كان يصدم أصدقاءنا من رجال القانون ويروقهم في الوقت نفسِه.
في تلك اللحظة، كان السيد بينفيلد يجلس في ارتياحٍ في كرسيٍّ وثير وُضع أمام المدفأة، مسندًا أصابع قدمَيه إلى حاجزها، وبجانبه على طاولة صغيرة علبة نُشوقه الفِضيةُ وكأسٌ من نبيذ الشيري.
قال: «حسنًا، يبدو أن ذلك هو الحلُّ لجميع ما أواجهه من صعوبات. والآن صرتُ أعرف كلَّ شيء عنه، أو هكذا أظن، بفضل شرحك المتعمِّق الجلي. أعتقد أن محاميًا لديه من المكانة والخبرة العَملية ما يربو على أربعين سنةً لا يفترض أن يحتاج إليه، لكن بطريقة ما، عندما آتي إلى هنا لمناقشة أمورٍ قانونية معك، أشعر وكأني مجرد تلميذ.»
قال ثورندايك: «إنه شعور مضلل جدًّا. الحقيقة أنك عادة ما تستشيرنا في المسائل التي لا تقع في دائرة اختصاصك، بل في دائرة اختصاصنا. في القضايا المتعلقة بقانون الملكية أو إجراءات نقل الملكية، ربما أنت مَن ستجعلنا نشعر بأننا تلميذان، أما في أمور مثل الإرث أو افتراض الوفاة، حيث تكون المعرفة الطبِّية أو العلمية مفيدة، تكون الغلَبة لنا.»
وافقه السيد بينفيلد بنبرةِ تأكيد أقوى مما يستحق ذلك التفسير الواضح قائلًا: «هذا صحيح. صحيح جدًّا.»
سكت متأملًا، وحملقَ بنظرة ثابتة في نار المدفأة. وبعد أن أنعش نفسه بذرَّة من النشوق ورشفةٍ متناهية الصِّغر من النبيذ، تابع قائلًا:
«أنا سعيد أنك أتيتَ على ذكر موضوع افتراض الوفاة؛ فهذا موضوع يقع في دائرة اهتمامي نوعًا ما في الوقت الحالي.»
سأله ثورندايك: «هل تُفكر في التقدم بطلب افتراض وفاة؟»
أجاب بينفيلد: «كلا. على العكس، أنا أُفكر في جدوى الطعن على واحد. لم أحسم أمري بعد، لكن باعتباري الوكيلَ والقائم على تنفيذ وصية الشخص الذي يفترض البتُّ في طلب افتراض وفاته، أشعر أن مسئولية الطعن على ذلك الطلب تقع على عاتقي. واجبي بالطبع هو مراعاة مصالح موكِّلي؛ ولأن افتراض الوفاة ليس كواقع حدوثها، يظلُّ احتمال أن يكون الشخص المفترض وفاته على قيد الحياة في الواقع قائمًا دومًا. وسيكون موقفي حرجًا جدًّا إن تبين، بعد الحكم بافتراض الوفاة وتوزيع التركة، أن موكلي لا يزال على قيد الحياة وأتاني طالبًا تقريرًا عن إدارتي لممتلكاته. لن أكون سعيدًا تمامًا إن صدَّقت على ذلك الطلب دون اعتراض.»
قال ثورندايك: «أعتقد أن ثمة مبرراتٍ دامغةً للاعتقاد بوفاة ذلك الشخص، أليس كذلك؟»
«لا بد أن ثَمة مبرراتٍ دامغة. الحُجة التي يستند إليها الطلبُ هي أن ثمة سببًا وجيهًا يدعو إلى الاعتقاد بأن ذلك الشخص قد قُتِل؛ ورغم عدم وجود دليل مباشر على الجريمة، وعدم العثور على الجثة، لم يرَ أحدٌ ذلك الشخصَ أو يأتِه منه خبرٌ منذ تاريخ الجريمة المفترَضة. ولأن ذلك التاريخ ليس ببعيد — إذ لم يمرَّ عليه سوى عامَين تقريبًا — فلا بد أن ثَمة مجموعة معتبَرة من الأدلة الظرفية التي جعلَت تقديم ذلك الطلب ممكنًا. لكني لم أخُض في أمرها.»
«وبالنسبة إلى الملابسات الفرعية، أظنك تعلم عنها كلَّ شيء؟»
«في الواقع لا، ولست مهتمًّا بها كثيرًا؛ فهي ليست جوهريةً بالنسبة إلى الأمر. السؤال المهم هو هل من المرجَّح أن تكون تلك السيدة ميتة أم لا. هذا ما على المحكمة أن تُقرره، وهذا كلُّ ما يَعنيني.»
عقَّبَت قائلًا: «إذن فمُوكلتك تلك امرأة، أو كانت كذلك.»
«أجل، امرأة تُدْعى السيدة شيلر.»
صِحتُ متعجبًا: «لوتا شيلر!»
«أها! إذن تعرفان الاسم، وربما تعرفان أيضًا بعضًا من مُلابَسات القضية، أليس كذلك؟»
«بلى بالطبع. كان بولتون على معرفة بالسيدة، وكان يُولي ظروفَ اختفائها اهتمامًا يكاد يكون مُفرِطًا. لقد جمع كلَّ معلومة مهما كانت ضئيلة تتعلق بهذا الأمر، وحضر بالفعل عملية البحث عن الجثة، فكان يَسبِك قوالبَ آثار الأقدام ويلتقط صورًا فوتوغرافية لها. من المحتمل أنه لا يزال محتفظًا بتلك الصور.»
قال السيد بينفيلد: «أها، هذا مثير جدًّا للاهتمام، مع أن أثر القدَم عادةً ما يُشير ضمنًا إلى شخص حي. ولكن ما ذكَرته يضعُ حدًّا لتردُّدي، سأطعن في ذلك الطلب إن ضمنت مساعدتك. فما قولك؟»
أجاب ثورندايك: «موافق بالطبع. فالقضية تقع ضِمن دائرة اختصاصي تمامًا.»
«ليس هذا فحسب. فإلى جانب درايتك وخِبرتك العامة، أنت على دراية بوقائعِ تلك القضية بالذات، وهو ما سيكون له قيمةٌ لا تُقدَّر أثناء الاستجواب.» ثم أردفَ بابتسامته الغريبة الساخرة: «كما أن من الأشياء الأخرى التي تجذبني إليك أنك تستطيع إعدادَ عريضة الدعوى بنفسك.»
قال ثورندايك: «لنقل إنني سأُعِد جزءًا منها فقط. يجب أن نعتمد عليك في معرفة الوقائع العامة للقضية. كالدافع، على سبيل المثال. لِمَ يُريد شخصٌ ما اعتبار تلك السيدة في عداد الموتى؟ ومن الأطراف المعنيَّة؟ هل الزوج واحدٌ منهم؟»
«كلا. لا شك أنه سيُهِمه معرفةُ ما إذا كان زوجًا أم أرمَل، لكنه ليس معنيًّا من الناحية القانونية. فليس لديه ما يَجْنيه، وهو ليس طرَفًا في ذلك الطلب. أما الدافع، فهو مبلغ مالي يُقدَّر بحوالي عشرين ألفَ جنيه إسترليني، والمدَّعي هو المستفيد الوحيد من وصيَّة السيدة شيلر، وهو الذي سيذهب إليه ذلك المبلغ حالَ قَبول الطلب. هذه الوقائع لا تبدو ذاتَ صلة بقضيتنا، التي هي ببساطة ما إذا كانت تلك المرأة حيةً أم ميتة؛ لكني أوافقك الرأي في أنك ستحتاج إلى معرفة الخطوط العريضة للقضية. بداية، ربما يُفيدك أن تحصل على ملخَّص لتاريخ علاقتي بالسيدة شيلر. أما التفاصيل فيُمكن استكمالها لاحقًا.»
وافق ثورندايك على ذلك الاقتراح، فاستنشق السيد بينفيلد ذرةً من نشوقه وبدأ يسرد روايته.
«منذ حوالي خمس سنوات — لا أستطيع أن أُحدد لك تواريخَ أو أرقامًا بعينها؛ إذ إنني أتحدث من الذاكرة — لكن منذ ما يزيد على خمس سنوات بقليل، زارتني السيدة شيلر في مكتبي وطلبَت مني أن أَصوغ لها وصيتَها وعهدت إلى بتنفيذها وبمبلغ مالي تَملكه. كانت غريبة عني، لكنها أحضرَت لي خطابَ تعارُف من أحد عملائي — لم يَعُد على قيد الحياة في الوقت الراهن — فوافقَت على تولِّي المهمة، مع أن انطباعي عن السيدة نفسِها لم يكن حسَنًا للدرجة؛ فقد كانت امرأةً لَعوبًا مبهرجة ذاتَ شعر ذهبي، تضع زينة تجعلها تبدو كالمهرجين ومساحيقَ تفتيحٍ تجعلها تبدو كالطحانين، وأسلوبها متحرِّر للغاية وغيرُ متكلِّف. غير أن الأمر كان بسيطًا وسهلًا للغاية؛ حوالي ثلاثمائة جنيهًا أوصَت بها لمستفيدٍ واحد فقط؛ وعلى ذلك صُغت مسوَّدة أوَّلية قصيرة للوصية في حضورها، وقرأَتها عليها، وبِناءً على طلبٍ منها عينتُ نفسي المنفِّذَ الوحيد لها. وبعد أن ضرَبتُ لها موعدًا في صباح اليوم التالي، كتبت النصَّ النهائي للوصية وأجريتُ الترتيبات اللازمة مع البنك.
عندما جاءت في صباح اليوم التالي، وبحوزتها أموالها نقدًا، كان ثَمة ترتيباتٌ إضافية ينبغي اتخاذُها. فنظرًا إلى أنها كانت كثيرة التنقل وليس لها عُنوان ثابت، أرادتني أن أكونَ وكيلَ أعمالِها وأتولَّى إدارة شئونها المالية على قلَّتها. لا داعي إلى الخوض في تفاصيل. بموجِب تلك الترتيبات صِرْت وكيلها المخوَّل باستلام الأموال ودفعها بالوكالة عنها؛ وبعد توقيع الوصية والوثيقة الأخرى في حضور الشهود في مكتبي، تم الاتفاق. وغادرتُ مكتبي على الفور، ولم أرَها مجددًا ولم تتواصَل معي منذ ذلك الحين.»
«أعتقد أنها تركَت لك عُنوانها، أليس كذلك؟»
«أجل. كانت تسكن حينَها في غُرف مستأجَرة في مكانٍ يُدعى لينتون جرين — في شارع كوربي على وجه التحديد حسَبما أعتقد — وأتذكَّر أن صاحبة المنزل كانت تُدعى وارتون. لكن لا أهمية لذلك؛ إذ إنها كانت قد تركَت تلك الغرفَ المستأجَرة حين سألت عنها هناك، ولم تكن صاحبةُ المنزل تعلم إلى أين ذهبَت. كانت قد وعدَتني بأن تُخبرني بمكانها حين تغيَّر عُنوانها، لكنها لم تفعل قط؛ وهو ما لم يَشغَل بالي لمدَّة من الزمن؛ إذ لم يحدث ما يستدعي التواصلَ معها.
لكن بعد ذلك استجدَّ أمرٌ ما. فقد تُوفِّي رجل ثري نوعًا ما يُدعى السيد تشارلز مونتاجو (يُؤسِفني أن أقول إنه أيضًا قد قُتِل. كانت قضية مقتلِه برُمتها بغيضة). على أي حال، كان هذا الرجل قد أوصى لامرأةٍ تُدعى الآنسة دالتون بمبلغ قدره حوالي عشرين ألفَ جنيه إسترليني. حدث بعضُ التأخير فيما يتعلق بمسألة التحقق من صحة وصيته بسبب أن ثَمة مدفوعاتٍ بمبالغَ كبيرة — تعدَّت ألفَ جنيه — كانت قد سُدِّدت نقدًا دون أن تُسجَّل في دفاتر الحسابات. وهي تفصيلة أخرى بغيضة؛ إذ لم يكن ثمة شكٌّ في أن تلك المبالغ المدفوعة تُشير إلى ابتزاز، بخاصة أن الرجل قد قُتِل. لكن ثبتَت صحة الوصية في نهاية المطاف؛ لكن ما كادت صحتها تثبت حتى تُوُفِّيت الآنسة دالتون.
حينها تبينَ أنها كتبَت وصيةً تُوصي بموجبها بكاملِ أملاكها للسيدة شيلر، التي آلَت إليها العشرون ألف جنيه أيضًا باعتبارها الموصى لها بباقي التَّرِكة. لكن ظهرَت مشكلةٌ جديدة. فإلى جانب عدم معرفتنا بمكان وجودِ السيدة شيلر، لم نكن واثقين من أنها على قيد الحياة، أو حتى أنها كانت على قيد الحياة وقت وفاة الآنسة دالتون. تلك مسألةٌ لا أستطيع منحَك أيَّ معلومات بشأنها بالطبع. حاولت التواصل معها عبر القنوات المعهودة لكني لم أُوفَّق في ذلك؛ ولذا ظلَّ الأمر معلقًا لفترة.
ثم انكشف الأمرُ بطريقة غريبة جدًّا. فقد وقعَت جريمةُ قتل أخرى (لا بد أن أعتذر عن تلك التفاصيل البشعة) وتبيَّن أن دائرة الشك طالت السيدة شيلر، على الأقلِّ كشريكةٍ في الجُرم. لكن هذا لا يعنينا. فالحقيقة الأهم هي أنه قد ثبت أنها كانت على قيد الحياة، وبالتبعية، صارت الوصية نافذةً وآلت إليها التَّرِكة؛ وبمقتضى الحال، قدَّمتُ مطالبة بالنيابة عنها، متغاضيًا عن التفاصيل الجنائية. لكن المدهش هو أنه تبيَّن حينها أنها كانت تسكن طوال ذلك الوقت في مكان يُدعى شارع جيكوب، يبعد عن مكتبي مسافةَ رحلة قصيرة بالحافلة.
لكن ما إنِ انكشفَ الغموض عن ذلك الأمر حتى حل محلَّه غموضٌ آخر؛ وهو الأمر الذي يعنينا. أولًا، اختفَت السيدة شيلر. ثم اكتُشِفَت آثارٌ لها دفعَت الشرطة إلى الاعتقاد بأنها قُتِلت. لكن لم يُعثَر قطُّ على جثتها أو على أي دليل فِعْلي على وفاتها. على الجانب الآخر، لم يرَ أحد تلك المرأةَ أو يأتِه منها خبرٌ منذ اختفائها. يبدو أن الشرطة قد أجرَت جميع التحريات الممكنة، لكنها لم تستطع العثور على أي أثرٍ لها. وكما فهمتُ، فموقف الشرطة من الأمر غير واضح على الإطلاق؛ فهي ربما تكون ميتة أو على قيد الحياة، لكن لا يوجد دليل مؤكَّد يُرجح أيَّ الاحتمالَين.
هذا هو الوضع؛ وستكون مهمتنا — أو بالأحرى مهمتُك — هي النظرَ في الوقائع وتقييمَ الاحتمالات. إنْ تبيَّن أن ثمة أسسًا قوية بشكل واضح لافتراض الوفاة، فقد لا يكون ثَمة ما يستحق فِعله سوى مراقبةِ سير القضية لصالح موكلتي الغائبة. سنستطيع الحكم على ذلك على نحوٍ أفضل عندما نعرف ما هي الوقائع التي يستند إليها المدَّعي على وجه التحديد.»
قال ثورندايك: «إذن أفهم من ذلك أنك لم تتسلَّم بعدُ نسخًا من الإفادات الموثَّقة للشهود، أليس كذلك؟»
«بلى. لم أتسلَّم بعدُ أي إخطار رسمي بالدعوى؛ بل مجرد إخطار وُدي تمامًا وغير رسمي بالطلب المقدَّم. ومن جانبي، لن أُنازِعَك دون داعٍ في حكمك. فأنا لا يعنيني كثيرًا كونُ المرأة حيةً أو ميتة. بل أفعل فقط ما أعتقد أن الواجب يُمليه عليَّ تجاه موكلة غائبة، وبالطبع لن أُعارض الطلب إن رأيتَ، بعد النظر في الوقائع، أنه يجب الموافقةُ عليه. فور أن أتسلَّم نسخًا من الإفادات الموثقة للشهود، سأُسلمها لك، وحينها سيكون بإمكانك أن تُشير عليَّ بالإجراءات الأخرى.»
بهذا انتهت المهمة، وبعد ذلك بقليل، نهض السيد بينفيلد، ووضع علبة النشوق في جيبه، وأزاح قارورة النبيذ التي قُدِّمت له، ثم صافحَنا وغادر.
بعد رحيله قلتُ مُعقبًا: «تبدو لي قضيةً واعدة للغاية، مع أن بينفيلد لا يبدو متحمسًا لها كثيرًا. لكنه لا يكون متحمسًا قطُّ إنْ شابَ القضيةَ أيُّ عنصر جنائي. سيكون من المشوق معرفةُ تفاصيل الحجة التي أقامها محامُو المدعي لإقامة الدعوى.»
قال ثورندايك: «أتوقع أنهم سيسيرون في المسار نفسِه الذي اتخذه بينفيلد.»
قلت موافقًا: «أجل، وعلى كل حال، تبدو وجهةُ نظره منطقية تمامًا، مع أني أظن أنك لن تُوافقني الرأي. لكن في الحقيقة، كل ما على المحكمة أن تُقرره هو ما إذا كان احتمال وفاة تلك المرأة راجحًا بما يكفي لتسويغ افتراض وفاتها. والملابسات الفرعية العديدة، كما يُصِر بينفيلد، تبدو لا علاقة لها بالأمر.»
رد ثورندايك قائلًا: «السؤال هو، ما المقصود بالملابسات الفرعية؟ بينفيلد يفترض أن الوقائع والملابسات التي يبدو ظاهريًّا أنْ لا علاقة لها بالقضية الأساسية غيرُ ذات أهمية، وربما يُمكن التغاضي عنها. لكن إلى حينِ النظر في تلك الوقائع، يستحيل الجزمُ بأهميتها من عدمها. فمن الخطأ الشديد تصنيفُ الوقائع مسبقًا إلى مهمة وغير مهمة، وقصرُ النظر فيها على تلك التي تبدو مهمة في ظاهرها.»
قلتُ في إصرار: «لكن الوقائع المادية واضحةٌ أمامنا؛ وإن كانت تُرجح بقوة احتمال أن تلك المرأة قد قُتِلت، فلا أرى حقًّا أيَّ أهمية للوقائع الأخرى العديدة، كشخصيتها وأسلوبِ حياتها على سبيل المثال. المسألة بسيطة، مفادها هل المرأة حيةٌ أم ميتة. إن كانت ميتة، فالقضية محسومة. أما الطريقة التي ماتت بها أو العوامل التي ساقتها إلى الموت، فهي أسئلة مُشوقة، لكنها غير جوهرية للقضية. غير أن الوقائع المعروفة قد لا تكون حاسمةً بما يكفي لاتخاذ قرار مسوِّغ. سنكون أكثرَ قدرة على الحكم عندما نطَّلع على الإفادات الموثقة للشهود.»
قال ثورندايك: «لا أعتقد أنها ستُخبرنا بأي جديد. لقد سمعنا قصة البحث كاملة من بولتون وإلمهورست، وقرأنا تقريرًا عما ما حدث حينها. على الأرجح، نحن نعرف جميع الوقائع التي سيستند إليها المدَّعي، بِناءً على ما قاله بينفيلد.»
«ربما تعرفها أنت، لكني لا أتذكرها بوضوح. أخشى أنني لم أكن أُشارك بولتون حماسه كثيرًا. وعلى كل حال، لم يكن الأمر يَعْنينا شخصيًّا.»
قال ثورندايك: «إذن دعني أُنعِش ذاكرتك. باختصار، القضية كما يلي: عُثِر على امرأة مقتولة بداخل مسكن لوتا شيلر بالمنزل رقم تسعة وثلاثين بشارع جيكوب. دخَل مرتكب الجريمة باستخدام مفاتيح لوتا شيلر.»
قلتُ مقترحًا: «أو ربما باستخدام مفاتيحَ شبيهةٍ بها، أو مفاتيحَ هيكلية عامة.»
«كلا. لقد عُثِر على مِفتاح منها في قُفل الباب، وثبت يقينًا أنه مفتاح لوتا شيلر الخاصُّ. وقت اكتشاف الجريمة، كانت لوتا قد اختفَت بالفعل، وفشلت الشرطة في العثور عليها أو التواصلِ معها. بعد ذلك بقليل — لا أذكر التواريخ على وجه التحديد — عُثِر على حقيبة يدها على التبة التي تُحيط بالمعسكر البريطاني في غابة إيبنج. كان بداخلها جراب مفاتيح ينقصه مِفتاحان؛ أحدهما مفتاح البوابة الخارجية، والآخَر مِفتاحُ الغرفة التي يبدو أن جريمةَ القتل ارتُكِبَت فيها. وبداخل المعسكر، عثرَت الشرطةُ على قِلادة تخصُّ لوتا، التي تَصادف أنْ كان بولتون هو مَن صنعها، وكان بداخلها صورةٌ شخصية لصديقنا السيد فاندربوي.»
«أجل، أتذكَّر ذلك. مسكينٌ فاندربوي! سيتمنَّى لو كان قد عاد إلى إفريقيا عندما يعرف أن تلك الفضيحة ستُنبَش من قبرها.»
وافقني ثورندايك قائلًا: «أجل على الأرجح، مع أن شهادته لن تُشير سِوى إلى تاريخ آخر مرة رأى لوتا فيها. لكنْ عودةً إلى موضوعنا: لما كان العثور على هذه الأغراض يُشير إلى احتمال أن تكون المرأة قد قُتِلَت، وأن قاتلها تخلَّص من جثتها في الجوار، نظَّمَت الشرطة بحثًا مكثفًا في المعسكر في محاولة لإيجاد أيِّ آثار أخرى لها، حية أو ميتة. كانت ثمرةُ ذلك البحث هي اكتشافَ سلسلة من آثار الأقدام، تعود إلى رجل وامرأة على الأرجح كانا يسيران جنبًا إلى جنب حتى موضعٍ قريب من ذلك الذي عُثِر فيه على القلادة. في هذا الموضع، كانت مواطئُ آثار الأقدام تُشير إلى حدوث عراك، وكان ثَمة أثرٌ غير واضح نوعًا ما يُشير إلى أن المرأة كانت ترقد ممدَّدة على ظهرها. من هذه النقطة، استمرَّت آثار الأقدام، لكنها كانت لقدَمَي الرجلِ فقط. أما المرأة فلم يكن ثَمة آثارٌ أخرى لقدمَيها؛ كما لوحظ أن آثار قدمَي الرجل كانت أعمقَ نوعًا ما من ذي قبل.
عبرَت آثارُ قدمَي الرجل المعسكر إلى الجهة الشمالية الغربية حتى وصلَت إلى التبة المحيطة به، وهناك اكتُشِفَت بعض الأمور الأخرى. لُوحظ أن الرجل قد صعد التبة مرتَين؛ الأولى كانت بغرض الاستطلاع فيما يبدو. بالقرب من قاعدة التبة، كان ثمة أثرٌ آخرُ مبهَم تمامًا لجسدِ امرأة ممدَّدٍ على الأرض. بالقرب منه، عثر أحدهم على زِر. كان زرًّا مميزًا للغاية، مَطليًّا باليد، وتعرَّف عليه السيد بيدلي يقينًا بأنه زر من معطف لوتا. على غُصن شجرة مكسورٍ في منتصف الطريق صعودًا إلى التبة، عُثِر على قطعة صغيرة من خيط باللون الأخضر من خامةٍ ما عالقةٍ به. وقد تعرَّف عليها السيد بيدلي بأنها من الخامة نفسِها المصنوعِ منها معطفُها وثوبُها. وأخيرًا، على قمة التبة، كان ثَمة آثارٌ على الأرض تُشير إلى أن شيئًا ثقيلًا أُلقي من القمة.
كان ذلك، كما وصفه المفتش بلاندي حينها، هو «نهاية الأثر». على الجانب الخارجي من التبة، امتدَّت حشائشُ الطريق الأخضر، التي ما كانت لتظهر عليه آثار أقدام على أي حال؛ لكن الحقيقة هي أنه لم يُعثَر على أي آثار أو علامات من أيِّ نوع خارجَ حدود المعسكر، بينما لم يُعثَر بداخلها على ما يُشير إلى أن الأرض نُبِشَت في أي موضع. يُمكن الجزم يقينًا بأن الجثة — إن كان ثمة أيُّ جثث — ليست مدفونةً بداخل المعسكر؛ كما لم يتَسنَّ العثور على أي آثار للرجل أو المرأة في أي مكان خارجه.
تلك هي الوقائع التي أعتقد أننا سنجدها مثبَتةً في الإفادات الموثقة الموقعة، إلى جانبِ ما يُفيد بأن أحدًا لم يرَ المرأة أو يَرِدْه منها خبرٌ منذ زيارتها للغابة برفقة فاندربوي. تلك هي الوقائع التي سيستند إليها الطلب المقدَّم إلى المحكمة للحصول على تصريح باعتبار لوتا شيلر متوفَّاة؛ وأنا أسألك يا جيرفيز باعتبارك طبيبًا شرعيًّا محنكًا، إن كنتَ ما زلتَ ترى أن تلك الوقائع الفرعية، مثل شخصية المرأة وأسلوبِ حياتها، غيرُ جوهرية بالنسبة إلى المسألة؟»
قلت: «ما زلتُ أراها كذلك. لكن أعتقد أنني مُخطئ؛ إذ يبدو أنك تُخالفني الرأي. لكن يبدو لي أن تلك الوقائع التي ذكَرتها تُشير بقوة إلى أن المرأة قد قُتِلَت وأُخفِيَت جثتها في مكانٍ ما في الغابة. ويبدو كذلك أنه كان ثمة دافعٌ كافٍ لقتلها؛ وهو حيازة المفتاحَين والتخلص من شخصٍ ربما يُمثل خطرًا على القاتل. فمن المؤكَّد فعليًّا أن لوتا شيلر كانت ستعرف أو تُخمن هُوية مرتكب الجريمة التي وقعَت في مسكنها.
تبدو لي الأدلةُ الظاهرية على مقتلها قويةً للغاية، وإن أضَفْنا لها حقيقة أن أحدًا لم يرَها أو يأتِه خبرٌ منها قط منذ ذلك الحين، فسترجح كفة ذلك الاحتمال، ويصير قطعًا كافيًا، في رأيي، لتسويغ افتراضِ وفاتها.»
عقَّب ثورندايك مقهقِهًا بإعجاب: «وهو المطلوب إثباته. لقد عرَضتَ حُجة المدعي بوضوحٍ رائع. لكنها للأسف الحُجة التي علينا دَحضُها، إنْ تسنَّى لنا أن نفعل ذلك بطريقةٍ عادلة وبالاتساق مع ما نعتقد أنه الحقيقة. لأجل ذلك، أدعو صديقي الخبيرَ أن يستدعيَ قدراته الفكرية الفذَّة للنظر في عرض نقيضِ ذلك الاحتمال. هلمَّ يا جيرفيز، ها قد أتتك فرصةٌ كي تستدعيَ فطنتك وتستغلَّ حنكتك. لقد استعرضتَ لتوِّك ببراعة الأسبابَ التي تدعو إلى افتراض وفاة لوتا شيلر. الآن، انتقل إلى الجانب الآخر وانظر إن كان بوُسعك إيجادُ أسباب تدعو إلى افتراض أنها لا تزال على قيد الحياة.»
راودَني شكٌّ قوي ومتزايد في أنني كالعادة أغفلتُ حقيقةً جوهرية ما، فوعَدتُه بأن أُعيدَ النظر في القضية، وكخطوةٍ أولى لا غِنى عنها، سأُنعش ذاكرتي فيما يتعلق بملابَسات القضية بأكملها؛ وفي سبيل ذلك، قصَدتُ جُحر بولتون، وبعد أن أخبرتُه بأمر الطلب المُقدَّم، لم أجد صعوبةً في استعارة مجموعته الضخمة من قُصاصات الصحف، التي أخذتها معي لأدرسها بتروٍّ.