ثورندايك يلجأ إلى السرية
أثبتَ الإجراء الذي اقترَحه ثورندايك لاستخلاصِ ما هو مهمٌّ من المعلومات اليسيرة التي أدلى بها توم بيدلي — الذي نفَّذته كما ينبغي — فعاليةً بالغة. غير أنه لم يكن فعَّالًا بما يكفي. فمع أنه كشَف لي عن عدةِ حقائق ربما تكون مهمةً في ظل ظروفٍ محدَّدة، لم تُلقِ الضوء على علاقتها بمعضلتِنا الآنيَّة؛ لذلك، ولأن القارئ، الذي يُعَد أسرعَ بديهةً مني، قد أدركها بالفعل بلا شك، فلن أُشير إليها. ولكن إذا كانت دراستي تلك لم تكشف لي الكثير، فقد أثارت فُضولي تجاهَ ما يدور بذهنِ ثورندايك. لم يكن لديَّ أدنى شكٍّ في أن لديه نظريةً مؤكدة بخصوص اختفاء لوتا شيلر، وأن تلك النظرية وثيقةُ الصلة بالمعضلة الأساسية، ولأنني لم أستطع تخمينَ طبيعة تلك النظرية، فلم يسَعْني سوى أن أنشُدَ الفَهم بمراقبة ما يتخذُه من إجراءات ومحاولة استنتاج غايتها. لكني فشلتُ في ذلك تمامًا؛ إذ كلما اطَّلعت على أساليبه أكثر، ازدادَت حيرتي، وازددتُ عجزًا عن ربطها بأي وسيلة بقضية السيد بينفيلد. لذا سأَعرِض ملاحظاتي باقتضابٍ ودون مواربة أو أي تعليقات غير ضرورية.
بعد بضعة أيام من زيارتنا لبيدلي، حين حضر ثورندايك للغداء، أخرجَ من جيبه الداخليِّ بضعة مستندات وأودَعها في الخِزانة التي تُحفَظ فيها تلك الأشياءُ عادة، ولاحظتُ أنه وضعها في الدرج الذي يحوي الأوراقَ الخاصة بالسيد بينفيلد.
قلت له وقد أبصرتُ النُّسَخ الرسمية: «أرى أنك ذهبتَ إلى السجلِّ المدني بسومرست هاوس.»
أجاب: «أجل. زيارة ربَّما لم تكن ضرورية، لكن المرء لا يعرف أيَّ أسئلة غير متوقَّعة قد تُفاجئه في جلسة الاستماع؛ لذا أحضرت نسخًا موثَّقة من اثنتَين من الوصايا ذاتِ الصلة بقضية بينفيلد. ولدينا بالفعل نسخةٌ من الثالثة، وصية لوتا شيلر.»
سألته: «لمن الوصيَّتان الأخرَيان؟»
«إحداهما لباربرا دالتون التي أوصَت بعشرين ألفَ جنيه للوتا. والأخرى للسيد تشارلز مونتاجو، التي تُوصي، ضمن عدة تَرِكات أخرى، بتركة قدرُها عشرون ألف جنيه لباربرا. هل تود إلقاءَ نظرة عليهما؟»
أجبتُه قائلًا: «لا، شكرًا لك. لستُ مهتمًّا بهما، إلا إن كان بهما شيءٌ غيرُ متوقَّع أو غريب. فهل بها شيء كذلك؟»
«كلا، إنهما بسيطتان للغاية ومباشرتان، وبالطبع لم يطعَن أحدٌ في صحتهما.»
«إذن أعتقد أن بوُسعنا أن نتركَ أمرهما لبينفيلد، إن جاء ذِكرُهما في القضية من الأساس.»
هكذا انتهى الأمر، تاركًا إيايَ في شيء من التعجب لاهتمام ثورندايك بأحداث بعيدةِ الصلة كتلك. لكنْ بدا أنها لم تَكُن إلا مثالًا آخرَ لإصراره الذي يكاد يبلغ حدَّ التطرُّف على معرفة الحقائق كافَّة.
كانت خطوته التاليةُ التي لفَتَت انتباهي لها صِلةٌ ما على الأقل بقضيةِ بينفيلد، مع أني فَشِلت فشلًا ذريعًا في اكتشاف تلك الصلة. جاءت تلك الخطوة في هيئة استجواب شامل ومستفيضٍ لفاندربوي، الذي صرنا نراه كثيرًا الآن؛ إذ عاد على أثر العطلة الجامعية الطويلة من صولاته وجولاته مع دائرة المحكمة الجنوبية الشرقية المتنقِّلة. لم يكن استجوابًا رسميًّا بالطبع؛ إذ كان ذلك ليُخالف أساليبَ ثورندايك المعتادة. لكن فاندربوي أبدى استعدادًا تامًّا للحديث عن علاقته الغرامية العابرة مع لوتا شيلر — فقد كانت بمثابة المغامرة الكبرى في حياته — وكان توجيهٌ بارع بسيط للحوار كفيلًا بكشف جميع تفاصيلها. لكن مِن بين الأحاديث التي دارت، التي بدا أنها لم تكشف عن أيِّ شيء جديد حتى بالنسبة إلي، سأُسجل واحدًا فقط؛ وقد اخترت هذا بالذات لأنه دفع ثورندايك إلى اتخاذ إجراءات إضافية. كنا نُناقش الصورة الشخصية التي رسمها بيدلي لفاندربوي والأحداث المرتبطة برسمها، حين ساق زميلي الحوارَ في اتجاه آخر حين عقَّب قائلًا:
«لقد كانت صورة جيدة للغاية؛ كانت تجسيدًا صادقًا لك وتظهر وسامتك كثيرًا أيضًا. أجدُني مندهشًا بعضَ الشيء من أنك لم تقصد بيدلي كي يرسمَ صورة للوتا. ظننتُ أنك كنت سترغب في أن تحظى بصورةٍ شخصية لها.»
أجاب فاندربوي بنبرةِ توكيد: «كان ينبغي أن أفعل، وقد توسَّلت إليها أن تدعَه يرسمُ صورة لها، لكنها رفضَت رفضًا قاطعًا. كان ذلك وقتَ صناعة القِلادتَين، وأردتُه أن يرسم صورة شخصية لها كي يتسنَّى لي الحصولُ على الصورة الأصلية وأُعلِّقها بجانب صورتي وأحمل صورة فوتوغرافية مصغَّرة لها معي في قلادتي. لكنها كانت في غاية التعَنت والنزَق. أصرَّت على أن ترسم الصورة الشخصية بنفسِها، ولم تُوافق حتى على أن يلتقطَ لها بولتون صورةً فوتوغرافية لوضعها في القلادة. كان موقفُها غريبًا جدًّا بحق. كنت قد رأيتُ أعمالها، فكنت أعرف أنها لا تستطيع رسم صورة شخصية. لكنها تمسكَت بقرارها، فاضطُرِرت إلى القَبول بصورتها التي رسمَتها بنفسها. لكني كنتُ ممتعضًا جدًّا.»
قال ثورندايك مقترحًا: «هل أستنتج من ذلك إذن أن الصورة لم تكن تُشبهها كثيرًا؟»
صاح فاندربوي بحنق: «أف! لم يكن ثَمة أيُّ شبهٍ بينهما على الإطلاق. بوُسعك أن ترى بنفسك»؛ وبينما كان يتحدث، فك القلادة من سلسلة الساعة وناولها لثورندايك الذي فتحها بحرصٍ ونظر بفضول إلى الصورة الشخصية المصغَّرة.
قال: «كنت سأُشير إلى أني لم أرَ السيدة قط من قبل؛ لذا سيصعب عليَّ الجزمُ إن كانت تُشبهها أم لا. لكني أرى أنني كنتُ مخطئًا. فهذا الرسم يكاد لا يُشبه أيَّ بشري، وقطعًا لا يُمكن تمييز الشبهِ بينه وبين أي شخص بعينه. بالمناسبة، هل أعطَتك الرسم الأصلي؟»
«كلا، لم تَعرِضْها علي، ولم أكن لآخذَها لو فعلَت.»
قال ثورندايك: «سبب سؤالي ذاك أن أعمالها الفنية ربما يكون لها صلةٌ ما بالقضية التي من المزمَع النظر فيها وكنت أودُّ أن أعرض عينةً منها. لكن هذه صغيرة نوعًا ما، خصوصًا إن تصادفَ أن كان نظرُ القاضي قاصرًا بأي حال. ماذا ترى يا جيرفيز؟»
أخذتُ منه القلادة وحدَّقت بذهول في الرسم الطفولي الرَّكيك إلى درجة لا تُصدَّق — مع أن وصف بيدلي له جعلَني أتوقع رؤية شيء غير عادي — الذي مع صِغَره (كان بحجم الشلن تقريبًا) كان دليلًا كافيًا على انعدام كفاءة صاحبتِه. لكني لم أفهَم المشكلة التي يُواجهها ثورندايك، وصرَّحتُ له بذلك.
«لا أرى أن الحجم مهم. سيكون من السهولة بمكان التقاطِ صورة فوتوغرافية مكبَّرة له؛ هذا إنْ منحَنا فاندربوي الإذن بذلك.»
قال فاندربوي مقاطعًا: «بالطبع، سيَسُرني أن أُساعد بأيِّ طريقة. لا أُمانع على الإطلاق أن تأخذَ القلادة وتُعيدها إليَّ حين تنتهي منها.»
وبِناءً عليه، بعد أن شكَر ثورندايك صاحبَها بحرارة، وضع الحِلْية الصغيرة في مظروفٍ وطواه بإحكام؛ لكني لاحظتُ أنه لم يحفَظْه في الخِزانة كعادته، بل دسَّه بعنايةٍ في جيبه الداخلي. كان ذلك أمرًا بسيطًا لكنه لفَت انتباهي؛ وحين أدركتُ، بعد تمحيص، الحَذْق الذي تمكَّن به ثورندايك من الحصول على الحلية دون أن يطلب استعارتَها، بدأت أشكُّ في أن تلك الصفقة أهمُّ مما كانت تبدو للأعين. لذلك، راقبتُ عن كثب مصير القلادة كي أرى إن كان سيتَّضح لها أيُّ غرض خفي. لكن لم يكن ثَمة غرضٌ فيما يبدو. ففي اليوم التالي، سلَّم ثورندايك القلادة إلى بولتون، الذي حدَّق فيها بإعجاب قبل أن يُعيدها إليه.
قال: «أنا لا أحتاج إلى القلادة يا سيدي. يبدو أنك نسيت أنِّي مَن صنعت الصورة الفوتوغرافية المصغَّرة. لديَّ الصورة السلبية الأصلية التي التقطتُها للرسم، والتي سيكون استخدامها لتكبير الصورة أفضلَ بكثير؛ لأن حجمها جيد بالفعل.»
قال ثورندايك: «بالطبع. لا بد أن ذهني كان شاردًا. لِم لَم تُذكِّرني بذلك يا جيرفيز؟»
أجبتُه بأن ذهني على الأرجح كان يصحب ذهنَه في شروده؛ إذ إنني مَن اقترحت استعارة القلادة، لكني أكدت أن ضررًا لم يحدث من ذلك.
وافقني قائلًا وهو يقلب القلادة في يده: «أجل، وأنا سعيد برؤية تلك الحلية الصغيرة مرة أخرى. إنها لَنموذج بديع لصياغة الذهب، وإقرارٌ مؤكَّد بكفاءة السيد بيدلي وصانعِها. كيف استطعتَ يا بولتون أن تُشكِّل الشعرة على هذا النحو البديع على هيئة شكلٍ حلزوني مسطح؟ فالشعر ليس خامةً طيِّعة كثيرًا، أليس كذلك؟»
«لا بأس بها يا سيدي إن عرفتَ كيف تتعامل معها. كلُّ ما فعلته هو أنني بلَّلت شعرتَين من تلك الخصلة الصغيرة التي قصَصتها ولفَفتُ كلًّا منهما بإحكام على مِغزَل رفيعٍ من الصُّلب. بعد ذلك سخَّنت المِغزل بحرص، وبعد أن برَد انسلَّت عنه الشعرة في شكل أسطوانة صغيرة محكَمة أشبهَ بزنبرك أسطواني. بعد ذلك، كان من السهل تمامًا تشكيلُها في شكل حلزون مستوٍ على البطاقة.»
«إذن فقد استخدمتَ شعرتَين فقط. ماذا فعلت فيما تبقَّى من الخصلة؟ هل تخلصتَ منه؟»
ابتسم بولتون بمَكر. قال: «كلا يا سيدي؛ فأنا أُعاني داء الحِرفيين المعهود. لا أتخلص أبدًا من أي شيء. حتى الشعرة قد تُفيد، إن كانت طويلةً بما يكفي، لاستخدامها وترًا لقوسِ كمانٍ صغير؛ لاستخدامه عند عزف النغمات الدورية. هل تودُّ رؤية ما تبقى منه؟»
ودونَ انتظارِ إجابة، اتجهَ إلى واحدة من خِزاناته التي لا تُحصى، وأخرج من درج عليه بطاقة معنوَنة مظروفَ بذور مكتوبًا عليه بالقلم الرصاص «شعر السيدة شيلر»، وناوله لثورندايك الذي سحب منه خصلة صغيرة من شعرٍ ذي لون بُني فاتحٍ أو أصفرَ شاحب، مربوطة بعناية بأربطةٍ من الخيط.
قلتُ حين مدَّ ثورندايك ذراعه به في ضوء النافذة: «لا أرى به أي شيء غير عادي.»
قال موافقًا: «صحيح، لكننا لا نملك حسَّ بيدلي المتمرسِ بالألوان، وعلى الأرجح لن تُلاحظ تلك السِّمة الغريبة التي وصَفها إلا في كُتَل كبيرة منه. لكن لا بد أنها لم تكن واضحةً كثيرًا للعين حتى حينِها؛ إذ لا يبدو أن أحدًا غيره قد لاحظَها.»
جذب طرَفَي الخصلة لمدِّها وبعد أن قاسها بمِسطَرة طولها قدَمان على منضدة العمل، دون طولها (تسع بوصات ونصف البوصة) على المظروف. ثم لف الخصلةَ مرة أخرى وأعادها إلى المظروف.
قال: «سأسلبك إياها يا بولتون. من الأفضل أن تُرفَق تلك العيِّنة بباقي الأحراز المحتملة؛ وتحسبًا لتحقق الاحتمال الضئيل بعرضها أمام المحكمة، حريٌّ بك أن توقِّع اسمك على المظروف تحت الوصف.»
أتم بولتون ذلك الطقس على أكمل وجه، وبعد أن رفض ثورندايك اقتراحي الساخرَ بأن أكون شاهدًا على التوقيع، وضع المظروف في محفظته ثم عاد إلى موضوع تكبير الصورة الشخصية.
لن أُعلق على تلك الإجراءات؛ إذ سبق أن ذكَرتُ أنني قد فشلت فشلًا ذريعًا في إيجاد صلة بين أيٍّ منها وبين قضية بينفيلد. ولأسباب واضحة، لن أذكر أيضًا أي شيء بخصوص نشاطات أخرى أجراها ثورندايك خلف الباب الموصَد لمعمله الخاص؛ إذ جزَمت بمقتضى خِبرتي أنها تَجارِبُ ذات صلة باستنتاجات توصَّل إليها من الوقائع المعروفة لي. لا شك أنها كانت لتكشف عن الكثير لو علمتُ ماهيتها؛ لكنه تركني على جهلي، حسب العُرف الغريب المتبَع بيننا، الذي كان يمنحني ثورندايك بمقتضاه كلَّ فرصة ممكنة لملاحظة الحقائق، لكنه كان يرفض الكشف عن استنتاجاته أو فرضياته إلى حين انتهاء القضية؛ وحتى بولتون الذي كان الفضول يتملكه لم يملك سوى أن يُحدق بأسًى في الباب الموصَد.
وهكذا لم يكن لديَّ أيُّ فكرة على الإطلاق عما كان يدور داخل معمله الخاص؛ لكنه أذن لي، إنْ جاز التعبير، في مرتين أخريين باختلاس النظر إلى ظهر بطاقاتِ اللعب. وهكذا، وفي أحد الأيام، عُدت في موعد الغداء لأجد زميلي يَذْرع نهاية شارع كينجز بينش ووك جَيئةً وذَهابًا، منهمكًا في حديث جادٍّ مع رجل يُدعى السيد سنوبر. كان السيد سنوبر هذا رجلًا استثنائيًّا بحق. فنظرًا إلى أنه في الأصل محقِّق خاص، فقد استعان به ثورندايك مرةً أو مرتَين لجمع المعلومات أو لمراقَبة أشخاص معيَّنين؛ لكنه أثبت براعتَه وسَعة حيلته وجدارتَه بالثقة، حتى إن ثورندايك منحَه وظيفة دائمة؛ وصار أحدَ موظَّفينا الذين لا يُمكن الاستغناء عنهم في إجراء التحرِّيات والمراقبة حيث لا يُستحَب أن نظهر بأنفسنا.
لكن بمَ يُمكن أن يُنذر هذا اللقاء؟ عادةً ما يُؤذِن ظهور السيد سنوبر سلفًا بوقوع تطوُّرات مثيرة نوعًا. وقد كانت قضية السيدة شيلر هي القضيةَ الوحيدة ضِمن القضايا الأخرى التي نتولَّاها في الوقت الحاليِّ التي تحتمل أن يطرأ عليها تطوُّراتٌ مثيرة؛ لكن كان يبدو أننا كنا مُلمِّين بجميع الحقائق المهمة المتعلقة بتلك القضية. كانت مشكلتنا تَكمُن في التطبيق العمَلي لتلك الحقائق، وهي مشكلة لا يبدو أن أنشطة السيد سنوبر قد تُقدِّم حلًّا لها.
لكن حَيْرتي بلَغَت أقصاها مساءَ ذلك اليوم نفسِه، حين دخلتُ إلى غرفة جلوسنا فوجدتُ بولتون يضع كرسيًّا وثيرًا قُبالة المِدفأة، ويضع بجواره منضدةً صغيرة عليها قارورةُ ويسكي وعلبةٌ من السيجار. راقبتُه بشكٍّ متزايد، وحين أضاف إلى المنضدة مثقابًا، استعاره من مَشغله، ارتقى شكِّي إلى اليقين.
سألته: «هل ننتظر مأمور الشرطة؟»
أجاب: «أجل يا سيدي. السيد ميلر قادم في الثامنة والنصف حسَب موعدٍ متفَق عليه.»
«أظنك لا تعلم سبب زيارته، أليس كذلك؟»
«لا يا سيدي لا أعلم. أظن أن السبب هو قضية شيلر، لكن ذلك مجرد تخمين، ولا أُخفي عليك يا سيدي أن الفضول يكاد يقتلني. أرى أن ثمة شيئًا ما وشك الحدوث، وأن شخصًا ما سيتلقَّى مفاجأة.»
«ما الذي يجعلك تقول ذلك؟»
«أنا أعرف البوادرَ منذ زمنٍ طويل يا سيدي. إن الطبيب في واحدة من نوبات السخط والضيق التي تنتابُه؛ فهو شديد التكتُّم والانشغال. لقد كان مختفيًا وراءَ باب معمله الموصَد يفعل أمورًا شتى يفترض أنها من مهامي فعليًّا؛ يُحمِّض الصور ويفحص عيناتٍ تحت المجهر، ويصنع صورًا متناهيةَ الصِّغر، والله أعلمُ ماذا أيضًا. أعلم ذلك؛ لأنني كنت أقوم بالتنظيف وراءه.»
ضحكت من فُضوله الذي لم يُحاول إخفاءه، لكني أشفقت عليه أيضًا.
قلت معقبًا: «يبدو لي أنك كنت تقوم بوظيفة سنوبر؛ تضع الطبيب تحت المراقبة حسب مسمَّى الشُّرَطيون المدَنيون.»
«لا ضَير يا سيدي من مراقبته إن بدا في أفعاله ما يستدعي ذلك، وأعتقد أنه يُحب أن يُراقَب. إنه جزء من اللعبة. لقد رأيته صباحَ اليوم في شارع ذا واك يتآمر مع السيد سنوبر. وكان يعلم أنني أستطيع رؤيته من النافذة. والآن السيد ميلر قادمٌ للزيارة، وهو لا يُفصح عن الكثير. ماذا تظن أن يكون هذا الشيء؟»
أخرج من جيبه جُذاذةً من خشب الماهوجني حوالي أربع بوصات في بوصتَين، بها تجويفٌ سطحي مستطيل أبعاده نحو بوصتَين ونصف البوصة في بوصةٍ واحدة، وله جانبان مستقيمان وحواف مستديرة، وثقب صغير دائري قُطره نحو ستةَ عشر جزءًا من البوصة، أمام منتصَفِ التجويف مباشرة.
تابع بولتون: «لقد نفَّذته من رسمٍ بالحجم الطبيعي رسمه الطبيب، ولأنه لم يذكر أيَّ شيء عن الغرض منه، أظن أنه جزء من المفاجأة.»
قلتُ مقترحًا: «يبدو كشريحةٍ مجهرية من نوعٍ ما»؛ لكن في هذه اللحظة، سمعنا صوتَ خطوات سريعة تصعد الدرَج، فالتقطَ بولتون الشريحة وأعادها إلى جيبه وهو يبتسم ابتسامةَ المذنب حين انفتح البابُ ودخل ثورندايك.
قلت معلقًا: «أرى أن السيد ميلر سيُشرِّفنا بزيارته.»
ألقى نظرةً خاطفة على المنضدة الصغيرة، ثم سأل مبتسمًا:
«أهي معلومةٌ تلقَّيتها أو ملاحظةٌ واستنتاج؟»
أجبت: «كِلاهما، لكنَّ الاستنتاج جاء أولًا. والمثقاب هو ما أكَّد تحليلي.»
ضحك ثورندايك ضحكةً خافتة وقال: «أجل، من المدهش مدى قدرةِ بولتون على تذكُّر كل ما يُحبه زائرونا وما يَكْرهونه. كان ليصيرَ صاحبَ نُزُل رائع. كيف تفعل ذلك يا بولتون؟»
أجاب بابتسامة سرور: «حسنًا يا سيدي، أولى بالإنسان أن يكون على درايةٍ ببني جنسِه، وهذا يتضمَّن السيد ميلر … وعلى ذِكره، ها قد وصل.»
انتهى صوتُ الخطوات المتصاعدةِ بالطَّرقة المميزة، ففتح بولتون الباب ودخل المفتش وحيَّانا بابتسامةٍ عمَّنا بها، نحن والمقاعد الثلاثة الوثيرة والمنضدة الصغيرة.
بعد أن فرَغنا من تبادل التحيات والمصافحات الأولى — التي شملت بولتون — قال: «أنا مسرور برؤيتكم جميعًا مجددًا. لقد مر وقتٌ طويل جدًّا منذ آخرِ زيارة لي إلى هذا المكان. لم تَعُد تتسنَّى لي فرصٌ كثيرة للقدوم إلى هنا بعد أن صرتُ حبيسَ مكتبي.»
وقفنا نُثرثر في أمور بعيدة عن موضوع الزيارة لبضع دقائق، ثم انتقلنا إلى المقاعد، فأشعلتُ أنا وثورندايك غليونَينا بينما اختار ميلر سيجارًا بعناية وصبَّ بولتون الويسكي.
قال المفتش وهو يثقب بإمعان طرفَ السيجار المقابل له بالمثقاب: «لقد أنجزتُ لك تلك المسألةَ البسيطة التي أردتَها. كانت مهمةً صعبة أيضًا. اضطُرِرتُ إلى الحصول على موافقة مساعدِ مفوض الشرطة بالطبع، ولم يكن مستعدًّا على الإطلاق لمنحي إياها. لكني أطلعتُه على خِطابك وتملَّقته قليلًا فاستجاب أخيرًا. لكنه ما كان ليفعلَ ذلك لأجل أي شخصٍ آخر، حتى أنا، واشترط أن تكون تلك المعلوماتُ سرية تمامًا وألَّا يطَّلع عليها سواك.»
«أنت تعلم أن بوُسعك الاعتمادَ على تكتُّمي يا ميلر. لكن ماذا إن طُلِب استخدامُها في الشهادة أمام المحكمة؟ هل أفهم أنه سيُوافق على ذلك؟»
«سيتعيَّن عليك أن تتفق على ذلك معه. أعتقد أنك لا تعتزم الطعنَ على الحكم، أليس كذلك؟»
«كلا. الحكم ليس من شأني سواءٌ أكان جيدًا أم سيئًا.»
«أتساءل — وكذلك تساءل مساعدُ المفوض — ماذا عساه أن يكون شأنُك، بخاصة السبب الذي أردتَ من أجله تلك البصمات. لكن أفترض أننا سنعرف في الوقت المناسب؛ إذ يبدو أنك تُلمح إلى أنك ربما تحتاج إلى مساعدتنا في وقتٍ لاحق.» ثم قال مختتمًا حديثَه، وهو يُخرج مظروفًا سميكًا مقفلًا بخَتْم من جيبه: «على أي حال، ها هو ملف الفاضلة لويزا سوندرز الكامل، إن كان هذا اسمها بالفعل — يبدو أنه كذلك؛ إذ يتوافق مع الحرفَين الأولَين المنقوشين على ملابسها — وبه بياناتها الشخصية وبصمات أصابعها وصورٌ شخصية من السجن، وملخَّص لوقائع جلسة مَحكمة الشرطة، وكل شيء طلبَته؛ وكما ترى المظروف مقفَل بالشمع ومكتوبٌ عليه «مستندات سرية».»
ناول الملف لثورندايك وهو يرمقني بنظرة خبيثة، وبعد أن شكَره زميلي بحرارة شديدة على صنيعه، انتهى الأمر وتحول مجرى الحديث إلى قنوات أخرى، تتعلق في معظمها بقسمِ التحقيقات الجنائية. ومع أن حديث المفتش بشأن أمور العمل كان مُشوقًا جدًّا، فهو لا يتعلَّق بتلك القصة. كما أنني لم أكن أُصغي إليه باهتمام كبير؛ إذ كان عقلي مشغولًا بالأسئلة: مَن تكون لويزا سوندرز بحق السماء؟ وما شأنُنا بها؟ ولِمَ قد يُريد ثورندايك بصماتِ أصابعها؟
كانت تلك الأسئلة، إلى جانب الغموض الذي أحاط بالملف، مادةً خِصبة للتفكير بالنسبة إليَّ في الأيام القليلة التالية؛ وكذلك لثورندايك حسَبما بدا، وإن كان بطريقة مختلفة. فقد أغلَق عليه باب معمله مجددًا وتابع أنشطتَه الغامضة مما أثار غيظ بولتون، ولما بدا أنها كانت متعلقة بالتصوير الفوتوغرافي بالأساس حسَب تصريح بولتون، استنتجتُ أنه يصنع نسخًا من «المستندات السرية»، لكن لم يسَعْني أن أُخمِّن حتى غرضه من ذلك.
هكذا، مرَّت الأيام وانقضَت العطلة الصيفية، واقترب الموعد المحدد لجلسة الاستماع. تلقَّينا بضعة خطابات من السيد بينفيلد، تتعلق بالأساس بطلب ثورندايك ضرورةَ استدعاء شهود معيَّنين للمثول أمام المحكمة؛ لاستجوابهم بشأن إفاداتهم الموثقة، وذات مرة لمحتُ بين الخطابات التي تسلمناها عبر البريد الصباحي مظروفًا كبيرًا مكتنزًا مرسَلًا إلى ثورندايك، بدا لي وكأنه تقريرٌ من السيد سنوبر. لكن ذلك لم يكن إلا تخمينًا، مع أن خط سنوبر كان مميزًا أكثرَ من شخصه.
بخلاف ذلك، بدَت استعدادات ثورندايك قد اكتملت، بقدر ما تسنَّى لي الجزمُ في ظل عدم عِلمي بطبيعتها، وكنت أتطلَّع في لهفة إلى تاريخ جلسة الاستماع الذي كان يقترب؛ إذ كنتُ آمُل أن يأتيَ ليكشف لي عن جميع الأسئلة الغامضة التي ظَلِلتُ أحاول تحسُّسَ إجابات لها دون جدوى.