محكمة المواريث والوصايا
في صباح اليوم المحدَّد لجِلسة الاستماع، كانت جميع التحضيرات قد اكتملَت، وكنا — أتحدث عني أنا وبولتون — نترقبُ بتلهُّف المشهدَ الافتتاحي للمسرحية. ولما كنا نَقطُن بالقربِ من المحاكم القضائية، وضعتُ أنا وثورندايك باروكتَينا وعباءتَينا قبل المغادرة، وهكذا انطلَقْنا عن بَكْرة أبينا بكامل هندامنا، يُرافقنا بولتون حاملًا حقيبةَ أوراق صغيرة، وعبَرنا منطقة تيمبل عبر شارع كراون أوفيس وشارع فاونتين كورت، وأخيرًا خرَجنا إلى شارع ديفيرو كورت، ومنه إلى الجهة المقابلة للمدخل الرئيسيِّ إلى المحاكم القضائية الملَكية من شارع ستراند، وبعد أن عبَرنا الطريق، دخلنا إلى تلك المنشأة المهيبة واتجَهنا إلى المحكمة التي ستُعقَد فيها جلسة الاستماع.
باستثناء الحاجب والسيد ترنر، الموظَّف الإداري لدى السيد بينفيلد، كنا نحن أولَ مَن وصل من الحضور؛ لكن بعد وصولنا بقليل، وصل السيد لونجفورد، محامي المدَّعية برُفقه موكلته الآنسة دالتون، ورجل صدَق حَدْسي أنه السيد كارل شيلر. ولما كنا نعرف السيد لونجفيلد معرفةً طفيفة، بادَلْناه بضع كلمات ترحيبية، ثم قدَّمَنا لمُرافقيه، وبينما كنا نتجاذب أطراف حديثٍ مهذَّب لم يتطرَّق كثيرًا إلى الموضوع الجاري، اقترن به فحصٌ متبادَل بيننا.
كانت الآنسة دالتون، «المدعية»، امرأةً لا يختلف أحدٌ على حُسنها، في الخامسة والثلاثين تقريبًا من عمرها، لكني لم أُعِرها اهتمامًا كبيرًا؛ إذ كان اهتمامي الأكبر منصبًّا على السيد شيلر، الذي انتهزتُ الفرصة لأُلقيَ عليه نظرة متفحصة بقدرِ ما تسمح به حدودُ الأدب. لم يكن ذا شخصية مميزة كثيرًا، لكنه زوجُ لوتا الغامضة (أو كان كذلك)، وكان لديه قدرٌ كافٍ من الاهتمام كي يحضر ليعرفَ ما إذا كانت المحكمةُ ستفترض أنه أرملُ أم سيظلُّ زوجًا فحَسْب. لذا كنتُ أسترِقُ إليه نظراتٍ متفحصةً أثناء حديثنا (وكذلك فعل ثورندايك كما لاحظت) وأُصغي بإمعان لحديثه الذي استشفَفْت فيه لَكْنة ألمانية خفيفة رأيتُ أنها تتوافق مع هيئته التيوتونية. كان رجلًا يميل إلى الضآلة جسدًا، طوله نحو خمسة أقدام وسبعِ بوصات، نحيل الجسد، ذا عنقٍ طويل وكتفَين مائلتَين، أشقر اللون، وله شاربٌ خفيف نوعًا ما ولحيةٌ صَهْباء فاتحة، وعينان مميزتان لهما لونٌ عسلي يميل إلى الأخضر. كان لون حاجبَيه أغمقَ من لحيته، وكانا عريضَين ومرسومين في خط يكاد يكون أفقيًّا مستقيمًا. أما شعره فكان لونه على الأرجح مُماثلًا لِلحْيته، أو ربما أفتح، لكني لم أستطع الجزمَ بذلك، إذ دهَنه بالزيت كي يُصففه منسابًا إلى الخلف. في المجمَل، رأيتُه رجلًا وسيمًا إلى حدٍّ ما، وترك لقاؤنا القصيرُ لديَّ انطباعًا إيجابيًّا نوعًا ما عنه.
في أثناء حديثِنا المقتضَب، وصَل آخَرون. فدخل السيد لوريمر، المستشارُ القانوني للمدعية، مرتديًا باروكتَه وعباءته، وانخرَط في مُشاوَرات سرية مع السيد لونجفورد على طاولة المحامين. وانسل السيد بيدلي إلى الداخل وجلس بهدوء في مقعد خلفي، وما لبث أن انضمَّ إليه المفتشُ بلاندي وسيدتان في منتصف العمر وصلَتا معًا، وما إنْ لمحتا بيدلي حتى ذهبَتا للجلوس بجواره. لكن أكثر مَن أثار وصولُه اهتمامي كان رجلًا ذا مظهرٍ ريفي دخَل يتهادى من الباب الدوَّار، وبعد أن تطلع حوله ببلادة، سار على مهلٍ باتجاه طاولة المحامين؛ إذ اعترَتْني دهشةٌ مباغتة كالعادة حين أدركتُ فجأة أنه السيد سنوبر الغامض.
كان يُتقن دور الريفي البعيدِ كلَّ البعد عن التمدُّن حدَّ الكمال. فقد كان تحديقُه فيما حوله بمزيج من الضجر والفضول مقنعًا تمامًا، وكان المرء ليعتقدَ أن ساعةَ الجيب الضخمة التي أخرجَها من جيبه وقارنَ بينها وبين ساعة الحائط هي إرثٌ ثمين وَرِثه عن أحد أجداده القرويِّين. لكن ماذا كان يفعل هنا متنكِّرًا تحت بصَرنا؟ لما فشلتُ في تصوُّر مهمتِه التي جاء من أجلها، قرَّرت أن أُراقبه وأحاول أن أحلَّ هذا اللغزَ بنفسي. لكن في ذلك الحين كانت ساعة القاعة قد أعلَنَت اقتراب الموعد المرتقب، مناشِدةً إيانا الجلوسَ في مقاعدنا، وهو ما فعَلناه؛ أُجلِسَت الآنسة دالتون في مقعد على طاولة المحامين، واختار السيدُ شيلر مقعدًا أماميًّا ذا مسندِ ظهرٍ مرتفع مُريح، وجلس سنوبر في مقعدٍ خلفه، وانضمَّ السيد لوريمر إلينا على مقعد المستشارين؛ وما إن جلسنا في أماكنِنا حتى فتَح الحاجبُ البابَ المجاور للمقعد ليخرج منه القاضي بهمَّة ويتخذَ مقعده.
نظرتُ إليه بقدرٍ كبير من الاهتمام؛ إذ لم يكن ثَمة هيئة محلَّفين، وكان هو مَن له الحكمُ في القضية. لكن بخلاف ذلك، كان ما جذَبني وأثار اهتمامي فيه هي شخصيتَه التي كانت من نوعيةٍ غيرِ مألوفة في جوانبَ عدَّة. فقد غاب عنه ذلك الهدوءُ المهيب الذي يقترن في ذهن المرء بشاغِلي مِنصَّة القضاء. في الواقع، كان أكثر قاضٍ مفعمًا بالحيوية رأيتُه على الإطلاق. كان يتململ في كرسيِّه، ويلتفتُ ليُواجه كلَّ متكلم سواءٌ كان شاهدًا أو مستشارًا، ويميل جانبًا ليُخاطبه بأسلوب وُدِّي وخصوصي غيرِ معتاد يتوافق مع الأسلوب العام الذي يُدير به الجلسة، والذي كان أشبهَ بأسلوبِ إدارة نقاشٍ عائلي.
لم تكن حيويتُه تلك جسديةً فحَسْب. فقد كان في قمة النشاط ذهنيًّا كذلك، وبدا أنه يُتابع كلَّ مرحلة من الجلسة باهتمام شديد يُقارب اللهفة، ويُراقب المتحدثَ ويُدْلي بتعليقات عرضية بأسلوبٍ جازم سريع يخلو تمامًا من وقار القُضاة. لكنه كان قاضيًا بارعًا، فَطِنًا ومتعاونًا ووَدودًا ويميل إلى التحرُّر من الرسميات بقدر ما تسمح به الظروف.
بعد أن اتخذ سيادته مقعده، وجال ببصرِه سريعًا عبر قاعة المحكَمة، التفتَ بترقُّب إلى السيد لوريمر، مستشار المدعية، الذي نهض على إثرِ ذلك كي يفتتحَ القضية.
سأل القاضي بعد أن عرَض السيد لوريمر طبيعة القضية: «هل يوجد مَن يُعارض الطلب؟»
«لا أعلم بوضوحٍ يا سيدي القاضي مقدارَ المعارَضة. فلم تُقدَّم أيُّ إفادات موثقة ولا أي مُرافعات ردًّا عليها.»
نظر القاضي بتساؤل إلى ثورندايك، الذي نهض ليُفسِّر قائلًا: «موقفُنا يا سيدي هو كالآتي: الموكل بتنفيذ وصية لوتا شيلر هو نفسُه مُحاميها ووكيل أعمالها، ولأنها لا تزال على قيد الحياة حاليًّا في نظر القانون، فقد رأى ضرورة حماية مصالحها بأن يتأكَّد من بيانِ جميع الحقائق التي تُناقض افتراضَ وفاتها أمام المحكمة.»
«لكن ألم تُقدِّم أيَّ إفادات موثقة؟»
«كلا يا سيدي؛ لكن إن اضطُرِرنا إلى ذلك في أثناء سماع الدعوى، سأطلب مُهلة للسماح لي بتقديم إفادات موثقة ردًّا عليها أو استدعاءِ شهود.»
ابتسم القاضي بوُد. «فهمت، إنه مبدأ عدم الوثب قبل بلوغ الحاجز الذي عَهِدناه منك. لا بأس.»
أومأَ برأسه للسيد لوريمر الذي تابع قائلًا: «نظرًا إلى أن ذلك هو التماسٌ لطلب افتراض وفاة، فإن الوقائع محلَّ النقاش هي تلك المتعلِّقة باحتمال الوفاة؛ لكني أرى أنه من المستحَب أن أشرح، في إيجاز، الظروفَ والملابسات التي أوجبَت تقديم ذلك الطلب.
منذ نحوِ خمس سنوات — وبالتحديد في يوم ١٦ أغسطس عام ١٩٢٨م — وثَّقت لوتا شيلر وصية تُوصي فيها بكل ثروتها المتواضعة جدًّا، التي تبلغ في مجملها نحوَ ٣٠٠ جنيه إسترليني، لصديقتها باربرا دالتون، وفي حال وفاة باربرا قبلها، تَئول تلك التَّرِكة إلى أختها الصُّغرى ليندا. في الوقت نفسِه تقريبًا، كتبَت باربرا وصية بالشروط نفسها، غير أنها أوصَت بمقتنياتها لليندا، باستثناء كمانها. أمَّا الكمان وباقي ثروتها التي بلغَت حوالي ٢٥٠ جنيهًا إسترلينيًّا، فأوصت بها للوتا. هكذا، كانت تلكما الوصيَّتان، في وقت تحريرهما، لا أهمية لهما على الإطلاق. لكن في يوم ٢٨ من مايو عام ١٩٣٠م، تُوفِّي رجل يُدعى السيد تشارلز مونتاجو، وتبين عندئذٍ أنه أوصى بمبلغ قدره ٢٠٠٠٠ جنيهٍ إسترليني لباربرا دالتون، ومثلِه لليندا. كانت هاتان التركتان مفاجأةٌ غير متوقَّعة على الإطلاق للمنتفعتين بالوصية، وربما كانت باربرا لتُجريَ بعض التعديلات على وصيتها لو كان الوقت قد أُتيح لها. غير أنه لم يُتَح. فلسببٍ ما، تأخَّر إثباتُ صحة وصية السيد مونتاجو كثيرًا، وفي تلك الأثناء تُوفِّيَت باربرا. بعد ذلك، ولما كانت لوتا شيلر هي الموصى لها بفَضْلة الترِكة حسَب وصية باربرا، آلَ مبلغُ العشرين ألف جنيه إسترليني لها.
لكن حينَها ظهرَت مشكلةٌ جديدة. حين وصل الأمر إلى توزيع تركة السيد مونتاجو، لم يستطع أحدٌ معرفة مكان لوتا شيلر. نُشِرَت الإعلانات المعتادة في الصحف، لكن لم تَرِد أيُّ ردود. لذا ظلَّ الأمر معلقًا لفترة؛ ولم يُعلَم يقينًا ما إذا كانت على قيد الحياة، وزاد الأمر تعقيدًا أنه بجانب عدم إمكانية دفع تلك الأموال إليها، لم يكن ثَمة دليلٌ على أحقيَّتها فيه؛ إذ تعذَّر حتى إثباتُ أنها كانت على قيد الحياة وقتَ وفاة باربرا.
ثم أعلنَت الصحُف اختفاءَ لوتا الذي أثار ضجة والاشتباهَ في مقتلِها؛ وعُرِفَت الحقيقة المذهلة وهي أنها كانت طوالَ ذلك الوقت تُقيم في مسكن مستأجَر في ٣٩ شارع جيكوب، المتفرِّع من طريق هامبستيد. إما أنها لم ترَ الإعلانات مطلقًا، أو أنها تجاهلَتها، وهو ما يبدو غيرَ معقول. لكن على أي حال، فور أن علم المُوكَّل بتنفيذ وصية باربرا بأنها على قيدِ الحياة، أو كانت كذلك حتى وقتٍ قريب، سعى إلى التواصل معها، لكنه لم ينجح في ذلك. ولم تُسفِر مساعيه، التي كان يُكررها من آنٍ لآخَر، عن أيِّ نتائج أفضل؛ والآن بعد مرور عامَين وتبيُّن وفاة لوتا شيلر على نحوٍ شبهِ قاطع، فإن الآنسة ليندا دالتون المستفيدةَ من وصية لوتا التي لا تزال على قيد الحياة، وبِناءً على نصيحة مُحاميها، تلتمس من المحكمة الإذنَ بافتراض وفاة الموصية؛ تمهيدًا لإثبات صحة الوصية. ولما كانت الوقائع التي نستند إليها في طلبنا هي في الأصل تلك الوقائعُ ذات الصلةِ باختفاء الموصية، فسأعرض الآن بيانًا أكثرَ تفصيلًا لواقعة اختفائها.
في يوم ١٦ يوليو عام ١٩٣٠م، استأجرت لوتا شيلر مسكنًا مفروشًا في العقار رقم ٣٩ شارع جيكوب، طريق هامبستيد. لم تُقدِّم أيَّ خطاباتِ توصية، لكنها دفعَت إيجار شهرٍ مقدمًا، ودفعَت ذلك القسط وجميعَ الأقساط اللاحقة نقدًا مع أنها كانت تملك حسابًا بنكيًّا، وهو ما يُشير إلى أنها لسببٍ غيرِ معروف لنا، لم ترغب في الإفصاح عن مكانها لأيٍّ من أصدقائها. ما يدعم هذا الاحتمالَ حقيقة أنها طوال فترةِ إقامتها في شارع جيكوب، لم تكتسب أيَّ معارفَ محليِّين عدا السيد بيدلي، وهو رسَّام يقطُن في المنزل المجاور لها، والسيد بولتون والسيد فاندربوي، وكلاهما تعرفَت عليه عبر السيد بيدلي.
أثناء تلك الفترة، يبدو أنها كانت تدَّعي امتهانَها الفنَّ. ولكنه ادعاءٌ باطل لا محالة؛ إذ لدينا دليلٌ على أن أعمالها افتقرَت إلى الكفاءة المطلوبة، وهو ليس بأمرٍ مفاجئ؛ نظرًا إلى أنه لم يُعرَف عنها من قبلُ قدرتُها على الرسم بالألوان أو حتى بالرصاص. لكنه أعانها على التعرُّف على السيد بيدلي، الذي سرعان ما تطور إلى صداقة بيِّنة كانت تستغلُّها للتردُّد على مرسمِه. بهذه الطريقة، تعرفَت بعد وقتٍ قصير على السيد ويليام فاندربوي، وهو مُحامٍ عضوٌ بجمعية إنر تيمبل، الذي قصد المرسمَ كي يطلبَ إلى السيد بيدلي رسم صورة شخصية له. وسرعان ما تطورَت تلك المعرفة الناشئة إلى صداقةٍ وطيدةٍ للغاية، صحبتها مُغازلات تفتقر إلى الحياء من جانبها، وربما عاطفة حقيقية من جانبه.»
لا داعي إلى سرد بقية مرافعة السيد لوريمر الافتتاحية؛ إذ تناولَت أمورًا نعرِفُها بالفعل وسبقَ أن سرَدْناها. فقد وصَف بتفصيلٍ دقيق وممعِن جميعَ الملابسات المرتبطة باختفاء لوتا شيلر، بما فيها مقتلُ إيما روبي التعيسةِ الحظ، والبحثُ الذي قادته الشرطة عن لوتا، والآثار التي اكتُشِفت، وأخيرًا وبإسهابٍ شديد استكشافُ المعسكر البريطاني القديم، والجهود العديدة التي بُذِلت خلال العامَين المنصرِمَين للتواصل مع لوتا.
في تلك الأثناء، ونظرًا إلى عدم اهتمامي كثيرًا بالمرافعة، سلَّيت نفسي بملاحظةِ ما يدور في قاعة المحكمة؛ مراقبًا القاضيَ الذي كان يُصغي بتركيز شديد إلى رواية المستشار، وبِضْع غرباء دخَلوا عبر الباب الدوَّار، لكنهم سرعان ما خرَجوا مجددًا، والسيد سنوبر على وجه الخصوص. غير أن مراقبتَه لم تكن مسليةً كثيرًا. في البداية جلس خلف السيد شيلر مباشرة، لكنه تحرَّك تدريجيًّا عبر المقعد كي يصيرَ أقربَ إلى المتحدث على ما يبدو، وهناك جلس يستمع فاغرًا فاه، وبدا مستغرقًا في رواية السيد لوريمر بقدرِ استغراق القاضي نفسِه. أما السيد شيلر، فبعد البيان الافتتاحي، لم يبدُ أنه مهتمٌّ كثيرًا بالمرافعة؛ إذ لا بد أنه سمعها بأكملها من قبل. جلس معظم الوقت مطبقًا جفنَيه، مسندًا رأسَه على مسند الظهر المرتفع للمقعد وكأنه نائم؛ مع أنه كان يفتح عينَيه من آنٍ لآخر ويرفع رأسه ليتطلَّع حوله، لكنه ما يلبث أن يعود إلى وضعيته شبه الناعسة.
خلال إحدى فترات اليقظة المؤقتة تلك، حدث شيءٌ غريب جدًّا. كان السيد لوريمر قد وصل إلى نهاية سرده، وكان قد بدأ لتوِّه في عرض حُجته حين فتح السيد شيلر عينَيه ونظر ناعسًا إلى المستشار. ثم فجأة، اتسعَت عيناه وارتسم على وجهه تعبيرٌ غريب من الفزع. نظرت إليه مندهشًا. بدا أنه يُحاول التحرُّك من مكانه، لكن رأسه ظل ثابتًا وكأنما التصقَ بمسند ظهرِ مقعده. على الفور، لاحظ السيد سنوبر مأزقَه، فتحرك بسلاسة على الدكة باتجاهه سريعًا، وفي الوقت نفسِه أخذ يتحسس جيبه. سمعته يُتمتم قائلًا: «لا تتحرَّك يا سيدي»، وبعض الكلمات الأخرى التي لم تلتقِطْها أذُناي، وبينما كان يتحدث، رأيته يُسارع بفتح مقصِّ جيبٍ قابلٍ للطَّي. بعدها انحنى وهو ممسكٌ به فوق مسند المقعد، وبعدها بلحظةٍ تحرر السجين وهو يبتسم ابتسامة ساخرة خافتة، ويتحسَّس مؤخرة رأسه برفق، ويلتفت ليتطلَّع بفضول إلى الموضع الذي كان سنوبر الآن يكشطُه بعناية بسكينِ جيبٍ من المقعد.
لم يتسنَّ لي رؤيةُ ما كان يكشطه، لكن لا بد أن مادةً غريبة كانت عالقة في مسند الظهر بالمقعد؛ إذ رأيتُه يضع السكِّين أمام عينَيِ السيد شيلر ليُرِيَه إياه، ثم يمسحه في مظروفٍ أخرجه من جيبه ثم أعاده له مرة أخرى بعد أن طوَاه. لكن حتى ذلك لم يُرضِه؛ فقد تابع كشطه للموضع، ثم مسح السكينَ في قطعة أخرى من الورق، وأخيرًا بعد أن تحسس السطحَ بيدَيه، دعكه بقوة بمنديله. في تلك الأثناء، بعد أن شكَر السيد شيلر سنوبر على صنيعه بابتسامة، تحركَ عبر المقعد، وبعد أن احتاط وفحص السطح بتمرير يده عليه، مال إلى الخلف مرةً أخرى وأغمَض عينَيه.
كانت واقعةً غريبة، تبدو تافهة للغاية لناظر عابر، وانتهت في أقلَّ من دقيقة، ويبدو كذلك أن أحدًا لم يُلاحظها، عدا القاضي الذي ألقى نظرةً فضولية سريعة أثناء عملية الكشط. لكني لم أقتنع تمامًا بتفاهتها، وظللتُ أُراقب السيد سنوبر مع أنه عاد ليُواصل الإصغاءَ فاغرًا فاه، ولاحظت أنه بدا يتسلَّل رويدًا رويدًا عبر المقعد في اتجاه طرَفِها البعيد. كان قد بلغ وجهته المقصودة لتوِّه حين اختتم السيد لوريمر مرافعته، وما إن جلس المستشار وبدأت التجهيزات لقراءة الإفادات الموثقة، حتى رأيتُه ينهض بعد أن نظر إلى الوقت في ساعته الضخمة الموروثة عن أسلافه في لهفة، ويتسلَّل بهدوء تجاه الباب الدوَّار ويختفي في صمت. لذا بدا أن غرضَه من حضور جلسة الاستماع، أيًّا كان، قد تحقَّق.
كانت أولى الإفادات الموثَّقة التي قُرِئَت هي إفادةَ توم بيدلي، ولما كانت تسرد جميع الوقائع المهمة، لم أُدرِك تمامًا سببَ طلب ثورندايك حضورَه من أجل الاستجواب. كما أن زميلي لم يستخلص منه أيَّ وقائعَ جديدةٍ ذاتِ أهمية. كان واضحًا أن غايته كانت التشديدَ على أهمية تلك الوقائع التي سرَدَها، وهو ما حقَّقه على أكمل وجه.
ابتدأ حديثَه قائلًا: «لقد ذكرتَ يا سيد بيدلي أنك كنت على صلةٍ وطيدة بالسيدة شيلر لمدة خمسة أشهر تقريبًا. خلال ذلك الوقت، هل عرَفت الكثير عن ماضيها ومحالِّ إقامتها السابقة وأصدقائها وأقربائها؟»
أجاب بيدلي: «كلا. لم تُشِر من قريبٍ أو بعيدٍ إلى ماضيها، ولم تذكر قطُّ أيًّا من أصدقائها أو أقربائها عدا زوجها الذي لم تُشِر إليه إلا مرةً أو مرتَين وباقتِضاب شديد.»
«هل تستطيع التعرُّفَ على خطِّ يدها؟»
«كلا. لم أرَ أي شيء مكتوبٍ بخط يدها قط.»
«لكن ماذا عن التوقيع على لوحاتها؟»
«لم تكن تُوقِّعها. بل كانت تستخدم رمزًا يُشبه زهرة.»
«هل سبق أن رأيت أيَّ صورة شخصية لها أو لزوجها؟»
«لم أرَ قط صورةً شخصية لزوجها، والصورة الوحيدة التي رأيتها لها هي تلك التي رسمَتْها هي من أجل تصغيرها ووضعها داخلَ قلادة أهدَتْها إلى السيد فاندربوي.»
«هل كان السيد فاندربوي راضيًا عن الصورة الشخصية التي رسمَتها لنفسها؟»
«كلا. لقد توسَّل إليها أن تسمح لي برسم صورة لها أو أن تطلب من السيد بولتون أن يلتقطَ صورةً فوتوغرافية لها. لكنها رفضَت رفضًا قاطعًا. وأصرَّت أن ترسم الصورةَ الشخصية بنفسها، وهكذا فعلَت.»
«هل كانت الصورة الشخصية التي رسمتها تُشبهها كثيرًا؟»
«لم تكن تُشبهها على الإطلاق. لم يكن ثَم أيُّ وجهِ شبهٍ بينهما.»
سأله ثورندايك وهو يُناول صورة فوتوغرافية مثبَّتة في إطار، إلى الحاجب، الذي مرَّرها بدوره إلى الشاهد: «هل تعرف هذه؟»
أجاب بيدلي بابتسامة خفيفة: «أجل. إنها صورةٌ فوتوغرافية للصورة الشخصية التي رسمتها السيدة شيلر لنفسها.»
«وهل تعرف هذه القلادة؟»
وأثناء حديثه، أخرج ثورندايك من الحقيبة الشريحةَ الغامضة التي صنعَها بولتون، التي ثُبِّتَت عليها قِلادة فاندربوي مفتوحة بواسطة مشبك لإظهار الصورة المصغَّرة والشعر مع عدستَين مكبِّرتين؛ واحدة مسلَّطة على الصورة الشخصية والأخرى (من نوع كودينجتون) على الشعر.
أجاب بيدلي بعد أن ناوله الحاجبُ إياها: «أجل، إنها قلادة السيد فاندربوي، وبداخلها الصورةُ التي رسمَتها السيدة شيلر لنفسها وعينة من شعرها.»
حينئذٍ مُرِّرَت القِلادة والصورة الفوتوغرافية إلى القاضي، الذي نظَر أولًا إلى الصورة وارتسمت على وجهه ابتسامةٌ عريضة، ثم نظر عبر العدسة إلى الصورة المصغَّرة وقارَنها بالصورة الفوتوغرافية.
عقَّب قائلًا: «أجل، بإمكان المرء أن يجزمَ بسهولة أن الصورة لا تُشبهها، إلا إن كانت الموصية امرأةً ذاتَ شكل غير عادي.» وقبل أن يُعيد «الحِرْز»، قرَّب عينه إلى العدسة الأخرى وفحص الشعرة. ثم التفت بغتةً إلى بيدلي وسأله:
«هل كان ثمة أيُّ شيء غريب أو مميز في شعر السيدة شيلر؟»
جاءه الرد: «أجل يا سيدي، لكني لا أستطيع تحديده على وجه الدقة. بدا لي أن خامته لم تكن عادية.»
قال القاضي: «ها! هذا ما أراه. لكن …»
في تلك اللحظة ناول القلادةَ للحاجب، وبينما كان ذلك الأخير يأخذها إلى السيد لوريمر، بدا أنه يتأمَّل هذه الواقعة وكأنما أوحَت إليه بفكرةٍ ما. على الجانب الآخَر، لم يُبدِ لوريمر أيَّ اهتمام على الإطلاق، بل ألقى نظرةً متعجِّلة على الحِرزَين ثم دفع بهما على الطاولة إلى ثورندايك الذي مرَّرهما إلي. بطبيعة الحال، فحصتُه باهتمام شديد، مستحضرًا وصفَ بيدلي لشعر لوتا، لكن الإضاءة لم تكن جيدةً بما يكفي، ولم يكن التكبير كافيًا لإيضاح الكثير من التفاصيل. كل ما تمكنتُ من رؤيته هو شعر مرقَّط لا يُشبه على الإطلاق الشعرَ البشري العادي. على مضض، أعدتُ الحِرزَين إلى ثورندايك، الذي أعادهما إلى الحقيبة قبل أن يُتابع استجوابه للشاهد.
«بخلاف تلك الصورة للسيدة شيلر، هل رأيت أيَّ صورة شخصية لها على الإطلاق؟»
«ليست صورة شخصية مرسومة من الواقع. فقد رسمتُ لها صورة شخصية ذاتَ مرة من الذاكرة.»
سأله ثورندايك وهو يُناول الحاجب دفتر ملاحظات بيدلي وقد ثُبِّت مفتوحًا برِباط مطَّاطي، وصورة فوتوغرافية: «أهذه هي الصورة التي رسمتَها؟»
نظر بيدلي إليهما بابتسامةٍ خَجْلى ثم أجاب:
«أجل. الرسم الأصلي في الدفتر، وهذه صورة فوتوغرافية لها.»
«هل الصورة الشخصية تُشبهها كثيرًا؟»
«يسَعُني القول إن الشبه قريبٌ إلى حدٍّ كبير. أعتقد أن أي شخص كان يعرفها سيتعرَّف على هذه الصورة.»
مُرِّر الدفتر والصورة الفوتوغرافية إلى القاضي، الذي فحصَهما باهتمامٍ واضح، ومنه انتقلا إلى لوريمر، الذي نظر إليهما سريعًا بازدراء، ثم دفع بهما إلى ثورندايك. من الواضح أن المستشار الموقَّر كان ينظر إلى ما يقوم به زميلي باعتباره إهدارًا مؤسِفًا للوقت، ولم يُخفِ ارتياحه عندما جلس ثورندايك معلنًا انتهاءَ استجوابه للشاهد.
لما لم يُبدِ لوريمر أيَّ بادرة لإعادة استجواب الشاهد، ولم يتبقَّ على موعد الغداء سوى بضعِ دقائق، أعلن القاضي رفع الجلسة؛ عندئذٍ وقَفْنا جميعًا، ثم خرج سيادته بخطواتٍ رشيقة من بابه الخاص، وأسرع بولتون ليُمسك بالحقيبة، وتدفق الحضور إلى الخارج من الباب الدوَّار. تبعناهم على الفور تقريبًا، وبعد أن خرجنا إلى شارع ستراند، انطلقنا عائدين إلى مسكننا عبر شارع ديفيرو كورت.