السيد لوريمر يعترض
عندما دنَوْنا من نهاية شارع كراون أوفيس رو، لاحظتُ باهتمام، لكن دونَ دهشة، رجلًا ريفيَّ المظهر بدا أنه يتطلع بتأنٍّ إلى المنازل القديمة بشارع كينجز بينش ووك. غنيٌّ عن القول إنه كان السيدَ سنوبر، الذي من الواضح أنه لم يلحَظْ وجودنا حتى دنا منه ثورندايك بأقصى ما بوُسعه من حماسةٍ وبادرَه بالكلام. حينئذ التفتَ مُجفِلًا في دهشة، ثم سار وزميلي على غير هدًى في شارع كينجز بينش ووك، وبدا أنهما منهمِكان في حديث جاد. أبطأتُ الخطى كي أُراقبهما؛ إذ كان الفضول بشأن ما كان يفعله سنوبر في المحكمة يلتهمُني. لكن لم يكن ثَمة الكثيرُ لأراه أو أسمعَه؛ إذ لم يكن أيٌّ منهما معتادًا على رفع صوته، وكانا قد اقتربا من طرَف الشارع الكائن فيه الحديقةُ قبل أن يبدرَ عنهما أيُّ فعل ظاهرٍ للعيان. حينئذٍ أعتقد أني رأيتُ سنوبر يُناول شيئًا ما لثورندايك، لكني لم أستطع تبيُّنَ ماهيته، ولما اختفى في الحال داخلَ جيب صديقي، أيقنت أنه لا أمل لي في رؤيته، على الأقل في الوقت الراهن؛ فتركت أمرَ التجسُّس عليهما وأسرعت إلى الداخل طلبًا للغداء.
بينما كان نائب بولتون يُعِد المائدة، وكان يَهمُّ حينها بإحضار الطعام، جلستُ في انتظار وصول ثورندايك؛ لكنه حين تطلَّع إلى داخل الغرفة بعد بضعِ دقائق، لم يفعل ذلك إلا ليطلب مني أن أبدأ وجبتي في غيابه.
قال موضحًا: «لديَّ مهمة بسيطة أُجْريها في المعمل. لن تستغرق سوى بضعِ دقائق، لكن لا داعي لأن تنتظرَني.»
وهكذا، ولأنَّه كان يجب أن نعود إلى المحكمة في الموعد المحدَّد تمامًا، رفعتُ الغِطاء وبدأتُ في تناول طعامي، لكن في غضون أقلَّ من خمس دقائق انضمَّ إليَّ ثورندايك، وحين نظرتُ إليه بإمعان، بدا لي أني رأيتُ وراء جمودِ وجهه المعتاد أماراتِ الرضا بل والنَّشْوة، مما أوحى بأن «مهمته البسيطة» كُلِّلَت بالنجاح. أثار ذلك لديَّ تكهُّنات حول طبيعة تلك المهمة البسيطة، وبخاصة ما إذا كان لها أيُّ صلةٍ بنشاطات السيد سنوبر. لكني بالطبع لم أطرح أيَّ أسئلة، وبالطبع أيضًا لم يتطوَّعْ هو بالإدلاء بأيِّ معلومات.
حين انعقدَت جلسة الاستماع مجددًا بعد الغَداء، نهض السيد لوريمر كي يطلبَ سماع أقوال الآنسة ليندا دالتون أولًا؛ كي تتمكَّن من اللَّحاق بالقطار، ولم يُبدِ القاضي أي اعتراض، فاعتلَت منصةَ الشهود وقُرِئت إفادتها الموثقة. كان أغلبها يتعلَّق بتأكيد حقِّها في الوصية، لكنها انتهت بتصريحٍ بأنها رأت لوتا شيلر آخِرَ مرة في مطلع شهر يوليو من عام ١٩٣٠م، ومنذ ذلك الحين، لم تتلقَّ منها أي خطابات أو تعرِفْ أيَّ شيء عنها حتى سمعت باختفائها.
بعد انتهاء القراءة، نهض ثورندايك لاستجوابها.
«هل تذكُرين الثوب الذي كانت الموصية ترتديه حين رأيتِها آخرَ مرة؟»
ابتسمت الآنسة دالتون. ثم أجابته قائلة: «أجل بالطبع. كان ثوبًا قبيحًا للغاية وبدا لي شاذًّا بعضَ الشيء. كان لون صِدَارِه وتنورته بنفسَجيًّا باهتًا، وله ياقة مطويَّة عريضة لونها برتقالي داكن، وكُمَّان باللون نفسِه. كان ثوبًا لا يُمكن نسيانُه.»
«هل كانت الموصية تُجيد العزف على أيِّ آلة موسيقية؟»
«أجل. كانت تعزف الكمان.»
«هل كانت تقضي وقتًا طويلًا في ممارسة العزف؟»
«كانت تفعل في الفترة الأخيرة. كانت أختي باربرا تكسب دخلًا بسيطًا من العزف في فرقة موسيقية صغيرة — في دارٍ للسينما حسَبما أعتقد — وساعدَت لوتا في الحصول على وظيفة في المكان نفسِه، فكانتا تتمرَّنان معًا، وبالطبع كانت تعزف لبضعِ ساعات كلَّ يوم مع الفرقة الموسيقية.»
«بالطبع تذكرين شكلها جيدًا. هلا نظرتِ إلى هذه الصورة الشخصية وأخبرتِني ما إذا كنتِ ترَين أنها تُشبهها؟» وبينما كان يتحدث، ناول الحاجبَ صورة فوتوغرافية رأيتُ أنها لرسم بيدلي.
نظرَت إليها الآنسة دالتون نظرةً خلَت من أي تعبير.
سألته: «أيُفترَض أن تلك صورة شخصية للوتا؟ لا أظن أنها يمكن أن تكون كذلك. فلا أرى أدنى شبهٍ بينها وبين لوتا.»
استرَقتُ النظر إلى لوريمر، فظننتُ أني لمحت ابتسامة باهتة على وجهه. على الجانب الآخر، بدَت الدهشة والاهتمام البالغان على القاضي، وحين مُرِّرَت إليه الصورة الفوتوغرافية نظر إليها بإمعان، وقلبها كي يفحص ظهرها الذي دُوِّن عليه بالقلم الرصاص رقم، ثم كتب ملاحظة.
في تلك الأثناء، أخرج ثورندايك حافظةَ صور صغيرةً ناولها إلى الشاهدة.
قال لها: «داخل تلك الحافظة، ستجدين ستَّ صور فوتوغرافية. هلا نظرتِ إليها لترَيْ ما إذا كان أيٌّ منها تُشبه لوتا شيلر؟»
ألقَت الآنسة دالتون نظرة سريعة على أول صورتَين وقعتا تحت يدها، لكن عندما وصلت إلى الثالثة توقفت. ثم أخرجتها وقالت:
«هذه صورة شخصية للوتا شيلر؛ هي صورة غريبة جدًّا لكنها تُشبهها تمامًا»، ثم أردفَت وقد أخرجَت صورة أخرى ورفعتها: «وهذه أيضًا.»
«إذن ليس لديك أدنى شكٍّ في أن هاتَين الصورتين هما للوتا شيلر؟»
«ليس لديَّ أيُّ شك على الإطلاق. كلاهما لا تُخطئها عين.»
بعدئذٍ مُرِّرَت الصورتان إلى القاضي الذي عاينَهما باهتمام شديد وقارنهما بدقةٍ برسم بيدلي. وبعد أن نظر إلى ظهرَيهما ودوَّن ملاحظاته، مررهما إلى مَن يليه، لكنه بدا لا يزال مستغرقًا في التفكير في شيءٍ من الحيرة، وحين وصلَت الصور إليَّ، فهمتُ سبب دهشته؛ إذ كان الاختلاف بين الرسم والصورة الفوتوغرافية لا يُعقَل في حالة فنَّان كُفء مثل بيدلي. لكن لم يكن ثَمة وقتٌ للتفكير في الأمر؛ فقد كان ثورندايك قد انتهى من استجوابه، وبعدها بدقيقة غادرَت الآنسة دالتون منصة الشهود وبعد أن لوَّحَت للسيد شيلر مودِّعة، غادرت قاعة المحكمة بخُطًى سريعة.
كانت الشاهدة التالية هي السيدة ميتشنز، التي أوضحَت إفادتُها الموثقة بإيجازٍ الوقائعَ المعروفة لديها ذاتَ الصلة بالقضية بدءًا من يوم ١٦ يوليو عام ١٩٣٠م، حين أجَّرَت لوتا الغرفَ السكنية بمنزلها، حتى وقتِ اختفائها، بما فيها العثور على جثة إيما روبي. بعد الانتهاء من قراءة إفادتها، نهض ثورندايك وبدأ استجوابه بسؤالها:
«هل ستُميزين خط يد السيدة شيلر إن رأيتِه؟»
كانت إجابتها: «كلا. فأنا لم أر خطَّ يدها قط؛ لم يكن ثمة حاجةٌ إلى أن تُراسلني — على الأقل لم تفعل قط — وكانت تدفع إيجارها نقدًا، فلم تكتب لي شيكات.»
«هل كانت تعزف أيَّ آلة موسيقية؟»
«كلا، لم تعزف قط، لكنها كانت تملك كمانًا. لم أعرف بذلك إلا بعد أن غادرَت، لكن بينما كنت أفحص أغراضها حينئذٍ كي أخزنها، وجدتُه تحت السرير.»
«بينما كنت تفحصين أغراضها، هل وجدتِ ثوبًا له صِدَار وتنورة لونهما بنفسَجي وكمَّان لونهما برتقالي وياقة عريضة باللون نفسه؟»
«بالطبع لا يا سيدي؛ ولا أظن أن السيدة شيلر كانت لترتديَ ثوبًا كهذا. فجميع أزياءها كانت عادةً ذاتَ ألوان هادئة وأنيقة. لكني لم أجد سوى بضعة أثواب وأنا متيقنة أنه لم يكن بينها ثوبٌ بتلك المواصفات.»
«حين استأجرَت السيدة شيلر الغرفَ السكنية منك، هل أعطتك أيَّ خطابات توصية؟»
«كلا. لقد دفعت إيجار شهر مقدمًا نقدًا.»
حينئذٍ، أخرج ثورندايك حافظةَ الصور مرة أخرى، وبعد أن تناولَته الشاهدة قال:
«أريد منك أن تنظري إلى تلك الصور الشخصية لترَي إن كنتِ ستجدين بينها صورة تعتقدين أنها تُشبه السيدة شيلر.»
قلبت السيدة شيلر الصورتَين الأُوليَين، وعندما وصلت إلى الثالثة، أخرجَتها ورفعت يدها بها في ابتهاجِ مَن ظفر بشيءٍ ثمين وقالت:
«تلك هي السيدة شيلر.»
مدَّ القاضي، الذي كان يُراقب الأمر بشغف، يده ليأخذ الصورة التي تعرفت عليها؛ وحين وصلت إليه، نظر إليها باهتمام بالغ، ثم مال ناحية الشاهدة وقال:
«هل أنت واثقة تمامًا يا سيدة ميتشنز أن تلك الصورة تُشبه السيدة شيلر حقًّا؟»
أجابته: «واثقة تمامًا يا سيدي. إنها صورة طبق الأصل منها.»
عندئذٍ دوَّن سيادته ملاحظةً على هذه الصورة، ثم طلب إحضار الحافظة إليه. حين وصلته، التقط صورتَين فوتوغرافيتين ومررهما إلى الشاهدة.
سألها: «هل نظرتِ إلى هاتين الصورتين؟»
أجابته: «أجل يا سيدي، لكنهما ليستا للسيدة شيلر. فهما لا يُشبِهانها على الإطلاق.»
سجَّل القاضي إجابتها، وبعد أن أعاد الحافظة، أومأ برأسه إلى ثورندايك الذي طرح سؤاله الأخير.
«هل استقبلَت السيدة شيلر أيَّ زوار؟»
«لم يزُرْها سوى السيد بيدلي والسيد فاندربوي. لم أرَ سواهما.»
بعد ذلك، جلس ثورندايك، وبعد أن غادرَت السيدة ميتشنز منصة الشهود، نُودي اسمُ الشاهدة التالية — السيدة بيجهام — فتقدمَت امرأة بلا أي جاذبية تمامًا بشيء من الاختيال. كانت الأقوال المضمَّنة في إفادتها الموثقة مهمةً بعضَ الشيء فيما يتعلق بواقعة الاختفاء، لكن حين تعلق الأمر بالاستجواب، التزمَ ثورندايك بمسألة التعرُّف على الهوية. فأخرج الحافظة المحتومة ومررها إليها وسألها:
«تقولين إنكِ كنتِ تعرفين السيدة شيلر جيدًا شكلًا؛ هل تظنين أنك تستطيعين التعرفَ على صورة شخصية لها؟»
«أنا واثقة تمامًا من أنني سأتعرف عليها. فأنا أمتلك ذاكرةً استثنائية للوجوه.»
«إذن هلَّا نظرتِ إلى الصور في تلك الحافظة وأخبرتِني إن كان أيٌّ منها تبدو لك أنها صورة للسيدة شيلر؟»
فتحَت السيدة بيجهام الحافظةَ بتحفُّز، ونظرَت بإمعان إلى الصورة الأولى وقد زمَّت شفتَيها ثم تركَتها وقالت معلقة: «تلك ليست هي»، ثم انتقلت إلى الصورة التالية، التي تعاملَت معها بالطريقة نفسِها، وكذلك الصور التي تلَتْها، حتى وصلت إلى الصورة الخامسة، التي حدقت فيها بشدة لبُرهة ثم أخرجتها ورفعتها عاليًا وقد جعلَت وجهها مُقابلًا لنا، وصاحت قائلة: «تلك هي.»
أدركتُ أنها نسخة من الصورة التي رسمَها لها بيدلي، وكذلك فعَل القاضي، الذي أصغى إلى السؤال التالي بانتباهٍ مستغرق.
«هل أنت واثقة تمامًا أن تلك الصورة تُشبه السيدة شيلر حقًّا؟»
أجابته: «يا إلهي! أجل. إنها صورةٌ طبق الأصل منها. لقد عرَفتُها من أول نظرة.»
«ثمة صورتان أُخرَيان أريدكِ أن تنظري إليهما بعناية شديدة. إنهما مُرقَّمتان بالرقمين ثلاثة وأربعة.»
قلَّبَت الشاهدة بين الصور والتقطت اثنتَين منهما رفعَتهما أمامنا وأمام القاضي. كانتا الصورتَين الشخصيتين اللتين تعرفَت عليهما الآنسة دالتون.
قالت السيدة بيجهام: «إن كنتَ تعني هاتين الصورتين، فأستطيع القول إنهما ليستا للسيدة شيلر. إنهما لا يُشبهانها على الإطلاق.»
«هل أنت متأكدة تمامًا من ذلك؟»
«متأكدة تمامًا. إنهما يُشبهانها بقدرِ ما أُشبهها أنا.» بدا أن ثورندايك قد قنَع بتلك الإجابة؛ إذ لم يطرح أيَّ أسئلة أخرى، وبعد أن جلس، وغادرت السيدة بيجهام منصة الشهود — على مضضٍ حسب ظني — انتظرت الفقرة التالية بشيء من الاهتمام، لكنها حين أتَت، لم تكن مفاجئة بالكلية. فمنذ بعض الوقت، كنت قد لاحظتُ أمارات الضيق على المستشار الموقَّر للمدَّعية، ولم يُفاجئني ذلك. فقد انتابني شعورٌ قلِق بأن ثورندايك كان قد خرج قليلًا عن أصول الآداب القانونية. كان من الواضح أن ذلك هو ما رآه السيد لوريمر، وقد أفصح عنه الآن.
ابتدأ حديثه قائلًا: «لا أودُّ يا سيدي أن أتسبب في تعطيل جلسة الاستماع، لكن يبدو أنَّ ثَمة حيادًا عن الإجراءات المعهودة من جهة الخَصم، أشعر أني مُلزَم بالاعتراض عليه. أرى أن صديقي الموقر يُثير معضلة جديدة بالكلية، لم نكن على دراية بها، ويَعرِض مستنداتٍ تدعمه — أعني الصور الفوتوغرافية — لم يُعلِمنا بوجودها.»
وافقه القاضي بابتسامة قائلًا: «لا شكَّ أن المستشار الموقر قد فجَّر لنا مفاجأة صغيرة.»
وهنا التفتَ بنظرةٍ تحمل شيئًا من التساؤل إلى ثورندايك، الذي نهض للرد عليه.
«لا أُنكر يا سيدي القاضي أني أَدين لزميلي الموقَّر ببعض الاعتذار، لكني أُقِر بأن إثارةَ إشكاليةٍ جديدة هو الظاهر فقط. فهذه القضية تنطوي في الواقع على إشكاليتَين؛ أما الأولى فهي ما إذا كانت السيدة المعروفة باسم لوتا شيلر، التي اختفَت في غابة إيبنج، من المفترض أنها متوفَّاة أم لا؛ والأخرى هي ما إذا كانت تلك السيدة هي الموصية. لقد افترَضْنا جميعًا أن لوتا شيلر التي كانت تقطن بشارع جيكوب هي نفسُها لوتا شيلر الموصية. فلم يَبدُ أن ثمة ما يدعو إلى التشكيك في هُويَّتها. مع ذلك، رأيت، زيادةً في الاحتياط، أنه من الأحرى أن أختبرَ صحة افتراضنا ذاك؛ فكانت النتيجةُ غير المتوقعة هي أنه يبدو الآن أن ثَمة بعضَ الشك في أننا نتعامل مع شخصيتَين مختلفتين.»
ابتسم كلٌّ من لوريمر والقاضي ابتسامةَ إعجاب بمراوغته العبقرية، وردَّ سيادة القاضي قائلًا:
«هذا صحيحٌ تمامًا، مع أنه لا يرد اعتراض المستشار الموقر. لكن مسألة الهُوية أُثيرت بالفعل، وبالطبع كان يجب حسمُها قبل النظر في المسألة الأخرى. لذا فالسؤال الآن هو، ماذا عسانا أن نفعل بشأنها؟ لقد ذكرتَ في مرافعتك الافتتاحية أنك ربما تطلب التأجيلَ للسماح لك بتقديم إفاداتٍ خَطية أو استدعاء شهود. فهل تنوي طلب التأجيل الآن؟»
أجاب ثورندايك قائلًا: «أعتقد يا سيادة القاضي أنه في ضوء تضارُبِ أقوال الشهود، نحن بحاجة إلى شهادات جديدة، وأنا أرغب في استدعاء شهود؛ لكن لأن أولئك الشهودَ سيتعيَّن عليهم الحضورُ للاستجواب، فأنا لا أرى داعيًا إلى تقديم إفاداتهم الموثقة؛ إذ سيُوفر عدمُ تقديمها الوقتَ. نحن الآن على مشارف عطلة نهاية الأسبوع، وأعتقد أن سيادتك ستُوافق على ذلك وأن زميلي الموقر سيتَّفق معي، وبإمكاننا أن نجتمع أنا وهو خلال تلك الفترة وهكذا نتجنب الحاجة إلى التأجيل.»
بدا القاضي مرتابًا بعضَ الشيء من هذا الاقتراح، لكن لما أبدى لوريمر موافقته عليه، وكان من الواضح أنه يتعجَّل المضيَّ قُدمًا في تلك القضية، وافق سيادته على ذلك الاتفاق ورفع الجلسة إلى حينِ انقضاء عطلة نهاية الأسبوع.
لما رُفِعت الجلسة، التفت لوريمر إلى ثورندايك وتحدث إليه بصوتٍ خافت. ثم سارا معًا إلى طاولة المحامين، وخاضا نقاشًا قصيرًا مع تيرنر ولونجفيلد، وعادا بعدها، ثم انطلقنا معًا باتجاه تيمبل.
قال ثورندايك: «لقد رتَّبنا أمر الاجتماع. يُفضِّل المحاميان أن يتركا لنا نحن المستشارين ترتيبَ الأمر؛ لذا سنتناول الغداء أنا ولوريمر معًا ثم نجتمع في مسكنه لأجل التناقُشِ في الأمر. بهذا سنكون بلا أيِّ مشاغل خلال عطلة نهاية الأسبوع.»
وعلى ذلك، بعدما خلَع باروكته وعباءته، انطلق مع خَصمه الموقر ولم أرَه ثانية حتى الساعة الحادية عشرة تقريبًا، حين عاد إلى مسكننا في مِزاج جيد اتضحَت أماراته عليه.
سألته: «كيف سارت الأمور مع لوريمر إذن؟»
أجاب: «على نحو جيد جدًّا. إنه رجل عقلاني جدًّا ولم أُواجه صعوبةً في إقناعه بوجهة نظري. اضطُرِرت إلى إخباره بأكثرَ مما وددت، لكن بما أننا كنا بمفردنا، فلا يُهم.»
«وعلامَ اتفقتما؟»
«اتفقنا على النظر في أمر الهُوية كقضية مستقلةٍ يجب التوصلُ إلى حسمها على نحوٍ قاطع قبل الانتقال إلى القضية الأساسية. أفهمتُه أنه أيًّا ما كانت النتيجة، فلن يكون لها تأثيرٌ على قضيته.»
صحت متعجبًا: «حقًّا! أود أن تُفهمني أنا أيضًا ذلك. فأنا أرى أنه حالَ ثبوت ادِّعائك بأنهما شخصيتان مختلفتان، ستنهار قضيتُه على الفور.»
نظر إليَّ بابتسامة حانقة. «أتدري يا جيرفيز، سببُ ذلك هو أنك لم تتَقصَّ الأدلة في هذه القضية، ولم تُعمِل الفِكر بما يكفي في دلالتها. قلِّبِ الأمر في رأسك من الآن وحتى الاثنين القادم وانظر إن كان باستطاعتك أن تتوقَّع المفاجأة التي أنوي الكشفَ عنها في الجلسة القادمة.»
اضطُرِرت إلى الاكتفاء بذلك التلميح المسيلِ للُّعاب. بالطبع، لم أتكبَّد عناء «تقليب الأمر في رأسي». فقد أدركتُ أن بولتون كان محقًّا كالعادة. فمكائد ثورندايك الشيطانيةُ التي كان يَحيكها خلف باب معمله كانت بمثابةِ تمهيد «لمفاجأة صغيرةٍ لشخصٍ ما»، وأنني سأكون أحدَ المتفاجئين.