المفتش ميلر يتدخل
لا أعرف جيدًا ما جرى خلال عطلة نهاية الأسبوع. فقد قضى ثورندايك يوم السبت في أغلبه خارجَ المنزل، وافترضتُ أنه يُتمم ترتيباته النهائية؛ وهو افتراض أكدَته رسالة هاتفية جاءت في وقتٍ متأخر من المفتش ميلر يطلب مني «إبلاغ الدكتور بأن الآنسة ريندل تلقَّت الإخطار، وأنها ستحضر جلسة المحكمة يوم الاثنين.» لم أعرف مَن عساها تكون الآنسة ريندل، ولم أسأل. فحينئذٍ كان فضولي معطلًا مؤقتًا.
لكني عرَفت معلومة صغيرة. فحين عثرتُ على بولتون في المعمل ليس لديه ما يفعله، لُمتُه مداعبًا بشأن ساعة السيد سنوبر، التي أشرتُ إلى أنها عار على مؤسسة تضمُّ بين موظفيها حِرْفيًّا من الطراز الأول. وأنهيتُ حديثي قائلًا: «أعتقد حقًّا أنه كان عليك أن تُعطيَه شيئًا ليس عتيقًا إلى ذلك الحد؛ مراعاةً لسمعة المكتب. فقط اجعله يُريك إياها.»
نظر لي بولتون بابتسامة خبيثة وعريضة. «لقد رأيتُها يا سيدي؛ في الواقع، أنا مَن صنَعتها. لكنها ليست ساعة، مع أن لها عقاربَ يمكن ضبطُ الوقت منها مراعاةً للشكل. هي في الحقيقة كاميرا؛ لكن السيد سنوبر يحمل ساعته في جزء آخرَ من الجيب نفسِه.»
صِحت مندهشًا: «كاميرا! لكن لا يُمكن أن تكون أكثرَ من مجرد لعبة.»
قال بولتون معترفًا: «حسنًا، هي ليست كاميرا فعليَّة؛ بل مجرد بديلٍ مؤقَّت. لكنها تفي بغرض السيد سنوبر؛ إذ بالإمكان استخدامُها في أيِّ مكان دون أن يُلاحظ أحد، وصورة فوتوغرافية رديئة بالنسبة له أفضلُ من عدمِها. إنها بمثابة توثيقٍ كما تعلم يا سيدي.»
«وأيَّ نوع من الصور تلتقط؟»
«أفضلَ مما تتصوَّر يا سيدي. حجمُ صورتها السلبية نصف بوصة في خمسة أثمان بوصة، ويُمكن تكبيرُها حتى أربع بوصات في خمس بوصات. فلها عدسةٌ رائعة صغيرة ووضوحُها مثالي. ربما تودُّ أن تراها. لقد أحضرتها من أجل إعادة شحنها.»
أخرجَ الساعة الضخمة المضلِّلة من أحد الأدراج وأراني إياها بزهوٍ مُبرَّر؛ إذ كانت معجزة تُبرهن على براعته في منظومة تغيير الفيلم التي كانت تضبط أيضًا الغالق، وكذلك منظومة لضبط العقارب. لكن كان الأكثر إثارة للدهشة هو صورها السلبيَّة المتناهية الصغر، والواضحة إلى حدٍّ دقيق، التي أطلعَني بولتون عليها أيضًا، والنسَخ المكبَّرة الواضحة والرائعة منها، التي جعلَتني أنظر إلى الساعة وصانعها نظرةَ احترام جديدة.
قضى ثورندايك معظم اليوم التالي في معمله الخاص، يُجري حسب ظني بعض التحضيرات الأخيرة لاستئناف جلسة الاستماع. لكن لم يكن لديَّ أدنى فكرة عن طبيعتها، ولم أُحاول تخمينها. فقد تخلَّيت عن محاولة حلِّ ذلك اللغز، واحتفظتُ بفضولي من أجل الكشف الموعود في اليوم التالي.
على ما يبدو أني لم أكُن الوحيدَ الذي اتخذ هذا الموقف؛ فحين اتخذنا مقاعدَنا بقاعة المحكمة صباحَ يوم الاثنين، استشففتُ في السيد لوريمر ترقبًا حَثيثًا؛ وما إنِ اتخذ القاضي مقعدَه حتى نظر إلى مستشار المدَّعية بفضولٍ واضح؛ فنهض لوريمر كي يُدلِيَ بما لديه.
«كنتُ قد اجتمعت مع زميلي الموقر خلال عطلة نهاية الأسبوع واتفقنا، بعد موافقة سيادتك، أن نُعامل مسألة الهوية باعتبارها مسألةً منفصلة يجب حسمُها قبل سماع أيِّ شهادات أخرى بشأن المسألة الرئيسية.»
قال القاضي: «أرى أن تلك خطوةٌ منطقية. فمن البدهيِّ أنه لن يكون ثَمة طائلٌ من النظر في أمر افتراض الوفاة حتى نعلمَ هُوية الشخص المُلتَمَسِ افتراضُ وفاته. هل لديك أيُّ شهود جدد؟»
«أجل يا سيدي. أطلب استدعاء السيد كارل شيلر، زوجَ الموصية، الذي قُدِّمَت إفادته الموثقة. وبعد أن يُدلي بشهادته، ونظرًا إلى عدم توفر شهودٍ آخَرين لديَّ بشأن مسألة الهوية، اتفقتُ أنا وزميلي الموقر بعد موافقة سيادتك على عرض شهادته في أسرع وقت.»
أومأ القاضي برأسه، فاعتلى السيد شيلر منصة الشهود ووقف يُصغي بإمعانٍ أثناءَ تلاوة إفادته. كانت قصيرةً جدًّا، ولم يَرِد فيها سوى أنه لم يرَ زوجته أو يَرِدْه منها أو عنها خبرٌ منذ أكثرَ من ثلاث سنوات، وأنه لا يعلم إن كانت حيةً أم ميتة. حين انتهت القراءة، أخذ لوريمر حافظةَ الصور التي ناوله إياها ثورندايك، وأعطاها للشاهد.
قال: «ثمة بعضُ التضارب في الأقوال بشأن أيٍّ من الصور الموجودة في تلك الحافظة هي صورةٌ حقيقية لزوجتك. هلا تفضَّلت بالنظر إليها لترى ما إذا كان بإمكانك أن تحسم لنا تلك المسألة؟»
فتح السيد شيلر الحافظةَ ونظر بمنهجية إلى كامل محتوياتها، وكانت سبعَ أو ثمانيَ صورٍ فوتوغرافية. وبعد أن نظَر إلى الصور كلِّها، اختار واحدة ورفع يده بها كي نراها؛ فرأيت أنها رسمةُ بيدلي، أو بالأحرى نسخةٌ منها.
قال متحدثًا بلكنة ألمانية ملحوظة: «تلك الوحيدة التي تبدو لي أنها تُشبه زوجتي، بل وتشبهها إلى حدٍّ كبير جدًّا. أما الصور الأخرى فلا أعرفها على الإطلاق.»
فوجئتُ كثيرًا، وكذلك القاضي حسَبما رأيت؛ إذ تتعارض شهادةُ شيلر تعارضًا مباشرًا مع شهادة الآنسة دالتون (التي لم تكن حاضرة حينها). لكن لم يكن ثمة ما يُقال بعد أن نظر الشاهدُ بإمعانٍ إلى مجموعة الصور الفوتوغرافية كاملة، ولما لم يُشكِّك القاضي أو ثورندايك في شهادته، سُمِح للشاهد بمغادرة منصة الشهود وعاد إلى مقعده، أو بالأحرى إلى مقعدٍ في الطرف الأقصى من المقعد، ثم استدعى ثورندايك شاهدتَه الأولى، وتُدعى ماتيلدا وارتون؛ فاعتلَت امرأةٌ عجوزٌ ذات مظهر حسنٍ منصةَ الشهود.
سألها ثورندايك: «ما عُنوانك كاملًا يا سيدة وارتون؟»
«أنا أقطن في ١٦ شارع كوربي، وهو شارع متفرع من طريق لينتون جرين.»
«هل عرَفتِ لوتا شيلر يومًا؟»
«أجل، استأجرَت غرفة سكنية لديَّ لثلاث سنوات.»
«هل كان زوجها يعيش معها؟»
«كلا. كان كثيرَ السفر، لكنه حين يكون في لندن كان يزورها وكانا يخرجان معًا. لكنه لم يُقِم في المنزل قط. أعتقد أنه كان يُقيم في فنادق.»
«كيف كانت علاقتهما؟»
«بدَت لي وُدية جدًّا، بيد أنها لم تكن عاطفية؛ لكن قبل أن تترك المنزل بفترة قصيرة، بدا أنَّ خلافًا ما قد نشب بينهما؛ إذا صارت تصرُّفاتُها غريبة نوعًا ما وبدا أنها تتحاشاه.»
«متى تركَت السكنَ لديك وفي أيِّ ظروف؟»
«ترَكَت السكن لديَّ يوم ١٣ يونيو ١٩٣٠م. خرجَت في الصباح ولم تَعُد؛ لكنها أرسلَت لي برقيةً تُخبرني فيها أنها رحلَت وأنها ستُراسلني. لم تُراسلني قط، لكن بعد بضعةِ أيام، أتى زوجها إلى المنزل وأخبرني أنها تلقَّت فجأة استدعاءً إلى خارج البلاد ولن تعود قبل بضعة شهور. دفع لي ما كانت تَدين لي به وأخذ متعلقاتها، وكان كمانُها من ضمن هذه المتعلقات. ومنذ ذلك الحينِ لم أرَها أو أسمع عنها شيئًا.»
«هل كان ثمة أيُّ أمر لافتٍ بشأن الطريقة التي غادرت بها؟»
«لقد كانت غريبة نوعًا ما. فلم تذكر أيَّ شيء عن الرحيل قبل خروجها، ولم تأخذ معها شيئًا عدا ما كان عليها من ثياب.»
«خلال فترة إقامتها لديك، هل كانت تستقبلُ زوارًا كُثرًا؟»
«كلا. كانت الآنستان دالتون تمران بها أحيانًا لزيارتها أو اصطحابها للخروج؛ وجاء السيد مونتاجو — ذلك الرجل المسكين الذي قُتِل — لزيارتها أو اصطحابها معه للخروج مرةً أو مرتين.»
في تلك اللحظة فجَّر ثورندايك لي — بل للجميع — أولى مفاجآته؛ إذ أخرج من الحقيبة لوحةً صغيرة بألوان الزيت، أدركتُ أنها رسمٌ لبيدلي رأيته معلقًا على الجدار في غرفة بولتون الخاصة.
قال وهو يُمررها إليها: «أريد منك يا سيدة وارتون أن تُلقي نظرةً على هذه اللوحة وتُخبريني إن كانت الشخصيات الموجودة بها تُذكِّرك بأشخاص بعينهم.»
تفحَّصَت الشاهدةُ اللوحةَ عن كَثب، ثم مدَّتها بطول ذراعها ونظرت إليها.
قالت بحذر: «بالطبع لا أستطيع التعرُّف على أيٍّ من أولئك الأشخاص، لكن المرأة تُشبه السيدة شيلر كثيرًا.»
«تُشبهها من أي جانب؟»
«أعتقد في الثوب في الأغلب. فهو ثوبٌ غريب نوعًا ما والسيدة شيلر كانت تملك واحدًا مثله تمامًا؛ في الواقع كانت ترتدي ذلك الثوبَ عينَه صباحَ اليوم الذي رحلَت فيه. لكنَّ هيئتها العامة تُشبهها أيضًا، وكذلك لون شعرها. لكنه مجرد شَبه. لا أقول إنها هي بالفعل. فكما ترى، ليس ثَمة ملامحُ يُمكن تمييزها بها.»
«وبالنسبة إلى الشخصيتين الأُخريَين؛ هل يُذكِّرانك بأي شخص تعرفينه؟»
نظرت السيدة وارتون إلى اللوحة مرة أخرى بإمعان. وأخيرًا أجابته بنبرةٍ حملَت شيئًا من التردد والشك قائلة:
«إنه مجرد تخمين؛ إذ إنهما يُولِيَانا ظهرَيهما، لكني أعتقد أن الرجل الأطول بينهما يُذكرني بالسيد مونتاجو بعض الشيء. كنت أراه كثيرًا في الشارع، وكان دائمًا يرتدي ثيابًا على ذلك الطِّراز، وكان من عادته أن يُلوح بمِظلَّته أثناء حديثه، مثلما يفعل ذلك الرجل فيما يبدو؛ ويبدو أن المظلة التي في اللوحة لها مقبضٌ عاجي كمقبض مظلته. كما يبدو أن قامته بالطول نفسِه تقريبًا، مقارنةً بالرجل الآخر. ومع ذلك، لا أدَّعي أن بمقدوري التعرفَ عليه.»
قال ثورندايك: «بالطبع لا تستطيعين، لكن عليَّ أن أُهنِّئك على ذاكرتِك وقوة ملاحظتِك. والآن سأُجرب معكِ شيئًا احتمالُ التيقُّن منه أكبر.»
في تلك اللحظة، أخرج الحافظةَ المعهودة ومرَّرها إليها. وفي الوقت نفسِه، أعطيتُ اللوحة للقاضي، الذي نظر إليها بفُضول قبل أن يُعيدها، ولاحظتُ أن لوريمر قد عاينها باهتمام تجاوز ذلك الاهتمامَ الفاتر الذي يُوليه عادةً للأحراز. لكن الاهتمام الآن كان مُنصبًّا على السيدة وارتون، التي كانت تنظر إلى مجموعة الصور الشخصية بعناية شديدة كما طلَب منها ثورندايك. بعد أن فحصتها جميعًا، اختارت منها اثنتَين بتروٍّ شديد، ورفعَتهما ووَجْهاهُما مقابلانِ لنا، فرأيتُ أنهما الصورتان اللتان تعرَّفَت عليهما الآنسة دالتون.
قالت: «هاتان الصورتان هما للسيدة شيلر. هما لا تُظهرانها بأفضلِ مظهر، لكنهما تُشبهانها إلى حدٍّ كبير جدًّا.»
نظر إليهما القاضي وقد ارتسمَت على وجهه الدهشةُ وشيءٌ من الحيرة، ثم نظر إلى ثورندايك، الذي، بعد أن استعاد الحافظة، أخرج منها رسمَ بيدلي ومرره إلى الشاهدة.
«ماذا عن هذه؟ يُفترض أنها صورة شخصية للسيدة شيلر. فهل تُشبهها كثيرًا؟»
نظرَت إليها الشاهدة بدهشةٍ واضحة. وبعد فحص مطوَّل، أعادتها وهي تهز رأسها نفيًا.
قالت: «لا أظن أنها من الممكن أن تكون للسيدة شيلر. فلا أرى أنها تُشبهها على الإطلاق. تبدو لي امرأةً مختلفة تمامًا.»
بالطبع زاد ذلك من حيرة القاضي؛ إذ طلب إحضارَ الحافظة إليه، وحين وصلته، رصَّ الصور الشخصية الثلاث في صفٍّ على مكتبه وقارنَ بينهم مقارنةً طويلة ودقيقة. لكن مِن الواضح أنه لم يستنتجْ شيئًا منها؛ إذ جمَعها أخيرًا ونظر إلى ثورندايك رافعًا حاجبَيه، ثم أعاد إليه الحافظة.
من بين الوافدين الجدُد إلى قاعة المحكمة، لاحظتُ امرأة شابة ذاتَ مظهر متحفِّظ نوعًا ما، ترتدي زيًّا موحدًا مهندمًا ولائقًا، ذكَّرني بفكرة «الحجز» أو ما كان متعارفًا عليه باسم «السجن». وهو ما تبيَّن لي أنه صحيح؛ فبعد أن غادرَت السيدة وارتون منصةَ الشهود — إذ لم يجرِ استجوابها من جهة الخَصم — حلَّت مكانَها تلك السيدة، وجلسَت في مواجهة ثورندايك برِباطة جأش مِهْنية، وقدمَت نفسها بأنها الآنسة جوليا ريندل، ضابطةٌ بسجن هولواي. بعد ذلك مباشرة أخرج ثورندايك الحافظة المعهودة؛ لكنه تلك المرة لم يُمررها إلى الشاهدة. بل فتحها وتخيَّر من بين مجموعة الصور الصورتَين اللتين تعرفَت عليهما السيدة وارتون، ثم أرسلهما إلى السيدة كي تُعاينَهما.
سألها: «هل تعرفين هاتين الصورتين يا آنسة ريندل؟»
أجابت دون تردُّد: «أجل. هما نسختان غيرُ مكتمِلتين من صورتين شخصيتين التُقِطتا في السجن لسجينةٍ تُدعى لويزا سوندرز، أو هكذا تُعرَف.»
سألها وهو يُناولها صورتَين أُخريَين أخرجهما من الحقيبة: «وهل تعرفين هاتين؟»
«أجل. إنهما الصورتان الشخصيتان الأصليتان، أو نسختان مطابقتان لهما.»
«هل يُشبهان لويزا سوندرز كثيرًا؟»
«أجل، يُشبهانها للغاية. فقد تعرفتُ عليهما في الحال.»
«متى رأيتِ لويزا سوندرز لأول مرة؟»
«يوم ١٣ يوليو ١٩٣٠م، في سجن الاستقبال المسائي. كان قد أُلقي القبض عليها صباح ذلك اليوم وظلت في الحجز.»
«هل تعلمين أي تفاصيل بشأن التهمة التي ألقي القبض عليها بسببها؟»
«أجل. لقد رافقتُها، هي وموقوفاتٍ أخريات، إلى محكمة الشرطة وحضرتُ جلسة الاستماع. كانت متهَمةً بتداول ورقة نقدية مزيَّفة فئةَ الجنيهِ الإسترليني وحيازةِ أربع ورقات نقدية مزيفة أخرى.»
«هل كان ردُّها على التهمة «مذنبة» أم «غير مذنبة»؟»
««غير مذنبة». قالت إن تلك الأوراق النقدية أُعطِيَت لها وسط حُزْمة منها وإنها لم تشتبهْ في أنها مزيفة.»
«هل قُدِّم أيُّ دليل يُثبت أنها كانت تعرف أن الأوراق مزيفة؟»
«كلا. الدليل الوحيد الذي قُدِّم ضدها كان يُثبت فحَسْب أنها دفعَت الورقة النقدية المزيفة ثمنًا لبعض المشتريات، وأن الأوراق المزيفة الأخرى كانت بحوزتها. لكن لأنها رفضَت أن تُفسِّر موقفها، أو أن تذكر من أين حصلَت على تلك الأوراق، أو ممن أخذَتها، أُدينَت ونالت حكمًا بالحبس لمدة ستة أشهر.»
«من واقع خبرتك، هل كان ذلك حكمًا معتادًا بالنسبة لذلك الجُرم؟»
«كلا. بل أرى أنه كان حكمًا مخفَّفًا على نحوٍ غير معتاد.»
«هل ذكرت السجينة أيَّ عنوان لها؟»
«كلا. لم تذكر أي تفاصيلَ عن نفسها سوى اسمها.»
«هل كان ثمة ما يُثبت أن لويزا سوندرز هو اسمها الحقيقي؟»
«كلا، عدا أن ملابسها كانت منقوشةً بالحرفَين الأوَّلَين من اسمها «إل إس».»
«هل كانت متزوجة أم عزباء؟»
«رفضَت الإدلاء بأي معلومات عن نفسها، لكن لما كانت ترتدي خاتم زواج، فقد أدرَجْناها في السجلات باعتبارها متزوجة.»
«أثناء وجودِها في السجن، هل قُصَّ شعرها؟»
«كلا. كان قصيرًا نوعًا ما حين دخلَت السجن، وكان نظيفًا تمامًا فلم يكن ثمة حاجةٌ إلى ذلك.»
«هل تذكرين طوله وقت إطلاق سراحها؟»
«حسَبما أذكر، كان قد بلغ كتفَيها تقريبًا.»
«متى أُطلِق سراحها؟»
«ظُهر يوم ١٢ ديسمبر ١٩٣٠م.»
«أظنك لا تذكرين ما إذا كان أحدٌ قد استقبلها حين غادرت السجن، أليس كذلك؟»
«بل أذكر في الواقع. فقد تصادف أنْ كنتُ واقفة أمام السجن في ذلك الوقت، ورأيت رجلًا يبدو أنه كان بانتظارها على ناصيةِ طريق هيلمارتون. وعبَرَت الطريق وذهبت إليه.»
«هل تذكرين شكله؟»
«ليس بوضوح. لم أُمعِن النظر إليه ولن أتعرفَ عليه لو رأيتُه. كل ما أذكره عنه هو أنه كان رجلًا يبدو مهندمًا وقصيرًا نوعًا ما.»
«لقد رأيتِ السجينة سوندرز في سجن الاستقبال يوم القبض عليها، ورافقتِها إلى محكمة الشرطة؛ ورأيتِها في الشارع يوم أُطلِق سراحها. هل تذكرين ماذا كانت ترتدي في تلك المناسبات الثلاث؟»
«أذكر أنها كانت ترتدي ثوبًا لافتًا للنظر نوعًا ما له كمَّان يختلف لونُهما عن صِداره وتنورته.»
حينئذٍ أخرج ثورندايك رسم بيدلي ومرَّره إلى الشاهدة.
قال: «أُريدك أن تُمعِني النظر إلى تلك الصورة وتُخبريني ما إذا كانت تستدعي أيَّ شيء في ذاكرتك.»
نظرت الشاهدة إلى اللوحة بانتباهٍ لبضع لحظات، ثم أجابت:
«تلك المرأة التي في الصورة تُذكِّرني بشدة بلويزا سوندرز. إنها تُشبهها في القوام ولون الشعر، وثوبها يُشبه تمامًا ذلك الذي كانت ترتديه سوندرز حين دخلَت السجن وحين خرَجَت منه. بالطبع لا أستطيع الجزمَ بأنها سوندرز؛ لأن ملامح وجهِها غيرُ ظاهرة، لكن عدا ذلك، يبدو الشبهُ بينهما تامًّا.»
بهذا انتهى استجوابُ الشاهدة من قِبَل مستدعيها، وعندما جلس ثورندايك، نهض لوريمر لاستجوابها.
سألها: «أليس من الغريب أنك تذكرينَ السجينة بذلك الوضوح الشديد بعد مرور تلك الفترة الطويلة؟»
أجابته: «لا أظن ذلك. فضابط السجن يُتوقَّع منه أن يكون قادرًا على تذكُّر السجناء وتمييزهم، كما أن سوندرز لم تكن سجينةً عادية. فمعظم النساء اللاتي يأتين إلى سجون الاستقبال يكنَّ من الطبقات الاجتماعية الدُّنيا، كما أن الثوب الذي كانت ترتديه كان مميزًا لدرجة لافتةٍ للنظر.» ثم أضافت الشاهدةُ بابتسامةِ استنكاف: «عِلاوة على ذلك، فإنَّ ضابطات السجن شأنهن كشأن غيرِهن من النسوة، يَمِلْن إلى تذكُّر الأثواب غير التقليدية.»
عقَّب القاضي قائلًا: «من الواضح وفقًا للشهادات أن ذلك الثوب ترَك انطباعًا قويًّا بلا ريب لدى جميعِ النسوة اللاتي رأينَه؛ إذ إنَّهن جميعًا يتذكَّرنه بوضوح. لكن الصور الفوتوغرافية لا تُظهِره بوضوح، مع أن المرء بإمكانه أن يرى أنَّ لون كُمَّيه وياقته يختلف عن لون صِداره. ما زال للرسَّامين الأفضليةُ على المصورين الفوتوغرافيين.»
قال لوريمر: «هذا فيما يخصُّ الألوان يا سيدي. لا فيما يخصُّ الهوية الشخصية. فلا يسَعُني أن أقول إن أحدًا قد تعرَّف على المرأة التي في اللوحة.»
صاح القاضي: «كلا، كلا، كلا! كنت أُشير فقط إلى لون الثوب. فلم يُشِر أحدٌ إلى أنه تعرف على المرأة نفسِها فعليًّا.»
حينئذٍ تطرَّق لوريمر إلى موضوع جديد؛ «ذكرتِ أنك شهدتِ وقائعَ جلسة المحاكمة بمحكمة الشرطة. هل قُدِّم أيُّ دليل يُثبت أن المتهَمة كانت على دراية تُدينها بطبيعة تلك الأوراق النقدية؟»
«كلا، باستثناء حيازتها للأوراق النقدية وتداوُلِها إحداها.»
«هل كان ثمة دليلٌ يُشير إلى احتمال عدم صحة التفسير الذي قدَّمَته حول كيفية مآلِ تلك الأوراق النقدية إلى حيازتها؟»
«كلا. لكن المشكلة كانت تكمن في رفضها الإفصاحَ عن مصدر تلك الأوراق أو هُوية الشخص الذي أعطاها لها.»
بعد أن حصَل لوريمر على تلك الإجابة، أنهى استجوابه لشاهدة الخَصم بحَصافة بعد أن أثبتَ وجهة نظره، وهي احتمالُ براءة المتهَمة تمامًا بغضِّ النظر عن الحكم الذي نالته. لم أرَ الداعيَ إلى تشديده على تلك النقطة، إلا إن كان قد بدأ ينتابُه الشك نفسُه الذي كان يتسلل إلى ذهني.
كنتُ قد استمعت إلى شهادة الآنسة ريندل بتركيزٍ بالغ؛ وبالطبع فوجئتُ كثيرًا، لا مِن تعرفها على الصور فحسب، بل من التطابق الغريب للتاريخَين أيضًا. لكن تركيزي كان ضعيفًا مقارنةً بتركيز القاضي. فقد أذهله تعرفُ الشاهدة على الصور، وحين ذُكِر تاريخ إلقاء القبض على السجينة، قلَّب سريعًا في دفتر ملاحظاته وأجرى بعض المقارنات، وحين وصلَت إليه الصورُ الفوتوغرافية، وضعها أمامه في صف وقارن بينها سريعًا. لم يكن ثَمة ما يدعو إلى فحصٍ مُطوَّل كما أدركتُ حين وصلَت لي الصور؛ إذ كان من الواضح أن الصور الأربع مصدرُها الصورتان السلبيتان نفساهما. الفارق الوحيد بينها هو أن «الصورتين الأصليتين» يظهر فيهما لوحٌ خشبي أسودُ مكتوب عليه بالطباشير اسمُ السجينة مثبتًا أمام الكرسي الذي تجلس عليه، ويحتل الجزء السفليَّ من الصورة الشخصية، بينما حُجِب اللوح في «النسختين غير المكتمِلتين.»
لكن بجانبي أنا والقاضي، كان ثَمة آخَرون يستمعون باهتمام. فالسيد شيلر كان واعيًا تمامًا، مع أنه كان لا يزال يتظاهرُ بإغماض عينَيه. وكان المفتش بلاندي يُتابع الشهادة بتركيزٍ شديد؛ وكان المفتش ميلر، الذي انسلَّ بهدوء إلى قاعة المحكمة في وقتٍ سابق برفقة صديقي الدكتور أولدفيلد، يُصغي ويُتابع باهتمام، مع أنه حتمًا كان يعرف كلَّ ما ذكَرَته الآنسة ريندل في شهادتها.
حين غادرَت الشاهدةُ الأخيرة منصةَ الشهود بوقار، ألقى القاضي نظرةَ ترقُّبٍ سريعةً إلى ثورندايك، ثم نُودي اسمُ الشاهد التالي، فتقدَّم الدكتور جيمس أولدفيلد كي يُدلِيَ بالقسَم وبشهادته.
في حالته، كما في حالة الشاهدة السابقة، بدأ الاستجوابُ بتمرير النسختين «غير المكتملتين» من الصورتَين الشخصيتين.
قال ثورندايك: «هلَّا نظرتِ إلى هاتَين الصورتين يا دكتور أولدفيد، وأخبرتِنا ما إذا كانتا لشخصٍ ربما تكون قد قابلتِه يومًا؟»
فحَص أولدفيلد الصورتين بدقةٍ لِما يقرُب من دقيقة، وفيما كان يتطلَّع إليهما، تسلَّل إلى وجهه تدريجيًّا تعبيرٌ ينم عن دهشة التَّعَرُّف. وأخيرًا قال بحذر:
«يبدو لي أن هاتَين الصورتين لإيما روبي، تلك السيدة التي قُتِلَت منذ حوالي عامَين في المنزل رقم ٣٩ بشارع جيكوب، طريق هامبستيد.»
«هل بوسعك أن تجزم بأن الصورتين الشخصيتين هما لإيما روبي؟»
«لا أميل إلى أن أُقسِم يقينًا بأنهما كذلك. فقد كانت الوفاة مرَّت عليها ثلاثة أسابيع حين فُحِصت جثتُها، وكانت بعضُ التغيرات قد طرأَت عليها. لكنَّ لديَّ اعتقادًا قويًّا بأنها صاحبةُ هاتين الصورتين. هل يُمكن أن يُسمَح لي بالرجوع إلى ملاحظاتي؟»
سأله القاضي: «متى دوَّنتَ تلك الملاحظات؟»
«دونتُها في المشرحة في وجود الجثة، وقارنتها وتأكدتُ منها نقطةً تلو الأخرى بعد أن دونتُها.»
قال القاضي: «إذن، بوسعك الرجوع إليها بالتأكيد.»
حينئذٍ أخرج أولدفيلد من جيبه دفترًا صغيرًا، وفتحه على صفحة مميزة بعلامة، ثم أجرى مقارنة منهجية بين الملاحظات والصورتَين الفوتوغرافيتين. وبعد أن انتهى، أعلن قائلًا:
«لقد قارنتُ الوصف المذكور في الملاحظات، تفصيلةً بتفصيلة، مع الصورتين الفوتوغرافيَّتين، ووجدتُهم متطابقين في جميع الجوانب عدا واحدًا. ألا وهو أن شعر المرأة في الصورة الفوتوغرافية أقصرُ من شعر الجثة وقت فحصها.»
«هل دوَّنت طول الشعر بالضبط؟»
«لم أقِسْ طوله، لكني دونتُ في الوصف أنه يكاد لا يتجاوز الكتفَين.»
«بخلاف ذلك الاستثناء، هل تجد تطابقًا تامًّا بين الوصف الذي دوَّنتُه والصورتين الفوتوغرافيتين؟»
«أجل؛ التطابق بينهم تامٌّ في كل تفصيلة.»
«وبخلاف الوصف المكتوب، هل ترى أن الصورتين الشخصيتين تُشبهان إيما روبي؟»
«أجل. فور أن رأيتُ الصورتين الفوتوغرافيتين، شعرتُ أنهما صورتان لامرأةٍ رأيتها من قبل، وحين حاولتُ أن أتذكَّر مَن تكون تلك المرأة، أدركتُ فجأة أنها إيما روبي. الآن بوُسعي أن أقول بلا شك إنها صاحبة هاتين الصورتين الشخصيتين.»
في تلك اللحظة، لفتَ انتباهي السيد شيلر؛ الذي استفاق فجأةً، وأخرج ساعته وتطلَّع إليها مجفلًا، ثم هبَّ واقفًا، وانحنى انحناءةً خفيفة للقاضي قبل أن يشقَّ طريقه ببطء وفي صمتٍ نحو الباب. حين نهض، حذا حذْوَه المفتشُ بلاندي والمفتش ميلر، اللذان انطلَقا في الاتجاه نفسِه دون أن يَلفِتا الأنظارَ إليهما. تابعتُ ثلاثتَهم ببصري في تلهُّف وهم يجتمعون عند المخرج، يتقدمهم شيلر وهو يُسرع الخطى قليلًا. خرَجوا من الباب واحدًا تلو الآخر، وفيما تأرجح الباب بصخب بعد خروج آخرِهم، أمسك القاضي (الذي كان يُتابع أيضًا مشهد الخروج الجماعي) الصورتَين الفوتوغرافيتين في يده وعقب قائلًا:
«هذا أمر غريبٌ للغاية. هاتان الصورتان الفوتوغرافيتان تعرف عليهما الشهودُ الآن عن ثقةٍ بأنهما لثلاث سيدات مختلفات.»
قال ثورندايك: «افتراضي يا سيدي هو أن هؤلاء النسوة الثلاث لسنَ سوى امرأةٍ واحدة.»
قال القاضي: «هذا يبدو …» ولكن في هذه اللحظة رُطِم الباب المتأرجح رطمةً قوية جعلَته ينفتح للداخل، وعبْرَه تسلَّل صوتٌ بدا كصوت عراك بين عدة أشخاص، مختلطًا بأصواتٍ بشرية منخفضة لكن منفعِلة. ثم في خِضَم الأصوات المتداخلة، دوَّى صوتُ طلقٍ ناري. وفيما تأرجح الباب منغلقًا، انخفضت الأصوات وابتعدَت أكثر. بعد وقت قصير، وبإشارةٍ من القاضي، أسرع الحاجب إلى الباب، وبعد أن استرقَ النظر إلى الخارج بحذر، اختفى وراء الباب الذي تأرجح حتى انغلق وراءه. ساد الصمتُ لبرهة انتظرنا جميعًا خلالها مترقِّبين. ثم ظهر الحاجبُ مرة أخرى، برفقة المفتش ميلر، وقال على الملأ:
«سيدي، هذا الضابط لديه ما يودُّ إبلاغ سيادتك به.»
لم يُعلق القاضي، بل نظر مستفسرًا إلى ميلر، الذي تقدم إلى منصته وأبلغه «بما لديه».
قال: «عليَّ أن أُبلغ سيادتك بأن السيد كارل شيلر قد أُلقي القبض عليه للتوِّ بتهمة قتلِ زوجته.»
سأل القاضي الذي لم يَبدُ مفاجَأً بقدر ما بدا مهتمًّا: «هل من المسموح لك بذكر أيِّ تفاصيل بخصوص تلك التهمة؟»
رد ميلر: «مسموحٌ تمامًا يا سيدي؛ إذ إن السجين سيَمثُل أمام قاضي التحقيق على الفور. لقد اعتُقِل بِناءً على معلومة مؤكَّدة تلقَّيناها من الدكتور ثورندايك، أما التهمة فهي أنه في يوم ١٢ ديسمبر من العام ١٩٣٠م، في المنزل رقم ٣٩ شارع جيكوب، طريق هامبستيد، قتَل المتهَمُ زوجته، لوتا شيلر، بإجبارها على تناول السُّم.»
قال القاضي: «أها، المنزل رقم تسعة وثلاثين شارع جيكوب. إذن فمأساة غابة إيبنج، إن كانت قد وقعَت بالفعل، لا علاقة لها بقضية هذه المرأة المسكينة؟»
قال ميلر مؤيدًا: «لا علاقة لها على الإطلاق يا سيدي.»
فكَّر القاضي لبضع لحظات، ثم خاطب هيئة المحكمة المكونة من المستشار والمحاميَيْن قائلًا:
«لقد سمعتم الإعلانَ المذهل الذي أدلى به هذا الضابط. من الواضح أن هذه المعلومة الجديدة تستدعي على الأقلِّ تعليق إجراءات هذه الدعوى. فإن كان ثَمة دليلٌ على أن لوتا شيلر قُتِلَت، فحتمًا سيكون هناك دليلٌ على أنها ميتة، وإن أمكنَ إثباتُ وفاتها، فإن ذلك الإثبات يستبعد فكرة افتراض تلك الوفاة. لذلك سوف تُرفَع الجلسة لأجل غير مسمًّى.»
حينئذٍ نهضنا جميعًا. خرج الشهود تدريجيًّا — إذ لم يكن ثَمة حضور — من قاعة المحكمة، وكنا نحن أيضًا نتأهب للمغادرة. لكن القاضي لم يُبدِ أي بادرة للمغادرة. بل مال في مقعده تجاه ثورندايك، وألمح برغبته في الاستزادة من المعلومات. فتقدَّم ثورندايك إلى منصة القاضي، ولم نُبدِ أنا ولوريمر أي حرج كاذب من اتباعه.
قال القاضي: «حسنًا يا دكتور، لما كان مِن الواضح أنك استغللتَ محكمة الوصايا والمواريث لأغراضك الشخصية، أرى أن أقلَّ ما يُمكنك فعلُه أن تُرضِيَ فضولنا المشروع. ما أريد أن أعرفَه الآن هو ما الذي حدَث للسيدة التي انتحلَت شخصية لوتا شيلر في ٣٩ شارع جيكوب، وما الدور الذي لعبَته في الجريمة؟»
أجابه ثورندايك: «لم يكن ثَمة امرأة يا سيدي. المرأة التي عُرِفَت في شارع جيكوب باسم لوتا شيلر لم تكن سوى كارل شيلر متنكرًا ومتبرجًا كامرأة.»
صاح القاضي مندهشًا: «يا إلهي! هذا أمر لا يُصدَّق. هل لديك دليل دامغ على هُويته؟»
أجاب ثورندايك قائلًا: «أجل. كلاهما متطابقٌ في السِّمات الجسدية؛ في الحجم، ولون العينَين، وتكوين الملامح، والشكل المتسق للأذنين.»
قال القاضي معقبًا: «هذا لن يُفيدك كثيرًا في إثبات تهمة عقوبتها الإعدام.»
أيَّده ثورندايك قائلًا: «هذا صحيح. لن يكون له أيُّ جدوى سوى باعتباره دليلًا إضافيًّا. لكنَّ ثَمة دليلًا واحدًا قاطعًا. فقد فاقت رأفةُ العناية الإلهية بنا رأفتَها بالمجرم. فمن المصادفة أن كارل شيلر يملك شعرًا من نوع نادر للغاية.»
قال القاضي مندهشًا: «أها! ثمة شيءٌ غريب بشأن الشعر، أليس كذلك؟ عندما نظرت إلى القلادة، خطَر لي أن الشعر الذي بداخلها يبدو غريبًا في شكله. إنه غريبٌ للغاية، أليس كذلك؟»
«ليس هذا فحَسْب يا سيدي. إنه يُمثل أحدَ أندر الظواهر الشاذة. هذا الشعر المُحلقن، كما يُطلَق عليه، تتميز كلُّ شعرة منه بحلقات فاتحة وداكنة متواترة، وهي حالة نادرة للغاية حتى إنني لم أُقابل مثلها طوال مسيرتي المهنية. لا يوجد سوى بضعةِ أمثلة لها في المتاحف.»
قال القاضي: «هذا مذهل للغاية. لكنَّ العينة الموجودة داخل القلادة، التي أعتقد أنك تعتمد عليها، تعود للسيدة. فهل تعلم يقينًا أن شعر كارل شيلر له هذه السمة؟»
أجاب ثورندايك: «أجل. فقد شَمِلتنا العناية الإلهية بلُطفها هنا أيضًا. أثناء جلسة الاستماع السابقة، وقع حادث غريب للغاية في قاعة المحكمة. فقد عَلِق رأس السيد شيلر بطريقة ما بمسند المقعد، واضطُرَّ شخص كان يجلس في المقعد الذي يليه إلى أن يقصَّ جزءًا من شعره كي يُحرِّره. ذلك الجزء الذي قُصَّ من شعره آلَ إلى حيازتي، وبالطبع فور أن فحصتُه تحت المجهر، استبان لي القاتلُ حرفيًّا.»
التمعَت عينا القاضي. ثم قال: «أها! أتساءل الآن كيف علق رأسُ الرجل بالمقعد. هل تعرف؟»
أجابه ثورندايك قائلًا: «لا أعرف فعليًّا، لكن لدي شكوك معينة.»
قال القاضي: «وأنا كذلك.»