السيد بلاندي
بعد مرور نحوِ أسبوع على رحلته الاستكشافية إلى الغابة، وفي عصر أحد الأيام، كان توم بيدلي في مَرْسمِه عاكفًا على تنظيف اللوحة التي رسَمها في ذلك اليوم. في تلك اللحظة، كان يكشط نتوءاتِ الألوان غيرَ المرغوب فيها بمكشط حاد، ويُسوي السطح تمهيدًا لإضفاء بِضْعة لمسات إضافية «لربط عناصر اللوحة معًا.» لم يكَد يتراجعُ للخلف كي يُلقيَ نظرة عامة على اللوحة حتى دق جرس المرسم في الباحة معلنًا قدوم زائر. فخرج واجتازَ الباحة والممر، ثم فتح البوابة الخارجية الضخمة، ليجد شخصًا ضئيلَ الحجم يحمل حقيبة جلدية.
صاح بنبرةِ ارتياح: «مرحى! إنه السيد بولتون.»
حيَّاه الرجل الضئيل الجسد بابتسامة لطيفة عريضة على نحوٍ غريب وهو يقول: «أجل يا سيدي، ظننت أن بإمكاني زيارتَك …»
قاطعه توم قائلًا: «دعك من ذلك الهراء، فأنت تعلم جيدًا أني أُسَر دائمًا لرؤيتك. تفضل بالدخول.»
قال بولتون فيما كان توم يُغلق البوابة ويقوده عبر الممر: «هذا لطف كبير منك يا سيدي، لكني آمُل ألا أكون قد أزعجتك.» ثم أضاف وهو ينظر سريعًا إلى المكشط: «وأنت تعمل.»
قال توم: «أنا أكشط الزوائدَ فحسب، ولن تُزعجني حالَ أردتُ أن أُتابع العمل. لكن موعد الشاي قد اقترب. يُفترض أن أتوقف عن العمل على أي حال.»
بينما كان يتحدث، نظر إلى ساعة الحائط القديمة، فاتبعَ بولتون بعينَيه موضعَ بصره، ثم أخرج ساعةَ جيب كبيرةً وأشار إلى أن ساعة الحائط تسبقها بعشرِ ثوانٍ تقريبًا، ثم أضاف قائلًا: «ليس سيئًا بالنسبة لساعة عمرها ثلاثمائة عام تقريبًا.»
فيما شرَع توم في مَلء غلاية الشاي، وأوقد شعلة الموقد بعودِ ثقاب، وضع بولتون حقيبته على الطاولة، وفتحها، ثم أخرج منها صُرَّة ملفوفة بقماش الجوخ الأخضر ومربوطةً بشريط. فتحها، وأخرج منها قدحًا مصقولًا ببراعة، وبعد أن مسحه برفق بمنديله، مد يدَه به إلى توم كي يفحصه.
قال: «هذا هو ما أتى بي إلى هنا يا سيدي. لقد ذكَرتَ منذ فترة أنك تبحث عن قدح مصنوع من البيوتر، وإن كنتَ تذكر يا سيدي، رسمتَ لي رسمًا كي تُريَني الشكل الذي تريده. وتَصادف أن رأيتُ ذلك القدح في كشكٍ لبيع الخُرْدَة بشورديتش؛ لذا غامرتُ واشتريتُه لأجلك.»
صاح توم مندهشًا: «ولكن كم هو لطيف منك أن تُفكِّر بي! ويا له من نموذج رائع للغاية! وأيضًا وجدتَه في كشك للخردة، من بين جميع الأماكن المستبعَدِ إيجادُه بها. بالمناسبة، بكم أَدين لك لقاءه؟»
أجابه بولتون: «لقد اشتريته بشلن.»
نظر إليه توم مدهوشًا، وكرَّر في تشكُّك: «بشلن! أنت حتمًا لا تعني ذلك. عجبًا، تلك قطعة قيمة للغاية.»
قال بولتون مفسرًا بنبرة أسف: «لقد لاقى معاملةً سيئة يا سيدي. كان متَّسِخًا للغاية، وبه رُضوض أفسدَت شكله؛ لذا لم يكن يستحقُّ أكثرَ من شلن. أنا لم أستغِلَّ الرجل. لكن البيوتر خامةٌ طيِّعة إن كنت تعرف كيف تتعامل معها. لم أفعل سوى أنْ عدَّلتُ الرضوض، وأعَدتُه إلى شكله، ونظفت سطحه. هذا كل شيء. أنا سعيد أنه نال إعجابك يا سيدي.»
قال توم: «أكاد أطير فرحًا به.» ثم سكت، وللحظة واحدة — لا أكثر — فكَّر في أن يعرض مقابلًا للوقت والجهد اللذَين بذلهما في عملية التحويل تلك. لكنه ما لبث أن أردف قائلًا: «إليك شلنًا يا بولتون. لكنه ليس مقابلًا. فأنا أعتبر القدح هديةً منك. لقد حوَّلتَ قطعة خردة لا قيمة لها إلى قطعة أثرية ستكون مصدرَ بهجة دائمةٍ لي، وأنا ممتنٌّ لك إلى حدٍّ أعجز عن التعبير عنه.»
ابتسم بولتون بخجَل، وبغرضِ إغلاق الموضوع، تجول في المكان قاصدًا حامل لوح الرسم كي يُعايِن اللوحة. لبضع ثوانٍ، وقف ينظر إلى الصورة بدهشةٍ تشوبها البهجة. وأخيرًا، علَّق قائلًا:
«إنه لعمل فنِّي بديع يا سيدي ذلك الذي يقوم به الرسام. إنه يبدو في نظري ضربًا من السحر. فها هي فسحةٌ غابيَّة جميلة جعلتَها تبدو حقيقية للغاية، حتى إنني أشعر أنَّ بإمكاني السيرَ بداخلها. لا بد أنك ابتعدت كثيرًا عن المباني السكنية كي تجد مشهدًا كهذا.»
ضحك توم: «هذا وهمٌ طبيعي تمامًا يا بولتون، لكن في الواقع كانت المباني السكنيةُ في مَرْمى بصري تقريبًا وأنا أرسم. تلك الرقعة الصغيرة من الغابة هي آخر ما تبقَّى من الريف وسط منطقة سكنية جديدة. إنها لا تبعد عن هنا سوى مسافةِ رحلةٍ بالحافلة، وهي ليست بالرحلة الطويلة.»
قال بولتون مندهشًا: «أحقًّا يا سيدي؟ وأين تكون؟»
«إنها خارج طريق هيندون. في مكانٍ يُدعى لينتون جرين؛ والغابة ما زالت معروفةً باسمها القديم، غابة جريفل-بيت.»
فورَ نُطق توم بالاسم، أجفلَ بولتون وحملقَ في اللوحة وقد ارتسم على وجهه تعبيرٌ مِن أغرب ما يكون.
كرَّر بصوت خافت غريب: «غابة جريفل-بيت، لينتون جرين؛ تلك هي الغابة التي قُتِل فيها ذلك الرجل المسكين!»
قال توم بنبرةٍ حملَت اهتمامًا طفيفًا: «يا إلهي! أنا لم أسمَع بذلك قط. متى حدث ذلك؟»
«وقعت جريمةُ القتل يوم الثلاثاء الماضي.»
كرر توم في ارتياب: «الثلاثاء الماضي! عجبًا، ذلك هو اليوم الذي رسمتُ فيه تلك اللوحة. هل تعرف متى وقعت؟»
«يُرجَّح أنها وقعت في حوالي الرابعة عصرًا.»
صاح توم متعجبًا: «إذن، فقد كنتُ بالفعل في الغابة في اللحظة التي ارتُكِبَت فيها الجريمة!»
وافقه بولتون قائلًا: «أجل يا سيدي، اعتقدتُ أنك كنتَ هناك حتمًا عندما ذكرتَ اسم الغابة؛ لأن الشرطة أصدرت نشرة بأوصاف رجلٍ شُوهِد هناك في ذلك الوقت تقريبًا، ويبدو أن الوصف ينطبق عليك.»
ظل الرجلان ينظر أحدُهما إلى الآخر في صمت لبضع لحظات؛ ثم عقَّب توم بابتسامة كئيبة قائلًا:
«حسنًا، هذا أمرٌ مربك للغاية. هل تذكر أيًّا من التفاصيل؟ فعيني تكاد لا تقع على صحيفة قط؛ لذا فتلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها بذلك الأمر.»
أجابه بولتون: «أتذكر جميع التفاصيل، لكن لا حاجة لي إلى أن أُعوِّل على ذاكرتي؛ فأنا قد قصصت جميع التقارير المتعلقة بالقضية من الصحف، ومعي تلك القُصاصاتُ في جيبي.» ثم أضاف بنبرةِ تأسُّف: «كما ترى يا سيدي، أنا أهتمُّ كثيرًا بجرائم القتل. ربما يَرجع ذلك إلى أني أشرف بخدمة محامٍ جنائي بارز جدًّا. على أيِّ حال، أنا دائمًا أقص التقارير من الصحف وأُلصِقها في دفتر كي تكون مرجعًا.»
بعد أن قدَّم ذلك التفسير، أخرج من جيبه محفظة كبيرة ثم أخرج منها حُزمة من قُصاصات الصحف. بعد أن رتبها بسرعة، تخيرَ واحدة منها وناول توم إياها.
قال: «ستجد ضالَّتك في تلك يا سيدي. إنها قصاصة من صحيفة أسبوعية تَسرد ملخصًا للقضية يتضمَّن كل ما عُرِف عنها حتى الآن. ربما تودُّ أن تطَّلِع عليها سريعًا ريثما أُعِد أنا الشاي. فأنا أعرف أين تحتفظ بجميع أغراضه.»
شكره توم، ثم جلس ليطَّلِع على القُصاصة، بينما فتح بولتون الخزانة الفرنسية الكبيرة، بعد أنْ فحص الغلاية، وبدأ يرصُّ لوازم الشاي على المائدة دون أن يُحدِث صوتًا. كان عنوان التقرير: «جريمة غامضة في إحدى الغابات.» وكان نصُّه كالآتي:
في ضاحية لينتون جرين الحديثة الناشئة، بالقرب من منطقة هيندون، ثمة رقعةٌ صغيرة من الغابة لا تزال قائمة، لا تتعدَّى مساحتها الآن اثنَي عشرَ قيراطًا، تُعرَف باسم غابة جريفل-بيت. هناك، في حوالي الخامسة عصر يوم الثلاثاء الماضي، وقع اكتشافٌ صادم للغاية على يد عاملٍ يعمل في تشييد المباني الجديدة. كان رئيس العمال قد بعث ذلك العامل، الذي يُدعى ألبرت ويفين، برسالة إلى مسئولِ أعمال البناء الذي يقع مكتبُه المؤقَّت في شارع غير مُكتمِل البناء على الجانب المقابل من الغابة. سلك العامل مسارَ العربات الذي يمر عبر الغابة وما كاد يبلغ البوابة حتى جذب انتباهَه شيءٌ أبيض اللون مُلقًى وسط العشب بجانب سَقيفةِ عرَبات مهجورة، فخرج عن الطريق ليتبيَّن ماهيته. عندما دنا منه، وجد أنه مقبضٌ عاجي لمِظلة، فتقدَّم ليلتقطها بطبيعة الحال؛ لكن عندما وصل إلى جانب السقيفة، وانحنى كي يَلتقطَها، راعَه رؤيةُ جثة رجلٍ تستقر بين نباتات القراص والنِّفايات في أحدِ مَرابط الفرَس داخل السقيفة. نظرة سريعة واحدة كانت كفيلةً بأن تُؤكد له أن الرجل قد غادر الحياة، ولم يُجرِ أي فحص إضافي، بل هرع من المكان حاملًا بيده المظلة، وقطع الغابة ركضًا، ثم أبلغ عن اكتشافه ذلك لمسئول أعمال البناء. أرسل ذلك الأخيرُ برسول استقلَّ دراجة إلى مركز الشرطة، وخلال بضع دقائق، وصل رقيبٌ ومفتش وقادهما ويفين إلى السقيفة حيث ترقد الجثة، التي وُجِد أنها لرجل حسَنِ الهندام في الستين من عمره تقريبًا، عُرِفت هُويته للتوِّ من بطاقات الزيارة التي عُثِر عليها في جيبه، وأكَّدَتها الحروف الأولى المحفورة على الحَلْقة الفِضية بمقبض المظلة. كلاهما دل على أن المتوفَّى هو السيد تشارلز مونتاجو، القاطنُ في شارع بيرشز بطريق هول رود، بلينتون جرين.
لكن كيف لقيَ مصرعه؟ تُشير الملابسات بوضوح إلى جريمة قتل؛ وهذا ما أكده وجودُ آثار واضحة لعراك بين شجيرات القراص والعشب الطويل. لكن مِن المُثير للدهشة أن الجثة ليس بها أيُّ جروح أو إصابات. كانت الملابس غيرَ مهندمة نوعًا ما، والياقة مُكرمَشة، وبدا أن ثمة رُضوضًا بسيطة على الرقبة؛ لكن لم يُعثَر على أيِّ شيء تُعْزى إليه الوفاة. لكن عند وصول الجراح التابع للمركز ومعاينته للجثة، توصَّل إلى أن التشخيص الأوَّلي لسبب الوفاة هو التسمم إما بحمض البرُوسيك أو بنوع من الزرنيخ. وبناءً عليه، جرى بحث للعثور على أيِّ حاوية، أسفر عن العثور على قنينة صغيرة تحوي بقايا سائل له رائحة اللوز المر.
أما بالنسبة إلى وقت وقوع الوفاة، فقد فحصَه الجراحُ في الساعة ٥:٣٥ مساءً، وتوصل إلى أن المجنيَّ عليه قد لقيَ مصرعه منذ ما لا يزيد عن ساعتين، ويُرجح أن هذا حدث في حوالي الساعة الرابعة. ويُعتبر الوقت هنا عنصرًا مهمًّا فيما يتعلَّق بالدليل الوحيد المتاح لفكِّ هذا اللغز. ففي حوالي الرابعة والنصف، صادف حُوذِي ينقل شحنة من القرميد عبر المسار الذي يمرُّ بالغابة رجلًا مقبلًا من جهة سقيفة العربات. كذلك شُوهِد ذلك الرجل يخرج من الغابة إلى الشارع غير المكتمل من قِبَل بنَّاء؛ كما شُوهِد مرة أخرى من قبل شرطي شاب، حفظ مظهرَه جيدًا وأدْلى بأوصافه التي تطابقت تمامًا مع الأوصاف التي أدلى بها الشاهدان الآخران، وقد تداولَت الشرطةُ تلك الأوصاف مناشدةً الرجلَ التواصلَ معها.
أوصافه كما يلي: الطول حوالي خمسةَ أقدام وعشر بوصات، قويُّ البنية، عمره يتراوح ما بين الخامسة والأربعين إلى الخمسين، عيناه رماديتان، وشعره بُني، وله شاربٌ بُني قصير، يرتدي حُلة ذات بنطال واسع مزموم عند الرُّكبة من صوف التويد باللون الأصفر الباهت، وجوربًا باللون ذاتِه، وحِذاءً بنيًّا، وقبعةً من اللباد ذاتَ حافة عريضة باللون الأصفر الباهت، ويحمل حقيبةَ كتف قماشية على كتفه اليسرى، وكرسيًّا قابلًا للطيِّ مربوطًا بما يُشبه المِنصَب أو حامل الرسم في يده اليسرى، وفي يده اليُمنى بِضعُ أطُر خشبية من الواضح أنها لوحاتُ رسم داخل حامل لها.
يذكر الشرطيُّ الذي صادف الرجل عند محطة الحافلة في طريق لينتون جرين وهو ينتظر الحافلةَ المتجهة شرقًا، أنه بدا متلهفًا للركوب؛ إذ استفسرَ منه عن موعد وصولِ الحافلة التالية، وبدا عليه الانزعاجُ عندما عرف أن الحافلة السابقة قد غادرَت لتوِّها. كان يتحدث بصوت عميق قوي، وبلهجة رجل متعلِّم. كما لاحظ سائقُ الحافلة أيضًا الرجل، وتذكر أنه ترجَّل عند كنيسة ماريلبون لكنه لم يرَ إلى أين اتجهَ بعد ترجُّلِه.
هذا ولم تكشف جلسة التحقيق التي انعقدت يوم الجمعة سوى بضعِ حقائقَ إضافية عن اللغز. فقد أثبتت شهادةُ الطبيب الشرعي أن المجنيَّ عليه لقي مصرعه نتيجةً للتسمُّم بمحلول مركَّز من سيانيد البوتاسيوم، تناوله بنفسه، أو أعطاه إياه شخصٌ آخر عَنْوة. وُجِدَت رُضوض بسيطة على الرقبة، إلا أنها لا تُشير إلى وقوع عنف شديد، وطِبيًّا لا يوجد ما يشير إلى أن المجنيَّ عليه هو من تجرع السمَّ بنفسه. غير أن أدلة الشرطة كانت أكثرَ حسمًا. فقد وُجدِت عدةُ بصمات على قنينة السُّم، ومع أنها بصماتٌ غير مكتملة، استطاع الخبراء أن يُؤكدوا قطعًا أنها ليست بصماتِ المتوفَّى أو بصماتِ أيِّ شخص مُسجَّل لدى الشرطة. وكما أشار قاضي التحقيق في ملخَّص القضية، فإن تلك الحقيقة، إضافةً إلى وجود آثارٍ لعراك، تؤكد على نحو شبهِ قاطع أن شخصًا ما أجبر المجنيَّ عليه على تناوُل السم. كما عقَّب قاضي التحقيق أيضًا على دلالة مهنة المجني عليه. فالسيد مونتاجو كان يعمل مُمولًا؛ في الواقع كان مُرابيًا؛ والمرابي عُرضة لأن يكون له أعداء يملكون أسبابًا قوية لتدبيرِ مقتله. في تلك القضية، لم يُكتَشَف وجودُ أيِّ أعداءٍ له. أما بالنسبة إلى الرسام المجهول، فلم تَثبُت هُويته بعد، إذ لم يُعثَر له على أثر، ولم يَمثُل هو أمام الشرطة، ولم يتَّضح أي شيء بخصوص صلته بتلك المأساة، إن كانت له صلة.
في ختام ملخَّص القضية، أصدرت هيئة المحلَّفين من فورها حكمًا باعتبار الجريمة قتلًا عمدًا على يد مجهول أو مجهولين؛ ولا يزال الوضعُ كما هو عليه. ربما تتكشَّف بعضُ الحقائق الجديدة إن استطاعت الشرطة التواصلَ مع الفنان المتملِّص.
بعد أن انتهى توم من القراءة، أعاد القُصاصة إلى بولتون، الذي أعادها بدوره إلى محفظته، ثم انتظر تعقيبَه في صمتٍ بعد أن وضع إبريق الشاي على المائدة.
قال توم: «حسنًا، كما قلتُ لك من قبل، ذلك أمرٌ مربك للغاية. فذلك الفنان الغامض والمتملِّص، والمرشَّح المحتمل لنَيل لقب القاتل هو أنا. على أيِّ حال، التملُّص يُمكن الرجوع عنه. من الأفضل أن أقصد مركز الشرطة غدًا لأُطلِعَهم على هُويتي.»
وافقه بولتون في جِدية قائلًا: «أجل يا سيدي. ذلك ضروري للغاية. لكن لم الانتظار حتى غد؟ لم لا تذهب مساءَ اليوم؟ فالشرطة قد تنجح في أي لحظة في تَعقبِك، وسيكون الذَّهاب إليهم بملء إرادتك أفضلَ بكثير من تركهم يعثرون هم عليك. لا تنسَ أن لديهم أسبابًا منطقية للاشتباه بك. فتلك الجريمة هي حديثُ المدينة منذ نحو أسبوع. وامتلأت الصحفُ بأخبارها، التي تضمنت وصفًا دقيقًا لك. على الأرجح أنك الشخص الوحيد في لندن الذي لم يسمع بها.»
ضحك توم ضحكة كئيبة، وقال: «بربك يا بولتون! أنت تتحدَّث كمحامي ادِّعاء. لكنك مُحِق تمامًا. فأنا مشتبَه به، وليس في صالحي أن يبدوَ الأمر وكأني كنتُ مختبئًا. سوف أمرُّ بمركز الشرطة هذا المساء.»
لكن قرار توم الحكيم ذاك جاء متأخرًا للغاية. فبعد أقلَّ من نصف الساعة، وبعد أن أنهيا الشاي الذي أصر بولتون على غسل لوازمه وكان قد بدأ يرصُّها في الخِزانة الفرنسية الكبيرة، أتاهما صوتُ جرس المرسم من الخارج فخرج توم ليجيبه. عندما فتح البوابة، وجد على عتبتها رجلًا طويل القامة له مظهرُ موظف حكومي، حيَّاه بانحناءة وقورة وابتسامة دمثة.
سأل الرجل الغريب: «هلا تشرَّفتُ بمخاطبة السيد توماس بيدلي؟»
أجاب توم بابتسامة باهتة: «لقد خاطبتَه بالفعل. أنا توماس بيدلي.»
رد الرجل قائلًا وهو ينظر إلى اللوحة النحاسية: «خمَّنتُ ذلك، وأنا سعيد بمعرفتك؛ إذ أعتقد أنك ربما تستطيع مساعدتي بشأن تحقيقٍ أتولَّاه. ربما عليَّ أن أُوضح أنني ضابط شرطة، وإن كنت تريد الاطلاع على بطاقة إثبات صلاحيتي …»
أجابه توم: «كلا، شكرًا لك. أظن أني أعرف ما تَنشُده، وفي الواقع كنت أنوي زيارةَ مركز الشرطة مساء اليوم. لكن ذلك سيكون أفضل. تفضَّل بالدخول.»
قاد الضابطَ عبر الباحة وأدخله إلى المرسم؛ حيث وجدا بولتون يقف على كرسيٍّ ويضبط الساعةَ كي تتوافق مع ساعته.
صاح الضابطُ مندهشًا: «مرحى، يا لها من مفاجأة سعيدة! إنه السيد بولتون، صديقي القديم المبجَّل! يا لها من مصادفة فريدة! هل تعرف السيد بيدلي منذ وقت طويل؟»
أجاب بولتون: «منذ وقت طويل جدًّا. تقابلنا للمرة الأولى في متجَر تحف قديمة في سوهو؛ متجر «باروت». أنت حتمًا تذكر باروت؛ كان اسمه الحقيقي بيتجرو، وهو المُجرِم الذي قتَل السيد بينروز.»
قال الضابط: «أذكُر تلك القضية مع أني لم أكن مشاركًا بها. لكن ثَمة مصادفة أخرى؛ إذ تشاء الأقدار أن يكون سببُ زيارتي هو قضيةً تتعلق بجريمة قتل.»
لم يرَ توم دور الصدفة في ذلك، لكنه لم يُعقِّب، في انتظار شروع الضابط في فتح تحقيقه. في الأثناء، أمسك بولتون قبعته على مضض، وهو يقول في نفسه مقترحًا إنهما «ربما يُفضِّلان مناقشة أمورهما على انفراد.»
قال الضابط: «لا داعيَ لأن تُغادر بسببي. فليس ثمة أسرار.» وبعد أن أبدى توم الرأي نفسَه، ترك بولتون قبعته بكل سرور وجلس يستمع إليهما ببهجةٍ لم يُحاول إخفاءها.
بدأ الضابط الحديث قائلًا: «والآن يا سيد بيدلي، سأطرح عليك بضعة أسئلة، لكن واجبي يُحتم عليَّ أن أُوضح لك أنك لستَ ملزَمًا بالإجابة على أي سؤال من شأنه أن يميل إلى إدانتك، بالتعبير الرسمي السخيف.»
قال توم بابتسامة عريضة: «سأضع ذلك في حُسباني.»
أجابه الضابط بابتسامة قائلًا: «أجل. إنه تعبيرٌ سخيف، لكننا مضطرون إلى الالتزام بالرسميات. حسنًا، بداية، هل تذكر أين كنتَ وماذا كنت تفعل يوم الثلاثاء الثامن عشر من مايو؟»
«الثلاثاء الماضي. أجل. كنت في غابة جريفل-بيت بلينتون جرين عصرَ ذلك اليوم. وصلتُ إلى هناك في حوالي الثانية، وغادرت في حوالي الرابعة والنصف، أو ربما قبلَ ذلك قليلًا. وخلال تلك الفترة كنت أرسمُ لوحة للغابة، سأُريك إياها إن كنتَ مهتمًّا برؤيتها.»
قال الضابط: «شكرًا لك. أود كثيرًا أن أراها عما قريب. لكن الآن ثمة سؤالٌ يطرح نفسَه. يتبيَّن مما ذكرته لي أنك لا بد بالفعل أنك كنت في الغابة وقتَ وقوع جريمة القتل، ومع أنه كان ثَمة مُناشَدات عاجلة عبر الإذاعة بالإدلاء بمعلومات، ومناشدات مشابِهة في الصحف، لم تتقدَّم للإدلاء بأقوالك أو تَبدُر عنك أيُّ بادرة؛ حتى مع تضمين تلك المناشدات أوصافَك، وبهذا تكون في الواقع موجَّهةً لك شخصيًّا. فما منَعَك من أن تتواصَل مع الشرطة؟»
أجاب توم: «التفسير بسيطٌ للغاية. فحتى بضعِ ساعات مضت، عندما أخبرني السيد بولتون بالأمر، لم أكن أدري بوقوعِ جريمة قتل.»
قابل الضابط تلك العبارةَ بابتسامة لطيفة ودودة.
قال موافقًا: «هو بالفعل تفسيرٌ بسيط للغاية؛ لكن إن كنتُ أميل للمُماحَكة — وأنا لا أميل لها — فربما أُفكر في البثِّ الإذاعي والصحف اليومية ذات العناوين البارزة وأتساءل، لكني كما ذكرتُ لك لا أميل للمماحكة.»
قال توم: «أُقِر بأن ذلك يبدو غريبًا. لكني لا أملك مِذياعًا، ونادرًا ما تقع عيني على صحيفة. على أيِّ حال، الحقيقة هي أني لم أسمع بتلك الجريمة قطُّ حتى ذكرها لي السيد بولتون وأطلعَني على تقريرٍ عنها كان قد قصَّه من صحيفة.»
هنا تدخل بولتون بابتسامة وقورة: «إن أذِنتَ لي يا سيدي، أودُّ أن أقول إن السيد بيدلي أراني اللوحة وأخبرني أين رسمها ومتى؛ وبدا مصدومًا ومندهشًا للغاية عندما أخبرتُه بأمر جريمة القتل.»
نظر الضابطُ إلى المتحدث بابتسامة تحمل ودًّا بالغًا.
قال: «أشكرُك يا سيد بولتون. شهادتك المفيدة للغاية تلك تُزيح الإشكالَ تمامًا. والآن، ربما يُمكنني أن أنال شرف رؤية تلك اللوحة.»
نهض توم، وأحضر إطارَ عرضِ لوحاتٍ من كومة من الأطُر تستقر بمحاذاة الجدار، ووضع اللوحة بداخله، ثم أعادها إلى الحامل.
قال: «ها هي، لم تنتهِ تمامًا بعد، لكن ربما كان ذلك هو أفضلَ ما يُمكن الوصول إليه من الناحية التصويرية.»
وافقه الضابط قائلًا: «أجل، فاهتمامي منصبٌّ فقط على التضاريس، مع أني أرى أنها عملٌ فني بديع للغاية.» وقف أمام الحامل ينظر للَّوحة مبتسمًا وكأنما يتلو عليها صلاةً للمباركة، لكنه مع ذلك كان يتفحَّصها بإمعان. ثم ما لبث أن أبرَز من جيبٍ داخلي فسيح محفظةَ أوراق صغيرة أخرج منها قطاعًا من خريطة بمقياس ستِّ بوصات للميل، صادرةٍ عن هيئة المساحة البريطانية ملصَقة على بطاقة رقيقة. قال: «تلك خريطة بمقياس كبير للغابة يا سيد بيدلي. هل تظن أن بإمكانك أن تُريَني الموضع الذي تُصوره تلك اللوحة؟»
أخذ منه توم الخريطة ونظر إليها لبضعِ لحظات وهو يتحسَّس جيبه بحثًا عن قلم رصاص.
قال وهو يُشير إلى نقطة بسنِّ القلم الرصاص: «أعتقد أن ذلك هو المكان. لقد كوَّنت رأيي هذا بالنظر إلى شكلِ منحنى الممشى؛ فالخريطة لا تُوضِّح الأشجار مفرَدة. هل أضع علامة؟»
أجاب الضابط: «إذا سمحت.» وبعد أن رسم توم صليبًا دقيقًا وأعاد البطاقة إلى صاحبها، أخرج ذلك الأخيرُ مقياسًا مصنوعًا من خشب البقس وفِرجارَ جيبٍ قاس به المسافة من علامة الصليب إلى أقربِ نقطة على الدرب، ثم قاسها على المقياس.
قال: «أُقدِّر المسافة بمائة وسبعين ياردة. فما قولك؟»
أجابه توم: «أجل، هذا يبدو صحيحًا.»
«حسنًا جدًّا. إذن كنتَ تبعد عن الدَّرب حوالَي مائة ياردة. من مكانك، هل كان بوسعك رؤية أي شخص قد يسلك ذلك الدرب؟»
«كان بوسعي ذلك، وهو ما حدث بالفعل. ليس بوضوحٍ شديد؛ لأني كنتُ جالسًا على كرسيٍّ منخفض، ولم يكن بإمكاني النظرُ إلا من خلال الفرجات بين الشجيرات. لكن بينما كنتُ أرسم هناك، رأيت ثلاثةَ أشخاص يسلكُون ذلك الدرب، لم يرجع منهم سوى اثنَين فقط.»
«وهل تظنُّ أن أولئك الأشخاص رأوك؟»
«أنا واثق أنهم لم يرَوني. فلا سبيل لهم إلى ذلك كما تعرف. فنظرًا إلى جلوسي في موضعٍ منخفِض بين الشجيرات، فلا بدَّ أن أحدًا لم يكن يستطيع رؤيتي تمامًا من الدرب.»
وافقه الشرطيُّ قائلًا: «أجل، لكن كان بوسعك رؤيتهم. فما الذي تستطيع أن تُخبرني به عنهم؟»
«كل ما أستطيع قولَه إن سلوكهم كان غريبًا نوعًا ما. على الأقل سلوك أحدهم.» وهنا بدأ توم يسرد ما رآه بدقةٍ وتفصيل.
صاح الضابطُ مندهشًا وهو يتطلَّع للراوي بابتسامةٍ فَرِحة: «لكن يا سيد بيدلي العزيز، تلك معلوماتٌ مهمَّة وكاشفة للغاية. فالسيدة تُعَد إضافةً جديدة إلى القضية. بالمناسبة، هل مر بك أيُّ شخص آخر؟»
«كلا. أولئك هم الأشخاص الوحيدون الذين رأيتهم حتى هممتُ بالمغادرة، حين رأيت رجلًا يقود عربةً مليئة بالقرميد عبر الغابة.»
«إذن فلا ريب في هُوية أولئك الأشخاص. أحدهم كان السيد مونتاجو، والآخر هو القاتل، والسيدة لا بدَّ أنَّ لها صلةً ما بأحدِ الرجلين أو كِلَيهما. في أي وقت مرُّوا بك؟»
«في حوالي الرابعة، أو ربما الرابعة إلا بضع دقائق. وبعد حوالي عشر دقائق أو ربع الساعة، عاد الرجل.»
قال الضابط: «أجل، يبدو هذا مُتوافقًا مع الأدلة. والآن نأتي للنقطة الأهمِّ على الإطلاق؛ هل بوسْعِك أن تذكرَ لنا أيًّا من أوصافهم، وهل تعتقد أنه سيكون بوُسعِك التعرفُ عليهم إن رأيتهم مرةً أخرى؟»
«أما التعرف عليهم، فأشكُّ في ذلك كثيرًا. بالطبع لا يسَعُني أن أجزم بهوية أيٍّ منهم. ولا أظن أن بوسعي أن أُعطيَ أوصافًا تُذكَر. فقد كانوا على مسافة كبيرة مني، وكنتُ أراهم عبر الفرجات بين الأغصان، وحينها لم أُولهِم اهتمامًا كبيرًا. لكني سأرى ما بإمكاني أن أتذكره.»
وبدأ يصف الأشخاصَ الثلاثة، كان وصفه مبهمًا وعامًّا، لكن دعَمَته أسئلةٌ طرحها الضابط، ودوَّن إجاباتها في دفتر ملاحظاته.
حين انتهى توم، عقَّب الأخير قائلًا: «حسنًا، وصف لا بأس به. لكني ما زلتُ أشعر يا سيد بيدلي أنك حتمًا رأيتَ ما هو أكثرُ من ذلك. فأنت لستَ ملاحظًا عاديًّا. أنت رسام. وعين الرسام عين لماحة حادَّةُ الملاحظة وتَحتفظ بالتفاصيل. هب أنك تُحاول رسم المشهد من الذاكرة …»
قاطعه توم قائلًا: «يا إلهي! أنا سعيد أنك قلت ذلك؛ فذلك هو ما فعلتُه بالضبط في ذلك اليوم، بينما كان المشهد لا يزال حاضرًا في ذاكرتي. ظننتُ أن الواقعة ربما تَصلُح موضوعًا للوحةٍ أسمَيتُها «المتنصِّتة»، وفي مساء ذلك اليوم رسمتُ لها رسمًا تجريبيًّا. سأريك إياه.»
من بينِ مجموعة من الأعمال غير المُكتمِلة على أحد الأرفف، استخرج الرسمَ ووضعه على حامل بجوار اللوحة الكبيرة التي نقل منها الخلفية.
قال الضابط: «أها! ها قد رأيتَ الآن أنني كنتُ مُحقًّا. ففرشاة الرسام أقدرُ من الكلمات. هذا الرسم يُخبرنا بأكثرَ مما ذكرتَه في وصفك بكثير. إنه يُبيِّن لنا الشكلَ الحقيقي لأولئك الأشخاص. ذلك الرجل هو السيد مونتاجو بلا ريب، فقُبعته ومِعطفه يُطابقان الحقيقة، حتى إنك رسمتَ المقبض العاجيَّ لمظلته. ورسمتَ ما هو أكثرُ من مجرد هيئتَي الاثنَين الآخرَين؛ إذ يبدوان شخصَين بعينهما.»
وافقه بولتون الذي كان يُحملِق في الرسم باهتمام يشوبه الاستمتاعُ قائلًا: «أجل، السيد بلاندي محقٌّ تمامًا. لكن الأمر مُدهِش بحق. فهذان الرجلان يوليانا ظهرَيهما، ووجهُ المرأة بلا ملامحَ فعلية؛ ومع ذلك أشعرُ أنهم أشخاص حقيقيون وأنني سأعرفُهم إن قابلتُهم مرةً أخرى. هل يُمكنك أن تُفسر لنا ذلك يا سيد بيدلي؟»
أجابه توم قائلًا: «حسنًا، لا يَسَعُني سوى أن أقول إن هذا تصويرٌ لانطباعٍ تركَه المشهدُ لديَّ في لحظة بعينها، وتلك هي الهيئة التي بدا أولئك الأشخاصُ عليها في تلك اللحظة. فالمرء يُميز الشخص لا بوجهِه فحسب، بل بحجمِه وقِوامه وأبعاده، وحركاته وسكناته المميزة. فغالبًا ما يُمكنك أن تُميِّز رجلًا ما من مِشيته قبل أن تُميز ملامحَه بوقتٍ طويل.»
قال بلاندي: «بالضبط، ولهذا يُحِب ضبَّاط الملاحظة مراقبةَ الموقوفين في باحة التريُّض بالسجن. فغالبًا ما يَتمكَّنون من ضبط رجل متنكِّر من هيئته العامة، أو من طريقةِ مشيِه، أو وقفته، وأنا أميلُ للاعتقاد بأن ذلك الرسم ربما يكون مفيدًا لمُتخصِّص من ذلك النوع. هل بوسعي استعارته والتقاطُ صورة فوتوغرافية له لإرفاقها مع وصفك؟»
قبل أن يتسنَّى لتوم الإجابة، تدخل بولتون بحماس.
«لِمَ لا تدَعُني ألتقط الصورة لأجلك أيها المفتش؟ بوسعي أن أُحضِر الكاميرا خاصتي إلى هنا كي لا تُضطَر إلى استعارةِ الرسم. سيَسرُّني أن أفعل ذلك، إن سمحتَ لي.»
نظر له المفتش بلاندي بابتسامة حملت ودًّا يفوق الوصف.
قال: «هذا لطف بالغٌ منك يا سيد بولتون. أنت دومًا مبادرٌ بمدِّ يد المساعدة. كما أنها ستكون صورة فوتوغرافية جيدة، وستَحتفِظ بنسخة منها لتُضيفها إلى مجموعتك الصغيرة. أنا أميل للموافقة على عرضك ممتنًّا إن منَحَنا السيد بيدلي الإذنَ بذلك.»
منحَهم السيد بيدلي الإذن بذلك دون تردُّد، وعلى أثْر ذلك تأهَّب المُفتِّش للمُغادَرة بعد أن حدَّد موعدًا للتسليم مع بولتون.
التقطَ قبعته، ثمَّ ما لبث أن تركَها مرة أخرى وهو يقول: «بالمناسبة، ثَمة نقطتان بسيطتان ربما تحتاجان إلى إيضاح. الأولى تتعلَّق بقامتَيِ الرجل والسيدة المجهولَين. الرجل يبدو أقصرَ على نحوٍ ملحوظ من السيد مونتاجو الذي يبلغ طولُه نحو خمسة أقدام وعشر بوصات. فما قولك في ذلك؟»
أجابه توم: «أجل، أُقدِّر طوله بحوالي خمسة أقدام وسبع بوصات. أما المرأة فبَدَت أطولَ قامةً، لكن كذلك تبدو النساء. أُرجِّح أن قامتها بطول قامة الرجل تقريبًا.»
دوَّن المُفتِّش ملاحظةً بالإجابة، ثم قال:
«عندما قابلتَ الحُوذيَّ، بدَوت وكأنك قادمٌ من نهاية الغابة.»
«أجل. لَمَّا لم يَعُد أحدُ الرجلين، بدا لي أن الدرب الذي ظننتُ أنه ينتهي بنهاية الغابة لا بد أنه يمتدُّ لما بعدها؛ لذا ذهبتُ بذلك الاتجاه كي أتحقَّق من ذلك. عندما رأيت أنه يمرُّ عبر فِناء المزرعة، عُدت أدراجي قاصدًا البيت.»
«إذن لا بد أنك مررتَ بسَقيفة العربات. أليس غريبًا أنك لم تلحظ الجثة أو حتى المظلة؟»
«على الإطلاق. فثمَّة كومة قش قديمةٌ تستقرُّ بين الدرب وسقيفة العربات. لذا لم أرَ سوى جانبٍ من السقيفة، ولم يكن هو الجانبَ المطلوب. كما تذكر، كان ويفين قادمًا من جهة فِناء المزرعة.»
قال المفتِّش: «أجل، لقد نسيتُ أمر كومة القش؛ لكني أظن أن السيدة وجدَتْها مفيدةً لغرض التلصُّص.» ثم أردف قائلًا وهو يلتقط قبعته مرة أخرى: «حسنًا، أعتقد أن ذلك هو كل شيء؛ لم يبقَ سوى أن أُقدِّم لك خالص شكري الصادقِ على مساعدتك القيمة. لقد كان شرفًا كبيرًا لي أن استمعتُ إلى ملاحظاتك المفيدة للغاية واستفدتُ من معرفتك ومهارتك الفنية المميزة.»
بتلك المجاملة الأخيرة، اتجهَ إلى الباب يُرافقه توم الذي قاده إلى البوابة ثم أطلقَه إلى العالم الخارجي.
عاد توم إلى المرسم ليجدَ بولتون لا يزال يُحملق في الرسم، فقال معقبًا: «يبدو مهذَّبًا للغاية لكي يكون ضابطَ شرطة. ألا ترى ذلك؟»
أجاب بولتون بابتسامة تنمُّ عن فَهمه قصده:
«السيد بلاندي رجل دمث الخلق لأبعد الحدود. لكنه ضابطُ تحقيق في غاية البراعة والحَذْق؛ حادٌّ كالسيف ومُراوغ كالثعبان. يجب أن تتوخَّى بالغَ الحذر من السيد بلاندي. آمُل يا سيدي أنك لم تُمانِع عرضي بالتقاطِ الصورة الفوتوغرافية. كما ترى يا سيدي، ارتأيتُ أنه من الأفضل ألا يخرج شيءٌ ثمين كذلك من حوزتك.»
«كان ذلك لطفًا بالغًا من جانبك يا بولتون. لكنَّها، باركَك الرب، ليست شيئًا ثمينًا. إنها نُفاية كنتُ سأتخلَّص منها بالفعل.»
«لا تقَلُ ذلك يا سيدي. لقد كنتُ أتأمَّلها بإعجاب وأُفكر كم هي لوحةٌ صغيرة ساحرة، وكم تَزْخر بالتفاصيل المُثيرة على نحوٍ مدهش. ما الوقت المناسب لك كي آتيَ لالتقاط الصورة؟»
«لا داعيَ لأن تتكبَّد عَناء إحضار الكاميرا إلى هنا. خُذ اللوحة معك وأنهِ مهمَّتك في منزلك؛ وبما أنه يبدو أنها قد حازت على إعجابك، فمن الأفضل أن تحتفظ بها وتتركَ لي صورةً فوتوغرافية لها، حالَ قررتُ أن أرسمَ ذلك الموضوع. ستُؤدِّي الصورة الفوتوغرافية الغرضَ بالنسبة لي.»
تهيَّأ بولتون للاعتراض، لكن توم لفَّ اللوحة بإصرار بورقٍ وأعطاه إياها، ليُغادرَ بعدَها ببضع دقائق وهو يَبتسِم بسرور وعِرفان، حاملًا الحُزمةَ الصغيرة تحت ذراعه.