السيدة شيلر
من بين جميعِ سكَّان المدينة المزدحمة التي تَضِجُّ بالحياة من حوله، لم يكن من المُمكن أن يُضاهيَ توماس بيدلي في هدوء باله سوى قلةٍ قليلة منهم. في الواقع، لم يكن ثَمة ما يَشغَل باله أو يحمل همَّه في الحياة على الإطلاق. كان عمله يُدِر عليه دخلًا بسيطًا يفي باحتياجاته البسيطة، بل ويفيض، وكان يجد في أدائه لذلك العمل متعةً ليس بوُسع الزمن إفسادُها عليه. فلم يكن يَملُّ الرسم أبدًا. ولو هطَلَت عليه يومًا ثروةٌ طائلة، سيظل يرسم لمجرد المتعة التي يجدها فيه، بل وقد يفتقد حينها الرِّضا الذي يحوزه من كسبِ عيشه من حِرفته تلك. وعلى أيِّ حال، لم يكن يشتهي الثروة، ولا يَحسد أحدًا، اللهمَّ إلا أولئك الفنَّانين الذين يرى أن أعمالهم تفوق أعمالَه براعة.
وهكذا، وعلى مدار السنين التي مرَّت دون تقلُّبات، كان توم يَتبع «مسلكه الهادئ في الحياة» بسعادةٍ جمَّة ورضًا تام، حتى تلك اللحظة التي وصلَت إليها هذه القصة الآن، التي يتعيَّن علينا فيها الإشارةُ إلى تلك الغَمامة التي خيَّمت على سماء حياته الصافية في العادة. كانت مجردَ غمامة صغيرة؛ لكن ظِلها المحدود كان كفيلًا بإحداث اضطراب ملحوظ في مِزاجه الذي عادةً ما يكون رائقًا.
لم تكن المشكلة تتعلَّق بحادثة غابة جريفل-بيت؛ فتلك الحادثة لم تُثِر لديه أيَّ قلق على الإطلاق، مع أنه كان يُدرك — بشيءٍ من الاهتمام المشوب بالسرور — أن الشرطة لم تنسَ أمره قطعًا. لكن توالت الأسابيع، وتلاشَت أخبار «اللغز الذي لم يَنكشف بعد» تدريجيًّا من صفحات الصحف اليومية، وكذلك مِن ذاكرته، ولم تَعُد تُمثِّل له أي أهمية.
في الواقع، كانت الغمامة ذاتَ طابع أنثوي؛ فمُشكلاته، كمشكلاتِ ميلتون بيركنز، كانت تتمحوَر حول نساءِ بني جنسه. فقد كان توم أعزب، كما استنتَجَ القارئ على الأرجح، وكان يَنوي عن قصدٍ أن يظل كذلك. فمع أنه يُحبُّ النساءَ كثيرًا، كان يتجنَّب جميع التعاملات الحميميَّة مع الإناث، ويأخذ حذَره من أي عَزْباوات يضعُهن القدر في طريقه، أما بالنسبة للأرامل، فكان ينظر إليهن نظرةَ هلعٍ حقيقي.
في عصر أحد الأيام، حدَث أنْ كان توم منهمكًا باستمتاع جمٍّ في العمل على لوحة نوعية طلب منه مُروِّج أعماله رسمها، عندما دق جرس المرسم مُعلنًا قدوم زائر. بزفرة امتعاض، وضع لوحة ألوانه وفُرَشه وخرج لملاقاة ذلك الذي عكَّر صفو هدوئه؛ ليجد أمامه على عتبه الباب امرأة طويلة القامة نوعًا ما، تتماشَى ثيابها وزينتها مع أحدث الصيحات، التفتَتْ عندما سمعتْ صوت البوابة تَنفتِح، وحيَّته بابتسامة اقشعرَّ لها بدنه.
قالت: «أظن أنك السيد بيدلي.»
وافقها توم الرأي، وأفصحَ لها عن ذلك.
قالت بنبرة مُداهِنة: «آمُل ألا تراني مزعجة، لكني سأكون ممتنَّة إن أعَرتَني فَرْخًا من ورق واتمان. فلديَّ لوحة فنية لأرسمها، وأود أن أبدأ في العمل عليها على الفور، لكن الورق نَفد لدي.»
إن كان بدنُه قد اقشعرَّ لابتسامتها، فقد بعث طلبُها ذلك في نفسه قلقًا شديدًا. فقد كان يعرف — ولا بدَّ أنها تعرف ذلك أيضًا إن كانت رسَّامة — أن ثمةَ متجرًا ممتازًا يَبيع مُستلزماتِ الرسَّامين لا يَبعُد أكثرَ من خمس دقائق سيرًا عن حيث يقفان، ومنه يبتاع توم معظمَ لوازمه. فبدا له طلبها ذلك مريبًا كذريعةٍ للتعرف به.
أردفت قائلة: «ربما ينبغي أن أوضح لك أني جارتُك بالمنزل المجاور؛ اسمي السيدة شيلر.»
انحنى توم تحيةً لها. كان قد لاحظ ظهور لوحة نُحاسية تَحمل ذلك الاسم مؤخرًا، ما أشعره بشيء من الاطمئنان الآن. فعلى الأقل، هي امرأة متزوِّجة … إلا إن كانت أرملة! على أيِّ حال، لم يكن بوُسعه تركُها تَنتظِر على عتبة الباب.
قال: «سأعطيكِ فرخًا بكل سرور. هلا تَفضَّلتِ بالدخول؟»
قبِلَت دعوته بسرور وانشراح، وبينما كان يقودها عبر الممر سألها: «بأيِّ سُمكٍ تُريدينه؟ عادة أستخدم سُمك ١٤٠ رطلًا للرزمة.»
«سيَفِي ذلك بالغرض تمامًا، إن كان بوُسعك إعطائي واحدًا. سأُعيدُه إليك؛ على الأقل ليس الفرخ نفسَه بالطبع، ولكن واحدًا مثله.»
قال توم قاصدًا إثناءها عن زيارة أخرى: «لا داعيَ لذلك. لديَّ مخزون جيِّد. فقد ابتعتُ لتوِّي رزمة جديدة منه، ولا أستخدمه كثيرًا لأني في الأغلب أستخدم الألوان الزيتية في عملي. ذلك هو مرسمي.»
أشار إلى الباب المفتوح، وما إن دخلَت ضيفته إلى المرسم حتى أطلقَت صيحة اندهاش خافتةً وهي تتطلَّع حولها.
قالت مُنبهِرة: «يا له من مرسم شاسع! وكم هو مبهِر! أنا أحسدك عليه. فمرسمي لا يُعَد مرسمًا على الإطلاق في الحقيقة. إنه مجرَّد غرفة جلوس، ولكنها غرفة جيدة جدًّا ولها نافذة كبيرة جميلة. لا بدَّ أن تأتيَ كي أُريَك إياها في وقتٍ ما.»
كظَم توم غيظه. يا لها من امرأة لحوح. بدأ يشكُّ في أنها أرملة حتمًا، وقرر أنه يجب أن «يغضَّ الطرْف عنها.»
رد قائلًا: «حسنًا، المرء لا يحتاج إلى مكان بذلك الحجم كي يَرسم فيه، وإن كان من المريح طبعًا أن يحظى بمجالٍ فسيح للعمل.»
توجَّه إلى مجموعة من الأرفف العريضة، وسحب منها حافظة أوراق بالحجم الإمبراطوري يَحتفظ بداخلها بمخزونه من الورق، وفتحها على الطاولة واختار منها فرخًا ولفَّه قليلًا، ثم لفَّ حوله خيطًا.
في أثناء ذلك، وقفت ضيفته أمام حامل الرسم تتفحص اللوحة التي شارفت على الاكتمال، والتي تُصور مكانًا خلائيًّا بسيطًا كالأماكن التي يُحِب توم رسمها، وتظهر بها جماعة من الغجر على مرجٍ عام، يَعتنون بنار أوقَدوها، وفي الخلفية بضع شاحنات.
صاحت باندهاش: «يا لها من لوحة بديعة! وكم هي غريبة ومُثيرة للاهتمام!»
تسمَّر توم وهو يعقد طرَفَي الخيط والتفَت إليها مرتابًا.
سألها: «لم تَجِدينها غريبة؟»
قالت موضحة: «أعني واقعيةَ التصوير الاستثنائية. إنها تكاد تُشبه صورة فوتوغرافية. هل ترسم بذلك الأسلوب دائمًا؟»
كان توم يرى أن مقارنة لوحة واقعية مُكتملة بصورة فوتوغرافية هي سِمةُ جاهل بلغ منه الجهلُ أقصاه. لكنه لم يُفصح عن ذلك. بل أجاب سؤالها فحسب.
«أُحاول الاقتراب بقدر الإمكان من مظاهر الطبيعة؛ لكن بالطبع لا يزال أفضَلُنا بعيدًا كل البُعد عن ذلك.»
قالت: «بالضبط. لا بدَّ أن الرسم التصويري صعب للغاية، وفي النهاية ليس بوسعك أن تُباريَ مصورًا فوتوغرافيًّا. تلك هي مَيزة الفن التجريدي. فالفنان التجريديُّ لا يسعى لتقليد شيء بعينه؛ بل يدَعُ شخصيته تُعبر عن نفسها من خلال الأشكال والألوان المجردة. هل جربتَ من قبلُ أسلوب الفن التقدُّمي الحديث؟»
أجابها توم: «كلا. هذا هو الأسلوب الذي أنتهجُه في الرسم، ويبدو لي الأسلوبَ الأمثل، وأعتقد أن التجار الذين يشترون أعمالي وزبائني الخصوصيِّين يعتنقون الرأي نفسَه؛ فهم مستعدُّون لدفع ثمنٍ عادل مقابلَها. على أي حال، من الأفضل أن أستمر على النهج نفسِه.»
بغرض تعزيز رفضه القاطع لمحاولة النقاش تلك، مدَّ يده بالفرخ الورق الملفوف وهو ينظر بأسًى إلى لوحة ألوانه.
قالت مؤيدة وهي تأخذ منه فرخ الورق بابتسامة فاتنة: «أجل، لا يجب أن أُهدِر وقتك الآن، مع أني أودُّ أن أُناقش معك تلك المسألة يومًا ما. لكني أستأذنك في المغادَرة الآن، وأشكرك كثيرًا على إقراضي تلك الورقة. أعِدُك بصدقٍ أن أردَّها إليك.»
مرة أخرى، أكَّد لها توم أنه لا داعي لردها، مع أنه أدرك الآن يائسًا أنها ستَفي بوعدها لا محالة. ومع ذلك، وبينما كان يُودُعها عند البوابة ويُراقبها وهي تسير إلى باب منزلها، عزم مجددًا على أن «يغضَّ الطرف عنها» ويصدَّ أيَّ محاولات لبناء علاقة أكثرَ حميمية؛ وهو قرار مُثير للإعجاب، لكنه بالنسبة إلى رجل دمثِ الخلق إلى حد التحرُّج والتشكُّك مثل توم بيدلي، يَفرض تحدياتٍ معينةً على أرض الواقع، كما سيَكتشِف قريبًا جدًّا. بالطبع، رُدَّت إليه الورقة المُقترَضة سريعًا؛ في الواقع، رُدَّت إليه في اليوم التالي، وفشلت محاولاتُ توم وهو يستلمُ فرخ الورق الملفوف في أن يضع نهاية للحدث فشلًا ذريعًا. في تلك المرة، لم يدْعُ زائرته الحسناءَ للدخول. لكن بالرغم من أنه أنهى الصفقة على عتبة بابه، كانت خاتمة الحدث مجردَ بدايةٍ لآخَر.
قالت بابتسامة أظهرَت صفًّا من الأسنان المتسقة بين شفتَيها القرمزيتَين: «لن أُعطلك الآن، لكني حقًّا أريد أن أريك مرسَمِي، وأرغب بشدة في معرفة رأيك في أعمالي. بِضع كلمات نقدية من فنان محنَّك مثلك ستُفيدني كثيرًا. سوف تأتي، أليس كذلك؟ في أي وقتٍ يُناسبُك. لنَقُل عصر اليوم مثلًا، في حوالي الرابعة. هل يُناسبُك ذلك؟»
بالطبع لم يكن ليُناسبه على الإطلاق لو كان ثَمة أيُّ فرصة مُمكنة للهرب. غير أنه لم يكن ثَمة أيُّ فرصة لذلك. نظر إليها توم وقد أُسقِط في يده، وهو يُتمتِم بكلماتِ شكرٍ مهذَّبة، ومستغرقٌ في التفكير. لكن ماذا بوُسعه أن يقول؟ كان واضحًا أنه لا مجال أمامه للرفض؛ ولما اتَّضح له ذلك جليًّا، قرر أن يزورها في الحال ويتخذَ تدابيرَ وقائية لمنع تَكرار تلك الزيارة.
قالت: «حسنًا جدًّا، إذن موعدنا الساعة الرابعة؛ وإن تفضلتَ بألا تقسوَ كثيرًا في نقدِك للوحاتي، سأصنع لك قِدحًا لذيذًا من الشاي.»
وبإيماءة وَدودة وابتسامة كشفَت أكثرَ عن أسنانها، سارت مبتعدة بخطًى رشيقة في اتجاه طريق هامبستيد، بينما عاد توم إلى الداخل، وهو يُتمتم بكلماتِ لوم وتقريع قاسية لنفسه، ووضعَ فرخ الورق داخل حافظة الأوراق.
لسنا بحاجةٍ إلى القول إن زيارة عصر ذلك اليوم لم تفعل شيئًا إزاءَ «وضع نهاية للحدث.» فعندما فتحَت مُضيفتُه الباب استجابةً لدقِّه الجرس، ونزعَت سيجارة من بين شفتَيها كي تَبتسِم ابتسامة ترحيب، استقبلته وكأنه «صديق طفولتها ورفيق لعبها في الصغر.» صافحتْه بدفءٍ حميمي، وقادته، وهي لا تزال مُمسكةً بيده، إلى غرفة استقبال كبيرة استقرَّ بها حاملُ رسمٍ جديدٌ بالقرب من النافذة، وبجانبه طاولة صغيرة. ألقى توم نظرة شاملة على المكان، وسرعان ما قيَّم صاحبته مِهْنيًّا. فيما عدا حامل الرسم وصندوق الألوان والفُرَش وإناء ماءٍ على الطاولة، كان المكان مجردَ غرفة جلوس نموذجية لسيدة، بدَت فيها مائدة الشاي بما فُرِش عليها أكثرَ تناغمًا معها من حامل الرسم.
قالت مضيفته: «ذلك هو مَشغلي المُتواضِع؛ يبدو دون المستوى مقارنةً بمَرْسمك الفخم، لكن …»
قال توم: «كان تيرنر أو دي وينت لِيَرياه ملائمًا كفاية. ما يُهِم هو الفنان لا المرسم. هلا ألقينا نظرةً على بعض أعمالك؟»
أجابت مُبتهجة وهي تقوده نحو حامل اللوحات: «أجل، لنفعَل. هذه آخر لوحاتي. لستُ راضية عنها تمامًا بعد، لكنِّي لا أظنُّ أني سأُضيف إليها أي شيء آخر مخافة أن أُفسدها. ما رأيك؟»
حملق توم في الشيء الموضوع على حامل اللوحات وتمتمَ بكلماتٍ غير مفهومة. إذ ثُبِّت نصف فرخ من ورق واتمان بإهمالٍ على لوح، وغُطِّيَ بخطوط مُنحنية من لون زاهٍ، من الواضح أنها وُضِعت وهي مشبعة بالماء على ورقة مُندَّاة، ليَنتج عنها تأثيرٌ أشبهُ بورق عينات الألوان لدى بائع ألوان الرسم.
قال مُتلعثمًا وقد تمالك نفسَه قليلًا: «حسنًا، لا أرى ماذا بوسعكِ أن تُضيفي لها. ربما يكون اﻟ… الموضوع … مبهَمًا بعض الشيء. ليس جليًّا تمامًا، تعرفين قصدي. ربما كان …»
قالت موضحة: «ليس للَّوحة موضوع، أعني من الناحية التصويرية. بل هي مجرد موضوع تعبيري بالألوان المجردة. أنوي تسميتَها «سيمفونية بالأخضر والأزرق». هل تظنُّ أنَّ تسميتها بسيمفونية به مغالاة؟»
أجاب توم: «لا أقول إن به مغالاةً، لكني لا أُحب تسمية الأشياء بغيرِ مسمَّياتها. إنها ليست سيمفونية كما تعلمين. فالسيمفونية هي مجموعةٌ من الأصوات، أما ذلك العمل فهو … أعني أنه لوحة.»
ضحكت السيدة شيلر ضحكة رقيقة. «كنتَ ستقول «إنها صورة»، ثم تراجعتَ. فلِمَ ذلك؟»
أقرَّ توم بابتسامة اعتذارية: «حسنًا، هي ليست ما أدعوه بصورة، لكني حقًّا لا أعرف أيَّ شيء عن ذلك النوع الجديد من الفن. أظن أنها صورةٌ تجريدية.»
«هي كذلك بالفعل؛ إنها تجريدٌ غير تصويري على الإطلاق للألوان. ربما تكون مثالًا متطرفًا؛ لذا لِنُبدِلها بأخرى أكثرَ واقعية.»
مدَّت يدها وأخرجت حافظة أوراق من تحت أريكة، ومنها أخرجت رسمةً صغيرة مثبَّتة على لوح وضعتها على الحامل.
قالت موضِّحة: «الأولى دراسةٌ في الألوان المجرَّدة. أما تلك فهي تَجرِبة في رسم الأشكال المجردة. لكنْ لها موضوع. لقد أطلقتُ عليها اسم «آدم وحواء». ما رأيك بها؟»
نظر توم إلى التُّحفة الفنية الجديدة مقطبًا حاجبَيه وقد تملكَته حَيرةٌ متزايدة. كانت تُمثل هيئتَين بشريَّتين كما قد يَرسُمهما طفلٌ عادي في التاسعة أو العاشرة لم يوهَب أيَّ ملَكة فنية فِطرية، حُدِّدا بخطوط ثقيلة بالقلم الرَّصاص ولُوِّنا بلطخات من الألوان؛ ونظرًا إلى كونه عملًا فنيًّا من إنتاج شخص عاقل بالغ، فقد كان مُثيرًا للذهول.
علَّق توم لمجرد التعليق قائلًا: «يبدُوان مُتشابهَين كثيرًا.»
وافقَته قائلة: «أجل، لكن ذلك طبيعي؛ إذ لا يَرتدي المسكينان أيَّ ملابس. الأكبر حجمًا بينهما هو آدمُ بالطبع، مع أن ذلك لا يُهمُّ كثيرًا. لقد وضعت لها عُنوانًا على سبيل العادة. لكن الصورة في واقع الأمر دراسة في الأشكال الأساسية.»
قال توم: «فهمت»، مع أنه لم يفعل؛ لكنه تابعَ التحديق في العمل الفني بعينَين ذاهلتَين، فيما كانت السيدة تَنظر من فوق كتفه بابتسامة خفية غامضة تلاشت فورَ أنِ التفتَ إليها. بعد تمحيص مطوَّل دون أي تعليق آخر، استرقَ النظر إلى حافظة رسوماتها، فيما كانت مضيفته ترفع اللوحة وتضع مكانها لوحةً أخرى، تُصور على ما يبدو رأسًا وكتفَين بشريَّتين، وبدَت في هيئتها أشبهَ كثيرًا بتلك «الرسومات» التي يُزين بها التلاميذ غيرُ الموهوبين الفراغاتِ في دفاترهم. وفي الواقع كان ذلك اعتقادَ توم في البداية بشأنها، لكن الفنانة سرعان ما صوبَت له المعلومة.
قالت: «كلا. إنها ليست لوحةً تصويرية. لقد أسميتُها «السيدة العذراء» لكنها مجرد دراسة في التبسيط قائمة على التكوين الهندسي للرأس البشري، حذفتُ منها جميع التفاصيل غير المهمة.»
قال توم معلقًا: «أجل، لاحظت أنَّ ثمة قدرًا كبيرًا من الحذف. أعتقد أن تلك الرقع البنية تُمثل الشعر، أليس كذلك؟»
أجابته: «هي لا تُمثله. بل فقط تُقِر بوجودِه وتُشير إليه ضِمنًا. ربما تبدو حقًّا غيرَ ضرورية في عمل غير تصويري، لكنها تُفيد في إبراز النمط.»
ترك ذلك التفسيرُ توم عاجزًا عن الكلام وكذلك فعلَت المختارات الأخرى من حافظة أعمالها. كانت جميعًا لها الطابَعُ نفسُه؛ إما خطوط لونية لا معنى لها، أو رسومات طفولية لبشرٍ وحيوانات. كان بعضها لمناظرَ طبيعيةٍ كما خمَّن من وجود أشكال خضراء تُشبه المِمْسَحات، التي ربما «تُشير ضمنًا» إلى الأشجار، وفي إحداها كان المنظر الطبيعي مأهولًا بحيوانات مجردة أشبه بنُسَخ أكثرَ بدائية من بضائع محل ألعاب.
قالت السيدة شيلر وهي تُعيد آخر لوحة إلى الحافظة: «تلك هي ذخيرة أعمالي؛ والآن بعد أن اطلعتَ عليها كاملة، أريد أن أسمع رأيك بصدقٍ فيها. لا داعيَ لأن تكون متحفِّظًا. ما أحتاج إليه منك هو النقد الصريح.»
صاح توم في يأس: «لكن يا سيدة شيلر العزيزة، أنا لستُ أهلًا لانتقاد أعمالك. فأنا لا أعرف أيَّ شيء ألبتة عن ذلك الفن الحداثي، عدا أنه يختلف تمامًا عن الفن الذي لطالما عرَفتُه ومارستُه. ولا يسَعُنا مناقشةُ الأمر لأننا لا نتحدَّث باللغة ذاتِها. فأنا عندما أرسم صورة، أستهدف الجمالَ وإثارة الاهتمام؛ ولأنه لا يوجد ما هو أجملُ من الطبيعة، أحاول أن أُحاكيَ مظاهرها قدر استطاعتي. ولأن الصورة هي عمل إبداعي من وحي الخيال لا مجرد تصوير مثل رسمٍ توضيحي في كتاب دراسي علمي؛ أحاول أن أُرتِّب عناصري في تكوينٍ جميل، وأجعَلَها تعكس أفكارًا مثيرة للاهتمام. لكن من الواضح أن الفن الحداثي يتجنَّب محاكاة الطبيعة وأي نوع من الاهتمامات الفكرية أو العاطفية. أنا لا أفهمه على الإطلاق.»
قالت معترضة: «لكن، ألا ترى جمالًا في الأشكال المجرَّدة؟»
أجابها: «لطالما افترضتُ أن الأشكال المجرَّدة حَكرٌ على الرياضيات، في حين يختص الرسم والنحت بالأشياء الملموسة والمرئيَّة. لكن حقًّا يا سيدة شيلر، لا أرى جدوى من مناقشةِ تلك المسألة. فنحن نتحدث ونُفكر على مستويَين مختلفَين.»
قالت مؤيدة رأيه: «أظن أننا كذلك حقًّا، لكن ذلك محبطٌ لي نوعًا ما. فقد كنت آمُل في الاستفادة من خبرتك، لكني أرى الآن أنها لا تتَّصل بأي حال بالفن الحديث. لكن ذلك لا يُهم، سنُغرق اختلافاتنا في إبريق الشاي. هلا جلست في ذلك الكرسي ريثما أضع الغلاية على النار، أم تُفضل كرسيًّا ألين؟»
أجاب توم: «بل أُفضل الكراسيَّ الصُّلبة.»
«وأنا كذلك. ألا تجد أنه من الغريب أن النساء يُفضِّلن مقاعدَ محشوة كفراشٍ وثير من الريش وتملؤها الوسائد؟ لم أفهم لذلك سببًا قط؛ فهن أخفُّ وزنًا من الرجال عامة، وملابسُهن أكثر سِترًا.»
قال توم وهو يتجه إلى الكرسيِّ ذي القاعدة الخشبية: «ربما لأنهن يرتدين ملابسَ أقل، ويحتَجْن إلى الوسائد لأجل الدفء.»
قالت وهي تُقرب عود ثقاب إلى شعلة الموقد الذي استقرَّ فوقها غلايةٌ نُحاسية جميلة مدعمة: «حسنًا، إذن نحن متفقان بشأن الكراسي؛ ها قد صار لدينا أمرٌ نتفق بشأنه كبداية.»
سحبَت كرسيًّا ذا ذراعَين من خشب الماهوجني الفاتح، وجلست عليه مركزة انتباهَها على الغلاية؛ وبينما كان يسخن، تابعت نقاشها بجدية مصطنَعة غريبةِ الأطوار بقصد المزاح، وجدَها توم لطيفةً للغاية. في الواقع، لم يكن خافيًا أن السيدة شيلر كانت ذاتَ شخصية جذابة جدًّا، إن كان بوُسع المرء أن يُنحِّي جانبًا شناعة رسمها؛ وأدرك توم، الذي يُحب النساء كثيرًا ما لم يُطالِبْنه بالزواج، بشيء من الدهشة أن ذلك الحفلَ الصغير غير الرسمي يروق له (مع أنه كان لا يزال ملتزمًا بقراره بأن يكون الغرض من تلك الزيارة هو «وضع نهاية للأمر».) كان الشاي الصينيُّ الفاخر منقوعًا لدرجة مثالية، وكانت أغراض المائدة بما فيها الغلاية تَسُر العين، وكانت تعبيراتُ مضيفته المازحة المرحة تُسلِّيه بعض الشيء.
ما لبث أن عاد الحديث يتطرَّق إلى موضوع الرسم، فأقدَم توم يبحث عن حلٍّ للُّغز الذي يُحيره.
سألها: «هل ترسمين دومًا بذلك الأسلوب الحداثي؟»
كرَّرت بابتسامة: «دومًا! أنا لم أكن أرسم على الإطلاق. إنها مُغامرة جديدة تمامًا بالنسبة لي، خضتُها بمحض الصدفة؛ صدفة تبدو لي غريبةً للغاية عندما أتذكرها. طلبَت مني صديقة لي أن أُرافقها إلى معرض مُقام بصالة عرض في ساحة ليستر تُعرَض فيه أعمالُ كبار الرسامين المعاصرين. لم أكن أودُّ الذَّهاب؛ لأني لم أكن أهتم قط باللوحات ولا أعرف أيَّ شيء عنها، لكنها ألحَّت عليَّ بالذَّهاب؛ لأن الجميع يتحدث عن تلك اللوحات، ولأن النُّقاد الفنيين صرحوا بأنها تُعَد أحدثَ الاكتشافات الفنية.
لذا ذهبت، والمدهش أن اللوحات أثارت اهتمامي وإعجابي إلى أبعدِ الحدود. كانت تختلف تمامًا عن أي شيء رأيتُه من قبل؛ كانت طريفة وعجيبة للغاية. بدَت وكأن مَن رسمها أطفال. لقد أسرَتْني حقًّا؛ لدرجة أني قررتُ أن أُجرب إن كان بإمكاني أن أرسم أيَّ شيء قريبٍ منها. ووجدتُ أني أستطيع ذلك. أليس هذا غريبًا؟ أنا لم أرسُم أو أُلوِّن من قبل، ومع ذلك وجدتُ الأمر سهلًا للغاية. ألا تعتقد أن ذلك عجيب للغاية؟»
وافقها توم بصدقٍ تام، وإن لم يكن بالمعنى الذي قصدَته قائلًا: «عجيب جدًّا.» تكشَّف له اللغزُ تمامًا الآن، لكن كان ثمة أمورٌ أخرى متعلقة به تُثير فضوله.
سألها: «هل تُرسلين لوحاتك إلى المعارض الفنية؟ ذاك أمر ضروري جدًّا إن كنتِ تنتظرين أن تتكسَّبي من أعمالك الفنية.»
أجابته: «أنا لم أعرض أعمالي فعليًّا من قبل، لكنِّي أُجهز مجموعة منها، كما أذهب إلى مَعارِض الفن الحداثي كي أرى الأثمانَ التي تُباع بها الأعمال التي تُشبه أعمالي، أو على الأقل تُعرَض بها. تبدو لي أثمانًا باهظةً نوعًا ما، لكني أُلاحظ أن ما يُباع من اللوحات قليل جدًّا.»
قال توم: «أجل، لا يُقبِل كثيرون على شراء اللوحات هذه الأيام، والقلة القليلة من مُحبِّي اللوحات ممن يشترونها، يُفضلون الأعمال ذاتَ الطابَعِ التقليدي. لكن الخُطة المُثْلى بالنسبة لك هي أن تُجربي عرض لوحاتك على بعض التجار المتخصِّصين في الأعمال الفنية المعاصرة. فهم يعرفون كم تُساوي لوحاتُك في سوقهم، وربما يستطيعون إسداءكِ بعضَ النصائح المفيدة. وربما حتى يَبْتاعون بعضًا من أعمالك … بالأسعارِ التي تُناسبُهم بالطبع.»
قالت: «تلك فكرة رائعة. سأُجرب ذلك بكل تأكيد. ربما بإمكانك إعطائي اسمَ تاجرٍ أو اثنين. أليس كذلك؟»
هز توم رأسه نفيًا. «التجار الذين أبيعهم أعمالي لن يُفيدوكِ في شيء؛ فهم رجالٌ محافظون يُتاجرون في الأعمال القديمة الطِّراز. لن يقبَلوا بالأعمال المعاصَرة. سيخشون أن تصرف عنهم زبائنهم الدائمين.»
قالت بابتسامة ساخرة: «لا يبدو لي هذا مُشجِّعًا.»
قال توم معترفًا: «أظنُّه كذلك»، وفي لحظات السكوت التي تلَتْ قوله ذلك، أدرك فجأةً أن تلك المُكاشَفات الوُدية ليست مواتية لوضع «نهاية للأمر.» فما كان منه إلا أن توقَّف عنها حتى لا تزدادَ الأمور سوءًا.
قال: «يبدو أنكِ تَعتمدين اعتمادًا كاملًا على الألوان المائية. هل تجدينها ملائمةً أكثرَ من ألوان الزيت؟»
أجابته: «الحقيقة هي أني لم أُجرِّب قطُّ ألوانَ الزيت؛ لأني لا أعرف كيف أبدأ في ذلك؛ أعني بالنسبة إلى دمج الألوان ووضعِها على تلك الفرش ذات المظهر الغريب والشعيرات المتيبِّسة. لكني أود الرسم بالألوان الزيتية، أو على الأقل تجرِبتَها.» صمَتَت لبضعِ لحظات، ثم أردفت بنبرةٍ تلميحية: «أتساءل إن كان جاري الطيبُ القلبِ المتعاونُ سيُساعدني في ذلك.»
نظر إليها توم بوجَل، وقال: «أظن أني الجار المقصود، لكني لا أفهم ما تُريدينه مني بالضبط.»
قالت مستحِثَّة إياه: «إنه طلب بسيط للغاية، لكني سأكون مُمتنةً كثيرًا لك إن سمحت لي بزيارتك أثناءَ عملك، وأشاهدك وأنت تعمل.»
سألها: «لكن لأي غرض؟ فأسلوب رسمي مُختلفٌ تمامًا عن أسلوبك.»
قالت موافقة: «أعرف ذلك. لكن، في النهاية، يستخدم رسَّامو المدرسة الحديثة الخاماتِ والأدوات التي يستخدمها فنَّانو المدارس التقليدية. وأنت تعرف كل ما يتعلَّق بأساليب الرسم بالألوان الزيتية، وإنْ تسنَّى لي مراقبتك وأنت تعمل بها، سأرى كيف تستخدمها، وحينها سيكون بإمكاني بقليلٍ من التدريب أن أفعل ذلك بنفسي. هلا سمحتَ لي بالقدوم مرة أو اثنتين؟ أعِدُك بألا أُهدرَ وقتك أو أُقاطعك بحديثي.»
نظر توم إلى وجهها المُتملِّق المبتسِم وأدرك أنها وضعَته في موقف حرج. سيكون من الوقاحة أن يرفض، والواقع أنه لم يكن من طبعه أن يُحجِم عن تقديم أيِّ مساعدة بوُسعه أن يُقدِّمها لفنان زميل، مهما بلغ من السوء. لكن أيضًا كان لا يزال عليه أن «يغضَّ طرفَه عنها.» فلن يكون من المقبول أبدًا أن يسمح لتلك الشابة الجريئة بالتجول بحريةٍ داخل مرسمه.
قال بعد فترة من الصمت: «حين أعمل، أُحب أن أكون وحدي، وأُركز على ما أقوم به، لكن سيَسُرُّني جدًّا أن أُوضح لكِ عمَليًّا أسلوب الرسم بالألوان الزيتية. ما أودُّ اقتراحه هو أن تُحضِري معك إحدى لوحاتك، وسأصنع منها نسخةً بالألوان الزيتية بينما تُشاهدينَني. ثم بإمكانك أن تطرحي كلَّ ما تشائين من أسئلة وسأعطيك أيَّ نصائح أراها ضرورية فيما يخص التعامل مع ذلك النوع من الألوان. فما رأيك بذلك؟»
«هذا بالضبط ما كنت سأطلبه منك لو واتَتْني الجُرأة. أنا سعيدة وممتنَّة لك لدرجة تعجز الكلماتُ عن وصفها. هلا أخبرتني بالموعد المناسب كي أحضر من أجل ذلك الشرح العملي؟»
أجابها: «سأفعل. لكن لن يكون ذلك قبل يوم أو اثنين، لكن عندما أفرُغ من تلك اللوحة التي أعمل عليها، سأترك رسالةً في صندوق بريدك تُخيِّرك بين بضعة مواعيد للاختيار بينها.» ثم تابع وهو ينهض استعدادًا للمغادرة: «وآمُل أن تنال تلك الألوان إعجابَكِ وتُخرِجي بها أعمالًا عظيمة.»
عندما دخل إلى مرسمه وشغَل نفسه بتنظيف لوحة ألوانه وفرشه، وإنهاء بعض المهام البسيطة، استغرقَ في تفكير عميق في أحداثِ ما بعد الظهيرة. شيء واحد كان جليًّا له؛ وهو أنه قد فشل في وضع «نهاية للأمر.» لقد أسَرَته تلك السيدة اللطيفة. لقد نصبَت نفسها بالفعل واحدةً من معارفه، ورأى بوضوح أن المقابلة التالية ستَضعُها على أعتاب الوصول إلى منزلة الصديقة. كان ذلك أمرًا مؤسفًا، لكن عليه أن يتعامل معه، ويستمرَّ في «غضِّ الطرف عنها» … إن كان استخدام كلمة «يستمر» دقيقًا في هذا الموضع.
أما بالنسبة للسيدة نفسِها، فقد كانت لغزًا محيرًا للغاية. لم يكن بإمكانه أن يَفهمها. هل هي مجرَّد مدَّعية أم أنها تُعاني من نوع غير عادي من الوهم؟ كانت الحقائق الصريحة والواضحة هي أنها لا تملك موهبةَ الرسم على الإطلاق، وأن لوحاتها المرسومة بالألوان المائية هي أقربُ إلى لوحات طفل بلا أي موهبة، وأنها كما يبدو لا تملك أيَّ أفكار فنية، ولا قدرة لديها على ابتكار موضوعٍ للرسم. لكن هل كان من المُحتمَل أن يكون لديها ضربٌ من المواهب الفنية عجز عن قياسها؟ بدا أن هذا الافتراض ينفيَه الاعترافُ الذي جرى على لسانها بأنها لم تشعر من قبلُ بأيِّ اهتمام تجاهَ اللوحات. فالسِّمة البارزة التي تُميز الموهبة الحقيقية هي أنها تظهر في سنٍّ مبكِّرة. بوب كان يُسطر أبياتًا من الشعر تأتيه دون جهد منذ نعومة أظفاره، وموتزارت وهاندل كانا موسيقيَّين، بل وكانا أيضًا مؤلفَين موسيقيَّين عندما كانا أطفالًا صغارًا، وجون ميلييه كان رسامًا بارعًا في سن الخامسة، وبونينجتون مات في عقده الثاني من العمر وقد ذاع صيتُه في أوروبا كلها، وكذلك فريد واكر وشانتري وآخرون كُثْر. كلا، مَن يبلغ من العمر خريفه دون أن تظهر عليه أيُّ ميول فنية قطعًا ليس فنانًا بالفطرة.
الاستنتاج الوحيد المحتمل هو أن السيدة شيلر إما مدَّعية أو أنها ضحية وهمٍ غريب، وهنا عليه أن يدعَ الأمر؛ فهو أمر لا يخصه في النهاية. كان كل ما يُهمه هو أن يضمَن عدم وقوعه في أي شِراك؛ لكن أساليب السيدة المتمرسة البارعة كانت تدلُّ على أنها ستَشغَله بذلك الأمر تمامًا دون أن يشغَل باله تمامًا بمواهبها الفنية.