السيد فاندربوي
ثمة أشخاص، وهم كُثْر للأسف، يبدو أنهم لا يملكون القدرة على فعل أي شيء بإتقان. فتعجُّلهم الانتهاءَ مما يفعلونه، وافتقارُهم إلى القدرة على التركيز على الفعل نفسِه، يُخرِج عملًا غير متقَن ونتائجَ معيبة. وعلى النقيض، ثَمة بعض الأشخاص من ذوي النفوس السليمة لا يستطيعون أن يحملوا أنفسهم على فعل أي شيء بغير إتقان. كان توم بيدلي خيرَ مثال على ذلك النوع الأخير. فهو يُعير أبسطَ المهام كاملَ انتباهه، ولا يقوم عنها إلا وقد أتمَّها على أكمل وجه، حتى إن كانت تلك المهمة لا تتعدَّى غسل قدحِ شاي أو تلميعَ ملعقة. هكذا جرى الشرح العملي لفنيات الرسم بالألوان الزيتية، مع أنه كان بينه وبين نفسه يراه مَضْيعة للوقت، دقيقًا ووافيًا تمامًا كما لو كانت السيدة شيلر تلميذة واعدة للغاية.
قالت السيدة موضحة عندما حضرت في اليوم المحدَّد: «لقد أحضرتُ لوحتَين من لوحاتي؛ «سيمفونية بالأخضر والأزرق» وتلك التي موضوعها «آدم وحواء». في رأيك أيَّتُهما ستكون ملائمةً أكثر؟»
أجابها توم: «بإمكاننا أن نُنفِّذ كِلَيهما؛ فإحداهما تحوي أشكالًا من نوعٍ ما لا تحويه الأخرى. لنبدأْ بلوحة «السيمفونية»؛ يبدو أنكِ استخدمتِ فرشًا كبيرة جدًّا وأبقيتِ الورقة مشربةً بالماء على نحو غير عادي.»
«أوه، أنا لم أستخدم أي فرش على الإطلاق. بل غمستُ الورقة في الماء، ثم مزجتُ شيئًا من اللون الزَّبَرجدي المتأكسِد والأزرق اللازَوَرْدي الفرنسي في إناءين منفصلَين، ثم صبَبتُهما في خطوط طويلة. وعندما أملت اللوحة، بالطبع سالت الألوان ممتزجةً معًا وصنعَت تلك التدرجاتِ اللونيةَ الخفيفة، والتي حاولتُ التعبير عنها بكلمة «سيمفونية».»
قال توم بابتسامة تنمُّ عن تقدير: «فهمت. يا لها من طريقة جيدة جدًّا. وموفِّرة للجهد كذلك. لكن لا يُمكنكِ أن تَفعلي ذلك في الرسم بالألوان الزيتية. يجب أن تمزجي الألوان بالفرشاة، إلا إن كنتِ ستستخدمين السكِّين. سأُريك الطريقة.»
وضع «السيمفونية» على الحامل وبجانبها لوحُ رسمٍ أبعادُه أربعَ عشْرةَ بوصةً في اثنتَي عشْرة بوصة. ثم، على لوحة ألوان نظيفة، وضَع ثلاثَ قطرات من أنابيب الألوان الزَّبَرْجَدي المتأكسد والأزرقِ اللازَوَردي الفرَنسي والأبيض الثلجي، ثم أمسك بسكِّين مزجِ الألوان، ومزَجَها ليصنع بضع درجاتِ ألوانٍ مماثلة لتلك الموجودة في «السيمفونية».
قال: «سنتَّبع أساليبك قدرَ استطاعتنا مع الألوان الزيتية. سنبدأ برسمِ خطوط باللون الأغمق، ثم نُضيف درجات أفتح عند الأطراف، ثم ندمجها بالفرشاة معًا كي نصنعَ تلك التدرجات الدقيقة؛ هكذا.»
بدأ يعمل مستخدمًا فرشاتَين كبيرتين، وهو يَنظر بإمعانٍ إلى «السيمفونية»، ومن آنٍ لآخرَ يشرح طريقة التعامل مع الفرشاة ودمجِ درجات الألوان في بِضع كلمات موجَزة. وبعد ربع الساعة من العمل، كان قد صنع نسخة من «السيمفونية» ربما كانت لتبدوَ صورةً طبق الأصل عنها، لولا اختلافُ نوعِ الألوان. كانت تلميذته تُراقبه وتُصغي لشروحاته دون أن تنبس ببنتِ شَفة حتى أتم عمله. ثم، وبينما كان يتراجع للخلف ويضعُ لوحة ألوانه، صاحت مندهشة:
«يا للروعة! لقد صنعتَ نسخة طبق الأصل منها؛ وبسرعة كبيرة أيضًا. هذا مدهش حقًّا، ويبدو سهلًا للغاية.»
كرَّر توم: «سهل! بالطبع سهل. فبوُسع أي … أي أحد … (كان على وشك أن يقول «أي أحمَق») وضعَ خطوطًا من الألوان على لوح رسم ودمَج حوافها معًا.» ثم أضاف بسرعة: «لكن بالطبع عليه أن يكون في تلك الخطوط لمسةُ ابتكار. والآن علينا أن ننتقل إلى «آدم وحواء».»
غير أن هذه اللوحة شكَّلَت صعوبة أكبر؛ فرغم محاولاته المُضنية، لم يستطع مطابقة التأثير الطفولي للرسم الأصلي. فشخوصه أصرَّت على أن تبدوَ بشرية قليلًا، حتى في تمايُزها إلى رجلٍ وامرأة.
قال وهو يتراجع إلى الخلف وينظر إلى عمله بابتسامة كئيبة: «هاك، أعتقد أن ذلك سيفي بالغرض، مع أنه ليس بنسخة جيدة. يبدو أني أغفلت بعضًا من «الأشكال الأساسية»، لكن لا يُهم، لقد رأيتِ الأسلوب. والآن ختامًا، سأُريك كيف تَستخدمين سكين الدمج. فقد يُناسبك ذلك أكثر من الفرشاة.»
وضع على حامل الرسم لوحًا من الورق المقوَّى، ثمَّ أخد بضع سكاكينَ صغيرةٍ ذاتِ أنصالٍ رفيعة تُشبه المجرفة، وسريعًا، صنع بها نسخة أخرى من «السيمفونية»، فيما راقبَته تلميذته بدهشةٍ ممتزجةٍ بالبهجة والفرح. وأخيرًا، أراها كيفية تنظيف لوح الألوان وغسل الفرش، منبهًا إياها إلى أن الرسام المنظَّم يعتني بأدواته ولا يُهدر خاماته.
وختم بقوله: «والآن ها قد صرت تعرفين كل شيء عن الأمر. السهولة ستأتي بالممارسة، أما الأفكار فهي لديك بالفعل، إذن ما عليكِ سوى أن تشتري الخامات وتنطلقي.»
قالت: «سأفعل ذلك بالتأكيد. لكن لا يسَعُني أن أُعبر لك عن امتناني.» دنَت منه، ونظرت إلى وجهه بجدية واضعةً يدَيها على ذراعيه (وللحظةٍ مريعة خُيِّل إليه أنها ستُقبله) ثم صاحت بفرح: «كان لطفًا بالغًا منك أن تتكبَّد كل ذلك العناء من أجل امرأة غريبة. أظن أنك ودود جدًّا. لكنَّنا في الواقع لسنا غريبَين، أليس كذلك؟»
قال توم مقرًّا بحذر: «حسنًا، لقد رأيتك من قبل قطعًا.»
قالت معترضة بابتسامة: «لا تكن مملًّا. لقد رأيتني من قبل بالفعل! لكن لا يهم. فأنت لم تنتهِ من أمري بعد. أريدك أن تأتيَ معي إلى متجر مستلزمات الرسامين وتُريَني ما يلزم شراؤه للبدء. هلا فعلتَ ذلك من أجلي؟ قل نعم كالبطة المطيعة.»
قال توم معترضًا: «لا أستطيع فعل ذلك؛ لأنني لم أرَ قط بطة تقول نعم؛ لكني سأرافقك إلى المتجر لأتأكَّد من أنك لن تُهدري مالَكِ على تفاهات. ربما من الأفضل أن نذهب سريعًا الآن لننتهيَ من ذلك الأمر. المتجر قريب. لن نستغرقَ سوى بضع دقائق. ما رأيك؟»
قالت بابتسامة خبيثة وفَطِنة للغاية: «أجل.» وأدرك توم متأخرًا أن فظاظته المتعمَّدة لم تدفعها عنه، بل قرَّبَتها منه خطوة. وهكذا، قصدا المتجر معًا، وبعد أن أشرف توم على مشترياتها وتأكَّد من حصولها على الضروريات اللازمة للبدء، حمل الرزمة الكبيرة ورافقها إلى منزلها، وعندما ناولها الرزمة وودَّعها على عتبة بابها، جعلَته حرارةُ امتنانها وعِرفانها له يشكر الله أنْ تبادلا كلمات الوداع على قارعة الطريق.
دار على عقبَيه بوجه مضطرب وحزنٍ دفين. لم يعد بإمكانه خداعُ نفسه الآن. لقد فشل فشلًا ذريعًا في «غضِّ طرفه عنها.» واتَّخذته تلك السيدة الشابة الاستثنائية صديقًا ورفيقًا خاصًّا، شاء أم أبى. وبدا لا يرى من ذلك فكاكًا. رجل أكثرُ فظاظة وأقلُّ لطفًا منه كان ليستخدمَ أسلوب صدٍّ فعَّالًا؛ لكن توم كان رجلًا طيب القلب، ودمث الخلق ومراعيًا لمشاعر الآخرين بطبعِه وعادته، ويُكِن كلَّ التوقير للنساء كما العزَّاب العجائز. على مضض، كان عليه أن يقبل فكرة أن تلك الصداقة التي لم يُرِدها صارت حقيقةً قائمة، عليه من الآن فصاعدًا أن يُخضِع لها أسلوبَ حياته المعتاد البسيط الانطوائي.
وقد كان. لم تكن صديقته الجديدة متطفلةً في الواقع؛ فقد أدركَت أنه رجل وحيد يُحب أن يعمل وحده دون رفيق. لكن بطريقةٍ ما، لم يكد يمرُّ يوم دون أن يراها على نحوٍ أو آخر. بالطبع كان يُضطَر إلى الذَّهاب لرؤية تَجارِبها بالطريقة الجديدة (التي كان يُحملق فيها ببلادة، وقد بلَغَت منه الدهشةُ مداها) وإسدائها مزيدًا من النصائح الفنية البحتة. ثم كانت هي تمر بمرسمه من حينٍ لآخر كي تطرح عليه سؤالًا، أو تعرض عليه خدمة بسيطة، أو تُقدم له هدية صغيرة، وكان عدد المرات التي يتقابلان فيها صدفة في الشوارع المجاورة تدحض جميع قوانين الاحتمال المعروفة. وهكذا ودون أن يشعر، زادت أواصرُ الصداقة والألفة بينهما، ومعها زادت المساحة التي تحتلُّها في حياته.
راقب توم ذلك الأمر بقلق وتوجس، لاعنًا الحظَّ السيئ الذي وضعها في طريقه. لكنه ما لبث أن بدأ يُدرك أن الأمور ليست بالسوء الذي كان يخشاه؛ فهي في المقام الأول لم تكن أرملة. كان لها زوج يظهر في خلفية حياتها، التي كانت خلفيةً ألمانية على ما يبدو؛ كان شخصية مبهَمة، لكنه يظل حائلًا مؤكدًا دون زواجهما. لذا انتفى الخطر الأساسي. ثم بدأت حقائقُ مطمْئِنةٌ أخرى تتجلى. في البداية، كان رفعُها المدهش للكلفة يرعبه، وكانت العبارات والألقاب التودُّدية التي تُخاطبه بها تبدو له مزعِجةً بحق، لكنه سرعان ما اعتاد أن تُناديَه «توم» أو حتى «تومي»؛ أما بالنسبة إلى عبارات المداعبة والتودُّد، فبدا أنها مجرَّد عادةٍ من قبيل المزاح لا أكثر. أدرك ذلك عندما لاحظ الانضباط الجوهري في سلوكها عندما يكونان معًا. فلم يرَ منها قط أيَّ نزعة نحو إبداء أي عاطفة أو مغازلة.
ربما تُناديه «عزيزي» أو «صغيري» أو حتى «تومي الحبيب»، لكن تلك الكلمات في ذاتها بدَت بريئةً — رغم سخافتها — بالنظر إلى أسلوبها المجرَّد تمامًا من العواطف؛ وبعد أن اطمأنَّ توم واستقرَّ إلى أنه ليس مهددًا بالوقوع في ورطة حقيقية، بذل ما في وُسعه كي يصبر على ما رآه «عادة سخيفة وبغيضة جدًّا.»
أما بالنسبة للمرأة نفسِها، فكانت شخصيتها جذابة. كانت مفعمة بالحيوية ومرحة ومسلية، وكان ليتَّخذها رفيقة لا بأس بها لو كان يُريد واحدة — وهو ما لم يكن يريده قطعًا — ولو كانت أظهرَت أي لمحةِ تذوق للفن كما يعرفه. لكنها سرعان ما تركت رطانة صحفيِّي الأخبار الفنية، وحاولت أن تهتمَّ بأعماله، لكنها في الحقيقة لم تكن تعرف أي شيء عن الفن التقليدي أو تهتمُّ به على الإطلاق، ونظرًا إلى غياب ذلك الاهتمام، لم يكن بينهما أيُّ شيء مشترَك.
على الجانب الآخر، كان مظهرها يُثير اهتمامه، وبما أنه كان يرسم صورًا شخصية من حينٍ لآخر، فقد أولاه بعض العناية. كان لِيَصِفها بأنها امرأة فاتنة الجمال؛ شقراء، مُبهرجة، تضع زينة تُساير صرعةً قبيحة، ولها شَفتان حمراوان، ووَجْنتان يُغطيهما مساحيق التجميل ومورد الوجنتَين، وحاجبان مرسومان، وكتلة هائلة من الشعر المجعد، الذي بدا أنه في وقتٍ ما كان مقصوصًا حتى عنقها وصار الآن في طَور النمو مرة أخرى. كان شعرها بالأخصِّ يُثير انتباهه؛ فلم يرَ مثيلًا له من قبل. كان لونه بنيًّا فاتحًا جدًّا يميل إلى الأصفر الشاحب، لكن كان ثمة شيء غريب في نسيجه؛ شيء يُضفي عليه بريقًا خاصًّا عندما يسقط عليه الضوء ويبدو وكأنما لونه قد تغير. ونظرًا إلى المشكلة التي ستُقابله عند تصويره في لوحة شخصية، تأمله توم في إضاءات مختلفة وقارنه بعينَيها العسليتين المشُوبتَين بخُضرة وما تسنَّى له تمييزه من لون بشَرتِها؛ وأخيرًا استقر إلى أنه شعر مُستعار من نوعٍ ما، لكنه لم يستطع تحديد نوعه.
أما عن باقي صفاتها، فكانت طويلة القامة نوعًا ما، ربما يبلغ طولها خمسةَ أقدام وسبع بوصات دون حذائها ذي الكعب العالي، جذابة إلى حدٍّ ما، ملامحها دقيقة نوعًا ما لكن ذقنها كان بارزًا وفكها السفلي قويًّا. كان الجانب الأكثر جاذبية فيها دون شك هو جانب وجهِها، وقد تمعن توم فيه بعينِ خبير مُحترِف، وقرر أنه يَصلُح أن يكون موضوعًا لصورة بارزة جميلة للغاية. حتى إنه رسم بضعة رسوم تجريبية له من الذاكرة في دفتر ملاحظاته، ولديه نية لم تَكتمِل بعدُ لأن يعرض عليها رسم صورة شخصية بارزة لها؛ لكنه تخلَّى عن تلك الفكرة؛ إذ أدرك أن الظروف اللازمة لذلك ستميل إلى توطيد صداقة كانت وثيقةً للغاية بالفعل.
إنْ فعل ذلك، فسيُظَن أن توم ما زال يسعى، إن جاز التعبير، إلى خوض معركة بائسة؛ وما زال يسعى إلى وضع حدٍّ لتلك العلاقة الوثيقة التي لم يسعَ إليها. كان يعلم يقينًا الآن أنه لا يُمكن أن يكون لديها أيُّ نوايا للزواج منه، ولم يعد يخشى أي محاولات من جانبها لسحبه إلى علاقة مريبة، لكنَّه كان يكره هذه العلاقة. لم يرغب يومًا في أن يكون له صديق من الجنس الآخر، وكره طريقة تعلُّق تلك السيدة به. ولأنه رجل وحيد نوعًا ما ومنطوٍ على نفسه إلى درجة كبيرة، كانت أمنيته الأساسية أن يدَعَه الآخرون يحيا حياته كما يحب، وكلما مرَّ الوقت شقَّ عليه أكثر أن يقتحم شخصٌ آخر حياته تلك، حتى وإن كان شخصًا متفهمًا لذلك. لكنه لم يرَ مَفرًّا، عدا التجاهل التام، الأمر الذي لا يقدر عليه؛ وفي النهاية تخلَّى عن مقاومته، وبزفرةِ ندمٍ على ما فقده من راحة البال والحرية، قرر أن يُحقق أقصى استفادة من الظروف الجديدة.
لكنَّ ساعة خلاصه كانت قريبة، مع أنه لم يكن بوُسعه التنبؤُ بها على الإطلاق، ولا تخمينُ هُوية الشخص الطيب الذي جاء حاملًا له أمرَ إخلاء سبيله الذي لم يكن في الحسبان تمامًا. وكما يبلغ الظلام أقصاه قبل بزوغ الفجر، جاءت بداية تحرُّره في اللحظة التي شعر فيها بأن تلك العلاقة الوثيقة المفروضة عليه صارت مصدرَ إزعاج لا يُحتمَل.
كانت الساعة حوالي الرابعة عصرًا، حين مرت السيدة بمرسمه لتدعوَه إلى احتساء الشاي، وهو ما قابله برفض قاطع.
قالت معترضة: «هراء! أنت دائمًا مشغول عن أن تأتيَ لاحتساء الشاي معي؛ أو هكذا تدَّعي على الأقل، وأنا لا أُصدقك. ما هذا إلا مجرد عذر. أهو الشاي الذي أُعده أم رُفقتي التي لا تُحب؟»
شرع توم يقول: «عزيزتي السيدة شيلر …» ولكنَّها قاطعته.
«أوه، ليس السيدة شيلر! ألم أطلب إليك مرارًا ألا تُناديني بذلك الاسم المريع؟ ادعني لوتا. أنا واثقه أنه اسم لطيف جدًّا.»
«هو اسمٌ رائع للغاية. حسنًا، يا ﺳ… يا لوتا …»
«عزيزي، إن لم تأتِ لاحتساء الشاي معي، فسأبقى أنا هنا وأُعِد لك الشاي وأُساعدك على احتسائه؛ وبعدها سأُغادر وأترك دبِّي العزيز الحبيب يَنعم بسلامِ عرينه. ستسمح لي بالبقاء يا عزيزي توم، أليس كذلك؟»
في تلك اللحظة، دقَّ جرس المرسم بإلحاح في الباحة الخارجية قاطعًا حديثهما.
سألته لوتا: «هل أخرج لأرى من الطارق؟»
«كلا. من الأفضل أن أذهب أنا؛ فربما أستطيع إنهاء الأمر على عتبة الباب.»
أسرع الخطى عبر المَمر، آملًا أن يستطيع ذلك. لكن عندما فتح الباب ليجد أمامه صديقه القديم السيد بولتون وبرفقته غريب، أدرك أنه لا مجال للتملُّص؛ فقد كان مضطرًّا إلى أن يدعوَهما للدخول.
حيَّاه بولتون بابتسامة مبتهجة عريضة قائلًا: «مساء الخير يا سيدي، لقد سمحتُ لنفسي بإحضار زبون لك يُريدك أن تَرسم صورة شخصية له. هل أنا مُصيب في استخدامي لفظ «زبون»؟»
«حسنًا، عادة ما نُسمِّيهم عارضين، مع أن الكلمة تميل قليلًا إلى الإشارة لمجال الأزياء. لكن هذا لا يهم. هلا تفضَّلتما بالدخول؟»
دخَلوا، وبينما كانوا يَسيرُون على مهل في المَمر، استكمل بولتون عملية التعارف. كان الجالس المرتقب، وهو رجل أفريقي وسيم ذو بشَرة فاتحة، من بلدة إلمينا بساحل الذهب يُدعى السيد ويليام فاندربوي، يحضر حاليًّا مجموعة محاضرات في الطب الشرعي في مُستشفى سانت مارجريت.
قال بولتون مستطردًا: «كما أنه يؤدِّي بعض المهام العملية في معملنا، باعتباره تلميذًا للدكتور ثورندايك. وهكذا نلتُ شرف معرفته.»
في تلك اللحظة كانوا قد بلغوا باب المرسم الذي فتحه توم، داعيًا إياهما إلى الدخول. وهكذا دخَلا، ثم عندما أدركا وجود شخص آخر في المرسم، توقف كلاهما فجأة، ولبرهة، تبادلت ثلاثة أزواج من العيون الفضولية نظراتٍ متفحِّصةً سريعة. أسرع توم يُعرِّف ضيوفه الثلاثة بعضَهم ببعض وهو يتصبَّب عرقًا من الخجل، ويسبُّ في سره، ثم بغرض منح السيدة فرصة للمغادرة، قال موضحًا:
«سيُشرِّفُني السيد فاندربوي بالجلوس لرسم صورته الشخصية.»
صاحت قائلة: «أوه، يا له من أمر مثير للاهتمام! لكني أتوقع أنكما تُريدان الآن ترتيب أمر الجِلسة؛ لذا أظن أنه من الأفضل أن أترككم تبدَءون مشاوراتكم.»
بينما كانت تتحدث، رمقت السيد فاندربوي بنظرة سريعة جذابة على نحوٍ غير ملحوظ، فردَّ على الفور بنبرة تأكيد قائلًا:
«على الإطلاق يا سيدة شيلر. لا يجب أن تدعيني أكون سببًا في مغادرتك؛ فنحن لن نُناقش أسرارًا، بل سنرتب أمر الصورة الشخصية فحسب.» ثم أضاف قائلًا على نحو غامض قليلًا: «كما يبدو أنك أيضًا رسامة؛ ولذا ربما بإمكانك إسداؤنا النُّصح.»
قالت: «هذا لطفٌ بالغ منك، وإن كنت تود حقًّا أن أبقى، فسيسُرني أن أسمع كل شيء عن الصورة، وسأُعِد لك قدحًا لذيذًا من الشاي عرفانًا لدعوتك.»
بدأت في الحال في رصِّ أغراض الشاي، فيما ملأ بولتون الغلاية ووضعها على شعلة الموقد، وتابعهما توم بمشاعر مختلطة تتبدل بين لحظة والأخرى. لقد كان بوسعه التخلصُ من رفقة لوتا بسهولة؛ لكنه عندما لاحظ نظرات عينَي زبونه الجديد وهو يُتابع تحركاتها، بدأ يظنُّ أن بقاءها ربما كان في صالحه. فمن الواضح أنه كان الصديقَ الوحيد للوتا من الجنس الآخر. وسيشعر براحة كبيرة إن اكتسبت صديقًا آخر.
وبتلك الفكرة في ذهنه، راقب سير الأحداث أثناء احتسائهم الشاي (وكذلك فعل السيد بولتون الذي كانت السيدة بالنسبة له بمثابة لغز محيِّر) ووجدها مبشِّرة. ولغايةٍ في نفسها، كما بدا، قصَرَت لوتا الحديث على السيد فاندربوي وحده تقريبًا، مخاطبة إياه بنبرة إجلال يبدو أنها أرضت غروره. في الواقع، كان واضحًا أن الرجل الأفريقي منبهرٌ إلى حدٍّ كبير بلوتا الجميلة، ولم يُخفِ إعجابه ذاك؛ وهو ما لم يكن بالأمر المُستغرب؛ لأنها كانت امرأة حسناء (إن لم يكن المرء يُمانع «الألوان المجردة»)، بوسعها أن تنال أقصى قدر من الاستحسان عندما تحاول. ولم يكن خافيًا أنها تُحاوِل ذلك الآن.
قالت: «أنا أحسد السيد بيدلي على تلك الفرصة. فأنت موضوع رائع للغاية لصورة شخصية.»
صاح في سرور: «هل تعتقدين ذلك حقًّا؟ كنت أخشى نوعًا ما أن يكون لونُ بشَرتي، وشعري، كما تعرفين …»
«لكن ذلك ما عنَيتُه بالفرصة. فبشَرتُك ذات اللون القمحي الدافئ تفتح احتمالاتٍ كثيرة فيما يتعلق بتناغمات الألوان؛ على عكس البشرة الأوروبية الباهتة نسبيًّا.» ثم تابعت متأملة: «ربما يُفسر ذلك حقيقة أن الأفارقة يملكون موهبة فطرية في تنسيق الألوان فيما يبدو. ألا تعتقد ذلك؟»
وافقها فاندربوي قائلًا: «قد يكون ذلك صحيحًا. فهم يُحبون الألوان بلا ريب، ويُحبون كثرتها. اعتاد خادمي في وطني ارتداء حلة قرمزية من نسيج صوفي وخفَّين خضراوين.»
صاحت لوتا بإعجاب: «يا له من مزيج بديع! فهما يصنعان تباينًا رقيقًا! ألا تُوافقني الرأي؟»
كان السيد فاندربوي مُستعدًّا لموافقتها الرأيَ في أي شيء، وكان يُعبر عن ذلك بابتسامة بشوشة كشفت عن صفَّين من الأسنان قلما يُسَر لها نظر الأوروبي المعاصر.
أضاف قائلًا: «لكنِّي بالطبع لا أعرف الكثير عن تلك المسألة سوى أنني أحب الألوان الزاهية، أما أنت ففنانة ولا بدَّ أنك درَستِها بعمق.»
أقرَّت قائلة: «هذا صحيح. فالألوان هي شُغلي الشاغل في الحياة. أحبها كثيرًا لدرجة أنها غالبًا ما تدفعُني إلى رسم صور مكونة بالكامل من الألوان دون أي غرض آخر. كالسيمفونيات والمقطوعات الفردية ولكن بالألوان.»
قال فاندربوي: «أنا واثق أنها جميلة جدًّا بلا شك، مع أنني لا أفهم تمامًا كيف يُمكنك أن ترسمي صورة مكونة من ألوان فقط. ربما أنال شرف رؤية أعمالك يومًا ما.»
«هل تودُّ ذلك؟ إن كنت تود، فسيكون من دواعي فخري وسروري أن أُريَك إياها. أنا أسكن في المنزل المجاور للسيد بيدلي؛ لذا بإمكانك أن تزورَني بسهولة بعد إحدى جلسات الرسم.»
قال السيد فاندربوي مقترحًا: «سيكون من الأفضل أن نُحدِّد موعدًا. في أي وقت تحب أن أحضر من أجل جلسة الرسم يا سيد بيدلي؟»
أجابه توم: «أُفضل أن أعمل في ضوء الصباح، لنقل من التاسعة إلى الثانية عشرة. هل يُناسبك ذلك يا سيد فاندربوي؟»
أجابه الأخير: «يناسبني تمامًا. ماذا عن اليوم؟ متى تحب أن نبدأ؟»
«في رأيي كلما أسرعنا كان أفضل. ما رأيك في يومِ غد؟»
«يُناسبني تمامًا. إذن موعدنا التاسعة من صباح غد. وبالنسبة لك يا سيدة شيلر؛ هل يُناسبك أن أتفقدَ مرسمك بعد الثانية عشرة بقليل؟»
أجابت: «يناسبني تمامًا. سأكون حينها قد أنهيت لتوي عملي الصباحي.» ثم أردفَت: «والآن بعد أن أنهينا إبريق الشاي، أظن أن لديكما ترتيباتٍ أخرى لمناقشتها، ومن الأفضل أن أغادر أنا.»
ونهضت، وبعد أن صافحت الزائرين وذكرت أنه لا حاجة إلى مرافقتها للخارج، منحت السيد فاندربوي ابتسامةَ وداع، ثم أسرعَت بالمغادرة.
أعاد صوتُ غلق الباب الخارجي مجرى الحديث إلى الصورة الشخصية، و«الترتيبات الأخرى» التي لا تَعْنينا تفاصيلها. في النهاية تقرَّر أن تكون الصورة الشخصية لثلاثة أرباع طول صاحبها وأن تُصوره مرتديًا عباءةً وجُمَّةَ المحاماة خاصته، وممسكًا في يده بمذكرة دعوى وكأنما يُخاطب المحكمة؛ وبعد الاتِّفاق على ذلك وعلى التكاليف، همَّ الزائرانِ بالمغادرة.
قال السيد فاندربوي: «إلى اللقاء إذن، أو كما يقول أبناء شعب الهوسا في بلدي «سي جوب» … أو حتى ألقاك غدًا. سأكون أمام بابك في تمام التاسعة.»
أضاف توم بابتسامة ماكرة: «وفي تمام الثانية عشرة ستكون أمام باب السيدة شيلر.»
ابتسم السيد فاندربوي بدوره، لكن لم يكن ثمة سبيلٌ لمعرفة ما إذا كان وجهه قد احمرَّ خجلًا.