غابة إسيكس
في مساء أحد الأيام في مطلع شهر نوفمبر، وضع توم بيدلي حاملَ لوحاته أرضًا كي يُحرر إحدى يدَيه، ثم وضع مفتاحه في قُفل البوابة ودفعها ليفتحها. ثمَّ كعادته دومًا، دس المفتاح في جيبه قبل أن يدخل؛ وبينما كان يفعل ذلك، صادف أنْ وقع بصرَه على نهاية الشارع، فرأى لوتا شيلر وصديقُها بيلي يدلفان إلى الشارع ويسيران باتجاهِه. لم يكن قد رأى أيًّا منهما منذ أسبوعَين؛ منذ أن شحن صانع الأطُر الصورة الشخصية، وسُلِّمت القلادتان إلى صاحبَيها المعْنيَّين. لذا رأى أن مِن اللائق أن يتوقف أمام البوابة المفتوحة كي يُبادلهما التحية، لا سيما أنهما رأياه بالفعل وبيَّنا له ذلك.
صاحت لوتا بحماس عندما التقيا عند مدخل البوابة: «أين كنت طوال ذلك الوقت يا توم؟ لم أرَك منذ وقت طويل.»
قال توم: «لم أكن مُستقرًّا في مكان واحد طوال الوقت. اليوم كنت في غابة إيبنج. كنتُ أرسم المناظر الطبيعية قليلًا من باب التغيير بعد الصورة الشخصية.»
قالت لوتا مكررة: «غابة إيبنج! كم هذا مبهج! لم أذهب من قبل إلى غابة إيبنج. هل بوُسعنا أن ندخل ونُلقِي نظرة على ما رسمته؟»
قال توم مُرحِّبًا بحماس: «بكل تأكيد. الصورة لم تكتمل بعد، لكنها ستَمنحُكما فكرة عامة عن طبيعة المكان.»
دخلوا معًا، وبعد أن أخرج توم لوحته من حاملها، نصبها على حاملٍ موضوع بزاوية مقابلة للنافذة الكبيرة.
قال: «الإضاءة ليست جيدةً للدرجة، لكن بوُسعكما أن تَرَيا طبيعة الغابة.»
صاحت في حماس: «أجل، فعلًا، إنها جميلة جدًّا. تبدو كغابة حقيقية.»
قال توم: «هي بالفعل غابة حقيقية. إنها البقية الباقية من غابات بريطانيا البدائية؛ وما زال جزءٌ كبير منها باقيًا.»
«يا له من أمر مثير! غابة بدائية! هل رأيت غابة بدائية قبلًا يا بيل؟»
قال فاندربوي: «أجل، رأيت الغابة العظيمة التي تُغطِّي أشانتي، وتبدو شبيهة بتلك المرسومةِ في اللوحة. أشجار الغابة الإفريقية أكثرُ ارتفاعًا بكثير من تلك، لكن يصعب الجزم من صورة.»
قال توم: «بل يكاد يكون مُستحيلًا دون أشخاص أو حيوانات تمنحها مدًى. أُفكر في إضافة أيِّل أو اثنَين.»
سألت لوتا: «لكن ليس ثَمة آيائلُ في الحقيقة، أليس كذلك؟»
أجابها: «بلى، باركَكِ الرب. ثمة آيائلُ وثعالبُ وأغرة، وجميع أنواع الحيوانات البرِّية. إنها غابة حقيقية، لا مجرد منتزَه. وثمة معسكَران بريطانيان قديمان أيضًا، أمرُّ بأحدهما في طريقي إلى مكمني حيث أرسم.»
قالت لوتا: «يبدو لي مكانًا ساحرًا! ولا أتخيَّل أني لم أرَه مع قربه الشديد من لندن. سيكون من الممتع قضاءُ يوم هناك. ألا تعتقد ذلك يا بيل؟»
وافقها بيل بحماس كما يفعل مع جميع مقترحاتها في العادة.
«اتفقنا إذن. سنقضي يومًا نتجوَّل بالغابة ونتنزَّه بها، وتوم سيُرينا الطريق. أوه، لا داعي لذلك التجهُّم. فلن نبقى معك ونُعطِّلك عن العمل.»
قال توم مُعترضًا: «أنا لم أتجهَّم. سيكون من دواعي سروري أن أُريَكما الطريق إلى هناك وأضعَكما على نقطة الانطلاق إلى جولتكما. ستكون لوحتي جاهزة في غضون ثلاثة أو أربعة أيام؛ لنقُل الخميس القادم. هل يُناسبُكما ذلك؟»
أجابت: «يناسبني تمامًا»، وبعد أن وافقها بيل أضافت: «أعتقد أن علينا أن نأخُذ بعض الطعام معنا. كيف تتدبَّر أمر الطعام يا توم؟»
«آخذ غدائي معي، لكن ذلك ليس ضروريًّا. فهناك نُزل ممتاز بالقرب من هاي بيتش يُدعى «كينجز أوك»، حيث يُمكنُكما الحصولُ على كل ما يشتهيه الرجال والحيوانات من طعام ومرطبات.»
قالت لوتا: «أنا لا أحب ذلك التعبير تمامًا؛ فأحدُنا فقط رجل. لكن لا يهمُّ. لنضع ترتيباتِنا الآن. أعتقد أن من الأفضل أن نَلتقيَ وننطلق من هنا؛ فأنا أسكن هنا بالفعل وبيل ليس من سكان لندن. حدِّد لنا موعدًا، وسنَنطلق معًا ثم نتركك في سلام.»
اقترح توم الساعة التاسعة صباح الخميس، وبعد أن اتفقُوا على ذلك، غادر زائراه؛ عندئذٍ، بعد أن نظَّف لوحة ألوانِه وغسل فرشَه، واغتسل، شرع في إعداد المائدة — وكان من ضمنِ ما فُرش عليها القدح الفريد الذي أهداه له بولتون — وفتح صندوق حفظ الأطعمة الدافئة، وجلس يتناول وجبته المسائية برضًا عميق.
في الوقت المحدد صباح الخميس، وصل المتجولان إلى مكان اللقاء، وبعد بضع دقائق، انطلق ثلاثتهم متجِهين إلى شارع فينتشيرش، وكان فاندربوي يحمل الكرسي والحامل المربوطَين معًا. كان من السهلِ الحصولُ على مقصورة شاغرة بالدرجة الأولى في هذا الوقت من اليوم، فحجزُوا واحدة، وبعد أن وضَعوا عتادَ توم على رفِّ القبَّعات، أشعلوا الغليون والسجائرَ واستعدُّوا للاستمتاع بالرحلة. وكانت رحلة مُمتعة بحقٍّ (باستثناء توقُّفهم في محطة ستراتفورد، حينما تصاعدَت أبخِرة كريهةُ الرائحة من أحد مصانع المواد الكيميائية وتسربَت إلى داخل المقصورة وجعلتهم يُسارعون إلى إغلاق زجاج النافذة). كان لوتا في حالةٍ من المرح والتفاؤل وكانت تُثرثر بمرح بين نفثات سيجارتها، فيما دخن الرجلان غليونَيهما وتركاها تُسليهما.
عقَّبَت قائلة حينما كان القطار يتحرَّك من محطة وودفورد: «إنني أعتبرك ضعيفَ الملاحظة لدرجةٍ استثنائية بالنسبة إلى كونك رسامًا يا توم. فأنت لم تُلاحظ قِلادتي الجديدة الجميلة.»
في الواقع، كان قد لاحظها، ورأى أنها غيرُ ملائمة بعضَ الشيء لتلك المناسَبة.
قال: «أنت مخطئة تمامًا يا لوتا. فعيناي لم تُغادِراها منذ أن انطلَقنا، وكنت أقول في نفسي لا بدَّ أن من صمَّمها عبقري فذ.»
قالت، وهي تنتقي سيجارةً جديدة من علبة سجائرها: «أسمعتَ ذلك يا بيل؟ أليس مغرورًا ذلك الرجل؟ يُحاول اقتناص إطراءٍ بصفاقةِ وجه؛ لكنه لن يَحصل عليه.»
رد توم: «كنتُ أعلم ذلك؛ لذا أطريت أنا على نفسي. لكنها حقًّا تبدو جميلةً جدًّا، بفضل تنفيذ بولتون البارع لها.»
ضحكَت لوتا باستهزاء. «ها هو يتصنَّع التواضُعَ الآن. لكن لا فائدة من ذلك يا توم. فنحن نعرفك. لكنِّي مع ذلك أتفق معك أن الرجل اللطيف قد أدى دوره على نحوٍ رائع، وأنا مُمتنَّة لكِلَيكما، فضلًا عن مانح الهدية الكريم.»
هنا توجهَت بابتسامة ودودة إلى فاندربوي المُنتشي، الذي بدوره ابتسمَ ابتسامة هي أوسعُ ما يستطيعها رجلٌ يملك تلك الأسنانَ المهيبة. تلا ذلك استراحةٌ قصيرة من ثرثرة لوتا فيما كانت تُشعِل سيجارتها الجديدة وتُدخِّنُها. بعد بضع دقائق، أبطأ القطار، فأنزل توم عَتاده من الرفِّ ووضع حزام الحقيبة حول كتفه، ثم قال:
«تلك هي محطَّتنا.» ثم همَّ بفتح الباب.
عندما توقف القطار، حمل فاندربوي مرة أخرى عن توم الحامل المطوي، وترجَّل ثلاثتُهم إلى رصيف المحطة. بعد أن خرَجوا من المحطَّة، ساروا في الشارع الريفيِّ الكئيب نوعًا ما حتى وصَلوا إلى بِركة مياه كبيرة على حافَّة الغابة. هنا انعطف توم إلى دربٍ يمرُّ بمحاذاة البِركة، وبعد قليلٍ وصَلوا إلى طريق عريض أخضرَ غير معبَّد. بعد أن ساروا مسافة قصيرة عبر ذلك الطريق، انعطَفوا إلى طريق ضيق أخضرَ غيرِ معبَّد على يسارهم، يُؤدي صعودًا إلى منحدرٍ بسيط، ثم نزولًا إلى طرَفِ وادٍ صغير، يُغطي قاعَه المُستنقعيَّ مراقدُ من العشب المائي.
قال توم: «هذا الوادي يُدعى ديبدن سليد. يُستحسَن أن تتذكَّرا الاسم حالَ احتجتُما إلى السؤال عن الطريق. هذا الدَّرب — الذي يُطلِقُون عليه في الغابة طريقًا أخضرَ — يُؤدي كما ترَيان إلى أعلى التلِّ ومباشرةً إلى طرَف الحصن البريطاني القديم الذي يُدعى معسكر لوتون، ويمر بجانبَين منه.»
قالت لوتا مُشترِطة: «لكنك ستُرينا الطريق إليه.»
«أجل، سأُرافقكما حتى المعسكر، ثم بعد أن ترَياه، سأضعكُما على طريقكما قبل أن نفترق.»
قال فاندربوي: «هل تعرف طريقك جيدًا في تلك الغابة؟»
أجابه توم: «أجل، لقد رسمتُ كثيرًا هنا في الأعوام القليلة الأخيرة. من السهل جدًّا أن تجد طريقك عبرَ الغابة بعد القليل من التجرِبة، لكن في البداية كنتُ أُحضر معي دائمًا خريطة ذاتَ مقياس كبير وبوصلة. ذلك الذي نقترب منه هو المعسكَر؛ الجانب الجنوبي منه. سندور حوله إلى الجهة الشمالية الغربية، وهناك سيَذهب كلٌّ منا في طريق.»
قالت لوتا وهي تنظر بشرود إلى الغابة الكثيفة التي بدَت أنها تُمثل النهايةَ للدرب الأخضر وهم يصعدون: «لكني لا أرى أيَّ معسكر. لا أرى سوى تبَّة مرتفعة تكسوها كتلةٌ من الأشجار القصيرة الغريبةِ الشكل التي تبدو وكأنها بحاجةٍ إلى التقليم.»
أقر توم قائلًا: «إنه لا يظهر بوضوح إلا على الخريطة. لكن لا تَنسَيْ أنه بُنِي منذ ألفَين أو ثلاثة آلاف عام أو يزيد، وأنه غير مأهول ربما منذ الغزوِ الروماني. وطوال تلك القرون، نمَت الغابة عليه، وغطَّته نوعًا ما. لكن يُمكنك تبيِّنُه جيدًا إن صعدتِ التبة عبر الأشجار، ثم نزلتِ داخل حدوده. حينها سترَين أنه ثمَّة مساحة لها أربعة جوانب يُحيط بها أسوار طينية أو متاريسُ مرتفعة. لكن لأنها مكسوَّة بالكامل بكتلة كثيفة من تلك الأشجار الصغيرة، فلن ترَي منها إلا جزءًا بسيطًا في كل مرة.
سألَت لوتا: «لكن لِمَ الأشجار صغيرة إلى ذلك الحد؟» لا يبدو أن ثمة شجرةً واحدة مُكتملةَ النمو بينها، رغم أنها كان لديها ما يكفي من الوقت للنموِّ حسَبما يتبين مما تقول.»
قال توم: «هي ليست أشجارًا يافعة، بل أشجار قديمة مُتقزِّمة. أهل تلك الضَّيعة الإقطاعية كان لهم حق تقطيع الأشجار وتقليمها. وبهذا كانت جميع الأشجار عندما تنمو، تشذب أطرافها، وكلَّ عام، كانت الأغصان الجديدة التي تنبثق من قمتها تُقطَع لاستخدامها حطبًا، ونتيجةً لذلك الْتوَتْ تلك الأشجار وتوقَّف نموها. إن مظهرَها مدهش نوعًا ما، لكنها ليست جميلة للدرجة.»
وافقَته لوتا قائلة: «أجل، مدهش هي الكلمة المناسبة. إنها تبدو كساحرات ضئيلات الجسد شعورُهن بارزةٌ لأعلى. لكن المكان برُمته غريب ومهيب نوعًا ما، خاصة عندما يفكر المرء بالبريطانيِّين القدامى الراحلين والقرون التي مرت على ذلك المعسكر مهجورًا منسيًّا. أظن أن تلك الثقوب في التبَّة صنعها نوعٌ ما من الحيوانات.»
«أجل. الثقوب الصغيرة عادةً تكون جحورَ أرانب؛ أما الكبيرة فهي أوجار للثعالب.»
أثناء حديثهم، كانوا يسيرون على مهل عبر الدرب الأخضر تحت الظلال الكثيفة التي تُلقيها أشجار الزان المشذبة التي تكسو التبة المرتفعة للمتراس القديم. بعد قليل، انعطفوا عند جانب المعسكر ومرُّوا بمُحاذاة جانبه الشمالي الغربي، حتى وصلوا إلى مساحة أكثرَ انكشافًا حيث اتسع جانبا الطريق الأخضر وانعطف بحِدَّة تجاه اليسار، فيما امتد أمامهم دربٌ أضيق. وعند نقطة تفرُّع الدربَين، توقف توم ومد يده ليأخُذ الحامل الذي كان فاندربوي لا يزال يَحمله.
قال: «هنا نَفترق. فأنا سأسلك ذلك الدربَ الأخضر الضيق إلى غابة جريت مونك، وهي تبعد حوالي ثلاثة أرباع الميل عن هنا. وأنتما ستَسلُكان الطريق الأخضرَ غير المعبَّد عبر سفح التلَّة؛ وهي تمشيةٌ مُمتعة ترَيان فيها منظرًا بديعًا طوال الطريق.»
قالت لوتا وهي تتطلَّع إلى الغابة المفتوحة التي تمتدُّ من أسفل التلة: «أجل، إنه منظر بديع حقًّا؛ يبدو أنه شعور مريح أن يكون المرء في العَراء، بعيدًا عن المعسكر القديم الكئيب وتلك الأشجار المريعة القصيرة ذات الشكل الغريب. لكنِّي بطريقة ما، أشعر بانبهار غريب بذلك الحِصن القديم. أودُّ أن أدخل إلى ما وراء أسواره لأرى كيف كانت المعسكرات البريطانية تبدو في الحقيقة. ألا تودُّ أن تستكشفه يا بيل؟»
أبدى بيل الوَدودُ والمجامل رغبةً قوية في استكشاف المعسكر واهتمامًا عميقًا بالبريطانيين القدامى وأعمالهم.
قال توم: «لكن لا يُمكنُكما استكشافُه اليوم؛ لأنكما ستَحتاجان إلى خريطة وبوصلة، وينبغي أن يكون معكما نسخة من المخطَّط الذي رُسِم عندما أجرى نادي إسيكس الميداني مسحًا للمعسكر. لديَّ واحدة أحتفظ بها في مكان ما؛ لذا إن كنتما تنويان القيامَ برحلة استكشافية جدية، يُمكنني إقراضُكما إياها ومعها خريطة للغابة وبوصلة. لكن الآن، من الأفضل أن تتمشيا إلى هاي بيتش وتحفَظا طريقكما.»
وافقه فاندربوي قائلًا: «أجل، سيكون ذلك أفضل، بخاصة أننا لم نُحضر معنا أيَّ مرطبات، كما أنك ذكرت أن ثمة نُزُلًا في هاي بيتش يُمكنُنا أن نحصل منه على طعام للغداء. لكننا سنَحتاج منك إلى أن تُرشدنا إلى الطريق.»
أجابه توم: «الطريق سهل جدًّا. أترى أجمة أشجار الدردار البعيدة تلك؟»
«أرى أجمة أشجار وفهمت من كلامك أنها أشجار دردار.»
«حسنًا، إنها تقع في هاي بيتش؛ لذا إذا جعَلتُماها نُصب عينَيكما، فلن تضلَّا الطريق قط. عليكما أن تسلكا ذلك الطريق الأخضر غير المعبَّد حتى سفحِ التلَّة. بعد حوالي نصف ميل من هنا، ستجتازان طريق إيبنج، وبعدها بنصف ميل آخر ستصلان إلى طريق أخضر يتعامد على ذلك الطريق. انعطِفا يسارًا واسلُكاه، وسيُوصِّلكما إلى نُزُل كينجز أوك؛ حيث يُمكنكما التزودُ بالطعام إن أردتُما. تبعد هاي بيتش عن النزل بضعَ دقائق سيرًا على الطريق نفسه. ها قد صرتما تعرفان كلَّ شيء.»
وضع الحامل وحامل اللوحة على العشب وصافح المتجوِّلان مودِّعًا إياهما متمنِّيًا لهما رحلة سعيدة. ابتسمت لوتا بمكرٍ وهي تُصافحه وعقبَت قائلة لرفيقها:
«هذا يعني أنه اكتفى من رفقتنا؛ لذا من الأفضل أن نُغادر؟ هيا بنا يا بيل.»
استدار الرفيقان لينطلقا في مسيرهما، لكن توم لم يستأنف رحلتَه على الفور. كانت يداه فارغتَين، فاستغل تلك الفرصةَ لملء غليونه على مهل. لكن بعد أن ملأه وصار جاهزًا لإشعاله، ظل واقفًا عند مفترق الطرق، يُتابع بعينَين متأملتَين تَقدُّمَ المغامرين وهما يسيران في الطريق الأخضر العريض غيرِ المعبد بخُطًى سريعة. تبادَر إلى ذهنه مرةً أخرى سؤال بولتون. ما طبيعة العلاقة التي تربط بين هذَين الشخصَين؟ كان أسلوبهما أشبهَ بخطيبَين، غير أنهما ليسا كذلك بالتأكيد؛ لكن هل هما حبيبَين أم مجرَّد صديقَين؟ في حالته هو، كان سلوك لوتا لا يحيد عن الانضباط، فيما عدا مُلاطفاتها الشفهية. صحيحٌ أنه لم يفتح الباب لأيِّ شيء آخر، لكن تظلُّ الحقيقة هي أنها لم تبذل أيَّ محاولة قط للتقرُّب إليه. هل كانت لعلاقتها بفاندربوي الطبيعة الأفلاطونية نفسها؟ بدا له ذلك أمرًا محلَّ شك؛ نظرًا إلى اختلاف الظروف. فلم يكن فاندربوي رافضًا لأن يكون طرَفًا في تلك العلاقة القوية. فقد كان مُعجبًا متيمًا بلوتا منذ البداية؛ ولكن لا يفصل الإعجابَ عن الحب إلا خطوةٌ صغيرة؛ والحب في حالتهما سيقود إلى كارثة حتمية لا مفر.
هكذا فكَّر توم وهو يقف متطلعًا إليهما وهما يبتعدان. في الشهور التالية، تبادر ذلك المشهد كثيرًا في ذاكرته؛ مشهد الطريق الطويل المستقيم المُعشوشِب، وهيئتَيِ الرجل والمرأة وهما يسيران بمرح ويبتعدان حتى تضاءلت هيئتاهما. ولكنه ظلَّ يُتابعهما بعينيه باهتمام لم يعرف له تفسيرًا، حتى بلغا نقطةً ينعطف عندها الطريق؛ وعندها نظرت لوتا خلفها لتجدَه لا يزال واقفًا في مكانه، فلوحَت بيدها إليه، ورفع فاندربوي قبعته تحيةً له. بادلهما توم تحيةَ الوداع، وبعد بضع لحظات، سلَكا المنعطف وتواريا خلف شُجيرات القائمة على جانب الطريق؛ حينها أشعل غليونه وحمل عتاده، وانطلق عبر الطريق الأخضر الضيق غير المعبَّد متجهًا إلى مَكمنِه في غابة جريت مونك.
كان قد قال لنفسه، ولبولتون، إنَّ طبيعة علاقة لوتا بصديقه الإفريقي ليست من شأنهما. وكانت كذلك بالفعل. ومع ذلك، بينما كان يسير في المسار الضيق عبر الغابة الساكنة المُنعزلة، ظلت المسألة تُؤرق ذهنه؛ خاصة ما يتعلَّق بمآل الأمر. فلم يكُن يُضمِر لأيِّهما — وإلى لوتا قطعًا — أيَّ مشاعرَ شخصية قوية؛ لكنه كان رجلًا طيب القلب، وشق عليه أن يُفكر في أنهما يسيران نحو الهاوية كما يخشى. كان قلقه بالأخصِّ على فاندربوي؛ فكونه إفريقيًّا، مرهفًا ومندفعًا على الأرجح، وغير عليم بأساليب الأوروبيين، يجعله أكثرَ عُرضة للزجِّ بنفسه في مشكلات، وتحمل وطأة أيِّ تبعات وخيمة. فقد كان محاميًا ذا مكانة ينبغي أن يُحافظ عليها ومستقبل ينبغي وضعُه بالاعتبار. سيكون من المحزن أن يتورَّط في فضيحة وهو لا يزال في بداية مسيرته العملية.
عند تلك النقطة في تأمُّلاته، كان قد وصل إلى مدخل الغابة موضوعِ لوحته. فوضع أحماله، وخلع عنه حقيبته، وبعد أنْ ميَّز الثقوبَ التي صنعها كرسيُّه وحاملُه في الأرض في جِلسته الأخيرة، فكَّهما ونصبَهما في موضِعَيهما السابقَين. بعد ذلك ثبَّت اللوحة وجهز لوحةَ ألوانه، وأجرى مسحًا دقيقًا متمعنًا بعينَيه للغابة موضوع لوحته، وقارنَها باللوحة التي لم تَكتمِل بعد؛ وعلى الفور تلاشَت لوتا شيلر وصديقها الإفريقي من ذهنه، وتفرَّغ لتأمُّل عمله في سكون.
كان يومًا جميلًا رغم قرب العام من نهايته، وكان المشهد بديعًا. كانت أشجار الزان الباسقة المهيبة لا تزال تحمل العديد من أوراقها التي تبدَّل لونُها من الأخضر النضر الصَّيفي إلى درجات الألوان البديعة — السريعة الزوال — التي تُميِّز اقترابَ العام من الانقضاء. ظل توم لأربع ساعات مُمتعة يعمل باجتهاد، ويرسم بأقصى براعته مُستمتعًا بكلِّ لحظة. طوال ذلك الوقت، لم يقترب منه أيُّ مخلوق بشَري، مع أنه كان يتلقَّى زياراتٍ عابرة من سكان الغابة من غير البشر، كعادة رسَّامي الطبيعة. فلعب سنجاب فضولي معه لعبةَ الاختباء والظهور من وراء إحدى الأشجار، ثم ما لبثَ أنْ غادَرَها وراح يدور حوله على بُعد بضعة أقدام من حامل اللوحات. وجاء شُحروران وَدودان يبحثان عن رزقهما بالقرب منه، وانسلَّ أيِّلان لهما فِراءٌ داكن بضعَ مرات عبر الفتحة أمامه، غير مدرِكَين لوجوده على ما يبدو.
في نهاية الساعة الثانية، تناول ما يُسمِّيه العمالُ «وجبة الكادحين»؛ وهي وجبة مُتواضعة من الخبز والجبن (كان نصيب السنجاب منها بضع كسرات من الخبز وقطعة من قشرة الجبن)، مع رشفة من الجعَّة من قِنِّينة كبيرة. ومرة أخرى، التقط لوحة ألوانه وفرشه وتابع العمل دون انقطاع حتى أنبأه تغيرُ الضوء أن الوقت قد حان للرحيل؛ حينها، حزَم أغراضه بعناية، وأشعل غليونه، ثم حمل عدَّته وانطلق عائدًا أدراجَه. عند مفترق الدربَين، توقف ليُلقيَ نظرة على الطريق الأخضر، مع أن المساء كان لا يزال في أوله، وصديقاه لن يعُودا في ذلك الوقت المبكر على الأرجح. ومع ذلك، فيما كان يَنعطِف حول المعسكر ومر بجوار البركة مرة أخرى، كان يترقَّب قدومهما دون إدراكٍ كامل منه لذلك، وحتى في محطة القطار لم يَغيبا عن باله، حتى أتى القطارُ وحمله بعيدًا وحده.
في الأيام القليلة التالية، كان يعود بخاطره إلى صديقَيه من آنٍ إلى آخر، وينسج تخميناتٍ مبهمةً حول ما جرى لهما في الغابة. كان يتوقع زيارةً من لوتا، وبناءً على قوة تخمينِه ذلك، بحث عن الخريطة والبوصلة ومخطط المعسكر كي يُعطيهم لها عندما تزُوره. لكن لدهشته — ولخيبة أملِه نوعًا ما — لم تظهر، فاستقرَّ في النهاية إلى أنها تخلَّت عن فكرة استِكشاف المعسكر، وبعد أن عادت الأمور إلى مجاريها، صرَف تفكيره عن الأمر.
ولكن لما مرَّت الأيام ولم تأتِ الزيارة المتوقَّعة، ولم يُقابلها حتى مصادفة في الشارع كما اعتاد، كان وقْعُ اختفائها التامِّ من مدارِه عليه غريبًا نوعًا ما. حتى إنه كان مستاءً بعض الشيء؛ وهي حالة مِزاجية أدرك هو نفسُه غرابتها ومخالفتها لطبيعته. فمنذ أسابيعَ قليلة، حين كان هو صديقَها الوحيد من الرجال على غيرِ رغبة منه، كانت رغبته الشاغلة في الحياة هي التخلُّصَ منها؛ أما الآن، ومع أنه لا يشعر بقلق كبير عليها، كان يشعر أنه سيُسَرُّ كثيرًا لرؤيتها عند بابه. حتى إنه فكر ذاتَ مرة في أن يمرَّ عليها ليستفسرَ عن أحوالها، لكنَّ تحفُّظه طغى عليه. فلم يكن لديه رغبةٌ في أن يُعيد إيقاظ تلك الصداقة الحميمية المزعجة.
من المحتمَل أنه كان سيَتقبَّل خروج لوتا من حياته ويتوقَّف سريعًا عن ملاحظته لو لم تحدث أشياءُ أخرى. لكنَّ ظرفًا جديدًا أيقظ فضوله. كان عائدًا ذات يوم من سوق كمبرلاند، وبالتبعية مرَّ من أمام منزلها، فلاحظ أن لوحةَ بابها النُّحاسيةَ ليست في مكانها المعتاد. لم تكن لوحة ثابتة مُثبتة على الحائط على نحو دائم، بل كانت محمولة على دعائم قابلة للنزع، وكان من عادة لوتا أن تنزعها في المساء وتُعيد تعليقها في الصباح. وهكذا، عندما لاحظ غيابه، ظن أنها فقط نسيت تعليقها ولم يُعِر الأمر مزيدًا من التفكير. لكن، في اليوم التالي، عندما تصادَف أن وقَع بصره على بابها مرة أخرى فلاحظ غياب اللوحة، استرعى الأمرُ انتباهَه أكثر؛ وبعد عدة أيام من الملاحظة اليومية، كانت النتيجة أنه استقر إلى أن اللوحة قد اختفَت للأبد. ومرة أخرى، فكَّر في زيارتها، لكن فكرة جديدة جعلَته يعزف عن ذلك. فربما تكون الاحتمالات الغامضة التي تصوَّرها قد تحقَّقت بالفعل، وإن حدث ذلك، فمن الأفضل له ألا يتدخَّل في شئون لوتا. على الجانب الآخر، كان يشعر بقلق فِعْلي الآن وبشيء من الانزعاج، خصوصًا بشأن فاندربوي، فارتأى أنَّ بضعة استفسارات حذرة عبر طرف ثالث ربما تكشف له الحقائق دون أن تورطه بأيِّ حال.
كان بديهيًّا أن يكون ذلك الطرف الثالث هو السيد بولتون. فقد كان على صلة بفاندربوي، كما أنه يُراقب سير الأحداث بلا ريب. لكن كان السؤال هو كيف يصلُ إلى السيد بولتون. لم يَجرُؤ توم قط على زيارته لأنه يسكن في منزل ربِّ عمله، الدكتور ثورندايك، وكان يرى أن الزيارة دون دعوة كانت ستبدو تطفُّلًا نوعًا ما. بالطبع كان بإمكانه أن يُراسل السيد بولتون، لكن ذلك كان سيتطلَّب استفسارًا مباشرًا، وهو ما كان يرغب في تجنُّبه. كان يعتقد أنه لو استطاع تدبير لقاء مع صديقه الحاذق، فسيتمكَّن من استخلاص المعلومات المطلوبة بتلقائية من خلال حوار يُديره بحَصافة وتعقُّل، دون طرح أي أسئلة على الإطلاق.
كانت المشكلة إذن هي إيجادَ ذريعة لزيارة بولتون؛ ذريعة مقنعة تُبرر زيارته بدلًا من مراسلته. راح توم يتداوَل الأمر مع نفسه لإيجاد حل لتلك المشكلة، ولما كان رجلًا شديد الصراحة، قليلًا ما يلجأ إلى الذرائع من أي نوع، اضطُرَّ لأن يُوليَ الأمرَ اهتمامًا لا يتناسب وحجمه. ثمَّ ما لبثت المشكلة أن حُلَّت من تلقاء نفسها. فقد تصادف أن فتح درجًا يحتفظ فيه ببعض المخلفات، فوجد فيه عدَّاد خُطًى اعتاد أن يحمله معه في رحلاته لاستكشاف موضوعات للوحاته الطبيعية. لأعوام كان العداد يُؤدِّي وظيفته على أكمل وجه، لكنه في الآونة الأخيرة صار غيرَ منتظم في عمله ولا يعتمد عليه، فلم يعد يحمله معه. لذا نحَّاه جانبًا، وهو ينوي أن يستشير السيد بولتون بخصوصه يومًا ما. لكن لأن البعيد عن العين بعيدٌ عن الخاطر، نسي الأمر. لكنه الآن منحه لا مجرد ذريعة لزيارته، بل سببًا منطقيًّا لها.
وعلى ذلك، أرسل رسالة قصيرة إلى بولتون، يُعلن فيها نيتَه للزيارة، وأنه في حال لم تكن المقابلة غيرَ ملائمة، فسيترك له عدَّاد الخُطى ليَفحصه لتشخيص الخلل؛ أجاب عليها بولتون فورًا بدعوة وُدية مصحوبة بالإرشادات اللازمة لمكان سكنه داخلَ البناية الكائنِ بها المنزل.