اكتشافات جديدة
بعد أن غادر بولتون تاركًا إياه ينعم بسكون وحدته، حاول توم بيدلي أن ينفضَ عن ذهنه تلك التجرِبة المريعة التي خاضها عصر اليوم، وينصرف عنها إلى مشاغله المألوفة. لكن برغم محاولاته للنسيان، كان ذلك الجسد المريع الجالسُ إلى الطاولة لا ينفكُّ يتطفَّل باستمرار على أفكاره، آبيًا الانصراف؛ ثم في وقت لاحق من المساء، دق جرس المرسم معلنًا قدومَ زائر، فأذعن لما هو محتوم، وخرج إلى البوابة، وكما توقع، وجد شرطيًّا ينتظر على عتبة الباب.
قال ذلك الأخير بنبرة ودية بينما كان توم يقوده إلى داخل المرسم: «لقد خمَّنتَ حتمًا سببَ زيارتي يا سيدي؛ جئت فقط لأطرح بعض الاستفسارات الأولية. أنا ضابط من مكتب الطبيب الشرعي ومهمتي أن أجمع الأدلة المتوفرة لأجل التحقيق.»
قال توم: «حسنًا، أيها الرقيب، سأُساعدك قدر استطاعتي، وإن كنت أخشى أن مساعدتي لن تكون ذاتَ قيمة كبيرة بالنسبة لك. لكن تفضل بالجلوس وأخبرني بما تحتاج لمعرفته، وسأبذل قصارى جهدي لمساعدتك. ربما سيُفيدك قدحٌ من الجِعَة.»
وافقه الضابطُ في أنه ربما يُفيده؛ وبعد أن استقرَّ في كرسيٍّ وثيرٍ بجوار المدفأة وبجواره على طاولة صغيرة إبريق من الجِعَة وكأسان، وملأ غليونه وأشعله — بدعوة من توم — بدأ الاستجواب.
لكنَّنا نعرف بالفعل مقدار ما بجعبة توم من معلومات. فهو لا يعرف شيئًا عن الوقائع الفعلية للقضية. فالسيدة المتوفاة كانت غريبة عنه، وكذلك لوتا شيلر؛ بل إنه فيما كان يسعى جاهدًا دون جدوى للإجابة عن أسئلة الضابط، اندهش حين أدرك جهله التام بماضيها وبوضعها الاجتماعي، وأصدقائها وأقربائها، بل كل ما يتعلق بها في الواقع، عدا القليل الذي جمعه من الملاحظة المباشرة.
علَّق الرقيب قائلًا فيما كان توم يُعيد مَلء قدحه: «تبدو لي امرأةً غامضة نوعًا ما، وكَتومة جدًّا كذلك؛ لا تميل إلى الثرثرة. هل ثمَّة أحدٌ يعرف عنها أكثرَ مما تعرف أنت؟»
أشار توم إلى السيد فاندربوي، لكن نظرًا إلى جهله بعنوانه، أحال الرقيبَ إلى السيد بولتون.
قال الرقيب معقبًا: «هذا هو الرجل الذي فتح الباب من الخارج. لا بدَّ أنه سيكون مفيدًا لنا. أجل، سأود الحديث معه إن أخبرتني بمحلِّ إقامته.»
«هو مساعد معمل للدكتور ثورندايك، المقيم في فايف إيه شارع كينجز بينش ووك، ويُقيم معه في منزله.»
عند ذكر اسم «الدكتور»، رفَع الرقيب أذنَيه.
قال: «هكذا هو إذن. سيكون مُفيدًا بالطبع. سأزوره وأرى ما بإمكانه أن يُخبرَني به. هل تظنُّ أن الوقت قد تأخَّر لزيارته الليلة؟»
بالنظر إلى اهتمامِ بولتون الشديد بتلك القضية، رأى توم أن الوقت ليس مُتأخرًا للزيارة؛ وعلى أثر ذلك، تأهَّب الرقيب للرحيل بعد أن أنهى جِعتَه وأعاد ملء غليونه.
قال وهو يتَّجه نحو الباب: «سنَحتاج إلى سماع شهادته لإثبات أن الباب كان بالفعل موصدًا بالمفتاح من الداخل؛ أما بالنسبة لك يا سيدي، مع أنه لا يبدو أن لديك الكثيرَ للإدلاء به، أتوقع أن يأتيَك استدعاءٌ للتحقيق. فربما يتكشَّف شيءٌ جديد تستطيع إلقاءَ الضوء عليه. لكن جلسة التحقيق لن تنعقدَ إلا بعد بضعة أيام؛ إذ يجب إتاحة الوقت الكافي للتحليل بعد إجراء التشريح.»
توالت الأحداث لتُحقِّق نبوءة الضابط. ففي الموعد المحدَّد وصل الاستدعاء، وفي الموعد والمكان المحدَّدَين، حضر توم للإدلاء بشهادته إن طُلِب منه ذلك. وصل قبل الموعد المحدَّد بقليل، فاتخذ مقعدًا مريحًا نوعًا ما بمسند للذراعَين من طراز «ويندسور»، جلس فيه مُسترخيًا يُراقب وصول الشهود الآخرين، وكان من بينهم السيدةُ ميتشنز وصديقه الدكتور أولدفيلد وبولتون وفاندربوي — اللذان وصَلا معًا — وأخيرًا وليس آخِرًا المفتش بلاندي الذي تجمعه به سابقُ معرفة.
قال الدكتور وهو يجلس في الكرسيِّ المجاور له: «مرحبًا يا بيدلي، أكره أن أراك متورطًا في أمرٍ شائن كهذا. لكنَّه أمر غريب للغاية، أليس كذلك؟ ها قد حضر قاضي التحقيق وهيئةُ المحلفين؛ أعتقد أنهم ذهبوا لمعاينة الجثة، ويبدو أنهم لم يَستمتعوا بذلك. حسنًا، كيف حالك؟ لم أرَك منذ وقت طويل؛ ليس منذ أن تعرَّفت بتلك الفتاة ذات المساحيق التي رأيتُك تتسكع برفقتها.»
احمرَّ وجه توم قليلًا. كان بالفعل قد أهمل أصدقاءه منذ أن استحوذَت عليه لوتا. لكن لم يكن ثمة فرصةٌ لدَحضِ ذلك الاتهام؛ فبعد أن اتَّخذ قاضي التحقيق مجلسه ونظر إلى الشهود والمراسلين الصحفيين، افتتح التحقيقَ بكلمة مقتضبة. كانت مقتضبةً للغاية بحق؛ فلم يَزِد عن قوله: «نحن مجتمعون هنا للنظر في ملابسات وفاة سيدة، تبين أنها تُدعى إيما روبي.» ثم أردف قائلًا: «لا داعي لأن أخوض في أي تفاصيل؛ إذ ستتكشَّف في شهادات الشهود؛ وبغرض إطلاعكم على الملابسات، سأبدأ بسماع شهادة الرقيب بورتر.»
عند سماع اسمه، اتخذ الرقيبُ الذي تعرف به توم مؤخَّرًا موضعَه عند الطاولة، ووقف متأهِّبًا فيما أنهى الإجراءات التمهيدية بسرعة ودقة مِهنيَّين، ثم انتظر السؤال التالي.
قال قاضي التحقيق: «أعتقد أيها الرقيب أن مِن الأفضل أن تذكر لنا ما تعرفه عن تلك القضية.» وعلى أثر ذلك، بدأ الضابط يسرد الوقائع وكأنما يقرؤها من مستند.
«في يوم الخميس الموافق ٣٠ ديسمبر من العام ١٩٣٠م، وفي تمام الساعة ٣:٤٦ مساءً، حضرت السيدة جوليا ميتشنز إلى قسم الشرطة للإبلاغ عن عثورها في غرفة بمنزلها على جُثةٍ لامرأة لا تعرفها، يبدو أنها انتحرت بتناوُل السُّم. ذكَرَت أنها كانت تُؤجِّر تلك الغرفة للسيدة شيلر، التي تَشغَلها في العادة، لكن المُستأجرة المذكورة كانت غائبةً عن مسكنها منذ مدة، ومكانها الحاليُّ ليس معروفًا. وفي معرض إجاباتها على أسئلة محدَّدة طرحتُها عليها، ذكرَت لي التفاصيل الإضافية التالية …» وهنا ذكر الرقيب سردًا أكثرَ تفصيلًا للأحداث، بما فيها فتح السيد بولتون للباب «مستخدمًا أداةً من نوع ما»، لا داعيَ لذِكرها كونها معروفةً بالفعل للقارئ.
لدى تلقِّيه تلك التفاصيل، رافق السيدةَ ميتشنز إلى منزلها وأدخلته إلى الغرفة؛ حيث وجد الجثة والأغراض الأخرى التي ذكرَتها له. وبعد تقديم وصفٍ تفصيلي للغرفة، والجثة الجالسة، والقدح وقِنينة السم، تابع قائلًا:
«لما كانت الملابسات واضحة تمامًا، قررتُ عدم إجراء فحص مُفصَّل دون الحصول على تعليمات أخرى، وبناءً عليه، غادرتُ بعد أن أغلقت الباب وأخذت المفتاح، عائدًا إلى القسم حيث قدَّمت تقريري للمأمور. بعد سماعه، قرَّر أن مِن المستحسَن إبلاغَ السلطات العليا بالمقر الرئيسي بالوقائع كما بُلِّغَت لنا، ووجهني بمهاتفة قسم التحقيق الجنائي بشرطة سكوتلاند يارد، وهو ما فعلته، وجاءني الرد بأنهم سيُرسلون ضابطًا على الفور. كما هاتفت أيضًا الجراح التابع للقسم، وأطلعته على الوقائع وطلبت منه الحضور في أقرب وقت ممكن.
في غضون حوالي عشرين دقيقة، وصل المفتش بلاندي من قسم التحقيق الجنائي بالسيارة، وفي اللحظة نفسِها تقريبًا وصل جراح القسم الدكتور أولدفيلد. وبناءً على التعليمات، قدتهما إلى المنزل رقم ٣٩ بشارع جيكوب وأدخلتهما الغرفة. غادر الطبيب بعد أن أنهى فحصَه، لكني مكثت حوالي عشر دقائق لمعاونة المفتِّش في معاينتِه. ثم أعطيتُه المفتاح وغادرت، تاركًا إياه يُتابع تحقيقاته.»
عند تلك النقطة، سكت الرقيب سكتة حاسمة، وتطلَّع باستفسار إلى قاضي التحقيق، الذي أجاب عن سؤاله الضمني قائلًا:
«أجل أيها الرقيب، لقد حضر المفتش بلاندي للإدلاء بشهادته، أعتقد أنه لا داعيَ لإزعاجك بشأن أيِّ تفاصيل إضافية، إلا إن كانت هيئة المحلفين ترغب في طرح أي أسئلة.»
لم يكن لدى هيئة المحلفين أيُّ أسئلة، وعلى ذلك، وبعد أن قرأ الرقيب أقواله ووقَّع عليها، عاد إلى مكانه خلف قاضي التحقيق، ونُوديَ على الشاهد التالي، الدكتور أولدفيلد.
على غِرار الرقيب، أنهى الدكتور الإجراءات التمهيدية بسرعة، وبعد أن جلس في كرسي وبدأ القاضي في استجوابه، أدلى بشهادته بالدقة والسلاسة نفسَيهما. لكن لا داعي لذكرها نصًّا. فالوصف العام للجثَّة ومحيطها ليس سوى تَكرارٍ لأقوال الشاهد السابق، لكن الطبيب أضاف إلى ذلك قائلًا:
«فحصت الجثة بحرص كما وجدتُها، خاصة فيما يتعلَّق بموضع جلوسها في الكرسي. فقد بدا لي غيرَ متوازن على نحوٍ غير مأمون، بل في الواقع بدَت أنها مُستنِدة بالكامل تقريبًا على الذراع الممتدَّة على الطاولة. عندما رفعَت تلك الذراع وتركتها تتدلَّى لأسفل، انزلقت الجثة للأمام في الكرسي، وكادت تسقط على الأرض لولا أنني رفعتُها.»
قال قاضي التحقيق: «يبدو أن هذا الموقف له دلالةٌ ما لديك. فإلامَ يُشير ذلك في رأيك؟»
أجاب الطبيب بحذر: «أعتقد أنها واقعة جديرة بالملاحظة، لكني لن أذهب لما هو أبعدُ من ذلك سوى لأن أقول إن الأمر بدا مخالفًا للاحتمالات نوعًا ما. فقد كنتُ أتوقَّع في لحظة الوفاة، عندما تَرتخي العضلات كلُّها فجأة، أن تنزلق الجثة للأمام من على الكرسي.»
تأمَّل قاضي التحقيق تلك الإجابة الحذرة لبضع لحظات ثم سأله:
«هل بوسعك تحديدُ الفترة التي مرَّت على الوفاة؟»
«تقريبيًّا فقط. سأقول إنَّ الوفاة وقعَت قبل ثلاثة أسابيع.»
«هل اكتشفتَ أي شيء آخر؟»
«ليس في تلك المرَّة، لكني فحصتُ الجثة بدقة شديدة في المشرحة، ووضعت لها وصفًا تفصيليًّا، كي تستخدمه الشرطة. هل تُريد منِّي سرد تلك التفاصيل؟»
أجابه قاضي التحقيق: «ذلك ليس ضروريًّا في الحقيقة، لكن ربما لن يكون ثمَّة ضَيرٌ من إدراج ذلك الوصف في سجلِّ الأقوال. أجل، لنسمع التفاصيل كاملة.»
وبِناءً عليه، بدأ الشاهد في سردِه: «الجثة لامرأة في الثلاثين من عمرها تقريبًا، يبدو أنها متزوِّجة؛ إذ كانت ترتدي خاتَمَ زواج، لكن لا يوجد ما يدلُّ على أنها قد أنجبت. كان طولها يبلغ خمسة أقدام وستَّ بوصات وربع البوصة، ووزنها مائةً وأربعةً وعشرين رطلًا؛ أي ثمانيةَ ستونات واثنَي عشر رطلًا. نحيلة القوام، بل في الواقع شديدة النُّحول. ذات بشَرة فاتحة، وشعرٍ أشقر أو ذهَبي. يبدو مِن طوله إلى أنه قُصَّ حتى عظْمَتي الفك منذ مدة؛ إذ يتجاوز طوله الكتفَين بشيء يسير الآن. العينان رماديَّتان على ما يبدو، ولكن تعذر معرفة لونهما بالتحديد بسبب حالة الجثة. وللسبب ذاتِه، كانت ملامحها مبهَمة بعض الشيء، لكن أمكن الجزمُ بأن أنفها صغيرٌ نوعًا ما، ذا شكل مقعَّر وقصبته ناتئة قليلًا. كان الفمُ متوسطَ الحجم وبدا محدَّد الشكل. أما أذناها فكانتا أكثرَ وضوحًا وأقلَّ تغيرًا؛ إذ كانتا ناتئتَين قليلًا، ونحيلتَين بالكامل وتكادان تَخْلوان من الشحمة، ويستقرَّان في رأسها بميل. وكان خطُّ عظْمتَي الفك مائلًا بدرجة ملحوظة، وذقنها مدببًا ومنحسرًا قليلًا.
أما بالنسبة إلى هُوية المتوفَّاة، فقد كنتُ حاضرًا أثناء نزع الثياب عن الجثة وفحصتُ كل قطعة كانت ترتديها. اثنتان منها كانتا موسومتَين بالحرفَين «إي آر»؛ وواحدة كانت موسومة بالحبر باسم «إي روبي»؛ وكان ثمة منديلٌ فاخر صغير في جيب التنورة مطرزٌ عليه اسم «إيما» بالحرير الأبيض. وبهذا يكتمل وصفُ المتوفاة.»
قال قاضي التحقيق: «أجل، وهو وصف وافٍ وواضح جدًّا. ينبغي ألا تُواجهنا أيُّ صعوبات في التعرف على هُوية الجثة. والآن نأتي إلى مسألة سبب الوفاة. هل كان بوسعك التثبتُ منه؟»
«أجل. سبب الوفاة هو التسمم بسيانيد البوتاسيوم. كانت الجرعة التي تناولتها كبيرةً جدًّا؛ إذ بلغت ستين وحدةً كاملة، وحدثت الوفاة في الحال على الأرجح، أو في غضون دقيقة أو اثنتين على أقصى تقدير.»
«هل سيانيد البوتاسيوم سمٌّ قوي المفعول إلى هذا الحد؟»
«أجل، إلى أقصى درجة. إنه يحتوي على حمض البروسيك في صورته المركزة ومفعوله مماثل له في قوته وسرعته.»
«كم تبلغ الجرعة المميتة؟»
«عادةً ما تُحدَّد بأقلَّ من خمس وحدات، على الأرجح وحدتان ونصف، لكن مثل معظم السموم، يختلف تأثيرها باختلاف الأشخاص. لكن جرعة من ستِّين وحدة تُعَد ضخمة.»
«هل أجريتَ التحليل بنفسك؟»
«أجل، بالتعاون مع البروفيسور وودفيلد. عندما أجريتُ التشريح، أزلتُ الأعضاء الداخلية وأخذتها في حاوياتٍ محكَمة الغلق وموسومة إلى معمل مَشْفى سانت مارجريت؛ حيث أجريتُ أنا والبروفيسور التحليل معًا.»
«أظن أن السم كان مصدره الأقراص التي سمعنا بها، أليس كذلك؟»
«هذا هو المفترض، كما أن التحليل أثبتَ أن الأقراص كانت مكونة بالفعل من سيانيد البوتاسيوم. لكن عندما أجرَينا الفحص، اتضحَت لنا حقيقة غريبة للغاية. فجرعة السمِّ الذي تناولَتْه قُدِّرت على الأقل بستين وحدة، والأقراص كما هو مدوَّن على الملصق على قِنينتها يحتوي كلٌّ منها على تركيز خمس وحدات، وتثبَّتنا من ذلك بالتحليل. بهذا يكون عدد الأقراص التي تناولتها تُكافئ اثني عشر قرصًا. لكن العلبة لم ينقص منها اثنا عشر قرصًا. فالملصق يُوضح أن القِنينة ممتلئة تحتوي على خمسين قرصًا يحتوي كلٌّ منها على خمس وحدات من السم؛ لذا لو كانت قد تناولت اثني عشَر قرصًا، إذن يفترض أن يتبقَّى بها ثمانية وثلاثون. لكن كان المتبقِّي بها ثلاثةً وأربعين، بزيادة خمسة أقراص عن العدد المفترض تبقِّيه.»
قال القاضي معترضًا: «لكن هذا لا يبدو لي حاسمًا للدرجة. ربما يكون قد وقع خطأٌ أثناء تعبئة القنينة. ألا تعتقد ذلك؟»
أجاب أولدفيلد بحسم: «كلا يا سيدي. لقد استبعَدْنا ذلك الاحتمال. فقد اشتريت قنينتَين جديدتَين من منتِجيها، وأحصيتُ أنا والبروفيسور الأقراص بكلِّ واحدة منهما. كل قنِّينة منهما كانت تحوي خمسين قرصًا بالضبط؛ والحقيقة المهمة هي أن كلًّا منهما كانت ممتلئة عن آخرها. فلا يُمكنها أن تسَعَ أي قرص إضافي. بعدها جربنا القنينة التي وُجِدَت على طاولة المتوفاة، وكانت النتيجة مماثلة؛ وهي أنها لا تسَعُ سوى خمسين قرصًا فقط. فإضافة ولو قرص واحد يمنع إدخال السدَّادة بالكامل.»
بدا القاضي مندهشًا بشدة، وقال: «هذا أمر شديد الغرابة، لكن يبدو أنه لا ريبَ في تلك الحقائق. هل بوُسعك تقديم أي تفسير له؟»
«التفسير الوحيد الذي يخطر لي أن السم الذي تناولَته لم يكن مصدرُه الأقراص على الإطلاق. أو على الأقل بعضه لم يأتِ من القنِّينة قطعًا، ولو كان بعضه قد أتى من مصدرٍ آخر، فالأرجح أن يكون الكل منها. توحي لي الوقائع بأن محلولًا من السيانيد قد أعِدَّ سلفًا، وأن ذلك المحلول هو الذي تناولته المتوفاة. لكن ذلك مجرد رأي لا أكثر.»
«بالضبط. لكن لو صح رأيك هذا، فما الداعي لوجود الأقراص؟»
أجاب أولدفيلد قائلًا: «هذا سؤال لا يختصُّ به الطب تمامًا.»
وافقه القاضي بابتسامة قائلًا: «صحيح، لكن لا داعي للتزمت. أعتقد أنَّك تفكرت في السؤال، وأود أن أسمع استنتاجك.»
«يُمكننني القول إذن إنه يبدو لي أن الأقراص قد وُضِعَت عمدًا كي تُدعِّم فكرة الانتحار.»
بدا قاضي التحقيق وقد اعتبر ذلك الاستنتاج واهيًا نوعًا ما؛ إذ لم يُواصل مناقشةَ الموضوع، بل عاد إلى موضوع التحليل.
«هل أظهر الفحصُ الكيميائي أي شيء آخر؟»
«أجل، أظهر حقيقةً أخرى ذاتَ دلالة كبيرة. بِناءً على اقتراح مني، اختبر البروفيسور وودفيلد المادة بحثًا عن المورفين بمعاونةٍ مني. وكشفَت لنا نتيجةُ الاختبار وجود آثار مؤكَّدة للعقار، غير أن حالة الجثة لا تسمح بوضع تقدير موثوق لمقداره. لكن المورفين كان موجودًا قطعًا، وبكمية معتبرة كذلك، كما ثبت من التفاعل الإيجابي للاختبار. فلو كانت الكمية ضئيلة جدًّا، لما أمكنَ اكتشافها مطلقًا.»
«هل بإمكانك إعطاؤنا أيَّ فكرة عن الكمية التي تناولتها؟»
«لقد اتفقنا على أن النتائج التي حصلنا عليها أشارت إلى وجود جرعة كاملة وإن لم تكن ضخمة؛ جرعة لا تتعدى ثُلث وحدة، أو نصف وحدة على أقصى تقدير.»
«لكن أوليس نصفُ الوحدة جرعةً كبيرة نوعًا ما؟»
«هي جرعة كبيرة جدًّا إن أُخِذَت عن طريق الحقن، لكنها لا تُعَد زائدةً للغاية إن ابتلعَتها. لكن الطبيب لا يُعطي المريض عادةً جرعةً تَزيد عن ربع الوحدة.»
«ذكرت لتوِّك أن اختبار المورفين أُجرِي بإيعازٍ منك. فما الذي جعلك تشكُّ في وجود المورفين؟»
«لم يكن شكًّا. بل احتمال خطر لي، وبدا جديرًا بالاختبار.»
«لكن ما الذي أوحى إليك بذلك الاحتمال؟»
«خطرَت لي الفكرة بعد النظر في الملابَسات غير العادية لهذه القضية. فالأمور في ظاهرها تُشير قطعًا إلى الانتحار. ولكن مع ذلك، يستحيل استبعاد احتمال القتل عن طريق إكراه الضَّحية على تناول السم. لكن من العسير جدًّا إجبار شخص على ابتلاع حتى سائل بغير إرادته، ومحاولة ذلك ستتطلَّب استخدام العنف الشديد، وهو ما سيترك آثارَه على الجثة. لكن لو أمكن إعطاء الضحية جرعة كاملة من المورفين سلفًا، فستصير خاملةً وطيِّعة للغاية وهو ما سيُسهل إعطاءها السم إلى حد كبير.
في هذه القضية، بحثتُ بدقة عن كدمات أو أي آثار أخرى للعنف، لكني لم أجد أيًّا منها؛ وهو ما بدا يستبعد احتمال القتل، لكن فقط بشرط ألا تكون الضحية قد تناولَت مخدرًا. حينها قرَّرت أن أُجري اختبارًا للكشف عن المخدِّر الأنسب والأكثر ترجيحًا في تلك الحالة؛ وهو المورفين.»
«وبعد أن اكتشفتَ وجوده، ماذا تستنتج من ذلك؟ يبدو أنك تُلمح ضمنًا إلى أن وجوده يُشير إلى احتمال القتل بالسم.»
«لم أكن لأجزمَ بذلك على نحوٍ قاطع؛ لكن حال وجود أدلة أخرى تُشير إلى احتمالية القتل، فسيكون وجود المورفين إثباتًا إضافيًّا دامغًا.»
بهذا اكتملَت شهادة الطبيب، وبعد أن اطَّلع على أقواله ووقَّع عليها، أخبره القاضي أن بإمكانه المغادرةَ لمتابعة عمله. لكنه اختار أن يعود إلى كرسيِّه لسماع الشهادات الباقية، وتدوين بضع ملاحظات.
قال قاضي التحقيق: «أعتقد أننا إنْ سمعنا شهادة المفتش بعد ذلك، سنكون قد اطَّلعنا على جميع الحقائق المعروفة للقضية، وبوسعنا أن نعرف التفاصيل التي تتخلَّلها لاحقًا من شهادات الشهود الآخرين.»
وعلى ذلك، بعد أن جلس المفتش بلاندي في الكرسي الشاغر بدعوةٍ من قاضي التحقيق، حيَّا لجنة المحلَّفين بابتسامة ودودة، ثم أنهى الإجراءات الأولية بأسلوب مَن يتلو صلاةَ تبريك. ثم ردًّا على السؤال الافتتاحي، استهلَّ شهادته بتصريح عامٍّ، كان في الواقع تَكرارًا لما جاء في شهادات الشاهدين السابقين. وبعد أن وصف الغرفة والجثة والطاولة والأغراض العديدة التي كانت عليها، تابع قائلًا:
«بعد أن أنهى الطبيب معاينته، شرَعتُ في معاينتي، مبتدئًا بالقدح وإبريق الماء. كان عليهما عددٌ من البصمات، معظمها واضحٌ جدًّا، وكان من الواضح أنها لليدَين نفسَيهما. كانت البصمات الموجودة على إبريق الماء لليد اليُمنى، وتلك التي على القدح كانت لليد اليسرى. أخذتُ بصمات أصابع المتوفَّاة على بطاقتَين صغيرتين وقارنتُها بتلك الموجودة على القدح وإبريق الماء، وبإمكاني القولُ عن ثقةٍ إنها متطابقة. جميعُ البصمات على الإناء والقدح هي بصمات أصابعِ المتوفَّاة لا شك، ولا توجد عليهما بصماتٌ لسواها.»
«هل تعتبرُ ذلك دليلًا قاطعًا على أن المتوفَّاة تناولَت السمَّ بنفسها؟»
«كلا، بالطبع لا أعتبره كذلك. فأي شخص متحكِّم بالجثة كان بإمكانه بسهولة أن يترك بصمات المتوفَّاة على الإناء والقدح. إن القيمة الاستدلالية للبصمات تعتمدُ على الأدلة الأخرى.»
«عَلِمت أن باب الغرفة كان مقفلًا على المتوفَّاة بالمِفتاح الذي كان متروكًا في ثقبه من الداخل.»
وافقه المفتِّش وهو يبتسم له بوُدٍّ قائلًا: «أجل، لكني أيضًا علمت أن السيدَ بولتون فتح الباب من الخارج، وكان بإمكانه أن يقفله من الخارج بالمفتاح بسهولة تاركًا المفتاحَ في ثقبِه بالداخل. في الواقع، هذا أمر يفعله المجرمون كثيرًا، بخاصة لصوص الفنادق الذين يملكون أداةً خاصَّة مصنوعة خصِّيصى لذلك الغرض، تُشبه إلى حدٍّ ما ملقطَ خلع الأسنان الذي يستعمله طبيبُ الأسنان. فبواسطة هذه الأداة يستطيعون الإمساكَ بالمفتاح من الخارج، وإدارتَه لفتح الباب، ثم ارتكاب سرقتهم، ثم إعادة غلق الباب بالمفتاح تاركين المفتاحَ في الثقب الداخلي عند مُغادرتهم المكان.»
«هل لديك سببٌ للاعتقاد بأن باب غرفة المتوفَّاة أُغلِق من الخارج بهذه الطريقة؟»
«ليس بتلك الأداة التي ذكَرتها. فتلك الأداة لها فكَّين حادَّين؛ لذا عادةً ما تترك خدوشًا صغيرة على المفتاح. وقد فحصتُ المفتاح بحثًا عن أي خدوش، لكني لم أجد أيًّا منها. ومع ذلك أعتقد أن الباب أُوصِد من الخارج باستعمال أداة مرتجَلة بسيطة جدًّا. ربما من الأفضل أن أشرح تلك الطريقة قبل أن أذكر الأسباب التي دعَتني إلى ذلك الاعتقاد. الإجراء — المعروف جيدًا للشرطة — هو كالآتي: يُوضَع المفتاح في قُفل الباب على نحوٍ يجعل إدارته ربع دورة كافيةً لفتح مزلاج القفل؛ ثم يُمرَّر قضيبٌ رفيع، مثل عود ثقاب سميك أو سيخ صغير أو قلم رَصاص، عبر رأس المفتاح، وتُعقَد أنشوطة في طرَف قطعة من الخيط ثم تُربَط في القضيب. يجب أن يظل الخيط محكمَ الشد كي لا تنزلق الأنشوطة. بعد ذلك يخرج المدبر من الغرفة ويُغلق الباب خلفه ممررًا الخيط المشدود بإحكام في المسافة بين حافَة الباب وعضادته وفي مستوًى أعلى من مستوى المفتاح؛ بعدها يُشَد الخيط بثبات فتكون النتيجة هي ارتفاعَ القضيب الصغير مديرًا المفتاحَ فينفتح مزلاج القفل. بعد أن يدور المفتاح ربع دورة ويُقفَل الباب، تنزلق الأنشوطة من القضيب، ويُجذَب الخيط إلى الخارج عبر الفُرجة بين الباب وعضادته، ويسقط القضيب الصغير على الأرض أو يندفع من المفتاح ويسقط بعيدًا.»
بدا القاضي متشككًا بعض الشيء. ثم قال: «تبدو فكرة عبقرية جدًّا، لكنَّ فيها شيئًا من المخاطرة بالنسبة لشخص ارتكب جريمة قتل لتوِّه. هب أن الخُطة فشلت.»
أجاب المفتش: «لكنها لا يُمكن أن تفشل يا سيدي. إن لم تنجح في المحاولة الأولى، فما على المجرم سوى أن يفتح الباب ويُحاول مجددًا. ربما إن شرحت لك آليتها عمليًّا فسيتضح لك الأمر.»
فتح حقيبة أوراق أحضرها معه وأخرج منها قطعة مسطَّحة من الخشب مثبَّتًا بها قُفلٌ ومصنوعًا خلالها ثَقبٌ للمفتاح. أدخل المفتاح به، ثم أخرج عودَ ثقابٍ سميكًا وقطعة من الخيط في أحد طرفَيها أنشوطة. أدخل عود الثقاب في رأس المفتاح، ثم ثبته في هذا الموضع بينما أدخله في الأنشوطة، وشد الخيط بإحكام.
قال: «الآن راقِب ما سيحدث. المفتاح مقابلٌ لك وأنا أقف على الجانب الآخر من الباب.»
ثبَّت قطعة الخشب على الطاولة بإحكام، ولف الخيط المشدود بإحكام إلى الخلف، ثم جذبه بقوة. على الفور، شوهِدَ المفتاح يدور، ومِزلاج القفل يندفع للخارج، والأنشوطة تنسلُّ من عود الثقاب الذي اندفع من الباب وطار عبر الطاولة.
كان تأثير التجرِبة العملية جليًّا. فقد ابتسم المحلَّفون وأومَئوا برءوسهم، حتى القاضي أقرَّ باقتناعه.
قال المفتش وهو يلتقط عودَ الثقاب ويفحصه بعدسة: «والآن يا سيدي، سأطلب منك أن تفحص عود الثقاب ذاك. قرب منتصفه، سترى خطًّا منحنِيًا محززًا قصيرًا على أحد الجانبَين، وعلى الجانب المقابل على مسافة نحو نصف بوصة من رأسه، سترى علامةً أصغر حجمًا وأقلَّ وضوحًا. وعلى الجانب الآخر من عود الثقاب؛ حيث ثُبِّتت به أنشوطة الخيط، سترى أربعة حزوز صغيرة، واحدًا على كل جانب، وإن وضعتَ عود الثقاب في رأس المفتاح كما كان عندما جذبت الخيط، فسترى أن الحزَّين على جانبَيه يُقابلان الحواف الحادة لرأس المفتاح.»
وأوضح آلية ذلك عمليًّا، ثم مرَّر عود الثقاب وعدستُه المكبِّرة إلى قاضي التحقيق الذي فحصه باهتمام بالغ ثم مرَّره إلى هيئة المحلَّفين.
قال قاضي التحقيق بعد أن مر عودُ الثقاب على الجميع: «حسنًا أيها المفتش، لقد قدمتَ لنا توضيحًا عمليًّا قاطعًا لتلك الطريقة، وأنا واثقٌ من أننا جميعًا اقتنعنا بقابليتها للتنفيذ. سؤالي التالي هو هل لديك أيُّ دليل على أنها استُخدِمَت بالفعل؟»
أجاب المفتش على ذلك السؤال بأنْ فتح حقيبته مرة أخرى وأخرج منها أنبوبًا زجاجيًّا مقفلًا بسدادة من الفلِّين بداخله عود ثقاب كبير، على طرَفه بقعة من شمع الختم الأحمر. ثم أخرج من جيبه مِفتاحًا، وأخرج عود الثقاب من الأنبوب ثم وضعه هو والمفتاحَ على الطاولة أمام قاضي التحقيق.
قال: «عود الثقاب هذا الذي ميَّزته بشمع الختم منعًا للخطأ، هو عود كبيرُ الحجم من إنتاج شركة «بريانت آند ماي» كما ترى. عثرت عليه على أرضية الغرفة (التي سأُشير إليها باسم غرفة المتوفَّاة) تحت خِزانة صغيرة، على بُعد قدمَين وثلاث بوصات من الباب. هذا هو المفتاح الذي أُقفِل به الباب. ستجد على عود الثقاب ستةَ حزوز مطابقة تمامًا لتلك الموجودة على عود الثقاب الآخر الذي معك. الحزَّان الجانبيان يُناظران تمامًا الحواف الحادة لرأس المفتاح. لا شك لدي أن عود الثقاب ذلك استُخدِم لقُفل ذلك الباب؛ وما يُؤكد ادِّعائي ذلك علامة محززة وجدتُها على الجانب الحادِّ من حافة الباب، في المكان نفسِه الذي يُفترَض أن يكون الخيط قد مر منه، كما ثبَت بالتجرِبة العملية. لا أستطيع أن أحضر الباب، لكن معي طبعة تُظهر تلك العلامة بوضوح صنعتُها على ورقة وضعتها عليها، ثم حكَكتُها بكتلة من مركب شمعي أسود.»
ناول الورقة لقاضي التحقيق، الذي مرَّر الطبعة إلى رئيس هيئة المحلَّفين بعد أن عاينها، ثم التفت مرة أخرى إلى الشاهد.
«لقد قدمتَ لنا توضيحًا عمليًّا شاملًا ومقنعًا أيها المفتش؛ لكنه يُثير سؤالًا آخَر. يبدو أن المفتاح الذي أريتَنا إياه هو مفتاح باب الغرفة التي عُثِر بداخلها على جثة المتوفاة. لكن مَن يكون صاحبه؟ الافتراض هو أن صاحبته هي السيدة شيلر مستأجرة الغرفة. لكن هل هو مفتاحها فعلًا، أم مفتاح مماثل له؟ هل بوُسعك أن تجيب عن ذلك السؤال؟»
«بوسعي إجابته وفقًا لما سمعته فحسب. أخبرتني السيدة ميتشنز أن ذلك المفتاح هو المفتاحُ الأصلي الذي أعطته للسيدة شيلر. فقد ميزَته من علامةٍ فيه. وبما أنها أحدُ الشهود، فإن بوُسعها أن ترويَ لك التفاصيل بنفسها؛ لكني أعتقد أن ذلك هو مِفتاحُ السيدة شيلر الخاصُّ بلا شك.»
«السؤال التالي هو أين السيدة شيلر؟»
ارتسمت على وجه المفتش ابتسامةٌ متأملة. أجاب: «أتمنى لو استطعت الإجابة على ذلك السؤال. فمنذ أن اكتشفنا الأمر، ونحن نُحاول التواصل معها، لكننا لم نستطع معرفةَ أي شيء عن مكان وجودِها. يُقال إنها في بريمنجهام، لكن ذلك عنوان مبهَم جدًّا، حتى لو كان صحيحًا. لقد نشرنا إعلانًا في الصحف نُطالبها فيه بالتواصل معنا، لكن لم يأتِنا منها رد.»
«إذن فقد اختفَت فعليًّا؟»
«يبدو الأمر كذلك. على أي حال هي مفقودة.»
قال قاضي التحقيق: «أهمية ذلك الأمر هو أنه لو كان هذا المفتاح مفتاحَها، فلا بد أن ثمةَ صلةً ما تربطها بالمتوفاة.»
وافقه بلاندي: «بالضبط يا سيدي. هذا ما يجعلنا مهتمِّين أشد الاهتمام بالتواصل معها.»
كانت تلك هي المشاركةَ الأخيرة للمفتش، وبعد أن وقَّع على أقواله وعاد إلى مقعده، نُودي اسم جوليا ميتشنز، فتقدَّمَت السيدة للإدلاء بشهادتها، التي كانت في معظمها لا تُضيف أي شيءٍ ذي بال. فهي لم تسمع قَط بامرأة تُدعى إيما روبي أو ترَها. ولم تكن تعرفُ أي شيء عن مستأجِرة غرفتها السيدة شيلر. كانت تلك السيدة قد استأجرت الغرف السكنية بالطابق الأرضي مفروشة، لكنها أضافت بعض الأثاث إليها. لم تُقدم لها أي خطابات توصية، لكنها كانت تدفع الإيجار — نقدًا كلَّ شهر — مقدمًا. قالت إنها لا تحتاج إلى مَن يقوم على خدمتها بل لا تُريد أن يُزعجها أحد وهي تُؤدي عملها، وهو الفن. نادرًا ما كانت الشاهدةُ تراها إلا عند دفع الإيجار. كان أسلوبها مهذبًا لكن ليس وَدودًا. كان لها جرسٌ كهربائي منفصل تحته لوحة نُحاسية صغيرة تحمل اسمها، ولوحة نُحاسية أخرى قابلة للإزالة معلَّقة على الجدار، كانت تُزيلها كل ليلة. كان لديها مِفتاح للبوابة خاصٌّ بها وكذلك مفتاحٌ لغرفة النوم وغرفة الجلوس. كان باب غرفة النوم مغلقًا بالمفتاح طوال الوقت، وكانت دائمًا توصِد باب غرفة الجلوس عندما تخرج.
لم ترَ الشاهدةُ أي زائرين يأتونها إلا السيد بيدلي ورجلًا أسمرَ البشرة، وكانت لا تراهما إلا نادرًا. كانت تعرف السيد بيدلي شكلًا منذ بضع سنوات. ولا تعرف ما إذا كانت السيدة شيلر قد غابت عن المنزل من قبل. ولاحظت غياب اللوحة من الجدار لثلاثة أسابيع تقريبًا، وبعدها بدأت تشم رائحةً كريهة في الردهة.
قال القاضي: «عودة إلى موضوع المفاتيح. وُجِد مفتاح في قفل باب غرفة الجلوس. لو تكرم المفتش بلاندي وأقرضَنا المفتاح لبرهة، فهل بإمكانكِ أن تُؤكدي لنا ما إذا كان هو المفتاحَ نفسَه الذي أعطيتِه للسيدة شيلر؟»
أجابته: «أنا واثقة من أنني أستطيع ذلك يا سيدي.»
هنا أخرج المفتش المفتاح، وبعد أن أخذ حيطته وربط قطعة صغيرة من الخيط حول رأس المفتاح، مرَّره إلى قاضي التحقيق الذي ناوله بدوره للشاهدة.
قالت السيدة ميتشنز بعد أن ألقت عليه نظرة واحدة سريعة: «أجل يا سيدي، هذا هو مفتاح السيدة شيلر الخاص.»
قال القاضي: «تقولين ذلك بثقة شديدة. فكيف تستطيعين تمييز هذا المفتاح عن كل المفاتيح الأخرى؟»
أجابت: «بالطريقة الآتية يا سيدي. عندما استأجرَت السيدة شيلر تلك الغرف، كان لباب غرفة الجلوس قفلٌ ضخم قديم الطِّراز ذو مفتاح كبير يصعب استخدامه. وجدَته السيدة شيلر غيرَ مريح تمامًا؛ لذا استدعيتُ صانع الأقفال كي يُركب قفلًا أحدث بمفتاحٍ أصغر. أعطاني مفتاحَين لذلك القفل الجديد وقررتُ أن أحتفظ بأحدهما على سبيل الاحتياط حال ضياعِ الآخر؛ لكني رأيت أن من الأفضل أن أضع علامة مميزة على كِلا المفتاحين منعًا للخطأ؛ لذا حفر زوجي حزًّا على مقبض المفتاح الذي كنت أعتزم إعطاءه للسيدة شيلر، وحزَّين على المفتاح الآخَر كي يَبِينَ أنه المفتاح الاحتياطي. ذلك المفتاح به حزٌّ واحد؛ لذا فهو مفتاح السيدة شيلر، وها هو المفتاح الآخر ذو الحزَّين.»
وأثناء حديثها، أخرجَت من حقيبة يدها مفتاحًا ووضعته بجانب الآخر على الطاولة.
التقط القاضي المفتاحَين وبعد أن قارن بين رأسيهما سريعًا، مررهما لهيئة المحلفين، وما لبث أن عاد المفتاحان إلى مالكيهما.
قال القاضي: «هذا دليل بالغ الأهمية وقاطع تمامًا. لقد صِرنا نعرف يقينًا الآن أن المفتاح الذي وُجِد في الباب هو مفتاح السيدة شيلر. وهي فقط مَن يستطيع أن يُفسر لنا كيف استقر به المقام حيث وُجِد.» ثم التفت إلى الشاهدة وأردف: «أظن أنك لا تستطيعين إعطاءنا أي فكرة عن مكانها المحتمل.»
أجابته: «كلا يا سيدي. فلم أكن أدري أنها تركَت المنزل؛ وعندما لاحظتُ تلك اﻟ… الرائحة الكريهة للمرة الأولى، ظننتُ أنها ترقد ميتة في غرفتها.»
«على ذِكر ذلك، كان معك مفتاحٌ احتياطي. فلِم لَم تُحاولي دخول تلك الغرفة؟»
«لقد حاولنا بالفعل يا سيدي، لكن المفتاح الآخر كان متروكًا في القفل.»
«أجل بالطبع. حسنًا يا سيدة ميتشنز، لقد قدَّمتِ لنا شهادة في غاية الأهمية، والآن إن لم يكن قد خطر ببالك أي شيء آخر، أعتقد أنه لا داعي لأن نُعطلك أكثر من ذلك.»
كان الشاهد التالي هو توم بيدلي. لكن توم لم يكن يعرف شيئًا عن أي شيء، وهذا ما قاله. كان ما أراحه أن لم تُطرَح عليه أسئلة عن قدرات لوتا الفنية؛ وكان إسهامُه الوحيد هو تقديم رواية مختصرة لكيفية تعرُّفِه بلوتا، وتصريح محدد للغاية بشأن طبيعة علاقته بها، ووصفٌ مختصر لرحلتهم الاستكشافية إلى غابة إيبنج؛ لكونها المرةَ الأخيرة التي رآها فيها. كان الشاهد التالي هو ناثانيل بولتون، الذي شهد بأن الباب كان مقفلًا بالمفتاح من الداخل بلا شك عندما حاول فتحه، وأنه استنتج من السلاسة التي دار بها المفتاح أن القفل كان يُزَيَّت بانتظام. كما شهد بأنه لم يواجه أيَّ صعوبة في فتحه بأداة بسيطة من سلك مثنٍ (نسي إحضارَها معه للأسف) واستطاع إعادة غلقه بسهولة مماثلة. لم يكن يعرف أي شيء عن السيدة شيلر التي تعتبر غريبة فعليًّا بالنسبة إليه.
«أصغَت» هيئة المحلفين إلى شهادة الشاهدَين الأخيرَين باهتمامٍ فاتر بعضَ الشيء؛ لكن عندما نُودي اسمُ الشاهد التالي ونهض السيد ويليام فاندربوي ذو القامة المهيبة، تيقظ انتباههم بدرجة ملحوظة. أدرك الشاهد الجديد ذو المظهر المميز والثياب المهندمة التي لا تشوبها شائبة ذلك، فبدا عليه شيءٌ من الخجل بطبيعة الحال وهو يسير إلى الطاولة؛ لكن بعد أن تلا القسَم، وذكر بياناته الشخصية — من كونه محاميًا عضوًا بجمعية إنر تيمبل — بثقة كبيرة، وأدلى بشهادته بوضوح، ووقار ورِباطة جأش كاملَين.
لم يكن يعرف شيئًا عن الفاجعة، في حدِّ ذاتها، وسمع بها للمرة الأولى من مكتب قاضي التحقيق. ولم يرَ امرأة تُدعى إيما روبي أو يسمعْ بها قط، ولا يعرف أي شيء البتة عن الملابسات المتعلقة بوفاتها. بهذا انتهى الجزء الأول من الاستجواب، أما ما تبقى من شهادته فكان يتعلق فقط بالسيدة لوتا شيلر. بعد أن وصف بداية معرفته بها في مرسم توم بيدلي، أجاب عن أسئلة قاضي التحقيق بإجابات وافية وصريحة وإن لم يزِدْ عنها شيئًا طواعية.
سأله القاضي: «هل كنت ترى السيدة شيلر كثيرًا؟»
«أجل، كنت أراها يوميًّا تقريبًا لفترة، وكثيرًا ما كنا نقضي أيامًا كاملة معًا.»
«وكيف كنتما تقضيان الوقت في تلك المرات؟»
«في زيارة معالم المدينة في الأغلب: المسارح والحفلات ودُور السينما والمتاحف والمعارض الفنية. وكنا نتناول وجباتنا في المطاعم.»
«هل كنتما عادة تتقابلان حسَب موعد محدَّد سلفًا.»
«كلا، بل كنت دائمًا ما أمرُّ عليها في مسكنها، ثم أُوصِلها إليه ليلًا.»
«عندما كنت توصلها إلى المنزل، هل كنت تدخل؟»
«كلا، لم أفعل ذلك قط. كنت أوصلها حتى الباب فحَسْب. حين كنت أزورها، كنت عادة ما أدخل إلى المنزل لبضع دقائق، لكني لم أكن أدخله قط ليلًا.»
«سأطرح عليك سؤالًا لستَ ملزَمًا بإجابته إن كان لديك أي أسباب تمنعك من ذلك. السؤال هو: ما طبيعة العلاقة التي تجمعك بالسيدة شيلر على وجه التحديد؟ هل كنتما مجرد صديقين، أم كانت تربطكما علاقة عاطفية، أم كنتما حبيبَين بالفعل؟ تذكَّر أني لا أُلزمك بالإجابة عن ذلك السؤال.»
أجاب فاندربوي بهدوء: «ليس ثَمة ما أحتاج إلى إخفائه. لقد كنا أكثرَ من مجرد صديقَين عاديين. بل يمكنني القول إن علاقتنا كانت عاطفية، على الأقل من جانبي؛ لا أستطيع تأكيد ذلك من جانبها مع أنها بدَت مخلصةً لي إلى حدٍّ ما. لكننا لم نكن حبيبين قطعًا.»
«هل كنتما تتبادلان القبلات على سبيل المثال؟»
«كلا، لم أُقبِّلها قط. فقد بينَت لي بوضوح لي أن القبلات غير مسموح بها.»
«ذُكِر أنكما تبادلتما قِلادتَين بعينَيهما. ألا تعتبرهما رمزَين للتعبير عن الحب؟»
«كلا، لقد صُنِعا بإيعاز منها كي يكونا تَذكارًا عندما أعود إلى إفريقيا.»
«متى رأيت السيدة شيلر آخرَ مرة؟»
«في الثامنَ عشر من نوفمبر، يوم رحلتنا إلى غابة إيبنج التي تحدث عنها السيد بيدلي.»
«هلا ذكرتَ لنا بعضًا من تفاصيل ما حدث بعد أن افترقتما عن السيد بيدلي؟»
«سِرنا حتى هاي بيتش كما أرشدَنا، وتناولنا الغداء في نُزل كينجز أوك. ثم انطلقنا في جولة داخل الغابة، وسرعان ما ضللنا طريقَنا. بعد أن هِمْنا على وجهنا لوقت طويل، قابلنا أحد حراس الغابة، وأرشدَنا إلى الطريق إلى لوتون، وبشيء من الصعوبة — إذ كان الظلام قد بدأ يحلُّ — وجَدْنا طريقَنا إلى هناك، ومنها استقلَلْنا قطارًا إلى لندن أخيرًا. أوصلتها إلى المنزل وتمنيت لها ليلة سعيدة على عتبة بابها في حوالي التاسعة والنصف. كنا على متن القطار حين أخبرتني للمرة الأولى أنها ذاهبةٌ للإقامة في بريمنجهام مع بعض أصدقائها.»
«هل أعطَتْك عنوان إقامتها هناك؟»
«كلا. قالت إن من الأفضل ألا نتبادل الخطابات، وأنها ربما تزور أصدقاء لها في مكان آخر؛ لكنها وعدَت بأن تُخبرني عند عودتها، مع أنها لم تعرف لها موعدًا. منذ ذلك الحين لم أرَها أو تَرِدْني أخبارٌ عنها.»
كانت تلك هي فحوى شهادة فاندربوي، وبعد بضعة أسئلة أخرى لم تكشف عن جديد، اطلع قاضي التحقيق على ملاحظاته.
«أظن أن الشاهد أخبرنا بكل ما يعرفه عن تلك القضية الغريبة، ولا داعي لأن نُؤخره أكثرَ من ذلك إلا إن كانت هيئة المحلفين تود طرح أي أسئلة.»
نظر متسائلًا إلى هيئة المحلفين، ولما لم يُبدِ أيٌّ منهم أي إشارة، قرأ الشاهد أقواله ووقَّع عليها، وسمح له القاضي بالمغادرة بعد أن شكره على شهادته الصادقة والمفيدة، فعاد إلى مقعده بجوار السيد بولتون.
كانت الشاهدة التالية — التي تبيَّن أيضًا أنها الأخيرة — سيدة عجوز ضئيلة الجسد لها ملامح ماكرة بعض الشيء، تقدَّمَت إلى الطاولة تعلو وجهَها ابتسامةٌ متكلَّفة بها اعتزاز بالنفس، وأدْلَت بشهادتها طواعية وباستمتاع واضح. كان اسمها جين بيجهام، تقطن بالمنزل رقم ٩٨ بشارع جيكوب، لا عمل لها سوى حياكة الجوارب وبعض السلع الأخرى وبيعها؛ من أجل زيادة الدخل البسيط الذي تركه لها زوجها الراحل. كانت عادةً ما تجلس بجوار النافذة، وكان ذلك في جزء منه التماسًا للضوء، لكن السبب الأساسي أنها حائكة محنكة لا تحتاج إلى أن تُبقي بصرها على ما تَحيك؛ لذا كان بوسعها أن تُسلي نفسها بمراقبة ما يحدث في الشارع. كانت تعرف جميع جيرانها شكلًا، وتعرف الكثير عن عاداتهم ونشاطاتهم؛ ولأن منزلها يقع مقابل منزل السيدة ميتشنز مباشرة، كانت ترى السيدة شيلر كثيرًا. تذكرت أن تلك السيدة انتقلت للسكن بالمنزل ومعها أثاثها المحدود منذ حوالي ستة أشهر، وعلقَت اللوحة المعدنية (التي عبَرت الشارع في اليوم نفسِه كي تقرأ الاسم المكتوب عليها).
عقَّب القاضي قائلًا بابتسامة: «يبدو أنك أوليتِ اهتمامًا كبيرًا للسيدة شيلر.»
«هذا صحيح يا سيدي. فقد تساءلتُ ماذا تفعل امرأة مثلها؛ تضع مساحيقَ التجميل وترتدي أحذية ذاتَ كعب عالٍ في شارعنا الهادئ؛ في الواقع، كنت أشكُّ في أن أخلاقها ليست كما ينبغي.»
قال القاضي: «قلة قليلة منا فقط أخلاقهم كما ينبغي يا سيدة بيجهام، لكن ارتداء أحذية ذات كعب عالٍ أو وضع مساحيق التجميل ليس بجريمة. فمعظم النساء يفعلن ذلك هذه الأيام.»
«هذا صحيح يا سيدي، عارٌ عليهن. على أيِّ حال، في غضون أسبوع من وصولها، رأيتُها تتَّجه إلى باب السيد بيدلي وتدقُّ الجرس، وعندما فتح الباب رأيتُ أنه لا يعرفها ولا يبدو عليه أنه يودُّ ذلك. لكنها دخلَت ومكثت نصف الساعة. بعد ذلك، اعتادت التردُّد عليه كثيرًا، ومرة أو مرتين، ذهب السيد بيدلي إلى مسكنها قرابةَ وقت الشاي، وأحيانًا كانا يعودان إلى بيتهما معًا وكأنما التقيا في مكان آخر.
ثم بعد شهر أو اثنين، ظهر في المشهد رجلٌ أسمر البشرة؛ ذلك الرجل الذي أدلى بشهادته لتوِّه، السيد فاندربوي. في البداية كان يذهب إلى مرسم السيد بيدلي، ويبدو أنها كانت تعلم بوجوده هناك؛ إذ كانت تنسلُّ إلى هناك وتدقُّ الجرس وبعد ذلك تخرج برفقة السيد فاندربوي. ثم صار يألف زيارتها في مسكنها، وكانا يخرجان معًا ولا يعودان قبل حلول الليل، وأحيانًا في وقت متأخر جدًّا.»
هنا اعترضَ مُحلَّف نابهٌ قائلًا: «لقد سبق أن سمعنا كلَّ ذلك.» ووافقه القاضي قائلًا: «من الأفضل أن نتخطى ذلك.» وتابع قائلًا: «هلا تفضلتِ بإخبارنا متى كانت آخرُ مرة رأيتِ فيها السيدة شيلر؟»
نظرَت الشاهدة نظرة حانقة إلى المحلَّف وأجابت بعد زفرة استياء:
«منذ حوالي ثلاثة أسابيع. رأيتُها تعود إلى المنزل برفقة السيد فاندربوي في حوالي التاسعة والنصف مساء، وبدا من مظهرها أنها شربت حدَّ السُّكر.»
سألها القاضي: «ما الذي دعاك إلى اعتقاد ذلك؟»
«بدا لي يا سيدي أنها تترنَّح بعض الشيء، وكانت متشبِّثة بذراعه؛ وتلك لم تكن عادتَها. وعندما وصلا إلى الباب، كان هو مَن أدخلَ المفتاح وفتح وساعدها على الدخول.»
«هل دخل إلى المنزل؟»
«أجل، ومكث بالداخل حوالي ساعةً ونصف الساعة؛ فقد رأيته يخرج بعد الساعة الحاديةَ عشرة ببضع دقائق. تصادف أن توجهتُ للنافذة في ذلك الوقت.» (ابتسم القاضي في تجهُّمٍ من تلك الصدفة) «ورأيته يخرج حاملًا حقيبة — أو ربما كانت حقيبة سفر صغيرة — لم تكن معه حين دخل؛ وكان حريصًا بشدة على ألا يُحدِث أي ضجيج؛ فلم يصفق الباب، بل وضع فيه المفتاح وأغلقه دون صوت. وكان ذلك أمرًا غريبًا؛ إذ بدا أن معه مفتاحًا خاصًّا به للباب.»
«هل رأيتِ السيد فاندربوي يدخل إلى المنزل في أي مرة سابقة؟»
«لا يسَعُني أن أقول إنني رأيته يفعل من قبل. لكن إن كان معه مفتاح لمزلاج الباب …»
وهنا قاطعها المحلف النبيه بالسؤال:
«هل بإمكان الشاهدة أن تُقسِم يا سيدي إن الرجل الذي رأته هو السيد فاندربوي؟»
سألها القاضي: «ما قولك في ذلك يا سيدة بيجهام؟ هل أنت واثقة تمامًا أن ذلك الرجل كان السيد فاندربوي؟»
«حسنًا، لقد كان يُشبهه بالتأكيد يا سيدي. إلى جانب ذلك، من عساه أن يكون؟»
«سؤالي هو: هل ميزتِ السيد فاندربوي بوضوح وعلى نحو قاطع؟»
«تمييز شخصٍ بوضوح وعلى نحو قاطع على الجانب المقابل من الشارع وفي ليلة من ليالي ديسمبر المظلمة، ودون وجود أي مصابيحَ قريبة بالشارع أمر يكاد يكون مستحيلًا. بالطبع لم يكن بوسعي تمييزُ لون بشرته وملامحه، لكن بدا لي أنه السيد فاندربوي. فمن عساه أن …»
«لا يُهم من عساه أن يكون. هل يمكنكِ أن تُقسمي إنه السيد فاندربوي وليس أيَّ رجل آخر؟ السيد بيدلي مثلًا؟»
«يا إلهي! لم يخطر لي ذلك قط. ربما تكون محقًّا يا سيدي؛ إذ إنه يسكن بالمنزل المجاور أيضًا. لكن لا، هذا ليس ممكنًا؛ فقد رأيته يسير باتجاه طريق هامبستيد.»
«أنا لم أكن أقترح أن الرجل هو السيد بيدلي. بل كنتُ أضرب مثالًا فحسب. الحقيقة هي أنك لم تتعرَّفي على الرجل على الإطلاق. لقد افترضتِ أنه السيد فاندربوي. أليس كذلك؟»
أقرَّت الشاهدة على مضضٍ بأن الأمر كذلك؛ فانتقل القاضي إلى أمر التعرف على هُوية السيدة ليصل إلى نتيجة مماثلة. فالشاهدة لم تتعرف عليها فعليًّا. فقد سلَّمَت بأنها السيدة شيلر لأنها «بدَت تُشبهها قطعًا، فمن عساها أن تكون؟» إلى آخره.
حينها كان قاضي التحقيق وهيئة المحلفين قد فاض بهم الكيل من السيدة بيجهام، فأنزلها القاضي عن كرسيِّ الشهادة لتعود إلى مقعدها متحسرة. ثم استُدعِي كلٌّ من السيدة ميتشنز وفاندربوي مجددًا، وأعِيدَ استجوابهما سريعًا، لكن لم يستطع أيٌّ منهما إلقاء أي ضوء على تلك الواقعة. فالسيدة ميتشنز وزوجها يستيقظان مبكرًا، وعادة ما يهجعان إلى غرفة نومهما في الطابق الثاني في تمام العاشرة للنوم؛ وكرر فاندربوي تصريحه بأنه لم يدخل المنزل قط ليلًا. وبهذا اكتملت شهادات الشهود وبدأ قاضي التحقيق في سرد موجز ملاحظاته الذي كان مع اقتضابه واضحًا.
ابتدأه بقوله: «لا داعي لأن أرهق أعضاء هيئة المحلفين بإلقاء ملخصٍ للشهادات التي استمعتم لها بالفعل بانتباهٍ جَم، لكني سأشير فقط إلى الاستنتاجات التي تبدو منبثقةً منها. مهمتنا هي أن نتأكد متى وأين وكيف لقيت المتوفاة حتفها، وهي امرأة لا نعرف عنها شيئًا سوى أنها تُدعى إيما روبي. المكان الذي نعرفه هو المنزل رقم ٣٩ بشارع جيكوب؛ أما الزمان فلسنا متيقنين منه بالدرجة نفسِها؛ لكن الوفاة حدثت منذ حوالي ثلاثة أسابيع من وقت اكتشاف الجثة يوم الثلاثين من ديسمبر؛ أي تقريبًا يوم التاسع من ديسمبر. سبب الوفاة هو جرعة ضخمة من سيانيد البوتاسيوم، إما أن المتوفاة تناولتها بنفسها، أو أجبرها شخصٌ آخر على تناولها. إن كانت قد تناولت السم بنفسها، فربما تكون قد فعلَت ذلك سهوًا، أو بقصد إنهاء حياتها عمدًا. أما إن كان شخصٌ آخر هو مَن أعطاها السم، فذلك الشخص متهَم بارتكاب جريمة قتل عمد.
إذن ثمة احتمالات ثلاثة: السهو والانتحار والقتل. يُمكننا استبعاد السهو؛ إذ لا توجد أدلة تشير إليه؛ وبذلك لا يتبقَّى لدينا سوى احتمالَي الانتحار والقتل. ما الأدلة التي تدعم نظرية الانتحار؟ ثمة حقيقتان يبدو، إنْ نظَرنا إليهما مقترنتَين، أنهما تُشيران للوهلة الأولى إلى الانتحار على نحوٍ قاطع. الأولى هي أن بصمات الأصابع التي وُجِدت على القدح وإبريق الماء تعود إلى المتوفاة. أما الثانية، فهي أن المتوفاة عُثِر عليها وحيدة داخل غرفة مقفلة بالمفتاح الذي تُرِك في الباب من الداخل. هاتان الحقيقتان، كما ذكرت، يبدو أنهما تُشكلان دليلًا مقنعًا على الانتحار. لكن، حريٌّ بالذكر أن جرَّاحًا محنكًا تابعًا للشرطة ومفتشًا محنكًا تشكَّكا منذ البداية، مع وجود ذلك الدليل، أن تلك قضية قتل لا انتحار؛ وعندما أدلَيا بشهادتَيهما، قدَّما أسبابًا قوية لشكوكهما تلك. لننظر أولًا في شهادة المفتش بلاندي. لقد عرَفنا منه أن دليل بصمات الأصابع لا أهمية له عمَليًّا؛ إذ ليس من الصعب أن يكون القاتلُ هو مَن صنعها مستخدمًا أصابعَ الضحية بعد وفاتها.
نأتي إلى الباب الموصَد بالمفتاح. إن حقيقة أن السيد بولتون قد فتح الباب من الخارج وكان يستطيع إقفاله مرة أخرى بالسهولة نفسِها ينفي الدلالة القاطعة لذلك الدليل. فذلك يُثبت أنه كان من الممكن إقفالُ الباب من الخارج بالمفتاح. لكن المفتش في شهادته ذهب إلى ما هو أبعدُ من ذلك. فقد برهنَ لنا على أن الباب قد أُقفِل من الخارج في الواقع. لا داعي لأن أُذكِّركم بشرحه التوضيحي المقنع، لكن عليَّ أن أؤكد لكم على الأهمية البالغة لعود الثقاب الذي وجده باعتباره دليلًا. إن عود الثقاب ذاك كان يحمل علاماتٍ مطابقةً تمامًا لرأس ذلك المفتاح بعينه، وكذلك العلامة الواضحة لعُقدة الخيط. وقد عُثِر عليه بالقرب من الباب في الموضع المتوقَّع إيجاده فيه إن كان قد استُخدِم بالطريقة التي وصفها المفتش وأوضحها عمليًّا؛ والباب نفسه كان يحمل علامة مماثلة تمامًا في الموضع الذي كان ليتركَه فيه خيط مشدود، استُخدِم بالطريقة المذكورة. بافتراض أن الباب أُقفِل من الخارج باستخدام عود ثقاب وخيط، فتلك الشواهد كلها متسقةٌ تمامًا مع ذلك الافتراض ومُعلَّلة في ضوئه. لكن في ضوء أي افتراض آخر، فلا معنى لها على الإطلاق. أُسلِّم بأن لا مناص من دليل عود الثقاب ذاك. فنحن مرغَمون على الاعتقاد بأن الباب أُقفِل من الخارج، ومن ثَم لم تكن المتوفاة هي مَن أغلقته.
أما شهادة الطبيب بخصوص المورفيا — أو المورفين كما يُدْعى الآنَ عادة — الذي وجده في الجثة، والدلالة التي استشَفَّها من وجوده، فكانت مثيرة للدهشة للغاية؛ ولكنها ازدادت غرابةً أكثر وأكثر عند سماعنا شهادة السيدة بيجهام. بوسعنا اعتبارُ تحديدها لهُوية الشخصَين اللذَين رأَتهما مجردَ تخمين، وهو في الأغلب تخمينٌ خاطئ. لكن ما تُثبته شهادتها هو أنه في ليلة مظلمة قبل حوالي ثلاثة أسابيع من اكتشاف الجثة (التي مر على وفاتها حوالي ثلاثة أسابيع)، دخل ذلك المنزلَ رجلٌ وامرأة باستخدام مفتاح.
مَن هما هذان الشخصان؟ لننظر أولًا في أمر المرأة. افترضت السيدة بيجهام أنها السيدة شيلر، وهو ما قد نستنتج منه أنها إمَّا كانت السيدة شيلر بالفعل أو امرأة اعتقدت خطأً أنها هي. لكن السيدة ميتشنز والسيد بيدلي كلاهما اعتقد خطأً أن المتوفاة هي السيدة شيلر، وكلاهما كان يعرف تلك الأخيرةَ جيدًا. لذا من الممكن أن تكون المرأة التي رأتها السيدة بيجهام هي إيما روبي؛ ومن هنا تتأتَّى الأهمية البالغة لشهادة الطبيب. لقد تراءى للسيدة بيجهام أن المرأة كانت ثملةً حدَّ الترنُّح؛ والطبيب في شهادته أقسَم على أن المتوفاة تناولت جرعة كبيرة من المورفين. لكن قد يكون من السهل الخلطُ بين تأثير المورفين وتأثير الكحول على الشخص. لذا تضعُنا تلك الإفادة أمام احتمالية قويةٍ بأن المرأة التي رأتها السيدة بيجهام كانت المتوفاةَ بالفعل.
والآن لننظر في أمر الرجل. لا يسعنا أن نقول عن مظهره سوى أن السيدة بيجهام ظنَّت أنه السيد فاندربوي، وأن ثمة تشابهًا عامًّا ما بينه وبين السيد فاندربوي في العمر والهيئة. غير أن ذلك لا يعدو كونه مجردَ تخمين. لكن ثَمة ثلاث حقائقَ تبدو مهمة للغاية. هذا الرجل فتح البوابة بمفتاح؛ لكن تلك حقيقة ليست مهمة كثيرًا إذ ربما تكون المرأة هي مَن أعطته إياه. الحقائق الثلاث ذات الدلالة اللافتة التي أشير إليها هي: أولًا: أن المفتاح ظل بحوزته حين خرج. ثانيًا: أنه اتخذ أقصى درجات الاحتياط لئلا يُحدِث جلَبة بأنِ استخدم المفتاح لغلق الباب. ثالثًا: أنه خرج حاملًا حقيبة يدٍ أو حقيبة سفر لم تكن معه حين دخل.
ماذا كان يفعل بمِفتاح البوابة الذي ليس مِلكَه قطعًا، أيًّا كانت هُويته؟ الاحتمال القوي هو أنه احتفظ به فقط بغرض إغلاق الباب دون صوت. لكن لِمَ ذلك الخروج الصامت التسلُّلي الغريب؟ لِمَ كان حريصًا إلى ذلك الحدِّ على ألا يعرف أحدٌ من سكان المنزل بمغادرته؟ وأخيرًا، لمن الحقيبةُ التي كان يحملها، وماذا كان بداخلها؟ بعد أن نسأل أنفسنا تلك الأسئلة، دون أن ننسى أن الرجل كان في المنزل مع المرأة وحدَهما على ما يبدو، لساعةٍ ونصف الساعة، فستبدو لنا الإجابة أنَّ تصرُّفه يُشير بقوة بأنه تصرفُ شخص بصددِ الفرار من مسرح جريمة، آخذًا معه أغراضًا معينة تُدينه ذاتَ صلةٍ بالجريمة. لكن ذلك في رأيي مجرد إيحاء. ولا شيء أكثر من ذلك إن نظرنا إليه وحده. لكن إن نظرنا إليه مقترنًا بشهادتَيِ الطبيب والمفتش، فقد يبدو أكثر من مجرد إيحاء. الحكم لكم. وأنتم تنظرون في قراركم، سيتعين عليكم الفصلُ بين بديلَين: هل لاقت المتوفاةُ حتفها بيدَيها أم بيدِ شخص آخر؟ هل انتحرت أم قُتِلت؟ تلك هي المسألة، وسأترككم للنظر فيها.»
كان الصمت الذي عمَّ قاعة المحكمة بعد أن أنهى قاضي التحقيق كلمته قصيرًا؛ قصيرًا لدرجة توحي بأن هيئة المحلَّفين كانت قد اتخذوا قرارهم بالفعل؛ ففي غضون بضع دقائق، أعلن رئيسهم أنهم قد اتفقوا على حكمهم.
قال ردًّا على سؤال القاضي: «قررنا أن المتوفاة قد لقيت حتفها بسبب سمٍّ أعطاه لها شخص مجهول.»
قال القاضي: «أجل، هذا حكمٌ بالقتل العمد. سأُدرِجه تحت ذلك الوصف، واسمحوا لي بأن أقول إنني أوافقكم تمامًا.»
وانتهت الجلسة على ذلك. نهض الشهود والمشاهدون والمراسلون، وبدَءوا في الخروج من المحكمة؛ فاتجه الدكتور أولدفيلد برفقة المفتش بسرعة إلى سيارته التي تنتظره، وانطلق توم بيدلي وبولتون وفاندربوي في الطريق إلى المرسم.