أين لوتا؟
كدَّرَت جلسة التحقيق والأحداث التي سبقَتها مجرى حياة توم بيدلي الهادئ، وتركَته مُقَلْقَلًا بعض الشيء، وفي اليوم الذي تلا الجلسة، لم يجد في نفسه الرغبة في ممارسة عمله الطبيعي، فكرَّسه لإحصاء مخزونه من الخامات ووضعَ قائمة بما ينقصها في دفتره. كشف ذلك الإجراءُ له أن الدفتر الذي يستخدمه قد شارف على الامتلاء، وأنه لا يملك بديلًا له. لم تكن دفاتر ملاحظات توم مجردَ دفاترَ جاهزة يُمكنه ابتياعها عند الحاجة. بل كانت دفاترَ يُصممها هو بتقدير دقيق للحجم والشكل والسُّمك والغلاف المناسبين، ويصنعها له خصِّيصى متجرُ بيع أدوات الرسامين في طريق هامبستيد من ورق فاخر يصلح للرسم عليه بالقلم الرصاص أو بالحبر أو بالألوان المائية الخفيفة إن دعَت الحاجة. كان عادةً ما يطلب دُزينةً منها في المرَّة، وكلما امتلأت أوراق دفتر منها، وضعَ عليه ملصقًا بالتاريخ وخزنه على رف مع سابقيه؛ ليصير جزءًا من سلسلة لا تنفكُّ تزداد.
كانت خُطةً جديرة بالإعجاب؛ إذ إن تلك السلسلة، بجانب أنها كانت تُوفر مخزونًا من المواد المرجعية، كانت أيضًا بمنزلة دفتر يوميات متكاملٍ إلى حدٍّ كبير، وسِجلٍّ لنشاطاته وأماكنِ وجوده في أي تاريخ بعينه؛ إذ كان توم دومًا ما يضع التاريخ على رسوماته مهما كانت بسيطة، حتى الملاحظات المكتوبة. وهكذا وبعد أن أضاف إلى قائمته دُزَينة من الدفاتر التي لا غِنى له عنها، انطلق على الفور إلى المتجر الذي يُمِده بها.
عندما انعطف من شارع جيكوب إلى طريق هامبستيد، أبصرَ على مسافة قصيرة أمامه أحدَ معارفه القدامى، وهو المفتش بلاندي، منهمكًا في حديث جادٍّ مع السيدة بيجهام؛ ولما لم يكن راغبًا في مقابلة المفتش ولا السيدة بيجهام (التي كان يعتبرها في قرارة نفسه «متطفلةً أصيلة»)، عدَّل وتيرة سيره وتصنَّع الانشغال الشديد. لكن ذلك لم يُجدِ نفعًا. فقد رآه كلاهما في اللحظة نفسِها؛ فأنهى المفتش بسرعة حديثَه مع السيدة، ومضى قدمًا لملاقاته مادًّا يده ومبتسمًا بود.
صاح مبتهجًا وهو يُصافح توم بحرارة: «تلك ضربة حظ سعيدة بالنسبة إليَّ؛ فقد كنت أودُّ الحديث معك قليلًا، وها أنت ذا.»
وافقه توم بحذر على أنه قد صار أمامه، ووقف ينتظر المستجِدَّات.
قال المفتش موضحًا: «المسألة هي أننا كنا نحاول التواصل مع السيدة شيلر لكننا لم ننجح في ذلك. إما أنها لم تُطالع إعلاناتنا أو أنها تتعمَّد الاختفاء؛ وبما أنها لن تتقدم للمساعدة من تِلقاء نفسها، أو على الأقل لم تفعل حتى الآن، فنحن مضطرون إلى اتخاذ إجراءات أكثرَ فاعلية. ولكي نفعل ذلك، لا بد أن يكون لدينا وصفٌ كامل ودقيق لها، وتساءلنا كيف لنا أن نحصل عليه؟ وبمجرد أن طرَح ذلك السؤالُ نفسَه، اتجهَت أفكاري نحوك بطبيعة الحال. قلت إن السيد بيدلي، بقوة ملاحظته الاستثنائية وذاكرتِه البصرية المدهشة، سيستطيع إعطاءنا وصفًا يُكافئ صورة فوتوغرافية بل ربما يفوقها دقة.»
تساءل توم بحذر: «هل السيدة شيلر مشتبَهٌ بها؟»
ردَّد المفتش بنبرة اندهاش: «مشتبَه بها! قطعًا لا. فلِمَ نشتبهُ بها؟ لكن بوسعها أن تُعطينا معلومات لا تُقدَّر بثمن بخصوص ذلك المفتاح على سبيل المثال، وربما عن السيدة روبي وأولئك الأشخاص المجهولين الآخَرين. أنا واثق من أنك لن ترفض مساعدتنا. فمن المصلحة العامة، ومصلحتها الشخصية أيضًا، أن يُستجلى ذلك اللغز.»
قال توم: «لست متأهبًا لتقديم وصفٍ لها ارتجالًا.»
وافقه بلاندي قائلًا: «بالتأكيد. فالذاكرة البصرية لا بد أن تنال الوقت الكافيَ للعمل، لكن لا تُطِل أكثرَ من اللازم؛ فالأمر عاجل. أقترح أن تُفكر في الأمر ثم تُدون بعض الملاحظات.»
اقترح توم وكلُّه أمل: «وأرسلها لكم بالبريد»؛ لكن المفتش قال مصححًا:
«بل تُسلِّمها لي شخصيًّا. فكما تعرف، ربما تحتاج تلك الملاحظات إلى بعض التوضيح والإسهاب. هل يمكنني أن أمرَّ عليك في مرسمك الليلة لآخذها؟»
ولما قرر توم أن من الأفضل أن يُنهي الأمر بسرعة، وافق على الزيارة، وبعد أن اتفقا على الساعة ٧:٣٠ موعدًا للزيارة، صافح المفتشَ وتركه يعود إلى السيدة بيجهام (التي كانت تترصَّدهم بانتباه من مكانٍ ليس ببعيد)، بينما أسرع هو إلى متجر مستلزمات الرسامين.
بعد أن أتم مهمته هناك، غادر المتجر واتجه ناحية الشمال، وبدأ يسير بخطوات سريعة في الميادين الهادئة كي يُفكر في الموقف. كان الأمر برُمته بغيضًا إلى أبعد حد بالنسبة إليه. فهو لم يُكِنَّ أي حب للوتا شيلر، لكنها على نحوٍ ما كانت صديقة له، وكان وفاؤه الفطري يرفض فكرة مساعدة الشرطة في مطاردتها؛ إذ كان هذا هو ما آل إليه الأمر رغم اعتراض بلاندي الاستنكاري. من الواضح أنها كانت في دائرة الاشتباه؛ ولكن إلى أيِّ مدًى، وهل تستحق ذلك، تلك أسئلة لم يشَأ توم طرحها على نفسه. لكنه لم يكن يملك خيارًا. فقد وقعَت جريمة، ومن واجبه باعتباره مواطنًا صالحًا أن يُساعد الشرطة في تحقيقاتها بشأنها قدرَ استطاعته؛ وبعد أن توصل إلى هذا القرار، توجه تلقاء منزله كي يضعه موضع التنفيذ.
فور شروعه في كتابة الوصف، انخرط فيه بدقَّته المعتادة. في إحدى الصفحات القليلة الباقية في دفتر ملاحظاته، دوَّن ما يتذكره عن لوتا بالتفصيل، مستندًا إلى الرسومات الأولية التي رسمها لها من الذاكرة لتفاصيل جانبِ وجهها وحاول تصوُّرَ ملامحها تصورًا كاملًا قدر الإمكان. أدهشته النتيجة نوعًا ما؛ إذ مع أنه رآها مراتٍ كثيرة، وأمعن النظر إليها باهتمام مشوب بالاستنكار، لم يتوقع أن تحمل ذاكرتُه وصفًا لها بتلك الدرجة من الدقة والتفصيل.
بعد أن أتم ملاحظاته، أخذ ورقة ونسخَ عليها نسخة مطابقة لما كتب كي لا يُضطرَّ إلى إخراج دفتر ملاحظاته؛ وما إن انتهى منها، حتى دق جرس المرسم في الموعد المحدد تمامًا، فوضع دفتر الملاحظات في جيبه وذهب ليفتح الباب للمفتش.
قال بلاندي عندما دخل وعلى وجهه ابتسامةُ مَن يتلو صلاة تبريك للمكان: «إنه لَلُطفٌ بالغ منك يا سيد بيدلي أن تمنحَني من وقتك الثمين بذلك القدر. لكني لن آخذَ منه الكثير. هل هذه هي الملاحظات؟»
الْتقطَ النسخة التي كان توم قد وضعها على الطاولة، التي وضع عليها حافظة أوراق أحضرها معه (أدرك توم على الفور أنها تخصُّ لوتا)، ثم مر ببصره سريعًا على الملاحظات، فيما فكر توم بقلق في دلالة حافظة الأوراق.
صاح بلاندي فورَ أن انتهى من قراءته الأولية: «مدهش! قد يعتقد المرء أن السيدة كانت تجلس أمامك وأنت تكتب تلك الملاحظات. كم هي مدهشة ذاكرة الفنان البصرية. يبدو أنك لاحظتَ وتذكرت كل شيء، حتى الاختلاف بين الأذنين. بالمناسبة، كيف يبدو نتوء دارون بالضبط؟ ربما وضحتَ لي برسم بسيط على ظهر تلك الورقة …»
التقط توم منه الورقة وقلبها، ورسم على ظهرها بالقلم الرصاص رسمًا سريعًا، لكن دقيق، لأذنٍ يمنى تظهر بها السِّمة المعنيَّة.
قال بلاندي وهو يأخذ منه الورقة: «شكرًا لك، فهمت. إذن النتوء المقصود هو ذلك البروز الصغير على حافَة الأذن. لكن أخبرني، هل يُصور ذلك الرسمُ الأذن المعنيَّة بأي وجه آخر؟»
«أجل، بقدر ما أذكر.»
«هذا كافٍ بالنسبة إلي. والآن بالنسبة إلى الشعر، لا أفهم بوضوح ما تقصد بشأنه. كتبتَ تقول: «لون الشعر غير عادي؛ ما بين البني الفاتح والأشقر، لكن قوامه غريب يجعل لونه يبدو متغيرًا.» هلا فسَّرتَ لي ذلك الوصف بمزيد من الإسهاب؟»
قال توم: «أنا نفسي لا أفهمه بوضوح؛ فأنا لم أرَ مثيلًا له من قبل. قد أُشبِّهه بالحرير متبدِّلِ اللون. حتمًا تعرف كيف يبدو؛ يتبدل لونه عندما تُحركه فيسقط الضوء عليه بزاوية مختلفة؛ فقد يبدو أخضرَ في موضع وبنفسَجيًّا في آخَر. بالطبع لا يتغير لون شعر السيدة شيلر إلى ذلك الحد، لكنه يتبدل؛ فيكون ذهبيًّا صريحًا تحت إضاءةٍ ما، ويكاد يكون بُنيًّا تحت أخرى.»
«ألا تعتقد أنه ربما يكون قد صُبِغ أو زُيِّفت طبيعته بطريقة ما؟»
«هذا محتمل. فالشعر الفاتح عندما يُصبَغ باللون الأسود يبدو في بعض الأحيان أحمرَ أو أرجوانيًّا عندما يتخلله الضوء، لكن شعرها لم يُعطِني انطباعًا قط بأنه مصبوغ. لكني أعتقد أنك تعرف عن الشعر المزيف أكثرَ مني.»
أقر المفتش بأنه ربما يكون مُحقًّا، وبعد أن دوَّن «التفسير» على ظهر الورقة، طرح سؤالًا أو اثنين بخصوص عناصر الوصف الأخرى. وبعد أن حصل على إجاباتها، حفظ الورقة بعناية، ثم تساءل بعد بِضع لحظات من التأمل:
«بالمناسبة يا سيد بيدلي، متى كانت آخرُ مرة رأيتَ فيها السيدة شيلر؟»
«في يوم رحلتنا إلى غابة إيبنج، افترقتُ عنها وفاندربوي بالقرب من المعسكر البريطاني القديم، فسلَكا هما الطريقَ الأخضر غير المعبَّد باتجاه هاي بيتش، بينما اتجهت أنا إلى غابة جريت مونك. ودَّعتهما عند مفترق الطريق ولم أرَها مرة أخرى.»
«أمر غريب نوعًا ما. ألا تعتقد ذلك؟»
«اعتقدتُ ذلك حينها، لكني لم أكن أعرف أنها ستُسافر. في الواقع، كنت أتوقع أنها ستزورني في غضون يوم أو اثنين، حتى إنني أخرجتُ خريطة للغابة ومخططًا بمقياس كبير للمعسكر البريطاني كي أُطلِعَها عليهما أو أُقرِضهما لها.»
سأل بلاندي: «ولِم فعلتَ ذلك؟»
«اعتقدتُ أنها تنوي زيارتهما مرة أخرى. فقد بدَت مهتمة كثيرًا بالمعسكر، واقترحت على فاندربوي أن يأتيا في يوم آخر لاستكشافه؛ ولما وافق، اعتبرتُ الأمر محسومًا.»
«ألم تعرف إن كانا قد زارا المكان مرة أخرى؟»
«لا يمكن أن يكونا قد فعلا؛ إذ لم يرها فاندربوي مرةً أخرى بعد تلك الليلة. لقد سمعته يقول ذلك في جلسة التحقيق. لكن ما لا أفهمه هو لِمَ اقترحَت ذلك وقد اعتزمَت بالفعل الذَّهابَ إلى بريمنجهام.»
وافقه المفتش مفكرًا: «أجل، يبدو الأمر متناقضًا بعض الشيء. أتساءل …»
لكن محل تساؤله لم يتَّضِح قط؛ إذ لم يُكمل عبارته، ولم يُلِح عليه توم في أن يفعل. تلا ذلك برهةٌ من الصمت. بعد ذلك قال المفتش وهو يُمسك بحافظة الأوراق:
«سوف أواصل استباحة حُلمك. هلا تفضَّلتَ بإلقاء نظرة على لوحات السيدة شيلر تلك وأطلعتَني على رأيك فيها؟»
قال توم معترضًا: «أنا لستُ بناقد كما تعلم أيها المفتش. إن عملي هو رسم الصور، لا الحكم على أعمال غيري.»
قال بلاندي: «أعلم ذلك، وأتفهَّم حساسية موقفك. لكن قصدي هو: هل السيدة شيلر فنانة من الأساس أم مُدَّعية؟ والآن ألقِ نظرة على تلك.» وسحب لوحة «آدم وحواء» ووضعها على الطاولة. «إنها تبدو لي كرسمٍ لطفل، وطفل غيرِ موهوب أيضًا.»
اضطُرَّ توم إلى الإقرار بأنها تبدو كذلك، وأضاف: «لكنَّ ثَمة صرعةً جديدة في الفن تعتبر تلك الرسومات الطفولية فنًّا حقيقيًّا. أنا لا أفهمها، لكن الصحفيون مدَّعو الثقافة الرفيعة يفهمونها. لِم لا تطلب رأيَ ناقدٍ فني؟»
هز بلاندي رأسه نفيًا. «لن يُفيدني ذلك في شيء يا سيد بيدلي؛ فأنا لا أودُّ سماع رجل يعرض نظرياتٍ أو يتشدَّق بعبارات. بل أبحث عن حقائق. أنت فنان عبقري؛ بإمكاني أن أرى ذلك بنفسي. وتعلم كيف يكون الفنانُ الكفء، وما أطلبه منك أن تُخبرني، بيني وبينك، هل السيدة شيلر فنانة حقيقية أم مجرد مدَّعية. تذكر أني ضابطُ شرطة يبحث عن المعلومات، وأعتقد أنه ينبغي عليك أن تكون صريحًا معي.»
قال توم: «حسنًا أيها المفتش، إن كان رأيي سيُفيدك، فسأخبرك بما أعرفه، لكني لا أريد أن أُبدِيَ آراءً فحَسْب. ما أعرفه هو أن السيدة شيلر لا تُجيد الرسم ولا التلوين، ويبدو أنها لا تملك أيَّ موهبة فطرية في الرسم. أما عن كونها مدَّعية، فلا يسَعُني أن أجزم لك بذلك. إن كانت ترى حقًّا أنها فنانة، فهي ضحيةُ وهم؛ أما إن كانت تُدرك أنها ليست بفنانة، بل تتظاهر بأنها كذلك، فهي مدَّعية. هذا كل ما يُمكنني قوله.»
قال بلاندي: «وهذا يكفيني. السؤال الآخر بإمكاني إجابتُه بنفسي. والآن سأقوم بزيارة سريعة إلى حيث وجدتُ تلك الحافظة لأُعيدها؛ ولا يسعني أن أوفيَك حقك من الشكر يا سيد بيدلي لسخائك في تسخير مخازن معارفك الواسعة وقُدرات ذاكرتك المدهشة لي.»
وبتلك الكلمات الختامية المنمقة، صافح توم بودٍّ وسار معه إلى البوابة.
بعد أن خرج زائره إلى الشارع، عاد توم إلى المرسم وهو يتنفس مزيدًا من نسمات الحرية والارتياح ويأمُل أن يكون ذلك هو آخِرَ ما يسمعه عن تلك المسألة البغيضة التي تورَّط فيها. وفي الأيام التالية، بدا أن أمَله ذلك كان له ما يُبرره. فتدريجيًّا، عاد إلى أسلوب حياته العادي؛ فكان الآن يعمل في مرسمه على لوحة جديدة، ويخرج مرتديًا معطفه الثقيل وقفازَيه الواقيين من البرد؛ كي يرسم رسمًا أوليًّا سريعًا في إحدى المقاطعات الريفية التي يسهل الوصول إليها. عرَف من نظرة خاطفة عارضة على إحدى الصحف أن هُوية إيما روبي الغامضة لا تزال مجهولة، وأن البحث عن السيدة شيلر التي لا تقلُّ عنها غموضًا لم يُسفِر عن أي نتائج. لكن عدا القليل من الفضول تجاه دور لوتا في تلك الجريمة، والأمل في ألا تكون على شفا الوقوع في مشكلة خطيرة، لم يكن يُولي ذلك الأمرَ الكثيرَ من الاهتمام. كانت رغبته الأساسية هي أن يُترَك وشأنَه كي يعودَ لممارسة الرسم.
بعد حوالي ثلاثة أسابيع تجددت صِلته بالقضية مرة أخرى، لكن على نحوٍ طفيف جدًّا لم يتسبَّب له في أي إزعاج. صحيح أنه عندما استجاب لقرع الجرس وخرج إلى البوابة ليجدَ المفتش بلاندي واقفًا على عتبتها، انزعج بعضَ الشيء حتى أفصح المفتشُ عن مهمته البريئة.
«أشعر بالخجل من إزعاجي لك هكذا، لكني لن أُعطلك كثيرًا. في زيارتي السابقة لك، تفضلتَ بذكر أنك جهزتَ مخططًا للمعسكر البريطاني في لوتون كي تُريَه للسيدة شيلر أو تُقرضها إياه. وقد جئتُ إليك الآن كي أطلب منك إن تفضلتَ أن تُريَني ذلك المخطط.»
أجاب توم وهو يقوده إلى المرسم: «بالطبع أيها المفتش. هل تودُّ إلقاء نظرة عليه هنا أم تُفضل أن تأخذه معك كي تدرسه على مهل؟»
قال بلاندي (الذي كان من الواضح أنه جاء لاستعارة المخطط): «هذا اقتراح كريم للغاية يا سيدي. لم أجرؤ على أن أطرحَه بنفسي، لكن إن تكرمت …»
أجاب توم وهو يفتح خِزانة ويُمرر عينيه على الأرفف: «بالطبع! ها هو. هو في الواقع كتيب كما ترى، مرفق به مخطَّط مطوي ملصق مع النص، حتى تتوافر لديك المعلومات كلُّها في مكان واحد. آمُل أن يُفيدك، ولا داعي للعجلة في إعادته.»
ناول الكتيبَ للمفتش الذي نظر إليه نظرة سريعة قبل أن يدسَّه في جيبه، ثم غادر بكياسة وهو يُمطر توم بوابل من عبارات الشكر وهو في طريقه إلى البوابة. بعد أن غادر، عاد توم إلى المرسم وهمَّ بمتابعة عمله؛ لكن هذه المرة كان لزامًا أن يستيقظ فضولُه لا محالة. كانت تلك صفقة غريبة. تُرى لِم قد يحتاج المفتش إلى المخطَّط؟ وما الذي أثار فجأةً اهتمامه الغريب بالمعسكر البريطاني؟ ظل هذان السؤالان يدوران في ذهن توم كلَّ فينة وأخرى لِما تبقى من المساء، ولكن دونما إجابة لأيٍّ منهما. لم يستطع أن يفهم الأمر، وأخيرًا دفعه عن ذهنه مستعينًا بفكرة أنه لا يسَعُه سوى أن ينتظر ويرى ما سيُسفر عنه.
لم يَطُل انتظاره. ففي صباح اليوم التالي عندما خرج لشراء حاجياته المتواضعة، وقعَت عيناه على ملصق لافتٍ للنظر أمام متجر بيع الصحف كُتِب فيه بخط ضخم: «جريمة شارع جيكوب: تطوُّر مثير»، وعلى الفور دخل واشترى نسخة من الصحيفة. كانت مطالعة سريعة للعناوين الرئيسة المُروعة على الصفحة الأولى كافيةً لكي يعيَ الغرض من زيارة المفتش، فطوى الصحيفة ووضعها في جيبه كي يُطالعها بمزيد من التأني بعد أن يفرغ من التسوق.
صباحَ أمس كان حارس غابة يقوم بجولته في ذلك الجزء من غابة إيبنج الذي يضمُّ ضيعة لوتون الإقطاعية حين اكتشف اكتشافًا مريعًا. فأثناء سيره عبر المسار المشجر الذي يمر بمحاذاة السواتر الترابية القديمة المعروفة باسم معسكر لوتون، لمح بين جذور الأشجار من منتصف طريق الصعود إلى التبة حقيبةَ يدٍ نسائيةً تكاد أوراق الأشجار الساقطة تُغطيها. فصعد التبة وأزاح عنها أوراق الأشجار ثم التقطها، وعندما لاحظ الحرفَين الأوَّلين «إل إس» على الحقيبة من الخارج، فتحها كي يرى إن كان بداخلها ما يدلُّ على هُوية صاحبتها. وجد بداخلها، ضمن أغراض أخرى، حافظة بطاقات من الجلد تحوي عددًا من بطاقات الزيارة، وعندما أخرج منها واحدة، وجد عليها: «السيدة لوتا شيلر، ٣٩ شارع جيكوب، متفرع من طريق هامبستيد، لندن.»
تعرَّف على الاسم من الإشعارات التي قرأها في الصحف، فأدرك على الفور أهمية ذلك الاكتشاف، واتجهَ دون تأخير إلى قسم شرطة لوتون حيث سلَّم الحقيبة للضابط المسئول، ووصف له مكان عثوره عليها بالضبط. أظهر فحصٌ أوَّلي للحقيبة أنها تحتوي، بجانب بطاقات الزيارة، على شيئَين آخرين مثيرين للاهتمام. كان الأول هو منديلًا أزرقَ صغيرًا مُطرزًا على أحد جوانبه اسم «لوتا» بالحرير الأزرق، ويُشبه كثيرًا المنديل الذي عُثِر عليه بحوزة القتيلة إيما روبي؛ أما الثاني فكان جراب مفاتيحَ من الجلد لكل مفتاح فيه حلقة منفصلة. كان به ستُّ حلقات وأربعة مفاتيح فقط؛ وكان واضحًا من العلامات المميزة على الجلد أن أحد المفتاحين المفقودين هو لبوابة خارجية، والآخر لباب غرفة أو باب خِزانة كبيرة. بعد أن أنهى المفتشُ فحصه للحقيبة، أبلغ المقر الرئيسي بسكوتلاند يارد بالأمر هاتفيًّا، وفي الوقت نفسِه أرسل ضابط تحقيق برفقة حارس الغابة إلى حيث عثر على الحقيبة، كي يضع علامة مميزة عند موضع الحقيبة ويضعه تحت المراقبة لحين إعفائه من تلك المهمة.
استجابةً للرسالة الهاتفية، أُخطِر المفتش بأن ضابطًا من قسم التحقيقات الجنائية قد أُرسِل لإجراء التحريات؛ وبعد مرور نحو ساعة، وصلت سيارة تحمل المفتش بلاندي والرقيب هيل، من قسم التحقيقات الجنائية. بعد أن عاينَ الضابطان الحقيبة وحرزاها، اقْتِيدا إلى الموضع حيث ينتظر المفتش المحلِّي، وبمساعدته وحارس الغابة، أجرَيا تفتيشًا منهجيًّا للمنطقة المحيطة. ولما لم يُسفر بحثهم هناك عن شيء، صعدوا التبة ثم نزلوا إلى داخل منطقة المعسكر؛ حيث تفرَّقوا وأجرَوا تفتيشًا ممنهجًا لأرضيته التي تكسوها أجمةٌ كثيفة من جذوع أشجار الزان الأبيض وطبقةٌ سميكة من الأوراق الذابلة.
استمر البحث لبعض الوقت دونما نتائج؛ لكنه أخيرًا أثمرَ عن اكتشاف جديد وعلى قدر بالغٍ من الأهمية. ففي فجوة بين جذور شجرة زانٍ بيضاء صغيرة، لمح الرقيبُ قِلادة ذهبية، وعلى الفور أرسل إشارة إلى المفتش وفي أثناء ذلك، وضع علامة مميزة على الشجرة. تبيَّن من فحص القلادة أنها حِلْية ثمينة أنيقة، عليها زخارفُ فاخرة من المينا، ومنقوش عليها الحرفان الأوَّلان «إل إس»، وعند فتحها، تبين أن جانبًا منها يحمل صورة لرجل داكنِ البشرة يرتدي شعرًا مستعارًا وعباءةَ محاماة، والجانب الآخر منها يحمل ما بدا في بادئ الأمر زنبركَ ساعة من الشعر، لكنه في الواقع كان عبارة عن شعرة مجعَّدة من النوع الأفريقي، يُعتقَد أنها من رأس رجل القانون ذاك.
لم يُفضِ باقي البحث إلى أي اكتشافات أخرى، لكنَّ هذَين الأثرَين اللَّذين يعودان إلى السيدة المفقودة يُعَدان مادة خِصبة للتكهنات؛ فعلى سبيل المثال …
هنا أوضح الكاتب قصده بعرض تكهُّنات عديدة، لا داعي لاقتباسها هنا، لم يُلقِ إليها توم بالًا؛ إذ لم تتضمن أيَّ شيء لا يعرفه. لكن عندما تأمل الوقائع التي كشف عنها المقال، لاحت أمامه أسئلةٌ مزعجة مطالِبة بإجابات.
ماذا حدث للوتا حقًّا؟ هل استدرجها أحدٌ إلى ذلك المكان المنعزل وقتلَها؟ كان ذلك هو الاحتمالَ الأرجح؛ ومن اهتمام المفتش المفاجئ بالمخطط، بدا أنه الاحتمال الذي تُرجحه الشرطة — بعد العثور على القلادة — إذ كان يشير إلى اعتزامها إجراءَ بحث أشمل وأكبر. لكن ماذا كانت تفعل في الغابة؟ ومتى ذهبت إليها ولماذا؟ مَن كان برفقته، وما العلاقة بين تلك الفاجعة الجديدة ومقتل إيما روبي؟ كان المفتاحان المفقودان والشَّبهُ بين المِنديلَين يُؤكدان وجود صلة بينهما؛ وهذا الأخير كان يُشير إلى تواطؤ لوتا بطريقة ما.
لكن الأمر برُمته كان غامضًا ومحيرًا للغاية. لم يستطع توم أن يفهم منه شيئًا، فقرر في نهاية المطاف أن ينتظر ظهور مستجِدات أخرى، وألا يَشغَل باله بالأمر في الوقت الحاليِّ قدر الإمكان. كان اتخاذ هذا القرار أسهلَ من تنفيذه. فمع أنه لم يُكِنَّ للوتا الكثيرَ من الإعجاب، فقد أزعجه كثيرًا تخيُّلُ أن تكون مصيبةٌ ما قد ألمَّت بها، وأزعجه أكثر أن يشكَّ في تورطها في جريمة شنيعة كتلك.