الفقر وبنوه
التمدُّن الذي يقضي على الأولاد أن يباكروا بكور الزاجر ليذهبوا إلى المعمل لا إلى المدرسة هو تمدنٌ ناقص الجهاز مختل النظام. والهيئة الاجتماعية التي يحرم فيها ابن الفقير التهذيب هي هيئةٌ فاسدة يعزز فيها صالح أهل السعة وتُهمل حقوق بني الفاقة. والحكومة التي تتغاضى عن الآباء الفقراء الذين يشغِّلون أولادهم في المعامل طمعًا بأُجُورهم الزهيدة هي حكومةٌ معوجَّة، تحتاج إلى نواب عادلين حكماء منزهين يسنون لها شرائعَ قويمةً وقوانينَ رادعةً، تحتاج إلى رئيس خبير بأمراض الأُمَّة ينبِّه مجلسيْه «أي الشيوخ والنواب» من حين إلى آخر ويحرضهما على سن مثل هذه الشرائع. تحتاج إلى صحافة حرة عادلة مجردة عن المطامع الذاتية لتطالب بها حينما تهمل، لتحتج وتعترض حينما تُداس، لتذب عنها حينما يحاول إفسادها ذوو المآرب.
وقد يُقال إن الآباء الفقراء وخصوصًا المعيلين منهم يحتاجون إلى أُجور أولادهم، ولا يكون العيالُ غالبًا إلا بين طَبَقات الشعب الوُسطى وبين بني العِيلَة والفقر. أجل إن المتكئين على وسائد الريش، المتسربلين بالخز والحرير، الخارجين من بيوتهم في المركبات، السائرين إلى الحدائق في السيارات؛ أولئك يعرفون كيف يقاتل الأعيال وكيف ينقرض النسل وتقتل الأطفال، أولئك يميتون الأنفس في الجنين مع توفُّر المال لديهم وذوو العيلة يتكاثرون وإن ضاقت بهم الأسباب.
إي والله، إن جاز للإنسان قتل نفس في الجنين فالفقيرُ بهذا الترخُّص أولى، فالفقرُ يُضاعف بنيه والحكومة لا تنشئ نزلًا مجانية في جانب المدارس العمومية؛ ولذلك يُنهك الأحداثُ في المعامل قُوَاهم فتُقبض أنفسهم صغارًا ويفقدون الحزم والعزم كبارًا، ويشبون جَهَلَةً أشقياء لا يعرفون من سُنن الحياة إلا التمرد والعصيان. أفلا تخاف الحكومة على نفسها من أولئك المستعبَدين صغارًا الثائرين كبارًا، لتكفل لآبائهم إذًا معايشهم لتنشل الصبيان من عبودية الأشغال الشاقة، لتنشئ نُزُلًا مجانية في جانب المدارس العمومية فلا تموت إذ ذاك في المعامل الآمالُ ولا تعدم الأُمَّة في المستقبل أولئك الرجال.
وليس الذنب على الآباء الذين يُكرهون أولادهم على العمل عِوَضًا من أن يُكرهوهم على العلم، فهناك أحوالٌ ترمي بالناس إلى هوة الفقر وهم لا يعلمون، ولكن التعميم يضلل فرب أناس تؤاتيهم الفرصة ولا يغتنمونها، أو أنهم يرونها بعيدةً عنهم فلا يتبعونها، أو أنهم ينظرونها ولا يجدون من يساعدهم على الظفر بها. كم من فقير لا يستطيع المحامي أن يبرئه في محكمة العدل، وكم من محاويجَ جلبوا على أنفسهم الفاقةَ وما يليها من البؤس واليأس والشقاء والبلاء. نعم، الفقرُ يولد الجهل والرذيلة والأمراض، الفقر يوجِد البغض والحسد والخصومات، الفقر يقتل المحبة والرجاء والآمال ويذهب بالأُبوة وعزة النفس والجمال. هذا إذا استثنينا أفرادًا ينجحون على رغم أنف الفاقة المحدِقة بهم، وأكثر هؤلاء هم من الحكماء والعلماء والفلاسفة والشعراء.
أُناس خصوا في البدء بنصيب وافر من العقل فعاشوا راضين بأفكارهم وعلومهم وتصوراتهم، وفقر الفيلسوف هو غير فقر الجاهل هو غير الفقر الذي يبعد الصبيان عن العلم والنور ويرميهم بين الأُلوف من أمثالهم في المعامل، هو غير الفقر الذي يُضل النفس ويُضعف العقل ويُعمي القلب، هو غير الفقر الذي يشوه الخَلْق والخُلُق ويذهب بالآمال ويغير طبائع الرجال. نعم إن مثل هذه الفقر لَحليف الجهل وأليف القذارة ورسول الفوضى، ولكن ما هو يا ترى سبب الفقر؟ هي مسألة أقدم من يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الذي خدع حماه ليكثر غنمه فيجر من ذلك مغنمًا، نعم هي مسألة قديمةٌ ولكنها تظل جديدة؛ لأنها لا تحل ما زالت الأحكام في أيدي ذوي المآرب والأغراض الذاتية، لا تحل ما زال من يستطيعون حلها بعيدين عن مجالس الأُمَم التي تسن فيها الشرائع والقوانين. لا شك أن كتابات تولستوي تسر الملايين وتسليهم — إذا لم نقل تفيدهم وتهذبهم أيضًا — ومن جملة المعجبين بهذا الرجل العظيم كثيرون من النواب والموظفين في روسيا.
ولكن لو انتخب تولستوي ليجلس مع المتشرعين ونهض ليقترح على المجلس سن شريعة فيها صيانةُ حقوق الجمهور لا حقوق الأفراد فقط، لو نهض ليقرأ على زملائه فصلًا من إحدى رواياته أو مقالةً من مقالاته العديدة في المواضيع السياسية والعمرانية، وسألهم العملَ بما جاء فيها؛ فماذا تراهم يفعلون، ألا تظنهم يضحكون في وجهه ويعاملونه كما عُومل غونبلاين بطل رواية فكتور هوغو المعروفة بالرجل الضاحك لَمَّا وقف في مجلس الأعيان في بلاد الإنكليز ليدافع عن الفقراء والبؤساء ويطلب من زملائه النظر في حالتهم المحزنة؟ نعم هذا يكون جزاء من يطلب من مجالس الأُمَم مراعاةَ حقوق الملايين من أحلاف الفقر والظلمة والشقاء.
يقرأ المتشرِّع روايات تولستوي بجانب موقده فيلتذُّ بها ويُعجب بكاتبها، ولكنه يسخر بمبادئها في مجلس الأُمَّة، ويندد بتعاليمها في البلاط الملكي، ولماذا؟ لأنه لا يُنتخب ثانيةً لمنصبه إذا تظاهر بمثل هذه المبادئ، لا يُنتخب ثانيةً إذا قال: يجب علينا أن نسن شرائعَ للغني وللفقير بدون تمييز وتفضيل. وكم من المصلحين يتشدقون وهم عن مجلس الأُمَّة بعيدون، وكم من الكتاب يَتَغَنَّوْن بندبهم حظ الفقراء والبؤساء. ولكن لينتخبوا أولئك إلى مجلس التشريع فينبذون مبادئهم ظهريًّا قبل أن يدخلوا الباب، ويجلسون هنالك مع بقية الأعضاء ويقترعون مع الأكثرية وهم ساكتون.
إن خيرات الأرض تكفي سكانَها إذا وُزعت توزيعًا عادلًا على الجميع، القمح الذي يُزرع في الولايات المتحدة سنويًّا يقوم بقوت سكان الأرض كافة، وهذه حقيقة راهنة، فقد قرأت مقالة في كيفية تربية الماشية في إحدى المجلات الأميركية، جاء فيها: أن الولايات المتحدة تذبح سنويًّا ثلاثين مليون رأس من البقر، فإذا قَسَّمْنَا هذا المقدار على سُكَّان الولايات المتحدة فقط تكون حصةُ كل شخصين رأسًا واحدًا من البقر فيه أكثرُ من أربعمائة رطل إنكليزي من اللحم. فهل يحتاج الواحد منا أكثر من رطل لحم كل يوم؟! وقال كاتب المقالة: إن هذه البلاد المترامية الأطراف فيها بِقاع من الأرض غامرةٌ غير آهلة تصلح للمرعى فلو عنيت بها الحكومة لتمكنت من تربية أضعاف ما يُربَّى فيها الآن من الماشية.
ولكن مع وجود هذا القدر الوافر من القمح ومن اللحم لا يزال المتسولون والبائسون يطوفون أسواق المدن الكبرى، وكثيرًا ما يموتون جوعًا، ولا يزال الملايين من الفقراء عاجزين عن ابتياع اللحم كل يوم. فأين الزائد من اللحم ومن القمح إذًا؟ هي مسألةٌ بسيطة، أن شركات الاحتكار تشحن الزائد إلى الخارج لتُضاعف أرباحها، هناك القمح مجموع بالقناطير، هناك جبال من الدقيق تطلب من يأخذها ويوزِّعُها خبزًا على العالم، وهنا أُلوف وملايين من المساكين يشترون رغيف الخبز بدمهم ودم بنيهم الصغار. قمحًا ينتظر الطاحن، وطحينًا يلتمس الخباز، والأُلوف من البشر يطلبون خبزًا والمحتكرون يقولون لا، ولماذا؟ لأن الأسعار هابطةٌ ولا ربح في البيع للأفراد المحتكِرين.
وأما النتيجة، نتيجةُ هذا الاحتكار على الفقراء، فلا حاجة إلى وصفها، ولا نُريد أن نُهوِّل بقبحها أمام القارئ ونُخيفه، ولكن الحالة هذه لا تدوم. إن البورص هو السد المنيع بين مخازن الاحتكار وبين الشعب، بين البائع والشاري، ولكن متى جاء الفيضانُ فلا يُجدي ذاك السد نفعًا، نُقيم السدود متى كان الماء وشلًا أو غزيرًا، نبنيها لنزيد كمية الماء أو لنمنع فيضانها على الأرض المجاورة، ولكن متى جاء الطوفان وفاضت الأنهار ماذا تُجدي السدود الصناعية؟
أَتَقِفُ اختراعاتُ الإنسان في وجه الطبيعة وقواتها؟ أيقدر السمسار في البورص أو محتكر القمح مثلًا أن يُسكِّن الهياج متى هَبَّت الأعاصير؟ إذا كانت خيرات العالم غزيرة، ألا يجب أن تسود القناعة والسعادة في جميع البشر؟ ألا يجب أن يكون الكل على مبلغ الكفاية؟ أي: متى يستريح الأفراد من التخمة ويأمن الجمهور من الجوع؟ كم يموت من الممتولين بالانتفاخ وكم يموت من المساكين بالانقباض؟ ومتى — يا رب — تتساوى الأعضاء وتتوازن فتظهر على الهيئة الاجتماعية علائمُ الجمال ودلائلُ الكمال؟ لا أظن ذاك اليوم يراني ويراك أيها القارئ، ولكنني أؤكد أنه آتٍ وكل آتٍ قريب.