روح هذا الزمان
المصلح السياسيُّ في هذه الأيام هو ذاك الذي يُندِّد بالحكومة ويطلب تغييرها ليحصِّل مركزًا فيها. هو الذي ينادي بالإصلاح نفاسًا في الاشتهار إن كان شابًّا أو رغبةً في الوظيفة إن كان كهلًا أو حبًّا بالمال إن كان شيخًا. وسواء كان جمهوريًّا أو دمقراطيًّا في الولايات المتحدة، أو من الأحرار المتطرفين في إنكلترا، أو من أعداء الإكليروس في فرنسا، أو من الاشتراكيين في ألمانيا، أو من الفوضويين أو الثورويين في روسيا؛ فالغرض الذي من أجله يناقش ويجادل ويعاكس ويشاكس ويندد هو واحد، الغاية التي تحركه واحدة، الدافع والجاذب لا يختلفان مع المكان ولا يتغيران مع الزمان، فهو حقًّا وطني صادق، هو غيور على الأُمَّة ومصالحها، هو مصلح ومحب للبشر، ما زال خارج دائرة الأحكام، ما زال ثوب السيادة بعيدًا عنه.
ولكن ساعة ينال أُمنيته ساعة يتسربل بأرجوان السلطة أو بصوفها (الأرجوان للأوربيين والصوف للأميريكيين) تراه عندئذ يهجر الصحافة ويخفض صوته على المنبر وينسى أو يتناسى الماضي، ويأخذ بزمام الأُمور كما لو كان القيصر أباه أو ملوك البوربون أجداده! الانقلاب في السياسة لازم وتلوُّن السياسيين يُكسب المنظرَ رونقًا والتمثيلَ جمالًا!
ولو تقصيت تعاليم هؤلاء المصلحين، لو سبرت غور فلسفتهم السياسية لوجدتها منحصرة إما ببطن المرء وكيسه أو بشرف الحكومة ومجدها — يجب أن نُشبع هذا الشعب الجائع، يجب أن نُحرر الشعوب المَدُوسة المظلومة، يجب أن نُساوي بين الفقير والغنيِّ، يجب أن نُحطم الشركات الاحتكارية، يجب أن نُعزز تجارة البلاد، يجب أن نؤيد سلطة الحكومة، يجب أن نوسع نطاق المستعمرات، يجب أن نزيد قوة الجيش، يجب أن نَبني المدرعات — يا لها من فلسفة سياسية بل فلسفة تجارية لا أثر فيها لما يختص بالكمالات الروحانية وبتهذيب النفس وترقية الشعور يا لها من فلسفة حيوانية لا غذاء فيها للحياة السامية التي لا تزهر ولا تثمر إذا لم يكن لها من القلب والعقل والضمير والنفس أربعُ دعائم قوية.
وهذه كلها أُمُور تافهةٌ في أَعْيُن المصلحين السياسيين فهم لا يهتمون لها، وعندهم أن بطن الإنسان وكيسه وأهواء الأحزاب وتعصبها هي أَهَمُّ ما في الحياة، فهم يُدغدغون هذه بالأكاذيب ويملأون تينك بالمواعيد، بطن الإنسان وكيسه وشهواته وتعصُّبه إنما هي أُسُّ التعاليم السياسية التي تجعل الأميركانَ تُجارًا والإنكليزَ حُكَّامًا والألمانَ عساكر والروسيين فوضويين والفرنسويين عبيدًا للأحزاب والفتن.
في طنبور المصلح ذاتُ الأوتار الغليظة السقيمة، وترٌ واحدٌ لطيفٌ صحيحٌ، له في النفس وقع جميل، وحتى هذا الوتر — وتر الحرية — لا يخلو من غنة خفيفة أو رنة خشنة، وذلك لأن المصلح لا يضرب عليه إلا صُدفة، أو لأغراض سياسية والشعب البائس الجاهل لا يطلب الحرية غالبًا إلا لاعتقاده بأنها تخوله الاعتداء على الأغنياء ليملأ كيسه وبطنه.
الحرية وحدها هي كما قيل سيفٌ ذو حدين، والحرية مع التهذيب نبراس ذو نورين: نور يضيء الطريق خارجًا ونور يضيء ويحرق باطنًا، وفي كل حال هي لا تَشفي الأُمَّة من أمراضها السياسية والاجتماعية ولا تعلِّم الإنسانَ شرف النفس والمروءة، ولا تجعل الشرير صالحًا والمنافقَ صادقًا والمعوجَّ مستقيمًا وإنْ رَابَكَ شيءٌ من هذا وَجِّهْ أنظارك إلى الأحوال السياسية والاجتماعية في الولايات المتحدة.
نعم ينبغي أن تتحرر الشعوب يجب أن يتحرر الإنسان ولكن لا بواسطة هؤلاء المصلحين لا بسعي هؤلاء السياسيين، ولماذا؟ لأن عهودهم من نسج العنكبوت؛ لأن مواعيدهم مثل خيال القمر على الغيوم، لأن أعمالهم تُلولُ رمل لا تدوم، لأن شفاههم ليست مطهرة، لأن اعتقادهم ليس من القلب، لأن نفوذهم ابن الساعة وحليف الأحوال، لأنهم يحبون الحرية حبًّا بالشهرة أو الوظيفة أو المال، وإن وَفَّوْا مرة بوعد من مواعيدهم المزخرفة بعد أن يتقلدوا زمام الأحكام فهناك البلية الكبرى، هناك تتوَّج الآمال والأحلام إذ تهدأ ضوضى الأحزاب وتزول الشكوى، فتعنو لهم الوجوه ويُدخل الشعب رأسه في ربقتهم بعد أن أخرجه من ربقة الظالمين من الملوك.
ينبغي للإنسان أن يُحرِّر نفسه بنفسه، ينبغي له العمل في الداخل قبل الخارج، عندئذ تكون حريته روحية أكثر منها مادية، تكون صافية من الغش والخداع تكون أساسًا للحياة الحقيقية الشريفة، لا شعلة نار لإضرام أهواء النفس أو طعمة لشهوات الجسد، أو امتيازًا للسلب والتعدي، أو براءة للقذف والمقاذعة.
الصالحون — وإن قلوا — موجودون في كل مكان في بلاد الظلم والاستبداد تجدهم كما في بلاد الحرية والاستقلال، والحكماء وإن ندروا ينشئون في تركية وروسيا كما في فرنسا أو في الولايات المتحدة، وفي أي مكان كانوا يعيشون راضين قانعين؛ لأنهم يعيشون حقًّا أحرارًا، والحكومةُ الاستبداديةُ مثل الضبع تتركك وشأنك إذا تجنبتها وإذا انتهرتها واعترضتها تفترسك.
غير أن حرية الصالحين والحكماء لا تلبس القبعة الحمراء، ولا تصيح من على المنابر، ولا تحفر تحت عرش السلطة لحزازات في الصدر أو فراغ في الكيس أو خلاء في المعدة، حريتهم تعيش في القلب مع الحكمة ساكتة وتفعل فعلها هادئة، وهم مثل حريتهم يعيشون في قلب الأُمَّة هادئين ويبثون في سائر أعضائها نفوذهم الحسن وعطر نفوسهم الشريفة إن حريتهم لَرُوحِيَّةٌ؛ لأنها تنزع من النفس قيود التعصب والتحيز الأعمى قيود الطمع والمجد الباطل قيود الأهواء والشهوات، ولعمري إن تعليم المرءوس الحكمة والعدل والفضيلة لَخَيْرٌ من التنديد بالرئيس وظلم أحكامه؛ لأنك إذا خلعت الظالم وظل الشعب جاهلًا يتبوأ العرشَ بعده ظالمٌ آخر بيد أن تهذيب الشعب وتعليمه ومعرفته حقوقه وواجباته تُضعف الحكم الاستبدادي وتُلاشيه بالتدريج تمامًا.
أما فعل الحرية في تكييس أَنْفُس الرجال وفي تهذيب الأخلاق وترقية الشعور فما هو قوي بقدر ما كنا نظن بل هو ثانويٌّ بالنسبة إلى عوامل الوراثة والفطرة والمعاشرة والتهذيب، وما الحرية المعروفة في أُوروبا وأميركا اليوم سوى سلاح للأحزاب السياسية والخطباء والصحافيين، هو سلاح يُقاتل به المنافقُ أحيانًا منافقًا آخر واللص لصًّا آخر وأحيانًا تستله رجال الفضل بعضهم على بعض، وأحيانًا ترفعه الحكومة على عصابة من الفَعَلة محافظةً على امتيازات الأفراد أو سلبًا لحقوق زعماء الأحزاب الضعيفة في البلاد.
إذ ما الحكم في الجمهورية إلا طاعةً تُقدمها الأحزابُ الضعيفة للحزب القوي أو الأقلية من المصوتين للأكثرية؛ لأن قوة الجيش ليست بجانبهم فالأكثريةُ إذًا تسلب الأقلية حقوقهم لتتمكن من الحكم، وتفعل ذلك بالقوة المعطاة لها لا من الشعب كله بل من قسم منه فقط، وهذا هو الباب الذي يدخله المصلحون السياسيون فيمزقون رئاتهم المعتلة وهم يصيحون «حرية الشعب، حرية الشعب» ولكن الحرية لا تجعل الشعب الجاهل شعبًا مهذبًا مستنيرًا.
الحرية وحدها لا تُصيِّر المرءَ رجلًا حتى ولا التجارة ولا المستعمرات تُكسب الحكومة مجدًا والأُمَّة شرفًا إذا لم يكن في الحكومة رجالٌ صالحون، وفي الأُمَّة رجال حكماء.
أما انتصار هؤلاء السياسيين للمستضعفين والمظلومين فهو في هذه الأيام خيرُ واسطة للتوصُّل إلى منصات الأحكام إلى المراكز المثمرة العالية، ولكن لو فتشت في تعاليمهم السياسية وفي نهضاتهم ومشاريعهم الإصلاحية عن ذرة من الضمير الحي والإخلاص أو عن شيء يسير من الغيرة المجردة عن المنفعة الذاتية لَمَا وجدت ذلك، يلزمنا صلاح لا إصلاحٌ، الصالحون وأمثالُهم الحسنة قبل المصلحين وجربذتهم والدجالين وعقاقيرهم.
المصلح في هذه الأيام هو قوة بخارية لتحريك هذه الآلات الصماء التي تُدْعى: شعبًا، بل رجالًا، آلات تجارية وآلاتٌ عسكرية وآلات صناعية وآلات ثوروية، وكلها مركبة من دماء زكية ولحم وعظام بشرية، كلها تتحرك عملًا بهذه القوة الخبيثة الدافعة وتُفني نفسها بالفرك الدائم بالعمل المتواصل بالكد والنصب بالمساعي الباطلة المهلكة بالنهضات الغير مفيدة، تُفني نفسها لا من أجل نفسها بل من أجل أصحابها وأسيادها الصارخين دائمًا وراءها وأمامها: «إلى العمل إلى العمل» فقد صُمَّتْ آذانُنا من صراخ الداعين إلى العمل ومن ضجيج أصحاب الأشغال، كأنَّ الأموال المتكردسة تُصير صاحبها إنسانًا، كأن العرق على جبين هذا المخلوق الراكض على مؤخريه يجعله رجلًا! لو صح ذلك لكان البغل من كبار الرجال، البغل يحمل الأحمال الثقيلة من السواحل إلى أعالي الجبال دون أن يفاخر ويتبجح. أما إذا تبادر لذهنك قول القائل «بعرق جبينك تأكل خبزك» فاذكر أن هذا المخلوق الصبور يأكل شعيره بعرق جبينه أيضًا، وأكد أن الملايين من الناس الذين يعرقون دمًا اليوم لا يموتون جوعًا إذا لم يعرقوا غدًا.
لا ينبغي للإنسان أن يَقتل روحه ليفثأ جوعه، والذين يملئون بطونهم فقط ولا يشعرون بألم روحٍ جائعةٍ ولا يسمعون صُراخَ طفل في القلب يطلب الغذاء فلا أظنهم يستحقون الشفقة إذا عرقوا كالدواب والثيران، اشغلوا هذه العضلات واملئوا هذه المعدة، فالروح لا تطالبكم بشيء — ماتت الروح جوعًا، وأما ذاك الذي لم يزل في روحه التي تميزه عن الثور والبغل رمق من الحياة ذاك الذي نَفَخَ اللهُ فيه نسمة إلهية وخلقه على صورته تعالى ومثاله فهل يجوز أن يعرق في سبيل شركة احتكارية أو من أجل جمعية إصلاحية أو تأييدًا لحكومة استبدادية؟
لا، حتى ولا ينبغي أن يعرق في سبيل معدته وامرأته وأولاده، العرق في الحمام أو في سرير اللذة أو على فراش الحمى أو في سبيل السرور والصحة — كل ذلك يطاق كل ذلك لازمٌ ومفيد، وأما العرق من أجل الرغيف — ولا فرق إن أكلها الفاعلُ أو سلبه إياها سيده — فلا يجوز ولا يلزم ولا ينفع ولا يطاق، ولكن فلسفة السياسيين البغلية متأصلة في قلوب الغربيين والبغل من أبطال هذا الزمان، ولا عجب إن أضافوا إلى أصنامهم العديدة صنمًا آخر فإن بين البعل والبغل شيئًا من الشبه والقرابة، النقطة فوق العين لا تفرق بين الاثنين. أعوذ بالله من أصنام هذا الزمان ومن آلاته البشرية، أعوذ بالله من طواحين هذا التمدُّن ومن حجار رحاها، أعوذُ بالله من هذه التعاليم السياسية التي تصير الإنسان بغلًا والبغل إنسانًا بل بطلًا بل إلهًا.