شهداء العلم
متى رأيت الأفراد يُفادون بأنفسهم من أجل مبدأ علميٍّ أو تعليم اجتماعي أو مسألة طبية فقل أن سيؤيد ذلك المبدأ ويفوز ذاك التعليم وتتقرر تلك القضية، نعم سيعم انتشار هذه المبادئ البلاد عاجلًا أو آجلًا، ستشعر الأُمَّة بنفوذها، سينفع بها بنو الإنسان، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فإن هذه المبادئ تشغل وحدها أفكار الباحثين والعلماء فتهتم لها الجرائدُ والمجلات ويحدِّث الأساتذة بها تلاميذهم ويوعظ القسس بها على منابرهم ويباحث الفاعل أخاه بشأنها وهو يقرأ جريدة الصباح.
ولو ذلك لَمَا كان يحدث مفاداةٌ وإقدامٌ من أجل هاتيك المسائل، فالمرء لا يبذل نفسه من أجل الإنسانية إلا عندما ترتقي إلى درجة يمكنها أن تشعر بما يقوم به الباذلون مهجهم، أو بالحري لا توجد الضحية قبل أن ينضج الوسط الذي فيه ومن أجله يفادي الأفراد بحياتهم، ولو كان الشعب لا يسمع عن هذه التعاليم شيئًا لو كانت الجرائد والمجلات لا تهتم بها لَمَا كان أحدٌ يبذل النفس والنفيس دونها، مثال ذلك أننا لا نرى اليوم أُناسًا يهتمون لتأييد النخاسة وتعزيزها، لا نرى أُناسًا يذهبون شهداء الدين؛ وذلك لأن النخاسة أُبطلت والأبحاث الدينية اللاهوتية أصبحتْ ثانوية بالنظر إلى المسائل الخطيرة من طبية وعلمية واقتصادية.
لو دَقَّقْنَا النظر في كل تعليم ومبدأ، وفي كل نعمة يستمتع بها الجنس البشري لوجدنا حقيقة واحدة وراءها كلها، وهي هذه. لولا بذل النفس والشهادة لَمَا كانت، فقد كان للدين شهداء وللعبودية شهداء وللحكومات الاستبدادية شهداء وللحرية شهداء أيضًا. أما ونحن الآن في أول قرن العشرين فنتقدم إلى الكهنة والملوك والأُمراء والأعيان باحترام قائلين: تعالوا أيها العظماء والأتقياء تعالوا واغسلوا أيديكم الطاهرة بدم شهداء العلم.
هذي هي المبادئُ التي سادتْ عُقُول الناس الآن، هذي هي الأُمور التي تشغل أفكار معظم الكتَّاب والخطباء والفلاسفة في أوائل هذا العصر، وما خلاها من التعاليم — دينية كانت أو اجتماعية أو أدبية — هي بالمنزلة الثانية من الاهتمام، ولربما كانت سائرةً على طريق الإهمال إلى ظلمات النسيان، شأن غيرها من المبادئ القديمة والتعاليم المنسية.
قد كتبت هذه السطور بعد أن قرأت في صحف الأخبار قصة رجلين ماتا شهيدَي العلم في مدينة هاڤانا؛ وذلك لأنهما قَبِلَا أن يجرب بهما الدكتور كلداس مصلًا قيل إنه يشفي من الحمى الصفراء، فجاء الطبيب ببعوضة فيها مكروب الحمى المذكورة وقدم الشهيدان ذراعيهما فلسعتْهما البعوضة، فمرضا بتلك الحمى وماتا شهيدي الاختبار والتجربة. وما هما على التحقيق إلا اثنان من الكثيرين يقبلون الضيم ويحتملون العذاب والألم من أجل العلمِ مخلِّصِ العالم الحقيقي.
فالدكتور لازار في الجندية الأميركية مات أيضًا على تلك الحالة، أي: أنه رضي أن تلسعه البعوضةُ الحاملةُ للجراثيم في دمها ليختبر تأثيرها فمات شهيدًا. وفي باريز الآن رجلٌ يموت من السل إذ إنه قَدَّمَ نفسه ليختبر به الأطباء مبدأ الدكتور كوخ في هذا المرض العضال، وقد تَطَعَّمَ في شكاغو ثلاثة شبان بمصل السل البقري ليختبر الأطباء فيما إذا كان يختلف عن السل البشري وإذا كان الأول لا يعدي البشر. إن هؤلاء وأمثالهم يكفلون تقدم العلم بحياتهم، بل يشترون حياته بدمائهم.
وكم من قضية طبية لا يستطيع الأطباء حلها إلا إذا قدم القلائلُ الغيورون المُحبون للجنس البشري أنفسَهم للامتحان والتجربة، وهؤلاء الرجال الذين يفدون العلم والطب بدمائهم وحياتهم هؤلاء هم شهداء هذا الزمان، بل هم الشهداء الذين يستحقون إكليل الغار وهالة القديسين فقد مات شهداء الدين من أجل دينهم، وهذا ليس بكثير، أما هؤلاء فيموتون من أجل العالم بأسره، يموتون اليوم لتَقِلَّ الأمراضُ في المستقبل. وفوائد العلم والاكتشافات مُشاعة بين بني الإنسان على الإطلاق، ولا يتوقف دُخول سمائها على إذلال الروح وقتل الضمير ومَسِّ الوجدانات.
رحم الله شهداء العلم كلهم أجمعين؛ فهم أولياء القرن العشرين، هم الذين يستحقون «التطويب» هم القديسون الذي يجب أن يُحفظ ذكرهم في كل البيوت وفي المدارس والمعابد وبين كل أُمَّة وكل شعب وكل قبيلة. فقُلْ طوبى لهم على ما أتوا عالم العلم والإنسانية من الباقيات التي تُؤهِّلُهُم لِأَعْلَى عليين في ملكوت السماوات.