الحرب التي تهمني
ماذا تقول؟ حرب بين الروس واليابان؟ لا أُصدق ذلك، لا أُصدقه، نحن في السنة الرابعة من الجيل العشرين، ومجلس التحكيم في مدينة لاهاي تعالى أن يكون أُلعوبة يلهو بها السياسيون، لا يا صديقي، إنما الروسية مهتمة في سَنِّ شرائع تكفل لليهود حقوقهم فيصيرون والمسيحيين متساوين أمام العدل. والشعب الياباني ساعٍ بتربية الزهور واصطناع الأواني الخزفية الجميلة، والجرائد! إنما هي عادة في البدن — الجرائد كذَّابة والتلغرافات التي تنشرها زاعمةٌ أنها من كوريا وبورت أرثر هي من مدينة أقرب إلينا — هي من نويرك بالذات.
ولنفرض أنني مخطئ في ظني وأن الحرب بين الرُّوس واليابان حقيقةٌ ثابتةٌ، فماذا أفعل إذًا؟ أيجب أن أُهمل أشغالي وأضني نفسي في متابعة أخبارها والتحزب لأحد الفريقين، ماذا يهمني من حرب جارية بين دولتين مستبدتين ظالمتين أساسهما الآية القديمة الفاسدة «الحكم من الله» ماذا يهمني من حرب لا روح للشعب في نارها ولا أثر للحق في غبارها ولا صدًى للحرية في صلصلة حِرَابِهَا وفي دويِّ مدافعها؟
إمبراطور اليابان رجلٌ يحكم حسب اعتقاده على أربعين مليونًا من عِبَاد الله بحق هبط عليه من السماء، ويبعث الأُلوف منهم إلى الحرب ليموتوا من أجله، هو رجل ظالم مستبد خال من الشفقة والمحبة، ولا شك هو قبيحُ النفس كما هو قبيح السحنة، وقيصر روسيا: صه صه أو اخفض صوتك على الأقل، إن جيراننا من الروم الأرثوذكس، نعم ولكن لنا أيضًا من اليهود جيرانٌ وخِلَّانٌ، وإكرامًا للقارئ الأرثوذكسي الغيور ألطف ما كنت أنوي كتابته ولكن لا بد من القول إن قيصر الروس ليس أحسن من إمبراطور اليابان.
وبعد هذا وذاك ما هي الغاية من هذه الحرب؟ هل أُشهرت للمحافظة على حقوق عادلة — هل فيها تعزيز مبدأ سامٍ أو تأسيس تعليم شريف — هل يلحق الشعب المظلوم منها أقل فائدة — هل تخفف الشقاء والبؤس عن الفلاحين في الأمتين والفقراء — هل تحسن تجارة الغرب مع الشرق — ما هي الغاية منها — قل لي أدامك الله غيورًا فاهتم عندئذ واتحزب، ما هو مدخل اليابان في كوريا وما هو مدخل الروس في منشوريا؟ ما الحرب هذه إلا غارة تشنها دولة سرَّاقة على دولة متطفلة، دولة ظالمة على دولة مستبدة، لا أكثر ولا أقل، ولذلك لا أريد أن أعرف عنها شيئًا، الجرائد الأميركية في هذه الأيام تقلق الراحة وتبلبل الأفكار والعاقل العاقل الذي لا يلتفت إليها.
اسمع يا صديقي، فهأنذا أحدثك عن حرب أُخرى تهمني وتهمك أيضًا مراقبتها واستطلاع أخبارها ودرس حركاتها قوادها وتدوين حوادثها وانتصاراتها، حرب لا تستخدم فيها المدرعات ولا المدافع ولا تهرق بسببها دماء الألوف من العباد، حرب ساكنة ولكنها هائلة، حرب خفية ولكنها واضحة، حرب دائمة ولكنها محيية، حرب سرية داخلية يحارب فيها قائد النفس قائد الجسد، ويُجيِّش الأول جيوشه من الأفكار والنظريات الكمالية والثاني من الحواس واللذات الحيوانية، هي حرب بين الروحيات والماديات، هي حرب جاريةٌ أبدًا في كل امرئ حيِّ الضمير سامي الفكر شديد العاطفة كثيرِ المطامع. هي حرب تشهرها عليَّ نفسي كل يوم، ولا أستطيع الانتصارَ عليها دون أن أُسيء إلى أحد بالقول أو بالفكر أو بالفعل، ولا يمكنني التسليم دون أن أحتقر ذاتي الروحية القائمة أبدًا فوق ذاتي المادية وهذي هي الورطة الخبيثة.
لتنظم الشعراء قصائدهم إذن عن حرب الروس واليابان، لتكتب الكُتَّاب مقالاتهم عن سياسة القيصر ودهاء الميكادو، لينشئ العارفون فصولًا عن داخلية الدولتين ووطنية الشعبين، ليهرول المراسلون إلى ساحة القتال في الشرق الأقصى، لتملأ الجرائد صفحاتها بأخبار الحرب الجديدة ورُسُوم المعارك العديدة، وأما أنا فالحرب التي تهمني مراقبتها ويفيدني درسها وتلذ لي متابعة أخبارها إنما هي حرب النفس والجسد حرب الروح والمادة.
في نفسي شعلة نار يتصل لهيبها بالمشتري والفرقدين، وفيَّ غريزة حيوانية تُغريني أحيانًا وتجرني إلى قعر الهاوية ولكنني أنهض منها قويًّا نشيطًا وبينما أنا أفرك جلدي صباحًا في الحمام أسمع صوتًا يناديني قائلًا: عش كما تكتب، حافظ على ما تحوزه من الكمال وطالب أبدًا بالباقي، فأجتهد أن أفعل عشر ذلك في النهار وأستلقي على فراشي في الليل فأحلم بجمال الحياة الممتزج بالعار والفضيحة، بالمحبة التي نسمها الغيرة، بالمجد الذي يكلله العار، بالمطامع التي تقتلها السلطة، بالشهرة التي تفسدها الأنانية والتصنع، بالنفوذ الذي تشوهه الكبرياء والاستبداد بالنجاح الذي يعيبه الطمع والاستئثار باﻟ … كفى كفى! أي طريق أقرب إلى الصحراء؟