خطاب المسيح١
لو قصد المسيح العود إلى العالم لاختار أن يظهر للوجود بطريقة مألوفة ليكتسب ثقة أبناء هذا الزمان الفاسد، فيدعونه إلى الخطابة ولا يعاملونه كما يعامل داوي الأميركي اليوم في الولايات المتحدة، وداوي هذا من الأنبياء العصريين ممن يُمثِّلون أدوارهم الهزلية مجانًا حبًّا بلهو الشعوب وتسلية الأُمم. نعم إن هذا الجيل جيلٌ متمرد عاتٍ فهو لا يعجب بالعجائب ولا يحفل بالأنبياء.
لأنه على نحو ما تقدم لم يزل يعذب ويصلب إن لم يكن بالجسد فبالروح، وبعد أن يتكلم في حالة الكنيسة الحاضرة وفي فسادها ويوبخ الرؤساء وينذرهم ينتقل إلى الدول المسيحية فيُبرهن على غير عادته (أي: أنه لا يتكلم بالأمثال هذه المرة) بل يُبرهن بالبرهان الساطع أن التعاليم الدروينية لا تنطبق بتةً على تعاليمه وأن الدول والشعوب يعملون بتعليم بقاء الأنسب ويَتَصَنَّعون بحب الضعيف والقريب والعدو، ويقول — والأسف ملء فؤاده — إن تَنَازُعَ البقاء ينفي الشفقة والمحبة، ويقضي على التمدُّن بالزوال وعلى الجامعة بالاضمحلال ثم يفيض في المبادئ الاشتراكية، ويقابل بينها وبين تعاليمه، ويبين وجه الشبه بين الاثنين، ويطلب من دول الأرض وحكوماتها أن تؤيد الرسل الذين يبشرون بالحرية والحق والمساواة كما تؤيد من يبشرون بالمحبة والرجاء والإيمان، ويكون مجمل خطابه موجهًا إلى ثلاث فئات من الناس فيخاطب الأولى معاتبًا ويخاطب الثانية شاكرًا وأما الثالثة الكبرى فيكلمها مذكرًا منذرًا.
وأما العتب فيوجهه إلى أولئك الفلاسفة الذين قاوموا النصرانية مُدَّعِين أن نتائجها مخالفةً لما كانوا يعتقدونه خيرًا للجامعة، وهم الدهريون والعدميون الذين طعنوا طعنًا شديدًا على الدين المسيحي، فلهؤلاء يقول يسوع: «يحق لكم انتقاد رؤساء الكنيسة ولا لوم عليكم ولا تثريب إذا خالفتموني في الظاهر وأما مبادئنا الأساسية فواحدة، أنتم تبشرون مثلي بالحق والعدل والمحبة، ولكن الحق الحق أقول لكم إنكم تسلبون الإنسان أكبر تعزية وأعظم تسلية وتخطفون من نفسه كنز الرجاء والآمال بقولكم له: إن الضريح خاتمةُ الحياة، وإن الموت رُقاد أبدي، فأين ذهبتم بالحياة الأُخرى أيها العلماء، وكيف فاتكم أن النفس خالدةٌ وأنَّ بعد الموت حياةٌ أسمى وأبقى، اجعلوا أساس تعليمكم حقيقةَ الثواب والعقاب فأجتمع إذ ذاك وإياكم في طريق واحدة ونبذل ما بوسعنا لتخفيف أثقال الحياة على الإنسان.
أما ما قيل لكم في العجائب التي صنعتها فلا يجب أن تكترثوا كثيرًا به، ولا يجب أن يصدكم ذلك عن افتهام تعاليمي الأصلية المجردة من كل تنقيح وزيادة. خذوا الجوهر وانبذوا ما سواه ظهريًّا، خذوا الأساس وابنوا عليه وأنا أُقيم بمعاقل علومكم وأكون أبدًا معكم.»
يعيرونكم بالكفر والإلحاد ويضطهدونكم ظلمًا وعدوانًا فأنا أقول لكم هكذا جرى لي يوم قمت على الكتبة والفريسيين وأحييتُ روح الحق والمحبة بين الناس هم يبشرونكم بعذاب أليم وأنا أُبشركم بمقامٍ سامٍ كريم فأنتم الأصفياءُ وإن أنذروكم بالهلاك، أنتم فسرتم آيات كتابي تفسيرًا حقيقيًّا، أنتم نددتم برؤساء ديانتي لَمَّا رأيتموهم يضطهدون ويقتلون بعضهم بعضًا، أنتم خرجتم عن دائرة الكنيسة لما رأيتموها أصغر من دائرة أقوالي، أنتم خدمتم الإنسانية التي جئتُ لأخلِّصها خدمةً مخلصة مجردة، أنتم وضعتم النفس على كرسي عرشها ودفعتم عنها هجمات الدهريين وفيالق الجاحدين، أنتم مارستم الناموس ونفذتموه بأقوالكم وأعمالكم، أنتم جعلتم لأبي في قلوبكم عرشًا معزَّزًا كريمًا ثم طفقتم تنذرون الضالين وتُرشدونهم لتقربوا إلى قلوب الناس ملكوت السماوات، أنتم دافعتم عن الضعيف وسخرتم بالظالم الأثيم وحسرتم عن الرياء اللثام قد نبذتْكم الكنيسةُ التي خانتني ولكن الحق أقول لكم إنكم أقربُ إليَّ وأكثرُ إخلاصًا من الذين نبذوكم، أنتم أتباعي المخلصون، أنتم أنصاري الحقيقيون، نعمة أبي في السماء تحل عليكم.
ثم يصوب المسيح سِهَامَ غضبه إلى الملوك والأُمراء والرؤساء المسيحيين ممن يتخذون المسيحية ذريعةً لتنفيذ مآربهم وتوسيع نطاق سُلْطتهم وتحقيق مطامعهم العديدة المنكرة، فيصرخ فيهم قائلًا: «يا ملوك الزمان ويا أُمراء البلاد وساداته، الحق أقول لكم إن مسيحيتكم فاسدةٌ وإيمانكم كاذبٌ، إنكم لا تختلفون عن الوثنيين إلا بخُبْثِكُم وريائكم، فأولئك اضطهدوني وقتلوا رُسُلي، ولكنهم أقاموا بذلك جهرًا وأَمَّا أنتم تعملون الآن أعمالهم الفظيعة وتدعون الادعاءات الباطلة قائلين كذبًا وافتراءً: إن ما نفعله من أجل المسيح ودينه، فتُلحقون إثم الخبث بإثم الاضطهاد.
إن مطامعكم الدولية أَنْسَتْكُم واجباتكم وأماتتْ فيكم عواطفَ الشرف والصدق. إن الخبث والختل والقسوة في كل أعمالكم ظاهرة، إن حسدكم الدولي يجعلكم صغار النفوس كبار الذنوب فتتحاماكم الشفقةُ وتَبْعُدُ عنكم الاستقامة، قد صيرتْكم الأنانية أعداءَ الداء لمن أوجد الجامعة التي تنتمون إليها، إن آثامكم العديدة الكبيرة التي تسترونها باسمي معدودةٌ عند أبي في السماء، إن الشعب الضعيف الحقير يئنُّ من الضرائب والمُكُوس التي تُرهقونه بها لتقوموا بنفقات حُرُوبكم، أَلَا تفكرون فيما تعملون، ألا تخجلون من انتسابكم إلى دِينٍ يعلمكم عكس ما أنتم فاعلون. إن انتسابكم هذا الباطل لا يُجديكم نفعًا يوم الحساب.
«فيا أُمراء البلاد ويا ملوك الزمان وساداته، قد بشرت منذ تسعة عشر قرنًا بالسلام على الأرض والرجاء الصالح لبني البشر، فهل تفهمون بالسلام والحروب، وهل تظهرون رجاءكم الصالح بمدافعكم القَتَّالة ومدرعاتكم الهائلة. متى قلت لكم انشروا ديني بالسيف والنار، متى قلت لكم انهبوا واسلبوا وافتكوا واقتلوا باسمي، متى قلت اضطهدوا من خالف تعليمي واقتلوا من أنكر لاهوتي وانبذوا من سخر بأقوالي.
ماذا تفهمون «بالآية الذهبية» التي تُفاخرون بها العالم بأسره، هل عندكم للمحبة معنًى سوى أنكم تتصنعون بحب من يخضع لسلطانكم صابرًا وينفِّذ أوامركم ساكتًا طائعًا، ألا يردعكم الضمير عن الأعمال القبيحة التي تقترفونها وتقولون «إن ذلك من أجل المسيح» متى يا ملوك الزمان متى تخلصون لسيدكم متى تطهرون الاسم الذي جعلتموه بأعمالكم مرادفًا للظلم والجور والقسوة، أنا بشرت بالمحبة وأنتم تورون بينكم زند الضغينة، أنا بشرت بالاتحاد العام وأنتم من أجل لفظة تختلفون وأحشاء جامعتكم تُمزقون، أنا دخلت الهيكل وكسرت الأصنام وأخرجت الصيارفة فعدتم أنتم تعبدون البعل وتسجدون لعجل الذهب.
قلت قاوموا الشر بالخير وأنتم تنفون من انتقدكم وتقتلون من نَدَّد بأعمالكم وتنتقمون من أعدائكم شر انتقام، فيا ملوك الزمان وسادة الأرض، لا توغلوا في الإثم والعدوان ومن أجل العالم وأحطامه لا تهلكوا النفس، كفاكم استبدادًا وظلمًا كفاكم رياءً وخبثًا، كفاكم قسوةً وجورًا، كفاكم تجبرًا وطغيانًا، اعدلوا فلا تحتاجون إذ ذاك إلى جيش يحميكم ولا إلى قلاع تصون بلادكم، حصِّنوا البلاد بالعدل أيها الحكماء والرؤساء وكفوا عنها يد الظلم.»