بين اللاهوتيين والعلماء
لَمَّا خرج العلماء الماديون على ما جاء في سفر التكوين حمل علماء اللاهوت توراتهم وولوا مدبرين. ولما اكتشف علماء الجيولوجيا اكتشافاتهم أسرع فلاسفةُ الكنيسة بتنقيح اعتقاداتهم، لما قال أولئك إن الأرض لا تكوَّن في سبعة أيام أجاب هؤلاء قائلين: وما أدراكم أن اليوم بعرف موسى لم يكن كناية عن ألف عام، وهكذا تنازع الفريقان فأفسد العلماء زعم موسى من حيث تكوين الأرض وقام بعدئذٍ دورين فأفسد زعمه من حيث تكوين الإنسان. وهذا كله كان في سالف الزمان، وأما اليوم فقد يندر النزاع بين العلماء واللاهوتيين؛ لأن أولئك الكِرَام مشغولون فيما بينهم وهؤلاء الأتقياء مهتمون بإعداد طبعة جديدة منقَّحة لتآليف مار توما والقديس أوغسطينوس.
وأما التوراة فلا بأس بها، لا بأس بإبقائها على حالتها الحاضرة، ومع أن الآباء اليسوعيين في بيروت قد طبعوا «ألف ليلة وليلة» طبعة جديدة مطهَّرَةً فهم يستحقون الشكر إذ طبعوا التوراة بحرفها الواحد. وإني لأقول لأولئك الذين يفضلون الطبعة المصرية الأصلية من قصة ألف ليلة وليلة خُذُوا التوراة واقرءوا فيها قصة لوط وبناته، أو قصة أمنون وتامار أو قصة باعيل أو يهوديت، أو الحديث بين تامار الباغية ويهوذا، أو قصة داود مع بتشابع بنت أبيعام امرأة أوريا الحثي أو قصة هذا الملك البار، لما خطب ميكال ابنة الملك أشبوشت بن شاول بمائة قلفة ويا لها من خطبة، فكلٌّ من هذه القصص الغريبة الجميلة تَليق أن تُضاف إلى الطبعة المصرية الأصلية من كتاب ألف ليلة وليلة.
ولكن ما لنا وللتوراة الآن فقد قلت إن الماديين أفسدوا زعم موسى من حيث تكوين الأرض والإنسان ولكن باستور أفسد زعم الماديين بأن الحياة تتركب من المادة وجاء أخيرًا الدكتور سيمون ليفسد زعم باستور. يقول هذا النطاسي الأميركي إن الحياة تتألف من مركبات كيماوية وإن الخلية الحيوية الأُولى (بروتوبلازم) هي وَهْمٌ كبيرٌ وافتراضٌ فاسدٌ، وإن دروين في خطأ مُبين حيث ينصر هذا الرأي وإن المرء ليَقْدِرُ في المستقبل أن يوجد مادة آلية على نحو ما وجد هو، وإن للمعادن حافظة تحفظ التأثيرات كما للإنسان، وإن الحياة هي نتيجة حركة كيماوية فقط، ومتى اختلت ميزانية الجواهر الكيماوية يضعف التأثير الكهربائي، ومتى ضعف هذا وزال تمامًا يكون الموت.
وإن الجاذبية الكائنة بين بعض الجواهر الكيماوية هي نوعٌ من الإدراك العقليِّ إذ إنها تنتقي رفيقتها وتتآلف حسب طبيعتها وخاصيتها — ولا أوضح وأبسط من هذه المسائل، ومتى يا ترى تنطق الجواهر الكيماوية؟ لي حديثٌ مع النملة فحبذا لو تكلمتْ لتفسد زعم هؤلاء الماديين الذين يظنون مصدر النفس البشرية في مزيجٍ من الملح والصابون.
ولكن قد خرج من معسكر الماديين في ألمانيا فرقةٌ كبيرة، خرجوا لينازلوا علماء الإنكليز القائلين بالنشوء والارتقاء وببقاء الأنسب، نعم من بيت أبي ضربت. هذا هو لسان حال تلك العقيدة التي تعزز القوة في العالم وتقتل في الضعفاء الرجاء، نعم إن علماء الألمان يُحاصرون الآن بمدرعاتهم قلاع علماء الإنكليز، وقد غنموا الفرصة يوم مات الدكتور فيرخو ذاك الذي ضرب العقيدة هذه ضربة قاضية فنسفوا أعظم مدرعة إنكليزية وأغرقوها وتُدعى هذه المدرعةُ في تاريخ الطبيعيين شارلس درْوين.
يذكر القارئ أن درْوين هذا صرف معظم حياته الطويلة ليُسر إلينا أخيرًا بأننا قرودٌ مترقيةٌ، وأن أجدادنا الأولين أحياء حتى الآن ويقدر الواحد منا أن يراهم في بورنيا أو في إحدى الحظائر المشهورة. ولكن الدكتور فيرخو يؤكد لنا أن درْوين لم ينجح إلا بالخلط والخبط والشطط والغلط، قد يصرف كمية وافرة من الحبر والقرطاس في هذه الحرب العلمية التي لا يرى العاقل فيها شيئًا يستوجب الأهمية.
وقد فتحت كتاب حكمتي في هذا الصباح — وكتابي أيها القارئ يختلف نوعًا عن سفر الجامعة — وقرأت في الوجه الأول منه: لا شيء مهمٌّ في العالم سوى الصحة والعقل والبشاشة، وتنازع العلماء بعضهم مع بعض مثل تنازعهم مع اللاهوتيين يبلبل الفكر ويُقلق الراحة، فإذا استحسنت حكمتي واستصوبتها فحافظ على جواهر الحياة الثلاث الثمينات، أي: الصحة والعقل والبشاشة، ولا تحفل بأمر مجيئك ومصيرك، لا تحفل إذا عرفت من أين أتيت ومَنْ هم أجدادك.
ولكن الطبع البشري لا يميل إلى السكينة ولا يقنع بالراحة، الإنسانُ يتطلب أبدًا شيئًا يشغل الفكر ويجلب الهم. فإذا كان لا بد إذًا من اهتمام الفكر بشيء دعنا نهتم بالحاضر أو المستقبل لا الماضي. إلى أين ذاهبون؟ متى عرفنا ذلك لا يعود يهمنا معرفة من أين أتينا، ولكننا لا نعرف حتى الآن شيئًا عن الأمرين فالأوفق إذًا أن نهتم بالحاضر الحاصل ونترك مسألة نشوئنا إلى درْوين أو إلى موسى إن كنت من الأتقياء ومسألة مصيرنا إلى القديس أوغسطينوس أو إلى الأستاذ هكل إذا كان يحلو لك الفناء.
ومن الحقائق الثابتة أن كل عقيدة تبتدئ بالبدعة وتنتهي بالخرافة، تبتدئ بالاضطهاد الذي يجيئها من الخارج وتنتهي بالإهمال الذي يأتيها من الداخل، وعقيدةُ النشوء والارتقاء التي ارتعدت لها فرائصُ الإكليروس عند أول ظهورها أخذتْ الآن بالتغير والترقي، وترقِّيها هذه المرة إلى أسفل لا إلى أعلى. رجل آخر مثل الدكتور فيرخو وتصبح العقيدة هذه من أساطير الأولين.
أما العقيدة فجميلةٌ في ذاتها؛ لأنها تشرح كل شيء وتفسره تفسير الماء بالماء، ولكنها لا تُبرهن على شيء برهانًا حسيًّا، ولم يُقَدِّرْ واضعُها ولا أحدٌ من غُلاتها أن يُرينا كيف يترقى الإنسانُ من حيوان كما تُرينا الطبيعة كيف تنشأ الفراشة وتترقى من زيز الشرنقة. البرهان الحسيُّ الذي يحملنا على تأكُّد نشوء الفراشة من الزيز هو بعيدٌ عن عقيدة النشوء والارتقاء التي طعنها الدكتور فيرخو بمديته فأُغْمِيَ عليها.
وللعقيدةِ فضيلةٌ أُخرى تُؤَهِّلُها للموت، وهي أن الأوليات فيها مخلة فهي تَنسب أصل هذه الحياة البشرية ضمنًا لا تصريحًا إلى التولُّد الاختياري والتكوين الذاتي، وهذه من الفقاقيع التي أخذها باستور وظل ينفخ فيها حتى فجرها، ولا تهمني اكتشافات الدكتور سيمون من هذا القبيل فهو أميركي وكفاه بذلك تعريفًا. ولم يقم أحد من الدرونيين بعد باستور وفيرخو ليلم شعث العقيدة المشهورة ويركبها ثانيةً إلا الدكتور هكل الألماني، وهكل هذا من الألمان الذين يحسنون الهزل فهو يُريد أن يسلي الشعب الألماني ويلهيه إذ رأى حالتيه الصناعية والتجارية في اضطراب وتقهقر، فلا لوم عليه إذا طفق يضرب على طنبور درْوين وينفخ في فقاقيعه «القردية.»