مكروب الغيرة
جاء في نشيد الأنشاد أن المحبة قوية كالموت والغيرة قاسية كالجحيم، على أن الحب الذي يولد مثل هذه الغيرة هو ناقص الجهاز فاسد الجوهر، هو حب ربلي عضلي لا تتصل جذوعه بتربة الروح الأزلية بل بسماء النفس الإلهية، وأن الحب الذي يصفه الحكيم والحب الذي يهز عامة الناس وخاصتهم لشرع من هذا القبيل، وأما الفارض وحبه السري وجلال الدين الرومي وحبه الإلهي ودانته وحبه السماوي فأمثالُ هؤلاء يُعدُّون على الأصابع، ومع أننا نترنم بشعرهم فتُسكرنا نشوة غرامهم فإن بين حياتنا وحياتهم شعابًا ووهادًا. من منا لا يقرأ ابن الفارض ولا يروي شيئًا من شعره، كم منا يفهمه ويدرك كنه هيامه، ومَن مِن الناس لا يختبر بنفسه صدق قول سليمان الحكيم عندما تستولي عليه الغيرة.
ولكن حين يتحقق ذلك تتجلى له حقيقةٌ أُخرى أقسى من الأُولى وأشد وهي أن ساعة تخامر الغيرة القلب يأفن الحب ويذبل ويضمحل، فلا تكاد زهوره تنور في تلك الربلات الناعمة حتى تسوس جذوره في العضلات المستحجرة، لا أنكر أن البضعة المكتنزة لأطيب من البضعة المسترخية وأن الوجه الوسيم القسيم لَأَقْرَبُ إلى صورة الله من الجهم الدميم، ولكن في الحالين الساق المجدول يبجبج ويزول وحسن الوجوه حال يحول.
الحب المادي إذًا هو ضرب من الحمى التي يتلوها البرد والارتعاش، هو هوًى ووَلَهٌ يتبعهما تثاؤبٌ وقرف، هو دبيبُ نمل في الجلد إن أزاله الحك والفرك شهرًا تخلفه القروح والأورام دهرًا، وهذا هو الحب الذي يُنتج الغيرة القاسية كالجحيم، على أن في كل مظاهر الطبع البشري وفي كل الانفعالات النفسانية لا شيء يُماثل هذه العاطفة الحيوانية ويُضاهيها إلا إذا استثنينا نهمة الكسب والإثراء في أبناء هذا الزمان، فالغيرة في نشوئها وتجسمها وفي هولها وفظاعتها هي أُمُّ العواطف الحيوانية المحضة التي تنقطع فيها المواصلة تمامًا بين قوة الإدراك والمجموع العصبي، هي العاطفة التي تحلل خرق وصية الله الخامسة تعزيزًا لوصيته السادسة والشريعة اليوم تؤيد جانب الغيرة وتعفو عن صاحبها الذي يتمثل بقول المتنبي:
ويعمل بموجبه في ساعات الظنون والجنون.
وكم من شاعر وقع في أشراكها! كم من عالم أخذ في أحابيلها! كم من كاهن تاه في ظلماتها وخسر نفسه في موبقاتها فعاد الأول وهو يصفها لنا وصفًا بليغًا! وجاءنا الثاني وهو يبحث في أسبابها وعِلَّاتِهَا ونتائجها وتصدى الثالث إلى الوعظ فنهى وحذر وتَوَعَّدَ وأنذر، ولكنها لم تزل اليوم كما كانت يوم كتب نشيد الإنشاد فهي تستحوذ على الشاعر والعالم والكاهن كما تستحوذ على الفلاح والنوتي وراعي الغنم، وكما استحوذت على سيدنا داود وابنه سليمان في غابر الزمان.
ومن الأُمُور المدهشة المحزنة هو أن العلم لا يلطِّف مفعولها ولا التهذيب يؤثِّر فيها تأثيرًا حسنًا ولا سمو العقل والإدراك يُزيل شيئًا منها. ففي المغرب بأسره قديمًا وحديثًا لم يأتنا التاريخ بنبأ يسرُّ من هذا القبيل ولا أذكر إلا حكيمًا واحدًا انتابه مثل هذه النوبات العصبية بسبب نشوز امرأته وشرودها فملك ذاته وحكَّم عقله في الأمر لا قلبه وسرَّح المباركة تسريحًا حسنًا دون أن يعضلها فتزوجت — إذ ذاك — مَنْ أحبها وأحبته، والحكيم هو الكاتب الإنكليزي الشهير رُسْكِنْ وقصته مع امرأته والمصور الذي استغواها مشهورة فبدل أن يسترسل في الغيرة والظنون والحقد والقلى؛ أصاخ إلى صوت الحكمة التي هو من أمرائها وفتح لامرأته الباب ولسان حاله يقول: اخرجي بسلام، اذهبي وعيشي وإياه متعكما الله وأملا لكما، ولكن رُسكِن من هذه الوجهة فردٌ منقطعُ النظير وعملُهُ من الشواذات الجميلة التي تَتَمَجَّد بها الحكمة وتود لو صارت قواعد شاملة مطردة.
إني لَأُفَضِّلُ أن أكون ضفدعًا وأتغذى من أبخرة الأرض وعفونتها على أن أكون إنسانًا وأبقي زاوية للغير في من أحبه.
فالفلاسفةُ يدعون الناس إلى الحكمة والتعقل، والمتشرِّعون يسنُّون الشرائع لردع الإنسان وكبح جماحه، والعلماء يحذرونه من الاسترسال في الأشياء ويحببون إليه الاعتدال، على أن ذلك كله لا يُغني من الغيرة شيئًا. اللص يُزج في السجن جزاء عمله والقاتل من أجل ثروة أو مطمع دنيوي أو لداعٍ ما غير داعي الغيرة يكبل بالحديد وتنصب له المشنقة فيحرم من حياته ولا أحد يرفع من أجله صوت الشفقة والحنان بيد أن القاتل غيرةً ودفاعًا عن شرفه وعرضه يقف أمام القضاة عزيزًا كريمًا فتنسخ من أجله ما سن من الشرائع في ما مضى من الأجيال، وينسى المحكمون أنهم قضاة عدل وحق وإنصاف فيتساءلون ويذكِّرون، وما منهم إلا وله ابنةٌ أو أخت أو أم أو امرأة.
ألم يجن هذه الجناية غيرةً ودفاعًا عن عرضه، بلى، إذًا فليُعفى عنه. كذلك تتعزز الوصية السادسة وتُمتهن الخامسة التي هي أهم وأكبر، وإنه ليتعذر وجود عشرة رجال في أُوروبا أو في أميركا يدعون «جوري» أو محكمين ليقتصوا من مثل هذا الجاني بحسب الشريعة الوضيعة وبموجب نص الأحكام الجزائية. ولا أذكر أن محاكم نويرك في مدة العشر سنين التي كنت أُطالع فيها أخبار مثل هذه الدعاوي حكمتْ مرة على واحد من هؤلاء المجرمين بالإعدام، وكثيرون هم هناك وكثيرًا ما كنت أُطالع أخبارهم المؤلمة المزعجة حبًّا بدرس هذه العاهة في الطبع البشري، وأذكر أنني حضرت مرة مُحاكمة رجل أطلق الرصاص على قسيس هتك ستر امرأته وانتهك عرضها، فشكت المرأةُ القسيسَ لزوجها، وكان ما كان من إطلاق الزوج الرصاص على الباغي، ومن نشر الفصول الضافية في الحادثة في صحف الأخبار، وحضور المرافعات في الدعاوي الكبيرة في تلك البلاد مثل حضور الروايات التمثيلية، يسلي ويفيد.
ومتى كان في مثل دعوى هذا القسيس فيضحك أيضًا، وحقًّا إني دهشت لما دخلت المحكمة في أول يوم المرافعة ووجدتها غاصة بالنساء والقسس ثم تحيرت إذ رأيت القسس كلهم واجمين وأكثر النساء ضواحك فكأنهن يسخرن من أختهنَّ المنهوك عرضها، ويا للعجب كيف كن يزلقنها بأبصارهن ساعة تدخل المحكمة متكئة على ذراع زوجها، وأما القسيس فما من قسيس إلا كان معه وحتى بعض النساء شهدت له بطهارة الذيل وعفة القلب، وكذلك انتُشل الباغي من حمأة الخزي والعار والنساء يتساءلن ويتهاتفن قائلات: ولمَ أخبرت زوجها لِمَ لَمْ تسكت وتستر إهانتها.
فخرجت المسكينة من المحكمة مدحورة مذمومة وخرج القسيس والغيد يرمقنه بأعين عطوفة وإخوانه يقبلون عليه بأوجههم مهنئين، فقلت إذ ذاك في نفسي: لا عدو للمرأة إلا المرأة ولا صديقَ حميمًا للقسيس إن كان في أميركا أو في بلادنا إلا هذه المخلوقة اللطيفة المباركة، وفي المسألة سر بل أسرار أسدل عليها أولو أمر الستر محافظةً على هؤلاء الأبرار. وأما الآن فإنك لترى مقاليد هذا السر في يد الفطن والغبي من الناس، وفي جيب الصغير والكبير من العوامِّ. اصرف اللهم الخزي والعار عن هؤلاء العبَّاد من العباد.
ما من مشاحة في أن الأديان هزت الشعوب فلطفت نوعًا أنفسهم الهمجية الخشنة، وأن حب الخير هَزَّ الملايين من الناس فجاءوا بالصالحات والمبرات، وأن الشجاعة هزت الألوف وألبستهم المجد في الصفوف، وأن الفلسفة وحب الحق والعدل أثَّرا نوعًا في بعض المئات من البشر. وأما عاطفة الغيرة الخبيثة فإنها لتهز كل امرئ وتستفزه وتحمله على ارتكاب ما يُعدُّ بغيًا وعدوانًا في غير هذا السبيل.
ومذ نشوء الحياة البشرية — أو بالحري من يوم ظهر الإنسان في صورة قرد كما قيل — رأى في شجرته قردًا آخر فهزته عاطفة الغيرة واستفزته وكانت النتيجة موتًا زؤامًا على الدخيل الباغي. وإن أسفل العواطف البشرية وأفظعها لتهيج الواحد منا الآن كما هاجت ذاك القرد وحملتْه على قتل أخيه، فهي لم تزل مالكة عقولنا مستولية على أعمالنا عابثة بعلومنا ومعارفنا ساخرة من فهمنا ومداركنا. لا ننكر أننا تقدمنا ماديًّا تقدمًا سريعًا فالعالم اليوم أعظمُ من ذي قبل من حيث الجربزة التي تُدعى تجارة والتفنن في القتل الذي يُدعى حربًا والعبودية التي تُدعى صناعة. وأما أدبيًّا وروحيًّا فلم نزل أطفالًا نتهته في المهد، ونحسب لُعابَنا المتحلب زبد صرعة الوحي وصراخنا دويَّ نبوَّة.