التعزية في المصيبة والمصيبة في التعزية
إن مصيبتي ناتجةٌ عن الطبيعة التي أنا منها وفيها ولها، إنها لنتيجةُ عوامل خفية تظهر في زرع الحقل كما تظهر في نفسي وتؤثر في العشب الملتصق في المحار كما تؤثر في أعصاب الحيوان والإنسان. إذًا لا يحق أن تدعى مصيبتي مصيبة، بل هي بيت من القصيدة الإلهية الجامعة اللانهائية لها، هي بيتٌ واحد من القصيدة التي يَنْظِمُها الخالقُ فتتلاطم في بحارها أمواجُ الرزايا، ويتبسم في سمائها برقُ السرور، وتتدفق من قوافيها سواقي الحب الفضية، وتتأجج تحت ألفاظها نيرانُ الهيام والحسرة واليأس. هي قصيدة الحياة التي ينظمها شاعرُ السماوات والأرض ويجعل ألفاظها الأودية والسهول والجبال والبحار، ونقطها كواكب السماء وبدورها، وحركاتها الرياح والعواصف، ومقاطعها حوادث الأُمَم والأفراد، ومحورها الحياة والموت وما يتخللها من السكوت والابتسام والبكاء.
نعم مصيبتي هي بيتٌ واحد من هذه القصيدة، نظم من أجلي خاصةً فأقرؤه بعد ساعات السرور مرارًا وأُردده في ساعات الغم تكررًا، ثم أعود إلى ما في القصيدة الشاملة من الأبيات التي نُظمت لغيري. أبياتٌ يغازل جمالها عرائسَ السرور، وتدرج في لهيب بيانها أرواح المحبين، وتستذرف من عيون القدر دموع القداسة، وكل حادث يجري في العالم هو بيتٌ من هذه القصيدة والسعيدُ الذي يقرأ معظمها؛ إذ لا يستطيع أحدٌ من البشر أن يقرأها كلها.
أنا على اتفاق تام مع الطبيعة والخالق، احترم ناظم السماوات وأعجب بقصيدته الإلهية فأقرأ البيت الذي نظم من أجل الغير كما أقرأ البيت الذي نظم من أجلي، واللذة التي أجدها في الواحد تُوازي الكآبة التي يُلبسني إياها الآخرُ فما هي مصيبتي إذًا؟ هي في أصدقائي الأعزاء، بليتي في التعزية التي يُقدمها هؤلاء من غير تَرَوٍّ وتَبَصُّر، في التعزية التي تفسد حزني المقدس فتحوله إلى غيظ وحنق وشراسة، نعم أنا أُحب الحزن كما أُحب السرور وسعادة الإنسان مؤلَّفة من الاثنين.
إذا كنت أستحق التعزية وأنا في محفل الموت فلمَ لا أستحقها أيضًا وأنا في محافل الحياة، لِمَ لا أستحقها وأنا في القهاوي والملاهي أو المجالس الأدبية أو في مكتبي.
لا أُنكر ما للإنسان من العواطف التي تميزه عن الحيوان في درجتَي الترقي والانحطاط، فهو كتلة عواطف مختلفة، منها مستمدة من ينبوع الحب الدائم، ومنها باقية من آثار الكهوف والصحاري والأودية، ولهذه الكتلة قشرةٌ غليظة تُخفي ما تحتها وتُبعده عن حاستَي اللمس والنظر، ألا وهي قشرة العادات.
فالإنسان إذًا كتلةُ عواطف مختلفةٌ مغطاة بقشرة العادات والتقاليد السميكة، ويجب على الحسن من هذه العواطف أن يظهر في حالته الحقيقية، وكيف يتم ذلك إذا لم تُنزع عنه القشرة التي تيبس وتذبل مع الزمان، فإبقاؤها في هذه الحالة فوق عواطفنا هو كإبقاء باقة من الزهور في إناء أَسِنَ فيه الماء. فالتحجر أو الذبول الذي يلحق بالقشرة ينتقل إلى العواطف كما يتصل فساد الماء بالزهور فتذوي، لذا تحتم علينا أن ننزع القشرة إذا أحببنا بقاء عواطفنا سالمة نقية مزهرة.
للعادات — كما للإنسان وللدول — أطوارٌ مختلفة، أهم ما نراه ونراقبه منها طور النمو وطور البلوغ وطور الاضمحلال، ففي الأول تنشأ العادة وتنتشر بين الناس، وفي الثاني تتملك منهم وتستعبد النفس فيهم، وفي الثالث تظهر دلائلُ الاضمحلال إما في الحاكم وإما في المحكوم، إما في العادات وإما في عبيدها.
وقد تظهر غالبًا في الاثنين معًا إذا لم يكن هناك سبيل للوراثة، فكم ضعافًا يذهبون فريسةَ عادات قبيحة؟ كثيرون كثيرون، وكم عقلاء جريئين ينتبهون وينبِّهون إلى أضرار تلك العادات ويحاولون إبطالها؟ قليلون قليلون، نعم إن من يموتون عبيدًا أرقاء لأكثر جدًّا من الذين يعشيون أحرارًا ويظلون سادات أنفسهم، وما أُولئك الكثيرون إلا هيئاتٌ مختلفة مملة لاصطلاحات قديمة معتلَّة.
هم صور جديدة بليدة لأجداد طوتهم الأيام وأنعشت قبورهم أمطارُ الأعوام، بل هم أرواحٌ ميتة في قبور متحركة، وهل تعرف من قتلهم؟ العادات والاصطلاحات والتقاليد، وحبذا لو حاول القارئ أن يكون في هذه المناسبة من القاتلين فينجو عندئذ من القتل. وأكد أن العادات والتقاليد السقيمة تقتلك إذا لم تقتلها، ولا يجب أن يراك الإنسان في تابوتك أو يجس نبضك ليتأكد أنك ميت، فاقتل إذًا ولا تخف، ليس كلُّ قاتل مجرمًا.
أما العاداتُ التي يجب إبطالها فكثيرةٌ، أذكر منها الآن فروض التعزية المتملكة من السوريين، قد قلت في البدء إن مصيبتي ليست من الله ولا من الطبيعة بل هي من أصدقائي ومعارفي. لا مشاحة في أن السوريين يتأثرون أكثر من سواهم بحادثي الموت والفرح، فلا يسعهم إظهار حُزنِهِم أو سرورهم إلا بالولولة والهتاف، بالبكاء والضجيج، وسبب ذلك واضحٌ، يموت سقراطنا وعلى وجهه ابتسامةُ السرور والرضى والابتهاج، ويموت البربريُّ من الخوف والرعب قبل أن يقرع بابه. زملاء الفيلسوف المحبون له ينشطون بموته ويستمد أصدقاؤه من ابتسامه الإلهي شيئًا من الرجاء والتعزية، وأما أهل البربري فيملئون الفضاء ولولة وصراخًا وعويلًا، وهذا سبب واحد وللقارئ أن يتوسع ويزيد.
يموتُ السوري فيذيع أهله خبر موته فتتهافت المعارف والأصدقاء والأقارب إلى بيت الفقيد ليُعَزُّوا أهله «وليأخذوا بخاطرهم» كما يعبر عن هذا الواجب في لغة العامة، لا أشك أبدًا بقصدهم الحسن ولا أسخر من عواطفهم الحقيقية، ولكن العادات التي تخفي القصد والكلام الذي يطلون به هذه العواطف فهذه والله البلية الكبرى، إذا كانوا يعنون «بأخذ الخاطر» سلب خاطر أهل الفقيد بخلابة اللسان وفصاحة الكلام فهم — والحق يقال — يفوزون لا بسلب الخاطر فقط بل بتعذيبه وتمزيقه إِرْبًا إِرْبًا.
الوعظ والنصيحة! نَجِّنَا يا رب منهما، نجنا من وعظ الثقلاء ونصائحهم، يظن من يذهب ليعزي أن من واجباته التفلسف في أسرار الكون وحكمة الخالق وجهل المخلوق وبطل الحياة … إلخ، فيردد الكلام الذي ورثه عن أجداده من دون ما تدبر، وهو كلام فيه من التعزية قدر ما فيه من المعنى أو قدر ما في الميت من الحرارة. وما أجمل السكوت في مثل هذه الحالة. السكوت الذي يعبر عن كل شيء، فما أُحَيْلاه.
قال أحد كتبة الفرنسيس «الكلام يخفي العواطف الحقيقية بدل أن يظهرها.» نعم، لا حاجة إلى اللغة في ساعة الموت أو في ساعة الفرح الشديد، اللغة تقصر عن إظهار ما في النفس كما يقصر البرق عن إظهار ما وراء الشمس والكواكب.
وأما مَنْ لا يستطيعون إلا التكلُّم فكم يخففون عن أنفسهم لو اعتاضوا عن المواعظ المملة والنصائح البليدة بكلمتين فيهما ما معناه: إننا نشعر معكم في مُصابكم ونرجو أن يُطيل الله بقاءكم، وبعد أن يقولوا ذلك ويروا الميت — إن شاءوا — يذهبون دون أن ينتظروا القهوة المرة التي يُقدِّمها أهلُ الفقيد. وهل يفعلون ذلك انتقامًا يا ترى؟ ولِمَ القهوة المرة؟ فإذا كان صديقي يستحق فنجانًا من القهوة ألا يجب أن أُقدمه له كما يحبه، لأهل الفقيد الحقُّ أن يُميتوا بعض لَذَّاتهم إكرامًا له ولكن إكراههم المعزين على ذلك أيضًا هو ضرب من التقاليد التي لا تَليق في هذه الأيام. إلا إذا فهمنا أن المعزي الثقيل الذي يملأ القاعة مواعظَ ونصائحَ فارغةً يستحق العقاب على ذلك، وفنجان من القهوة المرة هو عقابٌ خفيف. فما أجمل الرفق والرحمة!
وبعد أن ينتهي المعزي من التفلسف وشرب القهوة يقوم فيودع أهل الفقيد قائلًا: إن شاء الله تكون خاتمة أحزانكم. فهل تأمل أحدٌ بمعنى هذه العبارة ونتيجتها الواضحة؟ لكل منا أقاربُ وأصدقاء ومُحبون يشق عليه فراقُهم ويحزنه موتهم، ولكل منا شخص أو شخصان نود لو سبقناهم إلى الآخرة؛ كي لا نحزن على فراقهما، ولكن حين يدعو لي المعزي قائلًا: «إن شاء الله تكون خاتمة أحزانكم» أيُريد أن أموت قبل أقاربي وأنسبائي وخِلَّاني كي لا أحزن عليهم عند موتهم، أو هل يطلب لنا كلنا الحياة الدائمة على الأرض، ويريد أن نبقى أبدًا على هذا الشاطئ البارد دون أن نَعبُرَ بحر الموت إلى الشاطئ الآخر، شاطئ الأبدية والسعادة الأزلية المنتظرة، إن العاطفة شريفةٌ والدعاء جميل ولكن الغلو خاص بالشعراء.
وهذه كلها آفاتٌ صغيرةٌ بالنسبة إلى آفة أخرى، وكلنا نعرف شدة ولوع الخطباء والشعراء عندنا بالتأبين والرثاء، فكل من مات يستحق عندهم دمعة وقصيدة، ولا فرق فيما إذا كانت حياة المتوفَّى هَبَّةَ ريح في صحراء الخمول أو كنز جواهر في سفح جبل العلم والإحسان.
كلما مات سوريٌّ تجتمع الناس في بيت أهله لتندبه وتبكيه — كما ذكرت — وليس هذا بشيء عند اجتماع الأُدباء الذين يُدعون في الجرائد خطباء وشعراء حول ضريحه؛ ليؤبنوه ويَرْثوه ويشقوا عليه الجيوب والقلوب.
ما أحسن هؤلاء الأُدباء وما أشرفهم ساعة الموت، ما أعظم محبة خطيبهم وغيرته، وما أشفق قلبه وأفصح لسانه، وما أسخى دموعه وأشد زفراته، ولكن ما وراء كل ذلك يا ترى، أَوَراءه نفسٌ حقيقية تشعر بما تبذله العين وينطق به اللسان، أوراءه نفس صادقة تتفتت بالفعل كما يتفتت صاحبها أمام الناس، أو هل وراء ذلك آلةٌ صماء تديرها قوةُ التقاليد على عجلات العادات المزيتة بزيت التجمل والإطراء.
لا أُنكر أن بين الكثيرين من أولئك الذين يُحبون الظهور ويطلبون الشهرة بعض الشعراء الحقيقيين والخطباء الصادقين، ولكن العاقل الناقد لا يُنكر أيضًا أن أكثر المؤبِّنين هم من طبقة أولئك النوادب اللواتي يُستأجرن عند الشعوب الهمجية ليندبن الميت ويُوَلْوِلْنَ حوله، إلا أن الفرق بينهم وبينهن هو أن النوادب يندبن بالأجرة والخطباء يلغطون ويصيحون بالمجَّان.
ومن المضحكات أنهم لا يتغيرون ولا ينقصون ولا يزيدون في كل مدينة، فهم دائمًا فخر كل مأتم وزينة كل مأدبة، وكأنهم — والحالة هذه — جوق خطباء وشعراء واقف تحت الطلب مثل جوق المغنين أو الممثلين، فهم يبكون اليوم في مأتم الأديب الحبيب وينشدون غدًا في مأدبة الحسيب النسيب، يرثون اليوم صديقًا فارق العالم ويهنئون غدًا شخصًا متمسكًا به وبحطامه. يقولون في الصباح مثلًا: قد أذابنا الحزن عليك يا خير الرجال، ويقولون في المساء، قد أسكرنا السرور في دارك يا أمير الناس ويا مُحيي الآمال. فإذا كانوا مخلصين منذ ساعات فهم كاذبون الآن، وإذا كانوا صادقين ساعة السرور فقد كانوا ساعة الحزن مُرائِين.
أنا لا ألوم الكاهن الذي تضطره وظيفتُه أن يحزن في الصباح مع آل الفقيد ويفرح في المساء مع آل العروس؛ لأنه لا يشعر حقيقةً بكلا الأمرين فهو عبدٌ وظيفته التي تأمره بالتظاهر فيتظاهر، وبالتصنُّع فيتصنع. وأما أدباؤنا الذين يُدعَون في الجرائد خطباء وشعراء فما بالهم يُزاحمون الكهنة ويسابقونهم، ماذا فعلت الأُمَّة السورية لتستحق هذه الضربة؟ وهل يجوز أن نشين قداسة الحزن بالثرثرة وندنسها بالرياء.
فوا أسفاه! لو كان عندنا رجال بقدر ما عندنا من مثل هؤلاء الأُدباء لكنا والحق يقال من خير الشعوب وأرقاها.