جان جاك روسو
ومن لا يعرفه إن لم يكن حق المعرفة فبالاسم على الأقل، ألا يحذرنا الكهنة في المدارس منه، ألا يحاولون خارجها إبعادنا عنه، فهم الذين يرغبوننا بالاطلاع على كتبه إذًا وبورود موارد علمه وأدبه. ومن انقلابات الطبيعة على من يخلون بنواميسها هو أن حُبَّ الممنوع والميل إلى المحرَّم يفوزان أبدًا على إنذار ذوي المآرب وتحذيرهم. وليست غايتي الآن كتابة رسالة مستوفاة، منسقة تنسيقًا مقسمة أقسامًا، ذات مقدمات ونتائج مربوطة الواحدة بالأُخرى.
ليست غايتي الخوض في تآليف روسو وفلسفته والبحث في علمه ومبادئه وآدابه. ليست غايتي سرد سيرةِ حياته وتسويد هذه الصفحات بالتواريخ والأزمان. وبأسماء أعدائه من أُدباء وعلماء وحكام، وبوصف خليلاته الكثيرات من الأشراف والعوام، لا، لا. إني أترك الآن ذلك لغيري من الكتَّاب فصديقي العالم جرجي زيدان مثلًا يوفي روسو حقه في باب مشاهير الرجال، إذا لم يكن قد فعل ذلك، أما أنا فما تعلمت حتى الآن أن أكتب ما يليق بدائرة المعارف.
وما غايتي إلا كتابة بعض السطور عن روسو الرجل لا المؤلف، فالذي يمعن النظر في سيرة حياته ويدقق الفكر في تآليفه يرى أنه «كان يظهر حقيقة ما يعلمه بما يعمله» يرى بين خروجه عن المألوف بالقول وخروجه عنه بالفعل كثيرًا من التناسب والتقارب، كان روسو نقيض فُلْتِرْ من هذه الوجهة بيد أنه في حداثته كان يعجب بزميله الشهير ويدعو نفسه تلميذه، وفي غضون ذهاب فُلْتِرْ بالشهرة كان جان جاك روسو من جملة أولئك الشبان الذين قرءوا كل ما نشره ذلك النابغة الداهية بلهفة لا مثيل لها وكانوا يفاخرون بكونهم من أنصاره، كان روسو في ذلك الوقت شابًّا خليعًا لئيمًا متبذِّلًا له من الجرأة والإقدام ما له في كل الأُمُور ما عدا ما تعلق منها بمجالسة السيدات ومسامرتهن، كيف لا وقد درَّس الموسيقى بضع سنين وهو لا يعرف من هذا الفن إلا بقدر ما كان يعرف فُلْتِرْ من علم الفلك.
وحياة روسو وهو رجل كحياته وهو شاب من حيث إنه أعطى النفس هواها في كل الأُمُور، وذهب مع الطبع في جميع أطواره. وأما أن ذلك سبب ما غشاه من الشقاء والبلاء والنغص والغصص فما هو بالأمر الغريب العجيب، فالتفرد بالمزايا كلف المرء كثيرًا والخروج عما اعتاده الناس متلفٌ له. وإلى اليوم لا يستطيع المرء أن يعيش حياة عقلية طبيعية على وفق قلبه ومزاجه دون أن يخرج بعض الخروج عن دائرة المألوف من العادات والمعروف من الشرائع والعقائد. وإذا فعل ذلك فالويل ثم الويل، إذا فعل ذلك يحتقره القوم ويلعنه الناس ويزدريه رجالُ الأدب وتتعقبه الشريعةُ ويقعد له الرؤساء في الرصيد أن مثل هذا يحدث اليوم فكيف لا يحدث في زمن روسو، عاش جان جاك بالقرب من البؤساء والفقراء بين الشعب المظلوم المثقل بأعباء الدولة والكنيسة.
وعاش أيضًا بين الجميلات من النساء والكريمات من الخواتين، فأثار فيه الوسطُ الأولُ عاطفةَ الغضب، وحرك فيه الوسط الثاني عاطفةَ الحنو والرقة والحب، فكتب ما كتبه وفيه كثير من دموع النساء على شعب رازخ بالذل والعبودية مكبل بالأغلال والقيود، وعندي أن هذا هو السر في قوة روسو وفي ذكائه، هذه هي المزية التي ترفعه على فُلْتِرْ وعلى سواه من زملائه، فالمرأة شحذت قريحته والشعب البائس أثارها؛ ولذلك دُعِيَ رسولَ الثورة وسميت كتبُه أناجيلَها. ومن غرائب المقادير وتقلُّبات الزمان أن تآليفه كانت تُغلف إبان الثورة الأولى بغُلُف مصنوعة من جلود أولئك الذين اضطهدوه وسَفَّهُوا رأيه.
وقد عثرتُ على كتاب بعثه إلى مدام ديبيناي فآثرتُ تعريبه؛ حبًّا بإظهار ما فيه من وصف الرجل لنفسه، وقبل أن آتِيَ بالترجمة أذكر حادثتين أخبرنا بهما في «اعترافاته» ليرى القارئُ ما كان عليه الرجلُ من الخسة والدناءة وسوء السيرة.
يوم كان روسو نازلًا على إحدى الخواتين اللواتي آوينه سرق سرقة صغيرة، فاتهمت بذلك الخادمة وطُردت من البيت، وروسو لم يقل كلمة واحدة ليبرِّئَها أو ليرد عنها التهمة، سرق هو السرقة فعُوقبت الخادمةُ بسببه وظل هو صامتًا. وكان ماشيًا ذات يوم مع صديق حميم وهو الأستاذ الذي كان يعلمه الموسيقى، وفي ذاك اليوم كان الأستاذ طافحًا بالخمرة فوقع على الرصيف مُغْمًى عليه، وأما روسو فماذا تظنه فعل؟ ترك صديقه يخبط على الرصيف وفر هاربًا.
هذا هو الرجل الذي كان يذوب حبًّا بالقرب من النساء ويستشيط غضبًا على الدول والحكام من أجل الشعب البائس. هذا هو الرجل الذي ألَّف كتابه الشهير في التربية، الكتاب الذي لا يعتق مهما قدم عليه الزمان؛ لأن المبادئ التي أعلنها والتعاليم التي وضعها في معنى تربية الأولاد لم تزل معتبرة عند أرباب البحث وفلاسفة العمران، ولكن الفيلسوف الذي وضع هذه المبادئ السامية هجر أولاده طمعًا باللذات وتركهم في ملجأ اللقطاء تملُّصًا من الواجبات.
سيدتي: أتُريدين أن تجعليني خادمًا وعبدًا لك بهديتك هذه، إن لك أيتها العقيلة الحظ أن تري كل يوم أكبر أشقياء الدهر وأعظم نوابغ الزمان، ها هو رجل خسيسٌ وعظيمٌ في آنٍ واحد، هو أحطُّ من الحيوان في الغريزة وله مطامعُ ورغائبُ تتصل أطرافها بالآلهة. هو لئيم للغاية ولكن ليس في كل أعماله. إن له في أشأم الفتن ناقة وفي أخطر الأعمال علاقة، وعنده حظ وافر من الخيلاء والخساسة والكذب والخيانة، مع أن مبادئه الكمالية شريفةٌ سامية واجتهاده ونياته لا ينكرهما عليه إنسان. وإذا كانت سيدتي تُسرُّ بالتقرب من رجل مشهور والتزلُّف إليه فسرورُها لا يكون أبدًا صافيًا، خاليًا من الأكدار؛ لأن الرجل المشهور خشن الطبع غالبًا وناكر الجميل، فهو يعتبر نفسه مُهانًا حيث لا إهانة قط، ويكون في الغالب شرسًا صبيانيًّا مضحكًا بتصرفه ناظرًا بالعين المجرَّدة إلى الأشياء نظرة الأعمى إلى الشمس، كل شيء عنده ناقص مظلم وكل شيء حوله مختلٌّ.
هذه هي المنة التي أظهرها روسو، هذه هي الحرية التي عاش في ظلها رسول الثورة.
خرج ذات يوم رجل من باريس قاصدًا البرية ومعه كتاب كان قد طُبع في ذلك الوقت وأحدث ضجة عظيمة في عالم أُوروبا الأدبي، ذهب الرجل متنزهًا وأخذ الكتاب معه رفيقًا أنيسًا فقرأ معظمه في ذلك النهار وهو مستلقٍ على العُشْب في ظل دوحة من البان. وظل يقرأ إلى أن مالت الشمس إلى الغروب، فنهض إذ ذاك وهو معجب بما في الكتاب من التعاليم السامية والمبادئ السديدة. وبينما هو عائد إلى باريس التقى بشيخ جليل يتوكأ على العصا وفي يساره باقةٌ من الرياحين والنباتات، فتبادل الاثنان عبارات السلام وسارا في الطريق معًا، ولا عجب إذا حاول الرجلُ مخاطبةَ الشيخ في ذلك الحين، فتأثيرات الكتاب الذي قرأه كانت لم تزل حديثة في نفسه. وفي هذه الحالة تأبى التأثيرات التحجب؛ ولذلك كلم الغريب الشيخ قائلًا: عسى أن تكون سُررت في الفلاة يا سيدي.
– نعم جئت أفتش على بعض الرياحين التي تنبت في هذه الجهات فقط.
– ما أجمل الطبيعة وما أعظم من يقربوننا منها في كتاباتهم، قد خرجت ومعي أشهر كتاب طُبع في الوقت الحاضر، ولا حاجة للتسمية قد قرأت بعض فصول «إميل» ووددت لو كنت خادمًا لجان جاك روسو، أكد أني أهب نصف ما أملكه لأرى الآن هذا النابغة العظيم وأُظهر له الانفعالات الحسنة التي أحدثها كتابُه في نفسي، وماذا يهم الأُمَّة الإفرنسية إذا كان المؤلف جنوي الأصل، وعندي أن لا جنسية للنابغة فهو ابن العالم على الإطلاق إن المؤلف العظيم لملك في كل وقت وفي كل مكان، وله من كل الشعوب والأُمم رعية مخلصة تعجب بمواهبه، لا بل تعبدها.
فقاطعه عندئذ الشيخ قائلًا: وهلا يخطر في بالك أن جان جاك روسو يتنازل عن الشهرة التي تعجب بها ليكون أحد أولئك الحطابين الذين نرى دخان أكواخهم هناك؟ ماذا أثمرتْ له الشهرة وهل أكسبتْه غير الاضطهاد، أما الأصدقاء والمحبون الذين لا يعرفهم ولا يراهم فهم يكتفون بقراءة كتبه ويباركونه في قلوبهم، ولكن الألوف من الأعداء يرمونه أبدًا بالقذف والتعيير، لا شك أن النجاح يعزز الكرامة، ولكن كم مرة تجرح كرامة الفائز بتطفُّل الخائبين وبفضول من حبطت مساعيهم. وأكد أن كرامة المرء تُشبه في أصلها ذلك الشريف المترف الذي لا ينام إلا إذا كانت زهور غرفته في محلها.
أما الجهاد العقلي المتواصل فقد ينفع العالم في الأحايين، ولكنه يضر بصاحبه دائمًا، وكلما شاخ الرجل كبر عليه دين عقله، وما قيمة ما يدفعه الفيلسوف المحاط بالحقائق المكروهة إلى هذا العقل المتطلب الكمال. قد شبهت النبوغ بمملكة ولكن أي رجل فاضل لا يخشى أن يكون ملكًا فيها؟ القوي هو أقرب إلى السقوط من الضعيف، وكلما ارتفع المرءُ تكاثفت حوله غُيومُ الأخطار والمحن فلا تحسد الرجل الذي أَلَّفَ هذا الكتاب ولا تعجب به، بل أَشْفِقْ عليه، إن كنت شفوقًا.
فتعجب الرجل من حكمة الشيخ السوداء وألبس تعجبَه ثوبًا من السكوت، وكانا قد دخلا الطريق التي تؤدي إلى قصر فرساي فمرَّت بالقرب منهما مركبة أطلَّت من نافذتها امرأةٌ جميلة وصرخت إذ رأت الشيخ قائلة: ها هو جان جاك، ها هو روسو.
أما رفيق الشيخ فلبث مذهولًا مبهوتًا وسمع روسو يُخاطبه بلهجة عنيفة وصوت حاد: أرأيت هذا، أرأيت هذا، لا يقدر جان جاك — على الأقل — أن يُخفي نفسه عن الناس فالبعض يذكرونه باحتقار والبعض بإكرام وإعجاب، والجميع يدلون عليه بالأصابع ويظنونه ملكًا مشاعًا كهذا التمثال مثلًا أو كتلك الخربة، فالمرء الذي ينال قليلًا من الشهرة ويبتسم له النجاح يُصبح سلعة يتصرف بها الجمهور. فكل امرئ ينبش في أرض حياته ويردد عنه أتفه الأُمُور ويمس بذلك حاساته ويجرح كرامته، الرجل، المشهور هو مثل هذا الحائط الذي يُشوَّه بالإعلانات والتزاويق، ولعلك تقول إنني شجعت الناس على التداخل في شئوني الخاصة إذ نشرت شيئًا من كتاب الاعترافات ولكن العالم اضطرني إلى ذلك. نظر الناس إلى داخل بيتي من الشقوق وعيروني فوجب عليَّ أن أفتح لهم النوافذ والأبواب ليروني كما أنا لا كما يتصورون ويتوهمون.
الوداع يا سيدي، وإذا ذكرت الشهرة ثانيةً فاذكر أنك قابلت أعظم وأشأم بنيها.