وليم غاريسون
لا مراء في أن الناس يقرءون غالبًا كل ما يكتب عن كبار الرجال ومشاهير الكتَّاب، ولكن ليس كل ما يكتب فيهم يستحق القراءة وليس كل ما يقرأ يحفظ وينقل، وقد يكون غالبًا بين قصد الكاتب وبساطة القارئ أو تعصبه أودية ووهاد. أي: أن أكثر القراء لا يتفهمون أقوال الكاتب إلا بالناقص أو بالزائد، وقليلون من يزنون الكلام والمعانيَ بميزان المؤلف لا بميزانهم، أو بالحري بميزان العقل لا بميزان الحماسة أو البساطة أو الغيرة أو التعصب أو الكل معًا.
وما الغاية يا تُرى من هذه المُلاحظات، هل هي مقدمةٌ لأقوال جديدة في رجل عظيم جديد؟ لا، بل هي تمهيدٌ صغير لكلمتين موجزتين في واحد من أُولئك الكُتَّاب المنسيين في ظلمة النسيان المحكوم عليهم بالخمول ظلمًا وعدوانًا من جمهور الأُدباء والمطالعين. وأما هوغو ورنان وتولستوي وغيرهم من النوابغ الذين تُكثر من ذكرهم الجرائدُ والمجلات فأولئك لا خوف عليهم من الإهمال، بل الخوف كل الخوف عليهم وعلى شهرتهم الحسنة مما تتناقله الجرائدُ عنهم ويكتبه الكُتاب عن مبادئهم وآرائهم وكتبهم.
نعم جئت أُحدثك اليوم بواحدٍ من أولئك الكُتاب المنسيين الذين جاهدوا في حياتهم جهادًا عظيمًا في سبيل الحق والحرية، وخدموا الإنسانية خدمات جليلة كبيرة. ولكن الإنسانية يا صديقي لا تعترف لبنيها بالجميل إلا إذا نبهت إليه بالأجراس والطبول والمدافع، إلى هذا الحد تبلغ بنا القساوة، وهكذا يحملنا الإهمال على نسيان من جنح في حياته إلى السكينة فتعشقها، وإلى الحق فكان من عبيده، وسعى سعيًا جليلًا عظيمًا عاملًا عمله بنشاط وثبات وشقاء بعيدًا عن التبجح والتصلف والادعاء؟ تعال معي أيها القارئ، امشِ ولو فرسخًا بنور مصباحي، اسقط معي إلى ظلمات النسيان لنُعيد إلى الحياة أحد أمراء تلك الديار، أفلا تحلو لك مثل هذه الرحلات، ألا يجدر بك هذه المرة أن تجيء معي وتصرف النظر عن زيارة المتحف المصري مثلًا لتشاهد هنالك جثث الفراعنة الجافة المدثرة بالكتان المحفوظة في الزجاج؟ أنا أُريك رجلًا حيًّا بالروح لا تتقزز من رؤيته ولا يخيفك تجاعيد وجهه، تعال معي إلى دهاليز الآداب المنسية فأعرفك ببطل حقيقي.
وها أنا أدون الآن لأول مرة في اللغة العربية قصة هذا الرجل الصالح، قصة هذا المصلح الحقيقي الذي يجدر بكل من تَعَشَّقَ الحرية والحقيقة معرفته.
اعلموا أيها الناس بأن الكلمة التي أقولها أعنيها بالذات ولا أحاول ولا أراوغ ولا أجامل في قولي، لا ولا أسحب كلامي ولا أعتذر عن شيء أنشره أجاهد وأثبت وأجد، وسيكون صوتي مسموعًا بينكم.» وإن هذه الكلمات لَتُذَكِّرني بما جاء في سفر أيوب! «لأتكلمن فيفرج عني، أفتح شفتي فأجيب، لا أحابي إنسانًا ولا أطرئ بشرًا.» وهذي هي الخطة التي وضعها الشاب لنفسه ولجريدته، وثبت عليها ثبوت القمر في دورانه.
شاب فقير لا يعرفه أحد يعيش بالخبز والماء والزبدة وينام على الأرض في مطبعته، شاب وحيدٌ في مذهبه لا شريك له ولا نصير ولا مشجع، فرجال الدين والحكومة والهيئة الاجتماعية وأرباب التجارة كلهم أخذوا يناصبونه العداء ويرسلون عليه البلاء. فعلوا كلهم ذلك لأن ضمير الأُمَّة كان لم يزل خامدًا جامدًا، وكانت الشهامة لم تزل بعيدة عن قلب الشعب والوطنية بعيدة عن السياسيين، أُطهد من أُمَّةٍ حرة وشعب حر؛ لأنه جاهر بالعداء للعبودية والنخاسة، ومع كل ما رُمي به من التقبيح والشتائم واللعنات فهو لم يخلَّ مرة واحدة بقاعدته الأساسية التي نشرها في أول عدد من جريدته، فجَدَّ وجاهد وثبت وقال قوله بجرأة وحرية وإخلاص.
كان فؤاد الصحافي هذا يلتهب غيرةً وحنوًّا على شعب إفريقي راسفًا في سلاسل العبودية في بلاد تَدَّعي الحرية، فصرخ في وجوه مستعبديه صرخةً ارتجت لها البلاد الأميركية من أقاصي الغرب إلى أقاصي الجنوب، وبدأت إذ ذاك تظهر أنصاره وتزداد أصحابه فتلبدت الغيوم على آفاق التجارة وفي جوها وأُنذرت الأُمَّة بإعصار هائل، فأخذت صواعق المتمولين تتساقط على رأس الشاب ولكنها لم تزعزعه، ضُرب مرات ضربًا عنيفًا وجُرَّ في شوارع بوسطن مشتومًا ذليلًا وندد به الكبير والصغير وأشار إليه أربابُ العلم والأدب بأصابع الازدراء والسخرية ومنحت حكومة ولاية جورجيا جائزةً لا تقل عن الخمسة آلاف دولار لمن يجيئها به حيًّا أو ميتًا. ولكن الصحافي الحر ظل في مركزه كجبل من جبال الألب راسخة قواعده في أرض الحرية التي لا يموت فيها الفكر ولا يسخَّر القلب والضمير، ظل متمسكًا بعقيدته واشتدت صرخته على أولئك الذين استعبدوا قسمًا كبيرًا من الناس.
ولم يحلم أحد من أعدائه بأن البذور التي زرعها سنة ١٨٣٠ تثمر في خلال ثلاثين سنة، نعم إن المبدأ الذي بشر به وليم غاريسون الأميركي وهو رجل فقير حقير لا يملك إلا قلبه وعقله وقلمه عَمَّ في ثلاثين سنة نصف الأُمَّة الأميركية وأنتج أخيرًا تلك الحرب الأهلية الهائلة التي أبطلت النخاسةَ وحررت العبيد ومَحَت عن جبين العالم الجديد وصمة العار.
عقيدة بسيطة وُلدت في شارع صغير في بوسطن لشاب مكروه منبوذ فقير، وانتشرت في وقت قصير في أنحاء الجمهورية كافةً، وتكللت أخيرًا بمنشور الحرية الذي أصدره إبرهيم لِنْكُلِنْ من عاصمة البلاد. هذا هو تاريخ النهضة على العبودية، وهو غير التاريخ الذي نقرؤه في المدارس، نعم إن النهضة هذه تبتدئ بوليم غاريسون أحد سكان دهاليز التاريخ والأدب المنسية وتنتهي برئيس الجمهورية، تنتهي بالرجل الذي لا تخلو مدينة كبيرةٌ من تمثاله، فكلنا نسمع بإبرهيم لِنْكُلِنْ محرر العبيد ومبطل النخاسة، ولكن مَنْ منا يعرف صاحب جريدة «محرر الرقيق» الذي زرع البذور التي حصدتها الأُمَّة في عهد الرئيس الشهير، أفلا يجدر بنا إذًا أن نذكر هذا الرجل مرة بالإجلال والإكرام مثلما تذكر الأُمَّة الأميركية رئيسها محتفلةً بعيده كل عام؟