أنوار الأفكار
هو الفكر مشعشعًا في الفضاء مُنيرًا لطرق السيارات وحبك النجوم، هو الفكر رافعًا هذه الكرة الصغيرة إلى مركز سام بين العوالم الكثيرة العظيمة التي تَرى ولا تُرى، نقطة صغيرة في الفضاء غير المتناهي الذي تدور فيه ملايينُ من الكواكب وألوفٌ من السيارات ومئاتٌ من الأقمار والشموس، نقطة صغيرة في هذا الفضاء القريب البعيد، هذا هو عالمنا، هذه أرضُنا. ومع ذلك ترى الإنسان يشمخ ويتكبر ويرفع رأسه فوق رءوس آلهة الجوزاء، وإذا كان لا بد من هذا فلأرباب الأفكار الحقُّ الأول — على ما أظن — نعم إن كل فكر يتجسد على هذه الكرة الصغيرة هو عالم كبير في عالم صغير، التفكيرُ حياة العوالم كما هو حياة الإنسانية، التفكير صلاةُ الفيلسوف، التفكيرُ يولد الحركة المفيدة ويجلو العقل ويطهر النفس، وليس التفكُّر بالأمر السهل، فصيغة الأفكار أصعبُ جدًّا من صيغة الجواهر، والشعراء خاصة يعرفون ذلك ويكابدونه.
وبعدُ فقل لي كم أناس يعجزون عن الإجابة لو سألتهم فيم يفكرون؟ وكم من الناس لا يفكرون البتة في حياتهم اليومية — فضلًا عن الليلية — وقد يفكرون في أحلامهم عن غير إرادة وإدراك؟
إن قوةَ الفكر لَأَعْظَمُ من قوة الطبيعة، رويدكم أيها العلماء والماديون، فإذا قلتم لي لا تقدر أن تسكن بين عناصر الطبيعة المهاجمة وأنت مُقاومٌ لها أقولُ لكم إن مملكة أفكاري واسعةٌ ومملكة أحلامي أوسعُ، أعيش هنالك مطمئن البال بعيدًا عن جراثيم الأطباء وعن الجبال الباردة التي يعتصم فيها العلماء، والذي يسرني ويسر كل شاعر حقيقي هو هذا: ليس في مملكتي كلها آلة واحدة للتشريح. تعالوا إذًا نفكر كما نشاء ونعيش كما نفكر. تعالوا نحلم أحلامًا جميلة ونحب كما نحلم حبًّا جميلًا. قد سئمت طرق العلماء التحليلية التي تحصر حياة الإنسان بين كهف مظلم وقبر بارد، فمن الكهف إلى القبر عن طريق التمدن الحديث، ما أجمل هذه السياحة! ولكنها — لِحُسْنِ الحظ — قصيرةٌ وأما السياحة الفكريةُ الروحيةُ التي يمر بها السائحُ على جزائر الحب وغيرها من الأماكن الجميلة، والتي يعجز «هذا الفقير إلى ربه» عن وصفها فتلك سياحةٌ طويلةٌ، أولها عالَم الأزل وآخرُها عالَم الخلود.
ولذلك أقول: إن المرء يستطيع بقوة الفكر أن ينتصر على القُوى الطبيعية، ويجد هنالك قوة فوق الفكر، ألا وهي قوة الحب، فالحب … ولكن تلك قصة أُخرى تقصها العيون النجلاء في بساتين الجمال ويهمسها النسيمُ في آذانِ الشقيق تحت سماء المُنَى والآمال، إذا أجلت في حالة الناس فكرًا فيكفي ذلك الفكر. املأْ بندقية العقل يشتغل النابض لنفسه، تَفَكَّرْ تلقَ نتائجَ فكرك آجلًا أو عاجلًا فهي تظهر رغم ما يعترضها من الصعوبات.
ولربما ظهرت في عمل صغير من أعمالك، أو في كلمة تَفُوهُ بها على الفور في الساعة التي تأبى النفسُ فيها التحجُّب، أو في مساعدة تُبديها لبعض الناس أو في خُطوة تخطوها نحو الغرب أو في لَفْتَة تتلفتها نحو الشرق، أو في مُصافحة تصافحها باغيًا أو بغيًّا، أقول لكم: تفكروا فالحركةُ التي تبدو في الكريات الدماغية حسب زعم الماديين إنما هي مثل كل حركة تبدو في الكون، سواء في أقصى السيارات أو في أحط المخلوقات الصغيرة، الشرارة التي تقدحها النفس تتطاير منك إلى سواك ولربما أنارت البعيدَ أكثر مما تُنير القريب لربما كانت أجلى لأولئك الذين يرونك من علوهم باحتقار منها لأولئك الذين ينظرون إليك من العُمْق بغاية الوقار.
كنتُ أَتَمَشَّى ذات ليلة على الطريق في الجبل فرأيتُ دُخانًا يتصاعد من خلال ورق التوت بالقرب من كنيسة صغيرة، فطرقت تلك الناحية فرفعتْ إليَّ امرأةٌ تخبز على «صاجها» وفتاة توقد تحت «الصاج» أعوادًا من التين وأغصانًا من العفص، فسألت نفسي إذ ذاك: هل النار التي تضرمها هذه الفتاة محدودة القوة، هل الجمر الذي يتأجج تحت هذه الصفحة الحديدية منفصلٌ عن القوة الشاملة المتفرعة في كل أجزاء المادة؟ يا لك من أحمق غبي! أهذه أسئلةٌ يسألُها العاقل؟ أَيُوجد في الكون قوةٌ منفصلةٌ كل الانفصال عن قوة أُخرى؟ نعم، إن المادة تتجزَّأُ ولكن حرك فيها القوة الكامنة فترتجُّ وتتموَّج وتتأجج، وتعود إلى الفروع التي تنفصل عنها وتتصل بها من البدء.
النار التي تضرمها الفتاة تحت «الصاج» أتعرف من أين مسيرها وإلى أين؟ ما الأشجار والنبات إلا الكربون الذي يفصله نور الشمس عن الأوكسجين الموجود في الهواء، فقوَّة النار من قوة الشمس وقوة الشمس من النيازك التي تتساقط أبدًا عليها، والنيازك — تبارك الباري — فربما مرت في طريقها على أُورانوس أو على زحل أو على سيروس ولربما كانت منفصلة عن سيارة تبعد عن سيروس بعد سيروس عن الشمس.
نعم إن الشعلة التي نراها الآن بعيدةُ العهد أيها الجاهل، لعلها أُضرمت منذ ألوف من السنين في كوكب يَبعد عن شمسنا ملايين من الأميال، أُضرمت هذه القوةُ النارية لتولِّد قوات أُخرى، أُضرمت لغرض سامٍ لا ليبدَّد نورها في الفضاء ويتلبد دخانها على إفريز البيوت فقط، أُضرمت ليتم بين جوهرها والجوهر الفرد عقد النكاح فتتولد عن ذلك قوة جديدة كامنة في الخبز، والخبز في معدة الشاعر يولد قوة أُخرى تنفصل عن القوة النارية، وتسري في الدم إلى الدماغ وتولد هناك حركة أفكار بينها وبين لهيب النار التي نراها الآن تشابهٌ عجيب. فمن سيروس عن طريق الشمس إلى الأرض — هذه إحدى طرق النار ومن الأرض إلى سيروس عن طريق الشمس — هذه إحدى طرق الأفكار، هذه رحلة من رحلات النفس البشرية، فلا وقوف ولا انقطاع ولا نهاية، يا لها من دورة عظيمة غريبة سرية إلهية تجمع بين «من أين» و«إلى أين».
نعم أنا على يقين أن الفكر لا يموت والنفس لا تفنى، والبذرة التي تقع من يد الزارع على الصخر تُساعدني أن أقدم ولو برهانًا ضعيفًا على اعتقادٍ قويٍّ، فهل تظن — أيها القارئ — أن البذرة هذه تموت؟ زُرْها في العام المقبل وانظر كيف خَدَمَتْها الرياحُ وكيف أنعشها الشتاء وكيف عُنيت بها الأعاصير. فقد جرفت لها التراب من أعلى الجبال واستدرت لها الماء من الغيوم، وانظر الآن كيف ترفع رأسها من شق الصخر لتشكر للشمس كرمَها وللغيم فضله.