الثورة الإفرنسية١
لو قصد المؤرخ أن يُطالع كل ما كتب عن الثورة الإفرنسية في اللغتين الإفرنسية والإنكليزية فقط لصرف زمانه كله في المطالعة، بل إنه يموت دون أن يتمِّم هذا العمل الخطير غير المفيد، وقد انقسم مؤرخو الثورة إلى قسمين فمنهم من تحرى سرد الحوادث دون تحزُّب وتحيز، ومنهم من ألحق بكل حادثة نتفًا من فلسفته السياسية الخصوصية، فندد بحزب ونصر آخر وكان إما ملكيًّا أو جمهوريًّا.
أما كارليل الكاتب الإنكليزي الشهير فقد حاد عن الخطين في كتابه المسمى «تاريخ الثورة الإفرنسية» فهو لا يطرئ الجمهوريين كهيوغو ولا يندد بهم كتيارس ولا يتحامل على الملكية بانتقاده أكثر مما لو كانت حكومة جمهورية. بل أراد في تاريخه هذا أن يكون خاليَ الغرض غير متحيز لحزب من الأحزاب. ولكن نيته هذه الحميدة أوقعتْه في الفتور الذي لا يسلم فيه صاحبه من عدم الاكتراث والشك، ومن كلف نفسه قراءة شيء من تآليف كارليل العديدة يبان له بعد قليل من التفكُّر أن الرجل عصبي المزاج أسير السويداء والتخمة، وقد كان مصابًا بداء آخر أهم من الاثنين لا فائدة من ذكره في هذا الصدد، وأن نتيجة هذه العوارض الخبيثة تنجلي دائًما في كتاباته في شكل من التهكم فظيع والكتاب الذي نحن بصدده الآن مفعَمٌ بمثل هذا الازدراء والسخرية. ومعلوم عند الناقدين أن هذا الأسلوب لا يليق في سرد التاريخ فهو كثيرًا ما يشوش المعنى الحقيقي، ويجعل القصة البسيطة متشعبةً متلونة غامضة لا يستطيع القارئ فهمها دون أن يُجرِّدها من ثوبها المزخرف الكثير الألوان.
ليس من العدل إذًا أن يُدْعَى هذا التأليف تاريخًا؛ فهو خالٍ من الاعتقاد والرأي في الحوادث التي يسبرها، ومفعمٌ بوساوس الفيلسوف العديدة التي تروقنا في بقية مؤلفاته وتزعجنا في كتاب دعاه تاريخًا. كتاب يفتقر إلى روح جدية لترفعه من طبقة الخلقيات إلى طبقة العقليات، ولا نقدر أن ندعو الكتاب رواية؛ لأن فصوله غير متصلة بعضها ببعض إذ نقرأ كل فصل بذاته ولا تتولد فينا رغبة معرفة السابق واللاحق.
فالكتاب إذًا مجموع مقالات متفرقة في حوادث الثورة الإفرنسية ورجالها، مسطرة على قرطاس الفتور والشك بيراعة التهكم والازدراء، ولا رأي خصوصي له في تلك الحوادث وأولئك الزعماء سوى أنه ينصر تارةً الكل وطورًا يُقاوم الكل، وهذه هي المزية التي خدعت الناقدين في زمن كارليل فأنزلوا كتابه هذا منزلة التاريخ في الوقت الذي يجب أن يُعَدَّ في كتب الخلقيات والوصف، كيف لا ومزاج المؤلف العصبي ظاهر في كل صفحة من الكتاب، فهو يقيس كل حادثة ويحكم على كل فرد له علاقة في هذه الفتنة الهائلة بمقتضى هذا المزاج المركب من السويداء والتخمة والتهكم.
ولسنا من الذين ينكرون على الكاتب حق التهكم في الأحايين؛ إذ إننا نعتقد بصلاحية هذا الأسلوب ونُعدُّهُ من الظرائف الجدلية الفَعَّالة التي يقاوم بها الكاتب كل سخيف سقيم، أما تهكم كارليل فحادٌّ إذا خَفَّ، وفَظٌّ إذا اشتد. وبينا نحن نطالع هذا الكتاب لم نتمالك أن أعدنا الفكرة إلى ما كنا نطالعه من نفثات فولتر فإننا نرى بين مؤلفين نابغتين الواحد منهما لاتيني والآخر سكسوني شَبَهًا عظيمًا من حيث أسلوب الكتابة السخري الذي استخدماه في مقاتلة الفساد والظلم والخرافة، ولكن أين تهكم الإنكليزي الكالح الجاف من تهكم الإفرنسي الوضاح المنير، فهذا شبيه ببركان وذاك بمرض عضال مزمن، هذا يهلك ما يلقاه عاجلًا وذاك يَدخل جسم الفساد والخرافة فيضعفه ويلاشيه تدريجيًّا. فضلًا عن أن تهكم كارليل خالٍ من الذكاء الذي يزين تهكم فولتر، كان كارليل يرعد إذا غضب ويمطر، وأما فولتر فكان يبتسم ابتسامته المشهورة ويسير بهدوء إلى غايته المطلوبة.
لنعد الآن إلى الكتاب الذي نحن بصدده، أراد المؤلف ألا يتحيز في تاريخه، وأن يكون مع الحق أينما وُجد، سواء كان في جانب زعماء الثورة أو حول عرش الحكومة القديمة، ولكن رغبته هذه أدت به إلى الفتور وعدم الاكتراث. والحق يُقال إن من لا يكترث لحادثةٍ ما لا يستطيع أن يكتب عنها بدقة وإصابة وإخلاص. وكارليل يبحث عن أكبر حادثة في العالم كما تبحث صحف الأخبار عن جريمة بيتية أو حادثة خصوصية يَزول أثرها بعد أن يقرأ خبرها، فهو أبدًا يفتش عن الحوادث الطفيفة التي كان الأحرى بها أن تُدَوَّن في الروايات الغرامية، ويستنتج منها نتائجَ عمومية فاسدة ويصور من هذه صورًا خيالية فظيعة يسأم هو منها في النهاية ويرفع يديه إلى السماء صارخًا «أممكن أن تخلق ربي مثل هذا الشعب.»
وهل دعوة الإفرنسيس يا ترى خالية من الحقيقة وهل الثورة بذاتها نهضة فاسدة مضللة، وكيف يتملص الكاتب الفاتر المشكك من لوم الناس الذين حاربوا الثورة أو نصروها وبعض بنيهم وأحفادهم لم يزالوا حتى يومنا هذا يقاومون نتائجها وبعضهم ينصرونها، فلو كانت فاسدة على الإطلاق لأمحت آثارها بعد مئة سنة من الزمان. نحن من الذين قالوا بعدم الاكتراث في بعض المسائل الدينية التي لا تولد إلا النزاع والشقاق، ولكن الوقت لم يحن لنبذ الحماسة السياسية والغيرة القومية، فالمرء الذي لا يكترث لأُمور حكومته يُعدُّ خاملًا والكاتب الذي لا يجد خيرًا في أيِّ نوع من الحكومات يُعدُّ فوضويًّا.
إن الحقيقة التي نفصلها عن أخواتها، عن أسبابها ونتائجها، وندونها معتزلة مستقلة كثيرًا ما تغش المؤلف وتضر بالغاية الأصلية التي ينبغي أن تظل نُصب عينيه، أما الثورة في رأي كارليل فلا سابق ولا لاحق لها، هي فلتة اجتماعية لا سبب لها ولا نتيجة هي ضربةٌ من ضربات الله، هي مصيبةٌ من مصائب الزمان، هي بنت الصدفة التي نشأت عنها وماتت فيها هي حادثة معتزلة عن حياة البشر السابقة وعن مستقبلهم. إن عددًا من الناس ينتسبون إلى بلاد تُدعى فرنسا قاموا في وقت من الزمن فهاجوا وماجوا وحدث بينهم شغب عظيم وقتال من أجل قوانين ونظامات سياسية جمعوها فلقبوها بالقانون الأساسي، ومن ثم أهلك بعضهم بعضًا وختموا القانون بدمائهم وعادت الأشياء إلى عالم النسيان إلى ظلمات الزوال. هذا كل ما يراه كارليل في الثورة الإفرنسية، فهو لا يكلف نفسه النظر في البواعث التي من أجلها سُفكت دماء الأُلوف من الناس، ومع ذلك هو يحاول إظهارَ الفاسد من الصحيح فيها، وكيف يستطيع الكاتب أن يحكم على أحوال أُمَّة في عصر لم يكن هو منه بعد أن أهمل التنقيب في تاريخ الأُمَّة الماضي وفي أخلاق الشعب وأحواله السياسية والزراعية والتجارية.
قد أوجب الأقدمون على المؤرخين إبداءَ الحكم في كل قضية يدونونها وأقاموهم مقام القضاة، وبعد أن يدون المؤرخ الحوادث بدقة وإخلاص يمحِّص الصحيح من الفاسد، ويستنتج من ذلك نتيجة تسوغ له وضع قاعدة أدبية فيها نور وهدًى للأجيال المقبلة. وقد قام كارليل ببعض هذا الواجب في تدوين الحوادث غير أنه أغفل أمرًا جوهريًّا، هو ذكر السبب الرئيسي الذي نشأت عنه الثورة، فهو لا يرى فيها عملًا واحدًا يستحق الشكر إذا ذُكر، ولكن حادثة واحدة فظيعة لا تقدح في نهضة عمومية خطيرة وإن تعددت هذه الحوادث المرعبة فالنظر إليها وإلى أسبابها الأولية معًا لأمر واجب على المؤرخ.
إن صلب المسيح بالنظر إلى مصلحة الشعب الإسرائيلي عادلٌ في الظاهر وبالنسبة إلى البشرية هو جائرٌ فظيع. أما الحادث هذا وحده لا معنى له ولا أهمية.
وإن من يقرأ سجلات الحكومة الإفرنسية، ومعلومات السياسيين والكتَّاب الذين شاهدوا الحوادث وكانت لهم يد فيها؛ يبالغ — لا شك — في التعنيف والتنديد بما يدعى «دور الهول» إذا أغفل الغاية الرئيسية التي بسببها ومن أجلها تأسس.
ومن كان نظير كارليل سريع التأثر صعب المراس حادَّ المزاج يحكم على الحوادث هذه بالنسبة إلى انفعالات نفسه لا بالنسبة إلى الظروف التي نشأت عنها؛ ولذلك لا نرى في كتابه إلا مجموعة قصائد مدح وفخر وهجو ورثاء قلت مجموعة قصائد؛ لأن في أُسلوب نثره جمالُ الشعر وزخرفهُ، فهو يسير منشدًا وراء عربة المنتصرين وباكيًا في موكب المنهزمين، يرفع اليوم قوس نصر للقوة المادية ويبني في الغد مذبحًا للشفقة والحنان، وبين هذه المتناقضات يصبح القارئ حائرًا تائهًا، كيف لا وهو يتوقع من المؤرخ أكثر مما يتوقعه من الشاعر. نريد أن نعرف كيف تُخفض آلام البشر وشقاؤهم، لا كيف أن نندب هذا الشقاء ونرثيه.
إن في حياة الأجيال الماضية أمثولة للأجيال الحاضرة والمقبلة، والمؤرخ الذي لا يظهر هذه الأمثولة فيلهو عنها في وصف البؤس والشقاء لا يخفض شقاءنا ولا يعلمنا شيئًا. إن في أعمالنا اليوم أُمثولة ثمينة لأبناء الغد هي الكنز الوحيد الدائم الذي يرثه عنا الخلف بواسطة التاريخ، ومن واجبات المؤرخ المحافظةُ على هذا الكنز الثمين بعد الوقوف عليه وإذا كان ضائعًا بين أنقاض الثورات والحروب أو مختفيًا في بحار الأهواء والتعصب عليه أن يفتش عنه بصبر وعناء وينيره في الناس مصباح هدى وسلام.
إن القنوط والشك واليأس والفتور كلها طبائعُ تظهر في كل صفحة من هذا التاريخ وفي أسلوب إنشائه الجميل الفخيم، وقد قلت: إن كارليل هو أشبه بالشاعر مما هو بالمؤرخ، والشاعر لا يكون أستاذًا في الاقتصاد السياسي ولا فيلسوفًا في العمران، فهو إذا قرأ سجلات الحكومة الإفرنسية ومعلومات مَن شاهدوا الثورة يثور ثائرُهُ الشعريُّ، فيحصل فيه انفجارٌ أشبه بالبركان، ويدهمنا بحمم تُحرق ولا تُنير، فتسود منها آفاقُ البصيرة وتظهر أشباح أبطال الثورة التي يصفها وهي تتهادى في الظلمة غير المتناهية، ولكن ما هي غايةُ هذه الأشباح وما هو غرضها. ولماذا أشغلت فكر كارليل فألف فيها مجلدين ضخمين أَلِأَنَّها كانت تندب وتنوح عبثًا، وتُقاتل وتحارب باطلًا، وتصيح وتنادي دون غاية ودون مرمًى؟ ماذا فعلت هذه الأشباح؟ أكلها الزمان فتلاشتْ من ذاكرة الإنسان، بَلَعَتْها الظلمات فأُمحت من لوح الحياة.
هذا جواب كارليل وزبدة فلسفته المختبئة في أكمام الفصاحة وأشواك البيان، وبناءً على ذلك لا يحق لتأليفه أن يُدْعى تاريخًا، وإنما هو ملحقٌ تصويريٌّ لتاريخ الثورة الإفرنسية، وإن فصوله لَأَشْبَهُ بصورٍ رَسَمَتْها يدٌ ماهرة، صور تُساعدنا على الدخول إلى تاريخ الثورة الجدي ولكن لا تُنبئنا به كثيرًا، فهي من هذا القبيل أشبهُ بالصور التي تُزَيَّنُ بها الروايات التاريخية، تحملنا إلى بعض ما يقصده الكاتب ولا تكشف لنا الستار عن القصة بكاملها.
والمؤرخ الدهريُّ يختلف عن الفيلسوف الدهري في أن هذا يعتقد — على الأقل — بأزلية المادة وخلودها وذاك لا يعتقد بخلود شيء. إنما حياة الأشياء والمخلوقات إلى أجل مسمًّى. بل هي خيالٌ زائلٌ يظن ذاته حقيقةً ثابتة دائمة، في مثل هذه الأقاويل يبرهن كارليل على أن الثورة الإفرنسية لا تؤثر قَطُّ في تاريخ الشعوب والعمران، ولن تؤثر حتى في أحوال أُوروبا السياسية والاجتماعية.
وفي الفصل الثاني من الكتاب الأول يرفع الستار حتى النهاية عن فلسفته الاجتماعية الدهرية، ومن يقرؤه مفكرًا تنجلي له النتائجُ التي استخلصناها منه، وهي أَنَّ تعظيم الصغائر يلذ متى كان النافخ في فقاقيعها كاتبًا عظيمًا ككارليل، ولكن الحُفُول في الصغائر يبعدنا عن الجوهر الحقيقي، وأن الفكر الروحي الداخلي زائل لا أزلي هو ولا خالد بل هو يتغير ويتحول ويتلاشى كالمادة صحيحًا كان أو فاسدًا، وأن النهضات الاجتماعية السياسية تظهر فجأة وصدفة لا بعد أن تنضج في خفايا الزمان، وأن الفلاسفة مخطئون على الإطلاق في مبادئهم الاقتصادية وفلسفتهم الاجتماعية.
وفي بقية الفصول دليلٌ واضح على كل هذا، وفي ما كتبه عن ميرابو بالأخص وعن ليلة رابع آب دليلٌ أنصعُ وأوضحُ. ومعلومٌ أن مجلس النواب ألغى في تلك الليلة الشهيرة — في ظرف ساعتين من الزمن — نصفَ شرائع الحكومة القديمة وقوانينها. وإذا أراد القارئُ أن يطلع على مثال جليٍّ طلي من تهكمه الفظ وانتقاده العنيف الشديد ليقرأ الفصول التي يصف فيها فرار الملك والمحالفة الوطنية في شأن دي مار والمشاغب التي نجمت عن قلة الحنطة واحتكارها. وكم مرة ردد في كتابه عن مجلس الأُمَّة الذي نشل فرنسا من الهوة التي كادت تبتلعها قوله إن «قد اجتمع أعضاء المجلس ليصلحوا قواعد الأفعال الشاذة.»
قد لا يحترم كارليل إلا القوة المادية وكثيرًا يكبر نزوات الإنسان وأهوائه ويمجدها، فهو لا يرى في نهضة الإفرنسيس على أرباب الظلم والظلام سوى خمسة وعشرين مليون مَعِدَةٍ فارغة وخمسة وعشرين مليونًا من الألسنة الملتهبة حماسةً الملتوية جنونًا في عالم من الفساد مضطرب مُدْلَهِمٌّ. فالخبز في مذهب كارليل هو سبب الثورة ونتيجتها هو الأول وهو الآخر، وأما المؤرخ الذي يعتقد بالصعود المتواصل بالترقِّي الدائم فهو لا شك يرى أن ليس بالخبز فقط يحيا الإنسان.
إن بين الكمالات النظرية والاختلال الحقيقي في حياتنا الاجتماعية علاقةٌ خفيةٌ، تكاد لا تنظر بالعين المجردة ولا تتجلَّى دقائق الحكمة فيها إلا لمن خصتهم الطبيعةُ بشيء من البصيرة والذكاء وبنفس صافية شفافة صحيحة، تنعكس فيها الأشياءُ انعكاسًا تامًّا جليًّا صحيحًا. ولا شك أن بين ما هو كائن في تصوراتنا وما هو حادث في حياتنا فرقًا ظاهرًا، ومع ذلك فإن هذا إلا انعكاس ضعيفٌ مختلٌّ لذاك، كأن العقل البشري اليوم أَشْبَهُ بمرآةٍ مكسرة لا تنعكس فيها الأشياءُ كما ينبغي. وألا يجوز لنا مع ذلك أن ننفخ في الحوادث روح الكمالات النفسية، فتبقى مدفونةً فيها إلى أن ينشرها الزمان فتظهر ولو بعد أُلوف من السنين بمظهرٍ من الحياة سامٍ نقي جميل؟ ألا نستطيع أن نمزج القليل مما هو كائن في تصوراتنا بما هو كائن حادثٌ في حياتنا، ألا نستطيع — بكلمة أوضح — أن نزرع فيما نقص وفسد من الأعمال بذورَ ما تعالى من الآمال، لتنبت وتنور ولو في جيل بعيد بل آتٍ من الأجيال.
هذه سؤالاتٌ يضحك منها كارليل الساخر بآمال الناس المستخفُّ بتشوقات الروح الكمالية، فهو لا يمنحنا شيئًا ولا يدعونا إلى شيء ولا يؤمِّلنا بشيء، القوة الحيوية المادية التي تظهر في عظام الرجال وأبجال التاريخ إنما هذه في مذهبه كل شيء.
أنا آكلك وآخرُ يأكلني، براﭬو! والأخيرُ من البشر فريسة مَنْ يكون؟
ولا نظن أن المؤلف حاول أن يضع تعليمًا جديدًا في الثورة الإفرنسية، فالمؤرخون — كما سبق القول — ينصرون الثورة أو يقاومونها، أما كارليل فشاء أن ينصرها ويقاومها معًا. ولكن هي التخمة وعرض بل مرض آخرُ ولدا فيه السويداء فأُصيب بالفتور والشك وأصبح لا معها ولا عليها، ولا نظنه — ولو شاء — يستطيع أن يؤسس حزبًا ثالثًا غير متحيز؛ لأنه في كل ما كتبه عن الثورة لم يُبد قط رأيًا وضعيًّا ثابتًا يتخذه الحزب دستورًا لأعماله بل كان كريشة في مهب الريح طوع تأثيراته وأسير وساوسه.
هل الملكية لازمة نافعة للناس، كلا، إنها مبنية على أساس فاسد، هل الجمهورية أصلحُ منها، كلا، فهي قد نشأت من الظلمة وشِيدَتْ على جُثث الملايين من العباد، إلينا إذًا بالفوضى، هذي هي نتيجة فلسفة غير المتحيزين من المؤرخين.
وقد علمنا التاريخُ حقيقة نود لو لم تكن، وهي أن من أراد تأسيس حزب أو وضع تعليم أو إنشاء ديانة؛ ينبغي له أن ينظر إلى وجه واحد من المسألة فقط، إذا شاء أن يكون صريحًا في رأيه حازمًا في قوله ثابتًا في عقيدته، وبكلمة أُخرى: إذا شاء أن يكون مؤسسًا لحزب أو تعليم أو دِينٍ ما عليه أن يكون متحزبًّا متعصبًا مأخوذًا بدعوته مهما كانت. عليه أن يكون أعمًى أصمَّ في ما سوى ذلك؛ فالنفي والشك والتردد وعدم الاكتراث والفتور هذه لا تؤسس ممالكَ وأحزابًا وديانات، وهذه كلها من مزايا كارليل المشهورة، فقد أحب ألا يكون متعصبًا لا مع الثورة ولا لها فجاءنا بِتَعَصُّبٍ جديد خصوصي لا يضر بالحقيقة الجوهرية ولا ينفعها، وقد تلذ لمن تتوق نفسه إلى الجديد من الأشياء والآراء، وبما أنه توسع في الصغائر والتوافه التي تتعلق في الثورة ولَذَّ له سردها بل نظمها في نثره الفخيم؛ فهو أشبه بنور تضعضعت أشعته المرسلة في كل الجهات ولم تتعداها إلى ما وراءها من الجوهريات.
وإنه لو صوَّب نور مصباحه إلى غرض واحد في جهة واحدة لأرانا في الزوايا شيئًا من الحقيقة الثابتة الدائمة. لو فعل ذلك لفاز في وضع تعليم جديد أو تأسيس حزب ثالث ينظر في شئون الثورة نظر الغريب عن هذه الأرض ويقيس منافعها وأضرارها بغير مقاييس هذا العالم.
أما التنديد برجال الثورة، والاستياء من النهضة بجملتها، والنفور من هولها والفرار من نارها المحرقة المنيرة؛ فهذه ذنوبٌ لا تُغتفر للمؤرخ إذا اقترفها، فالطفل يولد في الألم والعذاب والجمهورياتُ تنشأ في الثورات والحروب. الأُمُّ تتألم ساعة الولادة وكذلك الأُمَّة، يموت الإنسان والعذاب مُلازِمُه، ويولد الطفل والألم حليفُهُ، وكذلك الحكومات بأنواعها والأُمَم. فلا تموت حكومةٌ بسلام ولا تنشأ حكومة بسلام.
ولا بأس في الختام من قصة صغيرة أُوردها، فقد ذكرتني بها مطالعةُ هذا الكتاب الذي أود أن يُطالعه كل من يحسن اللغة الإنكليزية من قُرَّائي، ورب قائل: ولِمَ تدعونا إلى مطالعته بعد أن تحققت فسادَه وبان ذلك الضرر الذي ينجم عن اقتباس الأفكار التي جاءت فيه؟ أريد أن يقرأه كل من كلف نفسه قراءة هذا البحث؛ ليستطيع أن يقابل بين الاثنين، لا أُريد أن يرتأي أحدٌ رأيي دون أن يشغل قليلًا فكره. لنعد الآن إلى القصة.
أراد أحدُ الملوك الأقدمين المولَعين بالعلم أن يطلع على تاريخ الأُمَم فطلب أحد وزرائه وأمره بتأليف — أو جمع — تاريخ عام، فذهب الوزير وغاب سنين، ثم عاد إلى الملك ومعه عدد من الجِمال محملة كتبًا، فوقف أمام ملكه وقال: «ها هو التاريخ الذي تطلبه» ولكن الملك وقد هالتْه أحمالُ الجمال أمر الوزير أن يختصر التاريخ، فغاب هذا ثانيةً وعاد بعد سنين ومعه جمل واحدٌ فقط يحمل التاريخ المختصَر.
أما الملك فكان قد ضعف بصره ووهنت قواه فأمر الوزير أن يختصره أيضًا، فغاب الوزير للمرة الثالثة وعاد فرأى مليكه يتقلب على فراش الموت فلما رآه الملك قال: «آهٍ، ثم أَوَّاه سأموت قبل أن أطلع على تاريخ الأُمَم» فأجابه الوزير — معزيًّا: «لا تقل ذلك يا مولاي فقد أحضرت لك مجموعةً صغيرة تُنْبئك عن كل أعمالهم باختصار غريب، وها هي» ثم أخرج الوزير من جيبه ورقة صغيرة وقرأ بصوت مرتفع: «إليك يا ملك الزمان بتاريخ شعوب الأرض مختصرًا: فإنهم تنفسوا فتنافسوا فعرقوا فماتوا.»
وتاريخ كارليل المقسوم إلى عشرين كتابًا وكل كتاب مقسوم إلى فصول لم يُفِدْنا عن الثورة الإفرنسية أكثر مما أفاد الوزيرُ مليكه عن تاريخ شعوب الأرض، فالأربع كلمات التي تؤلف تاريخ الوزير تكفي لتأليف مثل هذا التاريخ دون أن يفوتنا منه شيء كثير. ولو شاء كارليل أن يختصر لقال مع الوزير عن الإفرنسيس: «قد تنفسوا فتنافسوا فعرقوا فماتوا» ولكن في الأُمَّة الإفرنسية ما لا يموت، في الأُمَّة الإفرنسية من نتائج الثورة العظيمة ما تبقى آثارُه بادية حية نامية في ترقي الأُمَم والناس.