ركبتُ في الأمصار البعيدة هواي وأرحته من عنانه
غرست في بساتين الغرباء حبي فنَوَّر قبل أوانه
غرستُه في أرض سمراء جديدة فناحت عليه زهور زمانه
طرحت بذور حبي جزافًا ذات اليمين وذات الشمال
طرحتها في سهول الحرية فأحرقها قيظُ الفوضى وداستْها أرجلٌ همجية
طرحتها في أنجاد العلم فأيبس ما نبت منها الصرُّ وحملت رياح النزاع
البقية إلى حيث لا أدري
طرحتها على شواطئ نهر الفلسفة الراكد فذوت في ظلاله الظليلة — ماتت لأنها
لم تَرَ نور الشمس
غرست حبي في غياض الحضارة الغيضاء، فأدمته الأشواك، خنقه العلَّيق، قتلته
الجذور السامة
غرسته في أرض الأحباء والخلان فمات بالاستسقاء من مستنقعات الكذب
والرياء
غرسته في حقول التجارة، تجاه طواحين التمدن، بين بيت الصرَّاف وبيت
الكاهن، فتواطأ الاثنان عليه ومدَّا في قلبه البلاط رصيفًا للصوص
لأولئك اللصوص الذين يؤاكلون ويشاربون القضاة
ذهبت بحبي إلى الفقراء والبؤساء فغرسته في أرضهم الجدباء فلم ينبت
غرسته قدام بيت أُمِّ الحي فاقتلعتْه ورَمَتْهُ بوجهي وهي تقول: اذهب في
طريقك، جاءنا قبلك مغرون فقتلوا، صلبوا، حرقوا، نطلب إنصافًا وعدلًا لا
تعزيةً ورحمةً
جزتُ حي البُؤَساء إلى مغاورِ اللصوص والأشقياء، إلى المنبوذين
والممقوتين
ذهبت فغرست بينهم غصنًا نضيرًا من حبي فعاش قليلًا نحيلًا ومات قبل أن
يبلغ أشده
في ظلمات قنوط المنبوذين قضى نحبه، دخانُ تجديف الجاحدين أعماه، خنقتْه
روائحُ بذاءة اللصوص والقتلة فكَفَّنَه الفاجر بلعنته وجلقت الفاجرة فاها
فوق جثته
هجرت المدن وهذه المدنية وركبت البحار
نثرت على المياه حبي كما تنثر شمس تموز ألماسها ولآليها
نثرته صباحًا فتلونت الأمواج من شهواته، نثرته مساءً فتوهجت من نيرانه
الآفاق
كلم حبي السحاب فأجابه، فدعا البحر فلَبَّاه
لمس حبي الآفاق بأنامله فارتعدت وتموجت مبتهجة متوهجة
•••
في صبح يوم من أيام الربيع بعثتُ حبي رائدًا في صحراء جديدة، فمضى ولم
يعد إليَّ
ناديته من قِمَم لبنان فلم يُجبني
فتَّشت عليه في الآفاق وورائها في مشرق الشمس ومغربها فلم أَجِدْهُ، تركت
حبي يهيم ثانيةً على وجهه
فركب هواه مرة أُخرى وتركني أتحسر وأتأسف عليه، آه عليَّ أواه
عليه
•••
في وطني في أرض أجدادي في التربة التي ذاقت قديمًا حلاوةَ ضربةِ معولِ
رجلٍ قوي، غرست غصن ورد طري
غرسته والآمال تدفعني والعزم يعقد شفتي
غرسته في مكان عزيز جعلته في حرز حريز بعيد عن الحضارة والناس
لا فرق عندي الآن إن صُمَّت مسامعهم وإن فُتحت
لا يهمني إن استحجرتْ قلوبُهُم واستحالت طينًا أو ذابتْ ماءً
معينًا
أنتِ أيتها الأرض أُمِّي وسأفرحُ يوم تضمني إلى قلبك كما تضمين الغصنَ
الذي أنا الآن غارسه
أنتِ أيتها الأرضُ حية أبدًا، أبدًا تحبلين وأبدًا تلدين
مهما كان ظاهرك فالشعور فيك لا يموت، النار في قلبك لا تخبو
الخريف يزيل الوقر من أذنك والشتاء يُلين قلبك والربيع يحرك لسانك والصيف
يريك ثمرة أحشائك
ومن أفصح منك في الربيع وأكرم منك في الصيف
من أعظم تهيجًا وعطوفًا منك في الشتاء، من أشد سمعًا في الخريف
من أرحم منك أيتها الأرض، من ألطف وأشفق وأحلم
تقبلين منا الأقذار وتعطينا عوضها الأزهار
تستنشقين نتانة أمراضنا وروائحها وتعيديها إلينا شذاءً طيبًا
تسكب لك السماء كأسًا من الماء الزلال فيعكره الإنسان فتفيضين عليه
مكافأة خيراتك ومراحمك
أرض أجدادي افتحي الآن لي قلبك
لا تجهميني، لا تعبثي برجائي وعملي، لا تحبسي حبي عني دهرًا
أيتها الأرض التي نقبها أبي وصلَّت تحت أشجارها أُمِّي لا تُودِعي آمالي
الصخور، لا تحمليها إلى قمم الجبال فتموت هناك من الثلوج وشدَّة
الرياح
•••
على كتف هذا الوادي الذي ردد صدى صراخي وغنائي صغيرًا، في هذه الأرض التي
هجرتها قبل أن هجرتني الصبوة؛ غرست غصن ورد طري
كلمت الأرض بيدي لا بلساني، حصَّبتها ونقبتها بمعولي الصغير
طعمتها من ذاك الأسود الذي تفرزه المواشي ومن ذاك الأصفر الذي يكاد يشتعل
في الصحراء من قبلة الشمس، ويكاد يذوب على السواحل من قبلة الأمواج
سقيت غصني من ماء الفؤاد، وحجبتُ عنه النور في أيامه الأولى
رفعتُ فوقه سرادق ودِّي وهيامي، ونثرت حوله في الشتاء أوراق الخريف
البالية
ولبثت — إذ ذاك — أنتظر جواب الأرض وحكمها
كم مرة زرت غصني وهززته مستخبرًا فلم تبد عليه لا إشارة الموت ولا علامة
الحياة
كم مرة افتقدتُه وقلَّبْتُ فيه الطرف مستقصيًا أخباره
كم مرة وقفتُ أمامه والفؤاد يتموَّج بين اليأس والرجاء
تباركت أرض أجدادي فقد حسن في عينها اجتهادي
تباركت أرض أمي فستريني الورد على غصن تعبي وهمي
نعم الأرض كلمتني، أجابت الأرض سؤلي، رَدَّدَت الأرض صدى حبي، ها إن غصن
الورد ينطق كالطفل
بدت على شفتيه لفظة الحياة وأثمرتْ في قلبه الكلمةُ الحية التي تساقطت
عرقًا من أناملي ومن جبيني
في فمه لؤلؤةٌ ملفوفة بلفافة ذهبية، وفي صباح الغد تستحيل لفافة لازوردية
وتبدو اللؤلؤة زمردة نحيفة ندية
وبعد غدٍ أو بعده ينشأ من الزمردة صدفةٌ خضراءُ في قلبها بُحُورٌ من
الورد لا تُرى وأجيالٌ من الحياة لا تُعدُّ
في قلبها أوراقٌ خضلة صغيرة ملتفة حول عرق نحيف طري، لا يعرف بعدُ اسم
الشوك ولا معناه
في قلبها أغصانٌ وفي قلب الأغصان ورد وفي قلب الورد بذور وفي البذور
الأبديةُ والخلود
•••
كلمتني أرض أجدادي، أحيت فيَّ الرجاء ضَمَّتْ إلى صدرها طفل حبي وأنعشتْه
بعد أن كاد يموت
نفخت فيه من رُوحها الأزليِّ فتحرك لسانه
هو ينطق بما تُلقيه إليه من آيات الحب والجمال والحكمة والرجاء
أين فصاحتي من فصاحتها
الأرض لا تنطق إلا لتحيي، لا تتكلم إلا لتزهر وتثمر
ما قالت «لا» بزمانها قط، فإن كان جوابها إيجابا «فنعم» وإن سلبًا
فسكوتًا أبديًّا
كل آياتها جميلة كل أقوالها منعشة مُحْيِيَة
وليتها تعلم بنيها القول المثمر المنعش الجميل
أو ليتها تعلم بنيها السكوت
•••
كأني بالأرض تقول: ليكن عندك ذرة من الإيمان فيَّ وأعطني ساعة من العمل،
فأعطيك عوضها مائة بل ألف ضعف من الحب والرجاء، من السرورة واللذة من العزم
والنشاط، من الحياة البسيطة النقية التي لا سعادة للإنسان إلا بها
•••
كل جرثومة على غصن الورد الذي غرسته هي لفظة من ألفاظ الأرض العذبة، هي
رسالة حب من الأُمِّ لبنيها
كل برعم من هذه البراعم هو عقدةٌ من عُقَدِ الكون، هو سر من أسرار
الحياة
في أَيِّ عصر وُلدتِ أيتها الوردة، أي أرض شاهدتْ أولَ زهرة من أزهارك
واستنشقت أول نفحة من أريجك
مَنْ زرع بذرتك الأولى، من غرس أول فرع من فروعك
أول غصن من أغصانك الأصلية الأولى؛ مَنْ نقله من الحقل إلى البستان، من
الوادي إلى حديقة الإنسان
أيتها الوردة البرية بل الوردة السريَّة من أي دغل نشأت وفي أي سلم من
النبات الشوكية رقيت
لا تتكلم الأرض إلا ألغازًا، الأرض لا تأتمن بنيها على أسرارها
احترزْ من شرك العلة الأولى، لا تبحث في أُصول الأشياء
مَتِّعْ نظرك ونفسك فيما تراه وتسمعه وإن شئت الدخولَ إلى هيكل سِرِّ
الأسرار فتَجَرَّدْ عن الجسد قبل أن تطأ أسكفة الباب
•••
إني لَأَجِدُ لَذَّةً شهيةً غريبة في مُشاهدة هذه البراعيم الجديدة، وفي
مراقبة نشوئها ونُمُوِّها
عددتهم — واللهِ — مرارًا كما تعد الأم أسنان طفلها
افتقدتُهم مرارًا كما تفتقد الطيور عشوشها
تلهفت — وأي تلهف — على برعم واحد نثرتْه الرياح منها
ولكن زمن السرور قصير، تكاد زبدة الأشياء تذوب قبل أن تجمد
•••
أَوَّاه، صرت أخشى الاقتراب من وردتي فقد أثَّت فروعها والتفت أغصانها
وقسيت أشواكها
أَوَّاه، صرتُ أنظر إليها بغير العين التي شاهدتْ نُشوءَ براعيمها ونمو
فروعها
لهفي على وردة الحياة، تريني ألف شوكة قبل أن تفيح بنفحة واحدة من
شذاها
تجرحني مائة مرة قبل أن تُعطيني زرًا واحدًا من أزرارها