الأشجار الناطقة
في أحراج كاليفرنيا من ولايات أميركا المتحدة أشجار تفوق أرز لبنان قدمًا وكبرًا، وقد حفرت في جذوعها طرق كأنها أنفاق تمر فيها العربات، هذا دليل واحد على ضخامتها المدهشة، والدليل على قدمها ظاهر في بقايا الجذوع المتحجرة في تلك الأحراج. ولكن أشجار كاليفرنيا وهي من عجائب الدنيا إنما هي جماد هائل لا سر فيها ولا معنى لها، هي عظيمة ولكنها صماء بكماء، هي قديمة ولكنها عقيمة لا قصة لها ولا تاريخ، لم يعش في ظلها نبي، ولا تغزل بها شاعر، كانت تظلل البربري ووحش الغاب، وما عند مثل هؤلاء شيء من الفكر والشعور ليزرعه حولها، إن عظمة تلك الأشجار مادية محض وشهرتها لا تتجاوز بلادها وعلم العلماء والسياح.
أما شجر الأرز وغيره من الأشجار المقدسة كالبو عند الهنود والسدر عند المسلمين ففيها غير الظاهر من الضخامة والعظمة فيها غير المادة، إن للأرزة صوتًا لا يتلاشى وإن صارت هي إلى الفناء، الأرز من الأشجار الناطقة بسرٍّ من أسرار التاريخ بل من أسرار النفس البشرية.
فما السر يا ترى في القداسة التي تنمو في هذه الأشجار فتزيد قدمها جلالًا وعظمتها جمالًا؟ أعبثًا يمزج الإنسان شيئًا من نفسه وآماله بشيء من التراب والشمس والماء والهواء؟
إن كان كذلك فما هو إذًا ذاك الخيال الذي يسمعني في حفيف غصون الأرز صوت مليك أورشليم وبنيها؟ ما هو الاتصال السري بين روح الأشجار وروح الشعراء والأتقياء من الناس؟ لا أتعمد الغموض في ما أقول، ولكنه يخيل لي أن بذرة من بذور الإيمان ونقطة من ينبوع الحب تقعان من يد الإنسان وقلبه عند أصول شجرة يقدسها فتختلطان وإياها، فتنموان في غصونها، وتنوران في زهرها، وتثمران في ثمارها، وتتصاعدان بخورًا في صحفها، وأحيانًا تحرض في قطرها وتسوس في لبها.
الحب خالد، وللأشجار التي يخصها الأنبياء والشعراء بحبهم روحٌ سامية خالدة، وإن أرز لبنان لَمِنْ هاته الأشجار الحية الخالدة الناطقة بسر من أسرار الطبيعة والحياة، إن فيها شيئًا إلهيًّا وأشياء بشرية روحية.