الشعر والشعراء
الشعراء اثنان شاعر قومه وزمانه، وشاعر العالم وكل زمان، الأول يندر في شعره ما يبقى شعرًا إذا تُرجم إلى لغة أجنبية، والثاني عكس الأول. وقد يجيء في شعر هذا ما هو من طبقة شاعر قومه وزمانه، وقد تعلو صناعته على قريحته في حالات للنفس يغلب فيها المكتسب على الفطري، وقد يكون الشاعر الأول بعيد الإشارة علوًّا لا اتساعًا فينظر إلى الأشياء والأكوان من ذروةٍ سماؤها صافية ولكن أفقها محدود صغير، كثير المضايق والسدود، فيرى أصول الأشياء ورءوسها ولا يرى ما تشعب وامتد من أطرافها. وشعراء العرب ما عدا الفارض والمعري من هذه الطبقة؛ لأن في شعرهم تغلب الصناعة الشاعرية الحقيقية، فيجيء ما ينظمونه شعرًا عربيًّا فقط لا شعرًا على الإطلاق.
أما الفارض وأبو العلاء فيكادان يعلوان على هذا، كلٌّ في طريقته، وما تقيدت النفس فيهما بظاهر الأشياء الزائل، أي: بتقاليد القوم وروح الزمان، وقد يُستغرب ذكري هذين الشاعرين كأنهما صنوان وقد اختلفا طريقة ومذهبًا، على أنها متشابهان عند من دقق النظر في شعرهما وحياتهما تشابهًا جوهريًّا جديرًا بالاعتبار.
ففي شعر الاثنين ما لا يختص بأُمَّة واحدة من الأُمَم أو بزمن من الأزمنة، بل هو جامع شامل، سماؤه بشرية لا عربية، وزمانه لا هجري ولا مسيحي، وفي حياة الشاعرين حيرة وورع يتناوبهما الشك واليقين فيعلو العقل في «رهين المحبسين» على النفس وتعلو النفس في شاعر السالكين على كل معقول ومحسوس، ويجوز لنا أن نقول إن أبا العلاء من المتصوفين في بعض حالاته كما أن الفارض في بعض أطواره من الماديين، شعر أبي العلاء كالموشور صافٍ، ولكنه بارد، تنعكس فيه حقيقة الحياة فتتلون، فتحرق، فتنير ما يعالجه من المواضيع، وشعر الفارض قبس من النفس نرى في لهيبه أشكال أزهار من الحب جميلة وطيور ألفاظ تغرد حول عرش الأسرار.
وحقًّا ما يقال إن الشعر من الشعور، ومن الشعور ما رَقَّ فسال، ودق فغمض، واشتد فاضطرم فأحرق فأنار، ومن الشعور ما هو مكتسبٌ ومنه ما هو فطري، فيغلب في الأول التصنع وفي الثاني الهوى أو الهوس. وقد قال أحد الفلاسفة: إن أول الهوس الشعر وأحسن الشعر ما كان عن هوس وغرام، وعندي لا ينبغي أن يكون الشاعر، شاعر النفس، عاقلًا أو فيلسوفًا، فالهوس أو الهوى أو النزعات الشديدة إنما هي صوت النفس وتنهداتها فتشجي تارةً وتطرب طورًا، وطورًا تزعج وتكرب، وفي كل حال أن نزعات النفس لهي ماء الشعر وغذاؤه وخمره.
وكل شعرٍ بدونها خاسئ بارد مشحوب اللون عليل، وفي هذه النزعات الشديدة لا يخضع الشاعر لشيء من أشياء العقل العادية السطحية فتظهر في كل أقواله ونغماته في مظهر طيه الدعوى التي يظنها الشاعر من لوازم الصناعة، ومن واجبات النبوغ، وقد تشتد هذه النزعة في بعضهم حتى تصبح نوعًا من الجنون وتتشابه باطنًا في من اختلفوا ظاهرًا أو شكلًا، فهوس الفارض بالأسرار — يتغزل بغوامضها — مثل هوس أبي العلاء بالعقليات وتغزله بالفناء والاضمحلال، ومثل ورع أبي العتاهية حتى أصبح الورع في شعره نوعًا من الخبل، ولكن المبالغة طبيعة في الشاعر؛ لأن شعوره مجموع شعور الناس، وإن جاز لنا أن نشبه المجتمع الإنساني بجسم بشري يصح أن نشبه الشاعر بالجهاز العصبي لهذا الجسم المعنوي الحي، وأكثر الشعراء من هذه الطبقة، أي: أنهم شعراء قومهم وزمانهم.
أما الشاعر الكبير شاعر العالم وكل زمان فهو قلب العالم وعقله، فمن رقت شعوره هام — كما يقال — على وجهه أو بالحري عام على وجه الأشياء فيتلهى بلطف أشكالها الظاهرة، ومن اشتدت شعوره غاص في قعر البحار فجاءنا بشيء من لؤلؤها ومرجانها. ومن دقت شعوره غمضت معانيه فشق في الظلمات حتى ينتهي عند أنوار هي من النفس والفكر بمكان. لكل حقيقة شعاع أسود خفي، والشاعر الصميم من تَمَشَّى في ظلال الحقيقة فتتبع أشعتها حتى النهاية فيكتشف حقائق أُخرى هي من حقائق الحياة كالنور من الشمس، ولا أظن أن هذه المزايا كلها اجتمعت لشاعر واحد من شعراء العرب.
قَلَّ ما رق من الشعور للمتنبي وندر ما دَقَّ، أجل، قد يتعمد أبو الطيب الغموض فيجيئنا بألغاز باردة، وفي شعر أبي العلاء لا نسمع للقلب صوتًا إلا ما كان تكلُّفًا واجتهادًا. وشعر الفارض غابةٌ مدلهمة فيها عرائسُ حاملات شموعًا ضئيلة تركض أمامنا لتهدينا إلى جنات النعيم، ولكن الشموع تنطفئ في وسط الغاب والعرائس ينشدن ويختفين في الظلمات، وهذا أجمل ما جاء في الشعر من وصف أسرار الحب وألوهية الأسرار. أما هذه المزايا الثلاث التي تقاسمها ثلاثةٌ من شعرائنا فتجتمع كلها لشاعر اليونان هوميروس ولشاعر الإنكليز شكسبير.