الموسيقى الإفرنجية والعربية
لا أقصد في هذا المقال الوجيز أن أُعالج الموضوع فنًّا وتاريخًا وعلمًا، ولا أن أنقد الموسيقى الإفرنجية في مظاهرها الشرقية، أو الموسيقى الشرقية في مظاهرها الغربية، ولا أظنني لو قصدت أهلًا لذلك؛ إذ لست من أرباب هذا الفن ولا ممن يدعون إدراك دقيق أسراره، إنما هي خواطرُ خطرت لي يوم سمعت الفتى السوري أنيس فليحان يوقع على البيانو شيئًا من نظم الأساتذة الكبار وشيئًا من نظمه أيضًا.
الموسيقى عند الإفرنج لغة من لغات الفنون يستطيع العالم بها، المدرك أسرارها، أن يفصح عما يخالج المرء ويسوده من شوق وحماسة وحنين وخيال، فينظم أهواء النفس أنغامًا ويصف العواطف إنشادًا، ويقص القصص ألحانًا، ويلبس مظاهر الوجود وحقائق الحياة ثوبًا يحوكه من خيوط ذهبية وفضية على آلات تعددت أسماؤها وتنوعت أشكالها، فالموسيقى عند الإفرنج إذن هي لغة النفس والروح والعقل معًا.
أما عند الشرقيين، فهي — في الإجمال — لغة القلب والعواطف، هي فن عند الغربيين أساسه العلم، وهي فن عند الشرقيين أساسه الفطرة والبداهة، وكما أن آلات الطرب عندهم عديدة متنوعة تمكن الناظم من معالجة كل مواضيع الحياة، فهي عندنا محدودة النوع والشكل، وتكاد تنحصر في ما يصح منها لبث العواطف فقط.
وبكلمة أوضح: إن موسيقى الإفرنج لغة فخيمة الألفاظ، دقيقة التركيب، كثيرة الأوضاع والأصول، وموسيقى الشرقيين لغة بسيطة قواعدها تنحصر في بضعة أصول وأوزان؛ لذلك لا يفهم الأولى ويطرب لها إلا من كان ذا إلمام بقواعدها وأصولها، أما الثانية فيكاد يفهمها جميع الناس؛ لأنها لغة العواطف على الإطلاق، فهي تدخل القلوب دون استئذان — كما يُقال — وتَملك العقول فتعبث بالمعقول، وتُطرب العامة والخاصة على السواء.
كيف لا والناظم الشرقي مطلق التصرف يركن إلى الفطرة، ويسترسل إلى البداهة، فينظم ما تمليه عليه العواطف عند هياجها، وما توحيه إليه القريحة ساعة السرور، ولا غرو إذا ارتجل الأنغام ارتجالًا، فيوقع دررًا على العود مثلًا ثلاث مرات وفي كل مرة يسمعك شيئًا جديدًا مبتكرًا.
أما أساتذة هذا الفن في أُوروبا فهم مقيدون بأصول وتقاليدَ تكاد تكون مقدسة عندهم، وهي إذا أفادت الفن وضعًا وعلمًا تؤثر — ولا شك — في قوى التوليد وتقيد البداهة فيهم، فتجيء ألحانهم وفيها غالبًا من النظم أكثر ما فيها من الموسيقى، ولو لم تكن أدوات التعبير عندهم عديدة لجاءت ألحانهم باردة وفي الأحايين بليدة، ليس في نظر الشرقيين فقط بل في نظر الغربيين أيضًا.
النبوغ وحده لا يكفي إذا قصرت عن إظهاره اللغة، أو بالحري آلات الطرب، خذ لحنًا من ألحان (بيثوفن) مثلًا أو (لست) فترى الناظم فيها وآلات الطرب التي يستخدمها لا تقل عن الخمسين عدًّا، كثير الألسنة والأصوات، كثير القوافي والأوزان، بل تراه شاعرًا تارةً وطورًا فارسًا، فيقص عليك قصة تتلوها قصيدة، أو ينظم نشيدًا تتلوه معارك الحرب، أو يصعد بك في عالم النفس فتراه شاعرًا وفارسًا وروائيًّا وفيلسوفًا معًا، يمزج زئير الأسد وهو خائض بحر الأنغام بعندلة العندليب، وصوت الطبل بنفير البوق، وحنين الناي بزفير الكمنجا، ونقرات الدف بترنيم القانون. يمزج بعضها ببعض كما يمزج الرسام الألوان، ينظم ألفاظها كما ينظم الشاعر القوافي، فلكل آلة عنده لغة يعبر بها عن أحلام النفس أو تشويقات القلب، أو هواجس الروح أو حقائق الوجود، فيجيء بها صورًا رائعة فتانة، تراها بالأذن على حد قول الفارض لا بالعين «والأذن تعشق قبل العين أحيانًا.»
وقلَّ من الشرقيين — وحتى الغربيين — من يفهم مغزى ألحان كبار الناظمين ﮐ «شوبن» و«لست» و«واغنر» و«بيثوفن» وذلك لأن عامة الناس لا يحسنون لغة الروح والخيال، ولا يدركون غالبًا في مقاصد الناظم غير واحد منها، وهو أنه يستخدم كل آلة من آلات الطرب لما تحسن تقليده من أصوات الطبيعة دون سواه.
وعندي أن ألحان هؤلاء النوابغ لشبيهةٌ بقصائد المتصوفين من الشعراء كالفارض مثلًا وجلال الدين الرومي، ففيها — ولا شك — أسرارٌ إلهية، وفيها حقائق سامية بهية، ورغم أنها تدون على الورق فيستطيع قراءتها أصحاب الفن، فقليلون من يحسنون فهمها وتلاوتها، أو بالحري تفسير غوامضها بواسطة البيانو.
لذلك نرى بونًا شاسعًا بين أستاذ يجلس إلى هذه الآلة الفخيمة وأستاذ يجالسها — إذا صح التعبير — فيعطيها من نفسه وتعطيه. كما أننا نرى فرقًا عظيمًا بين شاعر يتلو قصيدة من قصائد المتنبي أو الفارض وتلميذ يلوكها ويلحن بها، وإذا استزدتني في التفضيل والمقارنة أقول: ما كل من يحسن القراءة يحسن تلاوة الشعر، ولا كل من يحسن تلاوة الشعر يجيد في إنشاد آيات القرآن. ولَعمري إن ألحان كبار الأساتذة في فن الموسيقى لَكَمثل آيات الكتاب بلاغةً وبيانًا.
هذه بعض ما دار في خلدي يوم سمعت في «أيوليان هول» فتًى سوريا ظهر لأول مرة أمام الأميركيين يوقع على البيانو شيئًا من أناشيد «شومان» و«بيثوفن» و«لست» وشيئًا مما نظمه هو من الألحان العربية، فإذا قلت إن أليس فليحان يحسن الضرب على البيانو فكأني قلت إنه يحسن القراءة، وإذا قلت إنه أستاذ في فن الموسيقى فكأني قلت إنه يحسن دون لحن تلاوة الشعر، ولكنه في ما وهب فوق ذلك.
فهو يتفنن بالقراءة والتفسير كما يتفنن الشاعر بالنظم، وكما يتفنن الرسام بمزج الألوان، بداهته شرقية، وأصوله غربية، وأسلوبه يجمع بين محاسن الاثنتين، فهو لين الأنامل طيِّعها شديد الشعور لطيفه، في سكناته بلاغة، وفي حركاته سحر البيان، تسيق نفسه تارة يده فيطرب في وقفاته، كما يطرب في كراته، وطورًا تسبق أنامله نفسه فتلاعب البيانو، كما تلاعب العاصفة أمواج البحر، فيكاد السامع يضيع حيرةً، ثم تدغدغها فيطرق دهشًا، ثم ترقصها فيهتز طربًا.
على أنني أحسست أحيانًا وهو يوقع الألحان الإفرنجية أنني لا أستطيع أن أتتبعه وألحن غوامض فنه، ولا عجب، فإن أنشودة من أناشيد «بيثوفن» لكمثل قصيدة من قصائد الفارض، عذبة الألفاظ، غامضة المعنى، لذيذة الأنغام، شريدة الأفهام، وحسبُ المرء أن يقف عند شاطئ البحر فيسمع هدير أمواجه وما يتخللها من حفيف أجنحة النسور، وخفيف غطات الطيور.
ولكن الفتى فليحان طار بنا على أجنحة الخيال إلى عالم العواطف والحنين — إلى بلاد العود والدف والقانون — في ما أَسْمَعَناه من بديع نظمه وعجيب ألحانه، أجل، إن في ألحانه العربية المعنى الإفرنجية المبنى قد هَزَّ فينا أوتارًا لم يلمسها شيءٌ من بدائع أساتذة الإفرنج، وبرهن لنا ولمن سمعه من جهابذة الفن من الأميركيين أنه أُستاذ ماهر وشاعر صميم، جمع بين الأُصول الإفرنجية والبداهة الشرقية، ما لم يستطعه في هذا الزمان عند الإفرنج غير الإفرنسي «ده بوسي».
ولا عجب إذا برز هذا الشاب السوري في المستقبل على «ده بوسي» في ما ينظمه من الألحان الشرقية أو الغربية، ففي «التقسيم» نظمه وفي «المناجاة» وفي «رقص الدراويش» استنطق البيانو بلسان العود والدف والناي والقانون، بل أنطقها وهي آلة إفرنجية بألسنة الدراويش العربية، فكدنا وهو يرقصهم نرقص طربًا ونسمعهم يصيحون «الله هو الله هو»! حتى الإغماء، وبينما هو يسمعنا «التقسيم» أغمضت عيني فخلت أن شكري السودا يلاعب بريشته الساحرة أوتارَ العود، وهذا لعمري عين الإبداع في الفن، بل هو برهان قاطع عندي أن في صدر هذا الفتى السوري شيئًا من نار الآلهة وأشياء من نور النبوغ. ونصيحتي له وقد ملك الآن ناصية الفن وأتقن أُصوله وأوضاعه أن يقلل من ترداده إلى الموارد الإفرنجية ويُكثر من نظم الألحان الشرقية، فهو ابن بجدتها، والغربيون مثلنا يطربون لها طربًا شديدًا.