الكنيسة والجامع١
لم أر بين سائر أماكن العبادة التي أعرفها — وقد حملت نفسي المنسحقة وركبتيَّ التَّعِبَتَين إلى هياكل عديدة — أفضل من الجامع، وما أدراك ما الجامع؟ هو المكان الذي يؤثر علي بديموقراطيته أكثر من سواه لما فيه من شواعرها المتنوعة، فليس في الجامع ما يداهن الأغنياء، أو يكسر قلب الفقراء، أو يغفل الورعين، أو يرد ثقيلي الأحمال خائبين.
وليست بشاشة الجامع بمقاعده المزدوجة، وليست رغبة الناس فيه لصدقاته، والخدمة يوم الجمعة تكاد تنحصر بخطبة مصدرها القرآن فهي إذن لحن من البلاغة تعشقه الأسماع فيُحدث في القلوب خشوعًا وفي الأفكار نزوعًا إلى العلاء.
الجامع كبير يسع الخطباء وحتى النُّوَّام من المصلين، ويبقى بين الاثنين فراغٌ لا يضر، فالمنبر لا يكون دائمًا قريبًا من الزوايا الساحرة التي تظلل المسلمين ونفوسهم فيفسدها عليهم. وهم على اختلاف طبقاتهم يجتمعون للصلاة وللراحة تحت سقف واحد، فتجد بينهم درويشًا يتمتم الكلام، وشحاذًا أعمًى، وحمالًا منهوك القوى، وأعرابيًّا عليه غبار البادية، وكلهم يؤمون الجامع ضارعين خاشعين، طالبين راحة بعد عناء باغين غفوة في الأصيل قصيرة، فينام هذا أمام المحراب، ويتمدد ذاك على الرخام البارد تحت الأروقة، بين يكون الشيخ أو الأمير راكعًا على سجادة عجمية ثمينة، قائمًا بصلاته.
وهو ذا درويش يتمتم قائلًا: بسم الله الرحمن الرحيم، ويعدد خرزات سبحته حتى تبلغ النفس منه درجة الغيبوبة، هو ذا فقير يتثاءب ثم يهتف: يا الله يا كريم، ويخر مكبًّا على وجهه، وهناك بدوي ممدد تحت الرواق كأنه جثة هامدة، وليس من ملحد أو جاهل أو طفيلي يزعج المصلين أو يعكر راحة المستسلمين.
الجامع ميناء يرتاح إليه الشحاذ والأمير، وهيكل يضم المؤمنين، وناد يَقبل أولاد الله على السواء، هو حيث يعثر المنبوذ على حجر يسند إليه رأسه، فتكتنفه رهبةُ القبة الواسعة التي تعلوه ولا ما يحرك السكينة في ذلك المكان الرهيب إلا كلمات: الله، يا الله، يا كريم، التي تدفعها الصدور وقتًا فآخر. ولئن كان الجامع قائمًا في سوق النحاسين فيندر دخول صوت إليه من الخارج يفسد رهبة المكان، وإن النفس لتخشع فتدعو الجسد، وتبتهج فتدعو العقل، إلى علويات السكون الذي لا يوصف ولا يحد.
لا صنوج ولا أجراس، لا آلة موسيقية ولا جوق مغنين، لا رسوم ولا تماثيل، ولكن أضواء الإيمان المشتعلة دائمًا تهدي النفس فتجد خلال ذاك السكون وتلك الرهبة سبيلها إلى العزة الإلهية، إلى الإله الواحد، إلى الله.
دخلت ذات يوم جامعًا في إحدى القرى لأستريح، وقد خلعت حذائي عند الباب — وأنا معجب بهذا التقليد الحكيم — والحكمة فيه حسية وروحية معًا.
فإنه إذا كان من العيب أن تدخل بيت الله وحذاؤك في قدميك فكم بالحري إذا دنست سجاد الجامع الثمين بأوحال الطريق وغبارها؟
ناهيك بما اعتراني من السرور في العمل بهذا التقليد؛ لأن حذائي كان ضيقًا على قدمي فقلت كما يقول الكثيرون ولا شك: نِعْم العادة التي في ممارستها راحةٌ واحترام.
ولم يكن داخل الجامع سوى مصليَين، رجل وقور طاعن في السن في إحدى الزوايا وشحاذ قريب في أطماره من العرى في الزاوية الأخرى، أما أنا فقد جلست على حصير تحت الرواق مسندًا ظهري إلى عمود، ممددًا ساقي، وكنت إذ ذاك كأني في منزلي.
إن الراحة والاستسلام من أصول التعبد الحقيقي، وهما مما تجد في الجامع في كل ساعة من ساعات النهار وفي كل ساعة من ساعات الليل، ولقد صليت كما أحببت، وخرجت مع رفيقيَّ في الصلاة وأخوي في تسبيح الله، أما الشحاذ فكان حمالًا وقد ترك حمله عند الباب وإذ تعذر عليه رفعه أسرع الشيخ المهاب لمعونته مشمرًا رَدَنَه الحريري وهو يقول: باسم الله، وانحنى الحمال تحت حمله الثقيل وقد تقلص عصب رقبته تحت الحبل المشدود على رأسه ثم خطا متثاقلًا ولكنها خطوات ثابتة باسم الله.
والتفت الشيخ إليَّ وقال لي مشتبهًا: وهل أنت مسلم؟
فأجبته وأنا أشد حذائي: إني أعبد الله وأكرم النبي.
فدعاني إذا ذاك إلى مناولة الغداء معه، وفي المسجد كل غريب للغريب نسيب.
ذكرني هذا بزورة لمدينة «نيوبورت» وهي مكة الأغنياء في أميركا، وهناك ذهبت للصلاة أيضًا وكانت الكنيسة — وهي بناية من الخشب صغيرة رغم من يؤمها من الأغنياء — تنبئ ظاهرًا بحقيقة حالها، فقد نقلت من إنكلترا منذ قرنين، ورُكبت تركيبًا في «نيوبورت»، أجل، قد جيء بأخشابها وبَرَّاعيها الأُوَل كذلك من بلاد الإنكليز، كنيسة قديمة حقيرة، ولكن الزجاج الملون في نوافذها خاسئ الصنع سخيف، وهو جديد يتزعزع عنده الجلال في الهيكل القديم.
أما ثمن هذا الزجاج فلا نسبة بينه وبين صناعته، وهو مثل كل شيء تافه للأغنياء في تلك البلاد الجديدة العجيبة يقاس بالذهب، وقد قيل لي: إن ثمن زجاج نافذة منها ألف ريال وهبها أحد الأغنياء.
أَوَليس من الغضاضة أن نذكر أسماء المحسنين في موقف السخاء والإساءة! وإني لأعجب كيف أن أولئك المسئولين عن تشويه خشب الكنيسة وجدرانها لم يضنوا بأسمائهم استحياءً، قلت المسئولين عن التشويه وحقًّا ما أقول؛ فإنه لا يطاق أن ترى النوافذ الملونة الزجاج على حائط خشبي رقيق، لا يخلو من شارة هندسية، فتشوه جماله البسيط، وتمنع انعكاس نور الشمس عليه.
ألا إن الإحسان لا يعيش في الظل، بل ينفخ في بوقه على السطوح في رائعة النهار، فيا أيها البوق، بوق التبجح، إني لم أسمع صدى صوتك في ذلك الشرق الهادئ وفي تلك المساجد المملوءة هواءً نقيًّا.
ومما استوقف نظري في الكنيسة أيضًا تلك المقاعد المربعة الزوايا التي تستطيع أن تضع مكانها عددًا من الكراسي الهزَّازة، وهي موضوعة على شكل الدواوين يجلس أربابها متقابلين كأنهم جالسون في بهو الاستقبال. أولئك هم أغنياء أميركا، وهذه عندهم أبهة العبادة.
ولماذا يا ترى يقسم مكان العبادة إلى مقاطعات؟ ولمَ لا تكون الكنيسة كالجامع الفسيح، المطلوق للهواء النقي، تؤمه حينما تشاء وتبقى فيه ما تشاء، ولا حرج عليك، ولا قيد، ولا ضريبة.
إن في المقاعد الكنائسية ما يُكره المرء على طويل الصلاة، وإن فيها ضريبة مرسومة، وضغطًا على الحرية الشخصية، ولقد ترغب في أن تذهب إلى الكنيسة لقضاء بضعة دقائق تنبيهًا للروح أو غذاءً للنفس، فتكره على البقاء ساعات محصورًا في المقعد فتعكر غالبًا على الآخرين أو يعكر الآخرون عليك صفاء التأمل والنجوى.
وقد علمت أن مقاعد كنيسة «نيوبورت» لا تُباع، ولا تُؤجر ولا تُقدَّم مجانًا للمصلين، ولكنها تُقتنى اقتناءً فكأنها ملك لصاحب بيت أو لرب عرش يتحول بالإرث من الابن إلى الابن، فلا يستطيع الغريب أن يدخل بيت الله ابتغاء الصلاة إلا إذا أراد أن يقف عند الباب صابرًا قانعًا، وإن خلاص نفسه لأسهل مِنْ تمتُّعه بمقعد يستريح فيه من عناء الوقوف.
أما أنا فقد جلست في مقعد مضيفي، وإخال أنه تملكه عَنْوَةً؛ لأن في كتاب الترانيم اسمًا غير اسمه، بل فيه أسماء عديدة لأُسَر إنكليزية عريقة النسب، توارثتْ هذا المقعد بعضها عن بعض، دليل ذلك أن لم يبق فراغ في جلد كتاب الترانيم لاسم آخر.
إن الأغنياء لَيُقاسون شيئًا من الكرب سببه غناهم، وقد تُهضم كذلك حقوقهم، فقد فاه مؤسس الديانة المسيحية نفسه بكلمات مؤلمة شديدة عليهم، وقد حرمهم السماء بمثل واحد من أمثاله. فوالحالة هذه يجب أن لا يعدموا حقًّا بسماء أُخرى على الأرض، في كنيسة صغيرة، حيث يستطيعون أن يناجوا ربهم على آخر زي دون من يزعج أو يلوم.
ها هنا يَحبس أولئك الأغنياء المساكين أنفسهم ردحًا قصيرًا من الزمن، ولا حق لأحد من سائر سكان الغبراء أن يتطفل عليهم في ساعة يوقفونها لعبادة الله، فهم يستوون واقفين في مربعاتهم رصينين متأنقين فيرتلون النشيد المائة والسادس والسبعين أو المزمور الواحد والخمسين خاشعين. فتتشرب كل حواسهم الإيمان، ويستشعرون سلامًا وسكينةً لا نظير لهما في غير عالم الروح. وهذه حال الواعظ الذي لا يلقي عليهم من المنبر شيئًا من أمثال الناصري عن الغني والعازار مثلًا أو عن الجمل وثقب الإبرة، إن هذا المحترم ليراعي شعور رعيته وأميالها.
أستغفر الله مما ذكرت؛ فقد جئت الكنيسة لأصلي لا لأنتقد، وأما أولئك الذين قد سببوا فيَّ هذا التغيير العقلي السيئ — بعيدين كانوا أو قريبين، غائبين أو حاضرين — فإني أسأل الله لهم مثلما أبغي لنفسي من الرحمة والغفران.
قد أقامت الصلوة، ولكن الجزء المهم منها لم ينته، وسيقام في الزقاق الضيق أمام الكنيسة، حيث شرذمة من البوليس يحفظون نظام العربات الذاهبة الآتية، فيتحرك نحو الباب قطار السيارات الفخيمة المتعددة الألوان والأشكال، يحفُّ بها الحشم وعلى دفتها السائقون الكيسون المتشامخون، والعربات تجرها المطهمات، فيثب منها الغلمان في الأثواب المقصبة الرسمية يفتحون لأسيادهم الأبواب ويطأطئون الرءوس للسيدات.
غوغاء وغرور … ضجيج وتصلف … معرض مدهش في العبادة … أبهة وفخفخة في الورع والتقوى … تعال يا أخي المسيحي الفقير، تعال معي إلى الجامع!