تعددت الأسماء والظلم واحد١
في التاريخ حقائق ينشرها الزمان — أضرت أو نفعت — وإن حاول كتمانها الإنسان. ينشرها الزمان في إعادة الحوادث الأليمة والنهضات السياسية العظيمة. ومن هذه الحقائق أن من الشعوب، قديمًا وحديثًا، في الشرق وفي الغرب؛ مَنْ حاولوا مرارًا أن يزيلوا بالقوة ما في الحياة من نقص وزيادة، من أثرة وامتياز، من ضعف وقوة، من فقر وغنًى، فكسروا نير الطاعة وأبوا الخضوع لسيادتي الشرع والدين، بل طالما خاض الشعوب بحرًا من الدم والأهوال توصلًا إلى ما كانوا يظنونه كمالًا في الأحكام ومساواةً بين الأنام.
أما زعماء هاته النهضات — نهضات المساواة إكراهًا — فلا شك أنهم ينشئون صادقين ويعملون بادئ أمرهم مخلصين، لا شك أنهم يعتنقون مبادئ الكمال في الاجتماع والدين مقتنعين لا مخادعين، ويقيمون أنفسهم أسياد حكم جديد، ورسل خير عتيد، علمًا منهم أنْ لا فوز بلا قوة ولا قوة بلا حكم مهما كان.
ولكنهم لا يلبثون أن يسيئوا استخدام القوة التي يلقونها طوع مشيئتهم في شعب ثائر وفي حكم لهذا الشعب جديد، أجل إن السيادة لتستغويهم فتغرهم، فتلعب بمطامعهم، فينقلبون وأيما انقلاب لا على الشعب مصدر سيادتهم فقط بل على المبادئ ذاتها التي من أجلها امتطوا صهوة السيادة، يتلونون حينًا ويتطورون أحيانًا، ويُمسخون في النهاية، فيتركون في التاريخ أثرًا يذكر، ولا يشكر؛ إذ يجعلهم في صف الأتوقراطيين إذا كانوا من الفائزين، أو يحشرهم إذا فشلوا مع رُسُل الشعب الكاذبين.
وهم في كلتا الحالين يستخدمون القوات السلبية في الاجتماع — قوات التجريد والتدمير — لنيل مآربهم، مدعين أن في ذلك تحقيق آمال المولدين الكماليين، وكأنهم يقولون: لا بدعة بلا خربة تقوم عليها، ولا كمال بلا اضمحلال ينشأ عنه. ولكنهم بدل أن يبنوا هيكل الإخاء والمساواة، هيكل الحقيقة والكمال، على خرائب الهيئة الاجتماعية التي دمروها يؤسسون حُكمًا جديدًا، لا في عدله بل في توزيع عدله. والتاريخ شاهد على ذلك، وحوادث الزمان الحاضر كذلك، (البلشفية اليوم تظلم طبقات من الناس عديدة لتعدل في طبقة واحدة، طبقة العمال، وعدلها هذا من نوع الانتقام) هذا ما أريد بالحكم الجديد في توزيع عدله فقط.
أما الحلم بالكمال الذي يمثل للإنسان حكمًا تامًّا في عدله، مستويًا في ناموسه، شاملًا في خيره، الحلم الذي يستنهض الشعوب من رقاد الأجيال والعبودية، ويدعوهم إلى الثورة والقتال، الحلم الذي يضرم فيهم نار الجهاد ويشعل في صدورهم نور الأمل، ويقودهم راغبين إلى الضحية، إلى الاستبسال، إلى الشهادة، إلى الموت، بل إلى التدمير والتخريب بالسيف والمشعل؛ إن هذا الحلم لَحَيٌّ خالد في التاريخ، يجدد الجهاد من حين إلى حين في الأمم، ويبعث الآمال في الشعوب، وهذا المبدأ مبدأ «الرجعيات الأبديات» لا ينفصل — على ما يظهر — عن مبدأ «التعمير بالتدمير».
علينا أن ندوِّن حقيقة أُخرى، فمهما كان من إخلاص زعماء النهضة المؤسَّسة على هذين المبدأين وطموحهم، ومهما كان مِنْ تطرف رسل المساواة وتوحُّش رسل التدمير فإن الأُمَّة التي يقلبونها ويبلبلونها تعود عاجلًا أو آجلًا إلى رشدها فتقيم القسط، وتعزز الشرع والنظام، وتؤسس على مبادئ العدل والارتقاء حكمًا جديدًا، يكون عدله أتم — وإن كان لم يزل ناقصًا — من عدل الحكومات السابقة. إذ إن الأُمَّة التي تخوض عباب الثورة تكتسب قوة أدبية وروحية توازي بل تفوق ما خسرته من قواها المادية.
وهذه الحقيقة في الثورات هي شواذ القاعدة، ندونها مسرورين حامدين رب العالمين، أما القاعدة ذاتها التي يثبتها كذلك التاريخ هي أن كل نهضة سياسية، أو ثورة اجتماعية، حاولت تأسيس حكم بالمساواة والإخاء بالقوة، بالسيف والخنجر، بالحراب والمدافع، حتى بتأليف الجوالي الاشتراكية، كان نصيبها من وجهة الكماليين الفشل التام.
والمتطرفون في هذا السبيل، مهما كان من فوزهم الموقَّت وسلطانهم البائد، يتدرجون غالبًا في طريق سلكها كل ظالم في الدنيا، وكل مشعوذ في الدين، وإن إثمهم الأكبر لا ينحصر في دفع الشعوب إلى مهاوي الفوضى والأهوال، بل يتجاوزه إلى حد تتدنس عنده المبادئ الكمالية التي يودون تأسيسها على القوات السلبية في الأُمَّة، قوات الشك والنفي والجهل والعصيان، والقوات السلبية لا تولد شيئًا صالحًا يدوم طويلًا.
وهذه حقيقة من الحقائق التي ينطق بها التاريخ قديمًا وحديثًا، كما سيرى قراء هذا الكتاب؛ إذ نقص عليهم قصص النهضات الفوضوية، البلشفية، في الشرق الأدنى وفي أوروبا، على كل سيادة دينية كانت أو مدنية أو أدبية. والفرق بين تلك النهضات ونهضات اليوم هو في المحيط وفي الأسماء فقط، وأن رسل الكمال، وإن شئت قل: رسل الأهوال، هم هم قرامطة كانوا، أو حَشَّاشين، أو بلشفيين، تعددت الأسماء والظلم واحد.