حكومة المستقبل
حكومةٌ صغيرة إلا في عدلها، حكومة محدودة إلا في صلاحها، ادع إليها الناس، وبشر بها الناس، سيحبل بها الفجر، سيلدها النور، فتترعرع في حجر العلم، وتتغذى من ثدي الأدب والدين. هي آتية وكل آت قريب، حكومة جغرافية طبيعية لا أمر فيها ولا كلمة لغير من نشأ في أرضها، بشر بها الناس. حكومة أدبية روحية لا أثرة فيها لغير الحق ولا سيادة لغير الأمانة والإخاء والسلام، ادعُ إليها الناس. وسيكون حكامها من أمراء الحكمة والفلسفة والفنون، وسيكون شعارها: الحكومة للرعية لا الرعية للحكومة. بشر الناس بحكومة المستقبل.
•••
على أن بعض السياسيين والاقتصاديين يعتقدون أن العلم في اكتشافاته واختراعاته لَيضمن في المستقبل سلامة الممالك العظيمة، بل يعتقد غلاة القائلين بفضل الاستعمار الدولي أن المستقبل إنما هو لمثل هذه الممالك المترامية الأطراف، الرافعة راياتها ومدافعها فوق السود والصفر والبيض من الشعوب، وأن الممالك الصغيرة ستنقرض انقراضًا قليلًا قليلًا، فتتوارى جنسيتها في جنسية الغالبين السائدين، ويتلاشى استقلالها في ظل من في أيديهم اليوم صولجان العلم وصولجان الثروة. وبعبارة أُخرى: ستجذب الممالكُ الكبيرة الممالكَ الصغيرة فتبتلعها كما تجذب المذنباتُ النيازكَ. وأحوال شعوب الأرض المستضعفة تؤيد اليوم هذا الرأي، تؤيده إلى حينٍ، تؤيده إلى أن يشرق عليها نور العلم الصحيح والحرية الحقيقية، والعلمُ والحرية لا جنسية لهما. ليست الحرية ملك آبائكم أيها الرافعون في بلادكم منارها، السادلون في مستعمراتكم ستارها، إنما أنتم واثقون بمن قد يخونكم، وما خان العلم إلا من أساء استخدامه، اليوم يخدمكم يا أسيادي وغدًا يخدم عبيدكم وأعداءكم. وحين يقبل العلم بوجهه على الشعوب الصغيرة المستضعفة يكبر رويدًا رويدًا قصدُها، ويشتد ساعدُها، فتنتبه إلى كنوز أرضها ومعالم ثورتها، وحسبها أن ترى في البد، مطلع العلم والحرية؛ إذ ما من أمة وقفت في ضياء الفجر فآثرت على الإقدام الرجوعَ إلى الظلمة.
وقد فات أولئك السياسيين والاقتصاديين أن الممالك إنما تقوم بالرجال، وبالفكر، وبالطاعة، وأن رجال اليوم لا ينصرون الحكومة قلبًا وقالبًا، ولا يخدمونها، ولا يطيعونها، إن لم يكن لهم فيها ومنها منفعةٌ خصوصية. جَرِّدِ الدولةَ البريطانية من مستعمراتها مثلًا، فتتزعزع الحكومة في لندرا، وينهض جيش عرمرم من سباهلة المأمورين، من أبناء الدواوين المقفلة، فيقلبها ويدك عرشها في ليلة واحدة. بل جرد المستعمرات من جنود الاحتلال فتعود السيادة دفعة واحدة إلى أصحابها الشرعيين، لا، ما لي والشرعيات وجل العاملين فيها إن كان عندنا — أو عند الأُوروبيين — يؤثرون خير السائدين على خير المسودين، ويرفعون على مصلحة الأُمَّة مصلحةَ الأعيان والمتمولين. لو فرضنا إذًا أن جنود الدول الأُوربية عَصَوْا في المستعمرات أوامر ضباطهم وحكوماتهم؛ تعود السيادة عاجلًا إلى أصحابها الطبيعيين — والحقوق الطبيعية قبل الحقوق الشرعية — ويتقلَّص ظل الممالك الضخمة العريضة حتى مراكزها الجغرافية الأصلية.
أجل، إن الدول العظيمة، ذات الشوكة والصولة والاقتدار تعود دولًا صغيرة إذا عصى الجيش أوامرها، بل تتقوض أركانها إذا ولَّت بدل أبنائها في المستعمرات رجالًا منها، أي: من البلاد التي ترفع فوقها أعلامها ومدافعها. ولا أشك في أن رؤساء الدوائر وأبناء الدواوين — بل عبيدها — إذا عُزلوا اليوم يصبحون غدًا في قاعدة بلادهم من معاندي الحكومة ومنابذيها، فالقوة المؤسَّس عليها مجد هذا الملك الضخم العظيم إنما هي قوة اصطناعية تزول رويدًا رويدًا كلما ازداد انتشار العلم في الشعوب والأُمَم.
•••
كلما ازداد المرء قوة من نفسه كبر قصده وعظمت همته، قف معي عند هذا، قلت كلما ازداد المرء قوة من نفسه، ولم أقل: من الحال التي هو فيها — من أصحابه أو محبيه، أو من منصبه، أو من ثروته — بل من نفسه، من داخل قلبه، من ذلك المصدر الخفي الإلهي الذي لا تبلغه يد الناس ولا يد الحكومة. كلما ازداد من مثل هذه القوة الحقيقية ابتعد عن كل قوات العالم السياسية الخبيثة. وبكلمة أُخرى: إن المرء، متى نشأت فيه طبائع الحرية الفردية الروحية، لَيَنْفِرُ من هاته الطواحين السياسية التي تُحاول طحن إرادته وسحق ذاتيته الروحانية العالية، وأننا لنرى اليوم شيئًا من هذا التمرد والتنابذ في مَنْ هم أساس الملك وعموده، في الجنود وفي الجماعات.
كان الخوارج في صدر الإسلام يقولون: لا حكم إلا لله. وهذه كلمة حق قالها أُناس قوة أسيادهم من الجماعة لا من أنفسهم، وقوة تلك الجماعة نشأت في تلك الأيام من أحوال ليست طبيعية، كانت للخوارج يومًا وعليهم أبدًا؛ وذلك لأن الكلمة الكبيرة: «لا حكم إلا لله» كلمةٌ لا يحق لجماعةٍ ما اتخاذُها دستورًا إلا إذا كان أسياد — بل أفراد — تلك الجماعة في درجة من الرقي يعرف فيها كلٌّ نفسَه، ويعرف حقيقة الله كما تتجلى في الأكوان، وفي الأشياء، وفي الناس، ويعرفون فوق ذلك أن من يخدم أخاه الإنسان من تلقاء نفسه إنما هو خادم نفسه.
لا حكم إلا لله، يحق لي أن أقول هذا القول متى كانت سنة الله ثابتة فيَّ، سائدة عليَّ، آخذة بمجامع قلبي وعقلي، مشترعة لنفسي، مقضية في أعمالي أبدًا وأقوالي. وما هي سنة الله؟ في كتب الدين نجدها، وفي كتب العلم، في سفر التكوين، وفي سفر الفيزيولوجيا، في علم الصحة، وفي علم الأدب، في نذر الأنبياء، وفي نصح العلماء نجدها، في النملة وفي الأفلاك وفي الإنسان نجدها، على أن هذا ليس من مبحثي الآن.
ومثل ما قال الخوارج في صدر الإسلام: لا حكم إلا لله، يقول المصلحون في أروبا اليوم لا حكم إلا للجماعات، ويالها من جولة أسمعتْنا نعيق الزعماء في الأرض بعد أن أرتنا قبسًا من الإنسان في السماء. وإني لأجد في هذا السقوط من العلويات الإلهية إلى حضيض الجماعات شيئًا من التقدم والتحسين في الأحكام، اللهم إذا كانت أنفس الزعماء والمصلحين كأنفس الخلفاء الراشدين وأمثالهم. على أن ما قلته في الخوارج يصح نوعًا في الجماعات، بل قد يكون الصلاح والأمانة والإخلاص في زعماء الجماعات أقل جدًّا مما كان منها في زعماء الخوارج، ولكن الأحوال التي تكتنف الجماعات اليوم وتتكيف في حياتهم تكثر فيها وسائط التهذيب والتربية، وإذا كانوا غير أهل لأن يقولوا اليوم كلمتهم المشهورة ويتخذوها شعارهم، فهم أهل لذلك غدًا. أجل إن يومهم لآتٍ وإنه على الممالك العظيمة الأثيمة لَيوم شديد عصيب.
الملك يضعف بالنسبة إلى ازدياد عدد الأفراد الأقوياء الأمناء في الجماعات، أولئك الذين يزدادون قوة من باطن حالهم، من أعمالهم، من حريتهم، من صلاحهم، فيحررون أنفسهم ولا يكون في ذلك شيء من الفضل لأحد من الناس سواهم، أولئك الذين يرفعون ذاتيتهم الروحانية الأدبية فوق كل سلطة مادية تحاول قتلها أو إيقاف نموها. أولئك الصالحون المتمردون كلما ازداد عددهم في العالم ضعفت الممالك الطاحنة وتقلصت رويدًا رويدًا أظلالها المهلكة.
وهذا ما يثبتني في اعتقادي أن المستقبل إنما هو للحكومات الصغيرة، الكبيرة في عدلها ونزاهة ولاتها، للمالك الحقيرة القويمة المنهاج، لا لتلك العظيمة الأثيمة. ولا يدهشنك قوي أن الحكومات المحلية المستقلة كل الاستقلال، بل الحكومات المدنية المركزية هي التي لا بد للأجيال الجديدة المستقبلة منها، وإني لمؤكد أن مدنية المستقبل إنما هي تلك التي تكون حكوماتها منها وفيها ولها على الإطلاق، وتكون صغيرة محدودة لا أطماع سياسية لها ولا دولية، حكومة محدودة إلا في صلاحها، حكومة صغيرة إلا في عدلها، حكومة أدبية روحية لا أثرة فيها لغير الحق، ولا سيادة فيها لغير الأمانة والسلام، حكومة أساسها هذه الكلمات: إنما الحكومة للرعية لا الرعية للحكومة.
وهذه في مدنية المستقبل حكومة المستقبل، وهي كائنة اليوم جنينًا في الشعوب الصغيرة وفي الجماعات، هي كائنة وكل كائنٍ آت، هي آتيةٌ وكل آت قريب، فادع إليها الناس وبشر بها الناس.