صديقي الأعز
إن لم تحاسب نفسك سرًّا حاسبك غيرك جهرًا
لي صديق من علماء المسلمين حر الكلمة، شديد العارضة كثير المعارضة، لا يوارب، ولا يصانع، ولا يحابي، يصدق في الجدال، ويصلب في القتال، منيعٌ عنيدٌ مريدٌ، يؤمن بالله ولا يؤمن بسواه. يخالف لا ليعرف، بل لينصِف ويُنصَف، فينتزع الحقيقة من بين جنبيك إذا جُنَّت على عمد هناك، أو يريك أنها بعيدة منك غريبة عنك، وأن حياتك بلاها لكالطلل في الصحراء، بل كالكتابة على الماء، له صديق من أعز الأصدقاء بل أعزهم — وايم الله — لديَّ وأقربهم إليَّ — إلى ذاتي المجردة المعنوية العلوية — إلى قدس الأقداس فيها.
وهو لا يزورني إلا في حين عثرة من عثرات النفس، أو كبوة من كبوات القلم، أو سقطة من سقطات العقل والعمل، وقد جاءني منذ أيام يناقشني الحساب فسلم وجلس، وأشعل سيكارته وطلب فنجانًا من القهوة وبدأ باسم الله: لم أكن في المدينة ليلة خطبت خطبتك «روح الثورة» ولو كنت فيها لما حضرت الحفلة، فإنني أفضل قراءة المفيد من الخطب — وما أقلها — على استماعها، وبودِّي لو جعلت الحكومة ضريبة على الخطابة العصرية والدستورية وخطبائها المصاقيع؛ إذ لست أرى فيها كبير فائدة، فالخطيب المليح الطلعة، الحسن البادرة، العالي الصوت، الكثير الحركات والسكنات، يموِّه ما شاء وشاءت عنجهيته ويخبط في دقيق الأُمُور خبط عشواء، فيسمعه القوم مرتاحين معجبين ويصفقون لنكتة باردة أو لطعنة صادرة تفوتهم تمويهاته كلها وما قد يتخللها من شذرات حق ولمعات برهان.
والخطيب العالم الرصين الحصيف يملُّهُ الناس ولا يعلق من خطبةِ ساعتين في أذهانهم غير كلمات الشكر للجمعية التي انتدبتْه وبعض عبارات الثناء على تأدبهم وكرم أخلاقهم وجميل صبرهم في الإصغاء إلى مثل معضلاته وترهاته. الخطيب الأول ضرره أكثر من نفعه، والخطيب الثاني لا يفيد قطعًا.
فاستأذنت الأستاذ بكلمة فقال: أدركت لحنك لا الخطيب الأول أنت ولا الثاني، يتهمونك بالعلم يا صاح وأنت بريء منه.
فقلت: وشأني في ذلك شأن شاعرنا المعري القائل:
– نعم ويسمونك فيلسوفًا وما أنت بفيلسوف، ويدعونك شاعرًا ولست بشاعر، والحق في ذلك عليك، لاستطعت لو شئت أن تكون أحد الثلاثة، ولكنك طماع طماح، لقد اشتغلت في درع نفسك الأيادي الثلاث — يد العلم ويد الفلسفة ويد الشعر — فبالغت في صناعتها وترصيعها فرقت حتى كادت تنقصف وتبلى، درع أنيقة الصنع وهَّاجة براقة، تبهر الناظر إليها، وتخدع السامعين بها، ولكن من ينقرها مثل نقرة الناقد يسمع الغنة في صوتها ويأسف أسفًا شديدًا، نعم، درعك رقيقةٌ دقيقةٌ واهيةٌ لا تقيك الأضاليل المقدسة وأغاوي الحياة الدنيا. خذها يا ريحاني مني، ينبوعك لم يزل عكرًا، ومياهه لم تزل متشتتة، أما النفس فلم تملك بعدُ عنانها، لم تزل بعيدًا منها، لم تزل عدوها، وبالتالي عدو الحقيقة.
ولكن هذا غير الموضوع الذي حملني إليك، قلت لم أسمع خطبتك، ولكني قرأتها في المجلة وكنت قد طالعت في مجلة أُخرى علمية خطبتك «الأخلاق» فما وجدتك فيهما فيلسوفًا ولا عالمًا ولا شاعرًا، بل أديبًا كسائر الأُدباء تطلي الحديث وتجمجم الكلام، تصدع ببعض الحقائق وتوهم الناس أنك مظهرها كلها، بل إنك محتكرها.
أبدأت تجربز يا صاح وتداوي وتجامل وتحابي، ما هذا عهدي بك، عرفتك حرًّا غير هياب، وجريئًا غير مذبذب، فما بالك صرت تتكلم كعلمائنا الموقرين عبيد الأمراء والأغنياء؟ كنت تحمل على الكهان مثلًا فاعتضت عن اسمهم الحقيقي بأدعياء الدين أتعميمٌ منك هذا أم تلطُّف؟ طرت إلى الهند بنا في خطبتك «الأخلاق» لترينا شر الخرافات والأضاليل هناك، وعندنا نحن المسلمين ما هو أخبث منها وأضر، ذكرت شرائع «كنفوشيوس» وتعاليم «بوذا» التي لا تصلح للناس في كل مكان وزمان وأغفلت ما بلي من شرائعنا ونحن لم نزل نقدسها.
فقلت: والحق في ذلك على صاحب المجلة؛ لأنه بدَّل من خطبتي ألفاظًا كالتي أشرت إليها وحذف منها كل ما خاله «يخدش الأذهان» عملًا بالقول المأثور: ودارهم ما دمت في دارهم.
– يا للذل ويا للعار! أية دار وأي قوم؟ أيفرِّقنا التعصب، ويقتلنا الجهل، وتُجهز علينا المداراة؟ ولكنك في موضوع الثورة أغفلت أهم الحقائق أو أنك تجاهلت وداريت، فاعلمْ — أصلحك الله — أن من الحقائق الرائعة أن الثورة للأمة كالحمام للإنسان، تنبه فيها الدم وتوقظ النشاط وتجدد القوى الروحية والمعنوية. ناهيك بالنظافة، فالخمود الملازم حكومات الشرق كلها والأقذار التي تراكمت عليها والفساد الذي اعتراها لا يزيلها غير الحَمَّام، حمام الثورة الغالي.
ولَعمري إذا انحط الجيل إلى درجة يصبح الدم في عروقه كالماء فهدره لا يضر وقد ينفع، جيل كهام مرض عقيم لا يصلحه غير السيف، ألا فالسيف يمهد السبيل لتهذيب الجيل الوليد الجديد. اعلم — أدام الله تمكينك — أن للدم عاملًا هو أهم في بعض الأحايين من عوامل العقل، أما العقل فإذا اختلَّ يُلقي صاحبه بالبيمارستان فيؤسر هناك، والدم إذا فسدت ماهيته وأبطل عمله فهدره وحقنه سواء. ومن أشرف عوامله أنه إذا امتُهنت حقوقُ الإنسان ينبهه الدم الحي في عروقه ويستفزه. والدم يحمله على المناهضة والمكافحة. والدم يثير منه كريم العواطف وشريف السخط والغضب.
وأما الجيل الذي لا يشعر بالمظالم ولا ينفر منها، الجيل الذي أَلِفَ العبوديةَ، ولم يزل يسترحم حكامه ليجددوا له القيود والأغلال، فأي فضل له في الحياة، على أن الأُمَّة وإن لم يبق فيها غير واحد من أبنائها يدرك الحقيقة ويصدع بها لا تعدم رجاءً فأملًا فسعيًا ففوزًا في تجديد حياتها وعزها ومجدها.
ألا إن ثورة طبيعية دموية لَتُلقي كلًّا منا إلى ساحل الحياة. الطفل يولد باكيًا والأم في تلك الساعة العجيبة ضارعة متألمة متوجعة، الولادة — كل صنوف الولادة — طريقها الدم ومهدها الأنين، والثورات في الأُمَم صنف منها. وبعد أن يولد الطفل تأخذ الأم بالتعافي فتشفى رويدًا رويدًا ويمتعها الله بضعف ما ذبل من حسنها وما انحل من عزمها وقواها. الأم! الأُمَّة! إن فضل كلتيهما لعظيم، وعذاب كلتيهما أثناء الولادة — أثناء الثورة — شديد أليم.
ولعمري إن ولادة الروح الجديدة في الأُمَّة لَأهم من الولادات البشرية كلها، هذه هي الحقيقة بعينها أضعتها أو حاولت أن تخفيها في التفلسف بنواميس الكون الأزلية — سامحك الله.
وهلا خطر في بالك أن الثورة المقبلة في البلاد سيكون الجوع مثيرها، آسيا الصغرى وقد بارت أرضها ونضبت ينابيع الرزق فيها وتزاحمت على مواردها القليلة القصية الأجانب من الرومللي وأوروبا. أيموت سكانها جوعًا وحكامها في كراسي الحكم آمنون مطمئنون؟ لا والله، الثورة التي ينفخ الجوع في نارها لَأَشَدُّ هولًا من سواها، كان إذا اقترح أحدُ رجال «نبوليون» عليه اقتراحًا يبادره سائلًا: وهل أنت كافل مغبته؟ أفلا يثير مثل هذا العمل الشعب البائس الجائع، «نبوليون» العظيم — ولم يخش يومًا صولة جيوش الأعداء المتألبة — كان يخشى ثورةً رأس أسبابها رغيف من الخبز، هياج الشعب البائس؟ لطالما خشاه أكبر أبطال العالم واتقوه، والويل ثم الويل يوم يستفيق شعوب المشرق من سباتهم الطويل العميق فيبتدرون الحسام، يمتشقونه على الظلام.
•••
وهذا بعض ما قاله سيدي الأستاذ ناصر الدين البغدادي منتقدًا خطتي وخطبتي، وهو عندي من أعز الأصدقاء بل أعزهم غير مدافع؛ لأنه لا يجاملني ولا يداريني ولا يداهنني، لله دره من صديق يناقش غير عاذر وينبه ويذكر وينذر، وبما أنني بُحتُ باسمه إلى القراء سأهديهم عما قريب رسمه — إن شاء الله.