شبلي الشميل
في الشرق نوع من النبوغ قلما يدرك الشرق كنهه، وفي الشرقيين خاصة صفة من آل العلم والعرفان قلما يقدره حق قدره، مثلٌ منه رجل قد تقل تآليفه وتكثر نفحاته، يرسل نفسه نورًا في الناس عملًا لا كتابةً، فكرًا لا قولًا، يتشرب ما يوحى إليه مثلما تتشرب الأزهار النور والندى ومثل الأزهار يبثه عفوًا أريجًا طيبًا، حياته الدنيا نبراس يستضيء به الناس. وجوده أينما حل منهل عذب يرده الأُدباء عشاق الحرية والحقيقة والكمال، كلمته المقولة نبأ أثيري تتناقله دوائر الأدب وتتلقفه الألباب، كلمته المكتوبة حجة على الباطل وضربة على الضلال قاضية. قد لا يعمل بذاته عملًا خطيرًا ولكنه يَستنهض للأعمال الخطيرة أنفسًا آن فيها النبوغ، قد لا يؤلف كتابًا خالدًا ولكنه يوحي إلى غيره خالدَ الآراء والآيات، يوقف حياته لا للشهرة والمجد، ولا للثروة والسيادة، بل لخدمة الحقيقة، وخدمة الأُمَّة، وخدمة العلم والأدب في الاثنتين، يكبر أعمال الناس مهما صغرت إذا كان فيها ذرة من الحق، ويستصغرها مهما كبرت إذا كان فيها ذرَّة من الباطل، عقله شمس مشعشعة لا ليل يحجبها، ضميره بستان زاهر ربيعه لا يزول.
مثل هذا الرجل إرثٌ روحيٌّ يستثمره الناس دون أن يضجوا باسمه، مثل هذا الرجل دائرة نور تضيء، فتشعشع فتتسع، فتتفكك فتولد دوائر أُخرى نيرة في قلوب الشعوب الدانية والقاصية، نفس هذا الرجل حلقة رقي دائم تربط جيلًا بجيل وأُمَّة بأُمَّة، وما موته — إذا فقهنا سر النبوغ — غير مظهر من مظاهر حياته.
مثل هذا الرجل يندر في المغرب على رقيه ونهوضه، ولا يندر في المشرق على خموله وجموده، نوابغ الغرب ينشئون في وسط تعددت طبوله وزموره، ونوابغ الشرق يقنعون بما يكتنفهم من سكون وإهمال، وقد تكون هذه الحالة في عين الحكيم خيرًا من تلك وأجمل.
شبلي شميل ممن وصفت.
شبلي شميل خير مثال لهذا النوع من النبوغ في الشرق، فيحق للأمة العربية أن ترثيه ويُغتفر لها الإطراء في الرثاء، تعودنا نحن العرب الغلوَّ في تعداد فضائل الميت كما تعودنا إهمالها في حياته، وقد لا نكون مسئولين في الحالين وشأننا في تقاليدنا معروف.
كاتب هذه الكلمة واحد من الألوف الذين اتصلت بأنفسهم شعلة من نفس الشميل فأضرمتها غيرة على الحق، وشوقًا إلى الحرية، ولو برهة من الزمان، وهي كلمة وجيزة، والشميل يستحق كتابًا سيكتبه — إن شاء الله — مَنْ هو أهل لذلك.
قد تكون هذه الكلمة خالية من الرثاء ولكنها لا تخلو من الإطراء، ولا غرو وكاتبها من محبي الشميل ومريديه، ولكن بدل أن نبكي الرجل يجب أن نُسَرَّ — كأمة — ونفتخر أنه نبغ في الشرق، وأن موته — كما قلت — إن هو إلا مظهرٌ من مظاهر حياته.
مات شبلي شميل ثابتًا — لا شك — في اعتقاده أو في عدم اعتقاده، وأمره والآخرة وربه، ولا ريب عندي أنه سيكون من المقربين إذا آمنا بما أُنزل في الكتب المقدسة، بل إني على يقين أنه أسعدُ في حاله اليوم — ولا عدمية لمن كان مصباح هدًى في الناس — مما كان بالأمس. من محاسن شبلي شميل أنه ثبت في مبادئه حتى آخر أيامه، فقد كان أول من نشر مبدأ النشوء والارتقاء في الأُمَّة العربية، وظل متمسكًا به حرفًا وروحًا بين أن أشياعه الأولين في أُوروبا تدرجوا منه إلى مبادئ أُخرى لا سبيل الآن إلى ذكرها.
ومهما كان من أمر فيلسوفنا في هذا الصدد فإن إخلاصه باهر، وتجرُّدَه ظاهرٌ، كافرًا عُدَّ أو مؤمنًا وإن ما ندعوه كفرًا أو زندقة أمسى زيًّا عند الأُدباء يتحلون به في شبابهم وينبذونه غالبًا إذ يتجاوزون سن الأربعين، وعذرهم في ذلك أن الخبر والزمان يعلِّمان المرء ما لا تعلمه الكتب. قد يصح ذلك، ولكن الحماسة من مزايا الشباب الجميل، والحقيقة تألف الحماسة وتهواها.
وعندي أن النبوغَ الحقيقيَّ هو ما تدوم فيه تشويقات الشباب وحماس الشباب، وفيلسوفنا الشميل ظل شابًّا في اعتقاده، شابًّا في مبادئه، شابًّا حتى آخر أيامه في حماسه. ومن الحقائق الراهنة أن المرء إذا لم يكن ذا شأن في الهيئة الاجتماعية يذكر يكن غالبًا جريئًا في رأيه، جريئًا في الجهر باعتقاده، وأما إذا طمع بأشياء الدنيا، أو حاز مقامًا بين الناس، أو أمسى ذا ثروة أو سيادة؛ تستولي التقية على علمه وأدبه، فيلطِّف من شدة لهجته ويجعل المداراة رأس سلوكه، وهذا ما لا يصح أن يُقال في شبلي شميل.
لو طلب هذا النابغة السوريُّ سيادة لجاءته صاغرة، لو طمع بأشياء الدنيا لنال منها كثيرًا وأصبح ثريًّا عبقريًّا في قومه، ولكن سيادة العلم فوق كل سلطان، وشبلي شميل ألبس هذه السيادة لباس العفة والنزاهة، ولم يسئ إليها يومًا بشيء من التذبذب أو المجاملة أو المداراة. خذ كلمة من كلماته في شيخوخته تظنها كتبت في شبابه، وفي حملاته على الظلم والظالمين، كما في مباحثه الاجتماعية والعلمية، كان التجرُّد والإخلاصُ من عوامل نفسه الحية أبدًا القوية.
أجل، إن من أجمل ما فيه استهتاره في سبيل الحق والحقيقة، تمشى في الأرض سامد الرأس، عالي الهمة، أَبِيَّ النفس، طاهر الذيل، مضطرم الفؤاد، بعيد النظر، صلب العود، شديد اللهجة، لا يدنو إلا من الفضل في الناس، ولا يلين لغير الحق في أعمال الناس.
رفع لواء التمرد على طغاة الزمان وأرباب الضلال والبهتان مذ دخل ميدان الفكر والعلم ولم يخفضه يومًا في حياته، ولواؤه لواؤنا، حمله وحده بالأمس وستحمله الأُمَّة — أُمَّتُنا — غدًا. إن هذا السوري الكبير سئم مما في الأُمَّة الشرقية من جهل وخمول، وجمود وسبات، فصرخ فيها صرخة مستنهض دَوَّتْ في العالم العربي قاطبة، وسيُردِّد صدادها كل أديب حر مسلمًا كان أو مسيحيًّا، وماذا يهم إذا كفروه وهو من مصابيح الأجيال المقبلة؟
قلت إن من رجال العلم والعرفان في الشرق من يبث روحه قولًا وفعلًا أكثر منه خطًّا ونشرًا، ومع أن تآليف الشميل وحدها كافية لأنْ تجعل له مقامًا ساميًا عزيزًا في الأُمَّة العربية ففي حياته الفردية من المآثر ما يماثلها إن لم نقل يفوقها فائدة وفضلًا، وعسى أن يفي هذا الباب من سيرة حياة فيلسوفنا الكبير من يباشر غدًا تآليفها، فقد كان ولم يزل له سيادةٌ على العقول غير السيادة التي تُولِّدُها التآليف، وقد كان ولم يزل له منزله في القلوب غير التي يُحرزها النبوغ. شبلي شميل غرس طاهر غرسه الله في الناشئة العربية الجديدة، وسينمو بعد موته أكثر من نموه في حياته.